عودة

أهكذا يعود! يا لها من آمالٍ عِراضٍ تلك التي صَحِبها يوم ترك موقفه هذا منذ سنين! إنه لم يَنسَ بعدُ تلك الأماني العذبة التي كانت تزحم نفسه يوم ضاق به العيش في بلدته «شلب» فنزح عنها وفي نفسه آمال، وفي قلبه أمان، وفي صدره عزم، وفي كل دمائه شِعر. لقد ترك بلدته مهد ميلاده ومَدْرج طفولته ومَغْنى شبابه ليدُور بشعره على الملوك يسترفد مالهم بما يرفده عليهم من شِعره ولقد دار، ولقد مدح، فبَالَغ في المديح، ولقد كذَب على الحق فأوغَل في الكذب، ولقد أمات ضميره ليجعل الظالم منهم عادلًا والمجنون فيهم حكيمًا، ولقد محا من ذاكرته كل ما يعرفه عن هؤلاء الملوك من شر، ولقد أنمى بشاعريته كلَّ ما كان يعرفه عنهم من خير، ثم هو زاد عليه، ثم هو أنشأ لهم الخير، ثم هو قلب مقابحهم أفضالًا ثم مدح ثم مدَّ يدَه وثناها. ألا ما أبخس ثمن الضمير في رحاب الملوك! إنه ليفكر أنال كُفْء ما أعطى؟ أكانت تساوي هذه الدُّرَيهِماتُ خروجه ودورانه وكذبه واختلاقه؟ بل أتعدل هذه الدُّرَيْهِماتِ أن يترك بلده الحبيب؟ إن يكن ضاق به فها هي ذي الدنيا جمعاءُ تضيق به، ولكن أضاقت الدنيا أو ضاقت «شلب» به هو أم إنها ضاقت ببضاعته؟ وكيف تضيق؟ إنه يبيع شعرًا، إنه يهَب لمادحه فكرًا انتظَم فصار شعرًا، أهذا قليل؟! ما شأنُ مَمْدوحِه إن خالَجَ هذا الفِكرَ شعورٌ أو لم يخالجه؟ ألم ينظم شعرًا؟ ألم يُحسِن ما نظَم؟! فما هذه الدُّريهِماتُ الضئيلة التي يصيبها؟! فأين هذا العدل الذي يزعُمون وجوده في الدنيا؟! وأيُّ دنيا تلك التي تجعل الشاعر العبقري يتمسح بأبواب الجهلة من الملوك والوزراء؟! يَسكُب عليهم شِعره فلا يُصيب منهم غَيْر هاتِه الضحكةِ البلهاء التي تلتصِق بشفاههم يُحاولون بها إفهامه أنهم يفهمون ما يقول، ويحاولون بها أن يُصدِّقوا هم في أنفسهم أن هذا المديح الذي يسمعون حقٌّ لا رياء فيه ولا كذب، ثم هو لا يُصيب من بعدُ إلا هذه الدُّرَيهِماتِ يُلقونها إليه إلقاءً! ولو تَجسَّمَت السعادة التي يُحِسُّونها بالمديح ولو وُضِعَت مُجسَّمة في كفَّة لَمَا عادَلَها مالُ العالم أجمع، ولكنهم مع هذا يبخسونه حقَّه واهمين أن ما قاله لا يعدو الحق في شيء فهو لم يخلُق جديدًا، ولم يُمِت ضميرًا، ولم يُنشِئ فضلًا، ولم يقلب القُبح حُسنًا، وهو لا يستحق إلا هذا القليل.

هكذا كان يُفكِّر ابن عمار وهو واقف بأبواب «شلب» عائدًا إليها من سفَره هذا الطويل وقد تضاءَلَت آماله؛ فبعد أن كانت تهفو إلى الغنى والشهرة والجاه العريض، أصبحَت تحوم حول حفْنةٍ من الغلال يُقيم بها أَوَد نفسه وأَوَد حماره الذي أضناه السفَر في تحقيق الآمال.

دخل ابن عمار «شلب» راكبًا حماره الهزيل يَفصِله عن ظهره خُرْجٌ قديم قذِر كان هو كل ما يلبسه الحمار. أما هو، أما أبو بكر محمد بن عمار فقد كان يضع على نفسه بضعة أخلاقٍ من الثياب إن اختل نظام واحدة منها وضَحَت من تحتها عظام الشاعر بارزةً تكاد تُطل من جسم صاحبها، وكان يضع على رأسه قلنسوةً صغيرة يكاد شَعره أن يُلقي بها. دخل ابن عمار شلبًا لا يقصد فيها إلى أحد فلقد ربى وشَبَّ في قرية من أعمالها، وإن كان قد تلقَّى علومه في شلب على «ابن الحجاج يوسف بن عيسى الأعلم» إلا أن أستاذه هذا قد مات ومات معه أغلب من كان يعرفهم ابن عمار من الأساتذة، والباقي منهم لا يجرؤ ابن عمار أن يقصد إليه ليطلب فجميعهم فقير، فلم يَبقَ أمام ابن عمار إلا أن يكافح وحده ليرُدَّ جوع نفسه وجوع حماره الذي أضناه.

سار ابن عمار يتلَفَّت في ذِلَّة الجائع وفي عِزَّة الشاعر فلا يجد وسيلةً إلى أحد ممن يرى، وكان الناس ينظرون إليه على حماره هذا الهزيل فتبدو على وجوه بعضهم الشفقة والإشفاق على هذا الهُزال المُركَّب، وتبدو على وجوهٍ أخرى السخرية من تلك الأسمال التي تكاد تلتئم جنباتُها جميعًا من شدة هُزال صاحبها، والتي كانت تبدو وكأنَّ أحدًا لا يلبسها، وإنما هي مُنتصِبة بقدرةٍ معجزة، وكانت السخرية تتضح وتستبين حين تنصَبُّ عين الساخر على الحمار المُضْنَى من كثرة المشي لا من الحمل الذي يحمل فهو لا يحمل شيئًا.

ولكن ابن عمار كان مشغولًا عن هذا كله بجوعه وجوع حماره الذي تركه يسير لم يُوجِّهْه وجهةً معينة بل ترك له حق القيادة، والحمار لا يعرف طريقًا إلى بيت، ولا سبيلًا إلى مرتع، وإنما هو يرى طريقًا فيسير، ولقد يَعوَجُّ الطريق أو يعتدل فيَعوَجُّ معه ويعتدل، حتى إذا وجد طريقَين عليه أن يختار بينهما، اختار دون أن يكون لعقله وازعٌ في هذا الاختيار فهو حمارٌ يسيرُ لا يدري لماذا يسير ولا أين الطريق. وطال الأمر على ابن عمار والحمار؛ فالطريق طويلٌ على من لا يعرف مقصدًا، ولقد مالت الشمس للغروب وكادت أن تغيب وكاد أن يغرُبَ معها أمل ابن عمار الأخير الذي تضاءل حتى أصبح حفنةً من غلال.

وفجأةً أشرق سُوق الغِلال في عين ابن عمار فوقف الحمار من تلقاء نفسه على مبعدةٍ قريبة من السوق، وأخذ ابن عمار يُفكِّر في وسيلةٍ ينال بها أمله الأخير هذا، أيسأل تاجرًا أن يُنسِئَه حفنة غلالٍ يرُدُّ له ثمنها عند مَيسَرة؟ ولكن ما الذي يدعو التاجر إلى ائتمانه وهو لا يعرفه؟ وهل هو نفسه يأتمن نفسه؟ وأين هي تلك المَيْسَرة التي يريد أن يرُدَّ فيها الثمن؟ لا، لا فائدة من النسيئة، أيستجدى التاجر؟ لا ودون هذا موتُه وموتُ الحمار جميعًا، فكَّر ابن عمار فأطال التفكير ثم وثَب إلى ذهنه خاطرٌ، أخذ يُقلِّبه على أوجُهه، لماذا لا يمدح هذا التاجر بشيء من الشعر! نعم إنه لم يمدح غير الملوك والسَّراة من القوم ولكن ما البأس في أن يمدح هذا التاجر؟ لقد كان يمدح الملوك والسَّراة ليصيب منهم مالًا يشتري به غلالًا، لقد كان الملوك والسراة طريقًا له إلى هذا التاجر وأمثاله، وقد مدح هو الطريق ليصل إلى المقصد فما له لا يمدح المقصد بعد أن خَذلَه الطريق! ولكن أيفهم التاجر الشعر؟ وحينئذٍ ضحك ابن عمار في نفسه فأغرقَت نفسه في الضحك، وهل فهم الملوك والسراة جميعهم الشعر؟ سوف يمدح التاجر فإنه بهذا ينال ما يصبو إليه وإنه بهذا سيُدخِل إلى نفس التاجر فرحًا لم يتوقَّعْه في يوم من الأيام. وعزم ابن عمار وبدأ في التنفيذ، وأخرج من جيبه قرطاسًا وخَطَّ عليه في سرعةٍ بضعةَ أبيات، ثم هَمَّ أن يدَع ظَهْر الحمار ويسعى إلى التاجر ولكنه عاد إلى نفسه وخَجِل أن يفعل؛ فهو لم يُعوَّد وقفه في السوق، وهو لم يُعوَّد أن يرى مَمْدُوحَه معه على الأرض، بل كان يراه دائمًا على ذروة عرشه. فكَّر ابن عمار في وسيلةٍ يُبلِغ بها قرطاسه إلى التاجر، وبينما هو حائر، مر به غلامٌ استوقفه ابن عمار، وطلب إليه أن يُبلِغ ورقته وفيها شِعره إلى التاجر الذي استَوجَهه ابن عمار، وكان الغلام طيعًا فأخذ الورقة وقصد بها إلى التاجر، فأخذها وألقى إليها نظرة كانت كافيةً لأن يغمر السرور وجهه فلقد أصبح مَمْدوحًا يُقال فيه الشعر ويُرجى لديه النَّوَال، ولم يفهم التاجر من الشعر شيئًا غير أنه شَعَر وغير أن هذا الشعر لا يُمدَح به غير الملوك والسَّراة. ولمَّا كان التاجر واثقًا أنه ليس ملكًا فلا بُد إذن أن يكون من السَّراة وهكذا أَسْرعَ إلى مخلاةٍ لديه وأراد أن يملأها بُرًّا١ ولكن غريزة التاجر فيه ردَّت يدَه في سرعة وألقَت بها إلى الشعير فملأ المخلاة منه وأعطاه إلى الغلام، ثم التفَت إلى غلاله يجمعها، يريد أن يَبلُغ بيته، فيُفهِم زوجه التي لا تني عن إيذائه أنه أصبح ممدوحًا وأنه من السَّراة.

وانكفأ الغلام إلى ابن عمار يحمل إليه المخلاة بحملها الجديد ففرح ابن عمار، ورأى في هذه المخلاة آماله قد تحقَّقَت، بل إن آمال حماره أيضًا قد تحقَّقَت معه. ولم يَبقَ له إلا أن يُفكِّر في مثل هذه الآمال لغده الذي ينتظره، والذي يتربص به ليفعل به مثلما فعل الأمس، ومثلما يفعل اليوم، ومثلما يفعل كل إخوان هذا الغد من ذاهبٍ وحاضر في ابن عمار؛ فويلٌ لابن عمار من غده، أو ويلٌ للغد من ابن عمار.

١  البُر بضم الباء: القمح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤