… وعودة

إلى شلب عاد ابن عمار، لم يعُد الشاعر الطريد، ولا راكب الحمار المُتهالِك، ولا مادحًا ولا مستجدي القمح، وإنما عاد الأمير الخطير صديق الملك، عاد وهو صاحب الموكب الضخم يتبعه الخدَم والحاشية وتَنساق من قبله الطوالع والأعلام وتُدق الطبول ويعلو الزمر، ووقف أهل شلب الذين نظروا إليه على حماره يسخرون أو يُشفِقون أو يتعجبون، وقَفوا اليوم يُرحِّبون ويُكبِّرون ويعجبون، ولم يدُر بخلَد الناظرين أن صاحب الحمار هو صاحب الموكب، بل إن صاحب الحمار هذا لم يَجْرِ على ذاكرتهم فهم لم يُنْعِموا النظر في الحمار أو راكبه وإنما كانوا يَعبُرونه بنظرتهم أو يعبُرهم هو بحماره فما أدركوا من ملامحه شيئًا. ولو أن واحدًا منهم كان قد أنعم النظر ثم أنعمه حتى عَرفَ ملامح ابن عمار أجمع فإن هذا الواحد لا يجرؤ بحال أن يذكر ابن عمار والحمار في هذا الموكب الضخم. وأين ذلك النضْو القميء من هذا الأمير العظيم؟ وأين ذلك الحمار المتهالك من هذا الموكب الضخم؟ وأين هذا الطيف الذي مَرَّ رَهْوًا لا يُحِسُّ به أحد من هذا الذي أقام المدينة وما زالت قائمة؟ لا، لا صلة بين الشخوص ولا نسب.

إن يكن أهل شلب جَهِلوا الصلة بين صاحب الحمار وصاحب الموكب فإن ابن عمار يُدرِك هذه الصلة تمامًا، وهو إن يكن اليوم في هذا الموكب الضخم الأنيق من الطبول والزمور فهو لم يَنسَ هذا الموكب الضخم الحقير من الفقر والعَوَز الذي تسلَّل به إلى شلب وكل أمانيه أن تَعْمى العيون حوله وأن يصيب حفنةً من غلال. لم يَنسَ ابن عمار الحمار والتاجر والشعر والصبي والشعير، بل إنه أخذ نفسه أن تذكُر هذا الذي كان فيه حتى يَحمدَ ما هو اليوم فيه، فهو يحمل معه ذلك الكيس الذي أنقَذه وأنقذ حماره من جوعٍ بما حمله من شعير، هو يحمل الكيس معه لم يفقده في كل مناصبه التي تولاها ولم يفقده في الذروة التي اقَتَعَدها وإنما أبقى عليه ليشكر به من أنقذ؛ فما يكاد يجلس على كرسي الإمارة حتى يُرسِل من يبحث عن التاجر فيجده ويعلم ابن عمار أن الخشية قد تولَّت هذا التاجر حين علم أن الأمير يبحث عنه، فيُشفق عليه أن يَستقدِمه ويكتفي بأن يُرسل إليه الكيس وقد ملأه فضة وأوصى من يحمل الكيس إلى التاجر أن يقول له: «لو كُنتَ ملأتَه بُرًّا لملأناه تِبرًا.»

وتشيع قصة الكيس بين أهل شلب فيُكْبِرون ابن عمار ويرون فيه رجلًا لم يَتنكَّر حاضره لماضيه ولم تُزهِه الإمارة أن يذكر ذلك الماضي العريق في هذا البلد، وكان أهل الأندلس في ذلك الحين قومًا ذوي حِسٍّ مرهف يُقدِّرون اللفتة الكريمة، ويُكْبِرون النفس العالية، ويُعجَبون بالخُلق المكتمل، وقد كان ابن عمار يعرف فيهم هذا وكان يعرف تمامًا أخلاق أهل شلب خاصة؛ فهو خبير بما يُرضيهم عالمٌ بما يجلب له السمعة الطيبة والاسم الكريم، وهو إن كان قد نال من مالهم حين كان وزير المعتمد لديهم إلا أن الأمر قد اختلف اليوم تمام الاختلاف؛ فابن عمار الوزير كان يعمل باسم المعتمد فما أيسر أن يُلصِق بالمعتمد التُّهَم أما ابن عمار والي شلب فلا يحمل غير اسم نفسه، فإن أساء فهو إنما يسيء إلى هذا الاسم وحده، وقد كان ابن عمار يُحب ألا يسيء إلى هذا الاسم، وابن عمار الوزير كان فقيرًا أو هو في الحق جديدٌ على الغنى يُحب أن يستكثر من المال خشيةً من الغد وقد كان محقًّا في تفكيره هذا؛ إذ سرعان ما حقَّقَته الأيام وأمر به المعتضد فُنفي. أما ابن عمار والي شلب فغنيٌّ قديم في الغنى أمِن الغد وما بعده من أيامٍ مهما يشتد بها السواد. وابن عمار الوزير جديدٌ في المنصب الكبير لا يُهِمه أن تصل السمعة السيئة إلى اسمه فهو حتى ذلك الحين لم يكن يحمل اسمًا، أما ابن عمار والي شلب فذو اسمٍ وذو ماضٍ يهمُّه أن ينفي السيئ منه فلا يبقى غير الحَسَن، فهو يأمل أن يُحسِن السيرة في شلب عساه أن يجعل عارفيه في الوزارة يُحسِنون به الظن. وهكذا سار ابن عمار في طريقه على خيرِ ما يسير والٍ في ولايته فهو عادلٌ أمين حصيف عالم بدقائق الأمور.

وقد تحادَث الناس بسيرة الوالي الجديد وتسامَعوا عنه خيرًا وارتقَت سيرته إلى المعتمد ففرح بصديقه وبما يبنيه لنفسه من مجدٍ، ولم يهمَّه أن الوالي الجديد كان يقوم بأمر ولايته دون أن يرجع إليه في جلائل الأمور، ولم يهمَّه أنه استقل بالأمر وحده وأصدر الأوامر باسمه، لم يهمه هذا لأنه كان يحب ابن عمار ويثق به مطمئنًّا أنه مهما يستقل بالأعمال فإنه لن يستقل بعواطفه وسيظل هو هو الصديق الوفي والأخ الحبيب.

لم يهمَّه شيءٌ من هذا ولكنَّ شوقه إلى ابن عمار ولياليه هو الذي يهمُّه فهو يضيق بإشبيلية من غير ابن عمار حتى ليُرسِل إليه الشعر يُخفِّف من بعض شوقه، أرسل إليه يومًا قصيدةً يقول فيها:

ألا حي أوطاني بشلبٍ أبا بكر١
وسلهُنَّ هل عهد الوصال كما أدري؟
وسَلِّم على قَصر الشراجيب٢ عن فَتًى
له أبدًا شوقٌ إلى ذلك القَصرِ
منازلُ آسادٍ، وبيضٍ نواعمٍ
فناهيكَ من غيلٍ وناهيكَ من خِدرِ
وكم ليلةٍ قد بِتُّ أَنعَم جُنحَها
بمُخصبَةِ الأردافِ، مُجدبَةِ الخَصرِ
وبِيضٍ وسُمرٍ فاعلاتٍ بمهجتي
فِعالَ الصِّفَاحِ البِيضِ والأَسَل السُّمرِ
وليلٍ بِسُدِّ النهر لهوًا قَطعتُه
بذاتِ سِوارٍ مثلِ منعطَف البَدرِ
نضَت بُردَها عن غُصنِ بانٍ مُنعَّمٍ
نَضِيرٍ كما انشَقَّ الكمامُ عن الزَّهرِ

وقد كان ابن عمار يستقبل هذه الأبيات جامدَ الحسِّ هادئَ الشعور في داخله، وكان يستقبلها في بِشرٍ عريض وفرحٍ غامر في ظاهره.

ولم يطُل الأمر بالمعتمد وشَوقِه، ولم يُطِقْ أن يظل البونُ شاسعًا بينه وبين إلفِ رُوحِه وشقيقِ فَنِّه ابن عمار، فأرسل إليه يستقدِمُه فقَدِم إلى إشبيليةَ، وعوَّضهَ المعتمد عن مَنصبِه الذي فقدَه خيرًا فعيَّنه كبيرًا لوزراء الأندلسِ، فرضي نفسًا ونَسِي ما كان من أَمْر الحُلم القاتل، واطمأن جانبه إلى المعتمد، وعادَت الأيام تَصِل ما انقطَع وتسعى بالصديقَين إلى مزيدٍ من الصداقة للمعتمد ومزيدٍ من ارتقاءٍ لابن عمار.

١  كناية لابن عمار.
٢  قصر الإمارة في شلب وهو غاية في الروعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤