ليست ثورة وإنما هي دعاء

لم أُحدث ثورة في الكتابة العربية إلا أن يكون الرجوع إلا القديم الذي عرفه الناس وقالو به منذ قرون طوال ثورة … والذي أعلمه أن الثورة تجديد، وما دمت لم أجدد شيئًا فلم أحدث ثورة. ومنذ قرون طوال قالت طائفة ضخمة من علماء العربية بأن الكتابة يجب أن تلائم النطق، وكتب هاؤلاء العلماء علا النحو الذي رآه القُرَّاء منذ أيام.

وأنا بعد ذالك لست الداعيَ إلا هذا النحو الذي عرفه القدماء، وإنما دعا إليه في المجمع اللغوي صَديق كريم هو الزميل إبراهيم مصطفا.

وكنت مؤيدًا له، وخالفنا أكثر الأعضاء لا إنكارًا لما نرا بل إيثارًا للأناة وتقديم المهم علا ما يمكن الانتظار به.

وكان أعضاء المجمع يرون أنهم قد قدَّمو إلا وزارة التربية والتعليم منذ سنين طوال تيسيرًا للنحو وللنحو التعليمي الذي يُلقا إلا التلاميذ في المدارس ليُخرجوا هاؤلاء التلاميذ من هاذا العناء العظيم المقيم الذي يشقون به في دروس اللغة العربية ويبغضون من أجله هاذه الدروس، ويتعلمون ما يُلقا إليهم منها كارهين ليخلصو منه متا فرغو من الامتحان، ثم يصبحون وكأنهم لم يتعلمو شيئًا.

فآثر هاؤلاء الأعضاء أن يستأنو بوزارة التربية والتعليم حتا إذا أساغت تيسير النحو قدمو إليها تيسير الإملاء.

وكان المجمع — وما زال — معنيًّا بإصلاح الكتابة العربية لا يكفيه أن يكتب الألف المقصورة كما ينطق بها، وإنما يعنيه أن يكتب الكلام العربي كله كما ينطق به المتكلمون. والناس جميعًا يعلمون أننا لا نكتب كل ما ننطق به، وإنما نكتب نصفه ونترك نصفه الآخر يذهب مع ريح الصيف أو ريح الشتاء.

فكتابتنا أدنا إلا أن تكون اختزالًا منها إلا أن تكون تسجيلًا لصورة الأصوات حين يؤديها بعضنا إلى بعض؛ فأنت حين تنطق بالفعل الماضي «كتب» لا تنطق بكاف وتاء وباء فحسب، ولو أردت أن تنطق بهاذه الأحرف الثلاثة وحدها لَمَا وجدت إلا النطق بها سبيلًا، وإنما أنت تنطق معها بشيء آخر هو الذي يتيح لك النطق بها، وهاذا الشيء الآخر هو هاذه الفتحات التي تلي كل حرف من هاذه الأحرف؛ فأنت إذنْ تنطق بالكلمة كاملة، فإذا كتبتها أَلغيت نصفها وهو النصف اللَّين منها، وأبقيت منها نصفها الجامد، وكلَّفت قارئك عناءً ثقيلًا وهمًّا طويلًا؛ وذلك أنه لا يدري أينطق هاذه الأحرف مفتوحة، أو يَضم الحرفين الأوَّلين منها ويخلي ثالثها لحركة الإعراب، أو يفتح الأول ويكسر الثاني ويفتح الثالث، أو يفتح الأول ويُسكن الثاني ويترك الثالث لحركة الإعراب.

وقل مثل هذا فيما شاء الله من الكلمات، ومعنا ذالك أن علا القارئ أن يفهم قبل أن يقرأ لتصح قراءته وتستقيم، ومعنا ذالك أيضًا أننا نجعل الكتابة غاية ونجعل القراءة غاية أيضًا ونجعل الفهم وسيلة إليهما، وهاذا هو قلب الأوضاع؛ فالأصل أننا نكتب ليقرأ الناس وأن الناس يقرءون ليفهمو ونحن نريدهم علا أن يفهمو ليقرءو. وأغرب من ذلك أن هاذا الداء القديم قد وُجد منذ كانت الكتابة العربية وتنبَّه القدماء له بالقياس إلا القرآن الكريم؛ فاستحدثو النقط علا الحروف ولم يكن موجودًا، واستحدثو الشكل كذالك لتستقيم قراءة القرآن الكريم بغير لحن، وخلو بين الناس وبين هاذا الداء العضال يفتك بعقولهم وأفهامهم وألسنتهم ما وجد إلا الفتك بها سبيلًا، وكثر التصحيف والتحريف في الكتابة والقراءة منذ أقدم العصور. وأشد غرابةً من هاذا كله أن الناس قبلو هذا الداء العضال واحتملو أثقاله على مر القرون؛ لأن الناس الذين كانو يكتبون ويقرءون منهم ظلو قلة قليلة بالقياس إلا الذين لم يكونو يكتبون ولا يقرءون.

فأما نحن فقد أخذنا بالنظم الحديثة وفرضنا الكتابة والقراءة علا الشعب كله، وأخذنا نُلزم الآباء إرسال أبنائهم وبناتهم إلا المدارس منذ يتمون السادسة من أعمارهم، وأخذنا نُكافح الأمية عند الذين تجاوزو سن التعليم؛ فنحن نريد الناس جميعًا علا أن يكتبو أولًا ويقرءو ثانيًا دون أن ينشر لهم الكتابة والقراءة وأن نجعلهما وسيلة لا غاية.

ومعنا هاذا أننا نكلفهم ما لم يكلفهم الله عز وجل؛ نكلفهم أن يفهمو أولًا وأن يكتبو بعد ذالك ويقرءو، أو قل إننا نكلفهم أن يكتبو دون فهم وأن يفهمو بعد ذالك إن أرادو أن يقرءو، أو قل إننا نفسد عقولهم بالتعليم مع أننا نعلمهم لنُصلح عقولهم، وإننا نفسد طبائعهم كلها بالتعليم مع أننا نعلمهم لنُصلح طبائعهم كلها ونهذبها؛ فنحن نقلب الأوضاع في نفوسهم ونعطيهم من طبيعة الأشياء منذ أول الصِّبا صورة مشوَّهة ممسوخة ونطالبهم بما لا يُطالَب به صبي ولا شاب ولا شيخ؛ نطالبهم بأن يفهمو الكتاب ليقرءوه.

شرٌّ من هاذا كله أني لا أقول جديدًا في هاذا الحديث؛ فالناس جميعًا يعرفون كل ما قلت، ويعرفون منذ زمن طويل أكثر مما قلت، ولا يصنعون شيئًا ليخلصو من هاذا الداء وليلائمو بين التعليم الذي جعلناه شعبيًّا وبين طبيعة الأشياء.

هم يريدون التعليم الشعبي لأن الأمم المتحضرة تفعل ذالك، ولأنهم لا يبتغون الوسائل الصحيحة إلى هاذا التعليم كسلًا أو قصورًا أو تقصيرًا أو لهاذه الخصال كلها، ولخصلة أخرى أدهى منها وأمر وهي الخوف.

الخوف من هاذا! أو الخوف ممن! الخوف من المحافظة والمحافظين من الذين ظنو أن الكتابة مقدسة، وحسبو أنها قد أُنزلت من السماء فلا يجوز أن تُمس بإصلاح أو تغيير، ونسو أو جهلو أن قدماء المسلمين قد غيروها وأصلحوها ليُقرأ بها القرآن الكريم قراءة صحيحة.

ولو قد عرف القدماء من المسلمين أن الكتابة والقراءة يجب أن تُفرضا على الناس جميعًا كما نعرف ذلك نحن الآن لَيسَّروهما علا الناس جميعًا؛ لأنهم — فيما يظهر — كانو أعرف منا بالحق وأهدا منا إلا سواء السبيل.

وقد نشأ عن هاذا الكسل أو هاذا القصور والتقصير أو عن هاذا الإشفاق والخوف أو عن هاذه الخصال كلها إن شئت؛ أن شبابنا جهلو لغتهم، ثم ضاقو بها، ثم أنكروها وخرجو عليها، ثم أخذو يُعرِضون عنها ويكتبون بالعامية ويدعون إلا الكتابة بها ويلحون في هاذا الدعاء إلحاحًا شديدًا، ويتندرون بالذين يحبون لغة القرآن ويعبثون بالذين يتفاصحون. وأخذنا نحن نلومهم أعنف اللوم ونقسو عليهم في النقد والإزراء. والحق علينا أن نلوم أنفسنا أولًا وأن نُزريَ عليها.

فلو قد يسَّرنا لهم الكتابة والقراءة لكتبو فأحسنو وقرءو فأصحلو وأتاحو للغتهم أن تتطور في مهل وريث تطورًا لا يفسدها ولا يُعرِّضها لهاذا الخطر العظيم، وما أكثرَ الذين يتعلمون وينفقون أعمارهم في إتقان العلم باللغة! فإذا أرادو أن يقرءوها أو يتكلمو بها تورطو فيما ليس لهم بد من أن يتورطو فيه من اللحن الفاحش والخطأ المنكر الفظيع. وليس لهذا مصدر إلا أنهم تعلمو أول ما تعلمو على هذه الأوضاع المقلوبة التي لا تلائم عقلًا ولا طبعًا ولا ذوقًا ولا تؤدي إلا غاية.

وإذنْ، فكتابة الألف المقصورة ألفًا دائمًا ليست إلا قطرة من بحر، ولم أقصد بها ولم يقصد بها الأستاذ الزميل إبراهيم مصطفا إلا شيئًا واحدًا، هو أن يشعر الناس جميعًا وأن يشعر القائمون على التعليم خاصةً بأن لغتهم مريضة، وبأن الجهود الضخمة والأموال الكثيرة التي ينفقونها في التعليم مضيعة لا تغني عنهم ولا عن المعلمين ولا عن ملايين المتعلمين شيئًا ما دامت الكتابة على هاذا النحو.

وأقول هاذا وأنا أعني ما أقوله وأعممه ولا أقف به عند فهم الأدب وذوقه، بل أتجاوز ذالك إلى فهم العالم نفسه والانتفاع به؛ فالذين يقرءون كتب العلم باللغة العربية وحدها لا يفهمونها إلى قليلًا، وهم جديرون بألا ينتفعو بما يقرءون، ولولا أن علماءنا يقرءون العلم في اللغات الأجنبية لَمَا تخرَّج فينا مهندس ولا طبيب ولا عالم ذو خطر. نحن بين اثنتين: إما أن نَجِدَّ ونأخذ الحياة علا أنها جد فنيسِّر تعليم اللغة العربية كتابةً وقراءةً ونموًّا لينتفع الناس بما يتعلمون وليصبحو قادرين علا أن يؤصلو الحضارة ويوطنوها في بلادهم، وإما أن نمضيَ فيما نحن فيه من العبث وقلب الأوضاع والمخالفة عن قوانين الطبيعة؛ فنضيع اللغة العربية ضياعًا لا مرد له ولا مخرج منه، ونظل عيالًا علا الأجنبي دائمًا حين نحاول درس العلم والتصرف فيه أو الانتفاع بنتائجه، وننظر إلا الحضارة المعاصرة علا أنها شيء غريب طارئ علينا، وعلا أنها شر لا بد منه نأخذه مقلدين لأننا لا نريد أن نفنا ولا أن نضيع.

أرأيت إلا أن قصة الألف المقصورة لم تكن في نفسها غاية، وإنما كانت وسيلة إلا شيء أعظم منها خطرًا وأبعد أثرًا في بقاء اللغة العربية من جهة، وفي إصلاح الحياة العقلية كلها من جهة أخرى.

فلينظر القائمون علا أمور التعليم والقائمون علا شئون الثقافة؛ فقد آن لهم أن يتدبرو أمرهم وأن يسألو أنفسهم: أيريدون التعليم في غير فائدة ولا جدوا أم يريدون أن يأخذوا الحياة على أنها جد؟ وإذنْ فأول ما يجب عليهم هو أن يصلحو الكتابة والنحو لينتفع الصبية والشباب بما يتعلمون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤