تناقض

كان مؤتمر المجامع العربية منعقدًا في دمشق أثناء الأسبوع الماضي … وكان أعضاؤه — على اختلاف أقطارهم — غارقين إلى آذانهم في حديث اللغة العربية، يجادلون في نحوها وإملائها وآدابها وعلومها مجتمعين، ويخوضون في أحاديث هذا كله حين ينفضُّ اجتماعهم … ويلتقون في المآدب والحفلات، وما أكثرَ المآدبَ والحفلاتِ التي أُقيمت لهذا المؤتمر في دمشق.

وأقيمت على كرم قوامه الحب الخالص والود الصادق والإخاء المتين بين هذه الشعوب التي تأتلف منها الأمة العربية على اختلاف أقطارها، وعلى اختلاف أوضاعها أيضًا.

كنَّا إذنْ غارقين في حديث اللغة العربية، وكان أحدنا لا يكاد يخلو إلى نفسه — وما أقلَّ ما كان أحدنا يخلو إلى نفسه! — إلا فكَّر فيما سمع وفيما قال، وقدر ما سيسمع في غده وما سيقول.

وكان أظهر ما لاحظناه أثناء إقامتنا في هذه العاصمة العربية الحبيبة إلى النفوس بحاضر أمرها كله وماضيه أن المثقفين من أهلها لا يحرصون على شيء كما يحرصون على وحدة الأمة العربية، ولا يكلفون بشيء كما يكلفون باللغة العربية الفصحى، يتقنون العلم بها ويتقنون اتخاذها لغةً للخطابة والمحاضرة واتخاذها لغة للحديث والحوار، ولا ينحرفون عن ذلك إلا حين يتبسطون في أحاديثهم ويعمدون إلى الفكاهة والدعابة، فإذا أخذوا في الجد من الأمر عادوا إلى لغتهم العربية صافية كأحسن ما يكون الصفاء، نقية كأرق ما يكون النقاء.

وهم لا يحسنون الحديث والمحاضرة والخطابة وحدها في هذه اللغة الفصحى، ولكنهم يحسنون الحفظ والرواية لِمَا قيل في الماضي ولِمَا يقال في هذه الأيام أيضًا، قد وثَّقوا صلتهم بهذه اللغة العربية الفصحى وآدابها توثيقًا غريبًا، فهم يروون لك حديث القدماء في شعرهم ونثرهم ومحاوراتهم ومحاضراتهم، وهم يروون لك الكثير من آثار المحدثين في وطنهم وفي الأوطان العربية الأخرى، قد حفظوا ذلك حفظًا جيدًا كأنهم وقفوا أنفسهم عليه ولم يحاولوا غيره من شئون الحياة.

أثناء هذا كله وصلت إلينا الجمهورية وقرأنا فيها حديثًا عجبًا يُنسب إلى عضو من أعضاء المجمع اللغوي المصري الذي كان يمثله في ذلك المؤتمر أربعة من أعضائه، وفي هذا الحديث مطالبة بإلغاء النحو العربي والانصراف عن الإعراب في أواخر الكلمات والاكتفاء بتسكين أواخر الكلمات هذه، إيثارًا للراحة والعافية ورغبةً في تيسير الاتصال بين الأدباء والشعب.

ولا أحدِّثك عن وقْع هذا الرأي في نفوس المثقفين من السوريين وغيرهم من أعضاء المؤتمر؛ فأنت تستطيع أن تُقدِّر هذا الوقْع، وأن تتصور هذا الفرق الخطير بين حرص إخواننا السوريين وإخواننا من العرب عامةً على صفاء اللغة العربية ونقائها، واستخفافنا نحن بذلك وزهدنا فيه وإمعاننا في أن نصرف الناس عنه ونغريهم بالتخفف منه — أو الترفع عنه إن شئت.

واستخفافنا بأمر اللغة الفصحى وضيقنا بنحوها وقديمها، كله شائع مألوف قد عرفناه في هذه الأيام خاصةً وتحدثنا فيه فأكثرنا الحديث، ولكني أعترف بأنه لم يؤذِني قط كما أذَّاني حين كنت في دمشق بين هؤلاء الناس، لا يضيقون بشيء كما يضيقون بأيسر التفريط وأهون التقصير في ذات الوحدة العربية وفي ذات اللغة العربية خاصة؛ لأنهم يرون هذه اللغة قوام هذه الوحدة التي تطمح إليها الشعوب العربية كلها وتُجاهد في سبيلها أعنف الجهاد وأقواه، وتتهيأ لاحتمال ما قد يَفرض عليها هذا الجهاد من الأثقال والأعباء والتضحيات.

وأغرب ما يلاحظ هؤلاء الإخوان من العرب — وما ألاحظ معهم — أن في مصر كُتَّابًا وأدباء يناقضون أنفسهم أشد المناقضة، ويناقضون حكومتهم أشد المناقضة أيضًا، بل يناقضون دستورهم مناقضة أقل ما تدل عليه هو أنهم لا يحفلون بشيء ولا يرجون لشيء وقارًا؛ فهم يدعون إلى الوحدة العربية ويلحون في الدعوة إليها، وحكومتهم تدعو إلى هذه الوحدة وتجدُّ في العمل لها وفي ابتغاء الوسيلة إليها، وتبذل في ذلك جهودًا صادقة موفَّقة.

ودستورهم يعلن أن مصر جزء من الوطن العربي، وأن اللغة العربية هي لغتها الرسمية؛ إذ هم بعد ذلك — وعلى رغم ذلك — يستخفون باللغة ويريدون أن يتخلصوا منها، ولا يتردد بعضهم في أن ينصرف عنها إلى اللغة العامية، مجاهرًا بذلك لا يستخفي به ويتحفظ فيه، ولا يتردد بعضهم الآخر في أن يُطالب بإلغاء النحو، أو في أن يُطالب بإلغاء الإعراب وتسكين الكلمات مع أنه عضو في المجمع اللغوي المصري، ومع أن قبوله لعضوية هذا المجمع يُلزمه العمل بقانونه، ويُلزمه تبعًا لذلك أن يُحافظ على سلامة اللغة العربية الفصحى وصيانتها من العبث والفساد.

هذا التناقض الذي يتورط فيه كُتَّابنا وأدباؤنا ولا يجدون فيه حرجًا أو جناحًا؛ ظاهرة خطيرة حقًّا تدل أول ما تدل على أننا قد دُفعنا إلى لون من التهاون في التفكير والتدبر والحكم على الأشياء والسيرة في الحياة العامة والخاصة أيضًا.

فأيسر ما يجب على الرجل العاقل لنفسه ولوطنه ولمواطنيه أن يحرص على أن يكون تفكيره مستقيمًا ما وسعه الحرص، وأن يلائم بين تفكيره الذي يخلو به إلى نفسه ورأيه الذي يعلنه إلى الناس وسيرته التي يسيرها بين الناس.

إنهم وهم يدعون إلى الوحدة العربية صادقين لا ينبغي أن يهدموها في نفس الوقت الذي يدعون إليها فيه. وأي هدم للوحدة العربية أعظم خطرًا وأعمق أثرًا وأسوأ عاقبة من إضعاف اللغة التي تجمع بين العرب والاستخفاف بها أو الانصراف عنها، ومن الدعوة إلى ألا تكون لهذه الأمة العربية لغة جامعة توحِّد تفكيرها وتتيح لشعوبها المختلفة أن يفهم بعضها عن بعض، وأن يقرأ بعضها آثار بعض قراءة مباشرة لا تحتاج إلى نقل ولا إلى ترجمة، وأن يتحدث ساستها وأدباؤها وعلماؤها فلا يحتاجون إلى أن يقوم بينهم المترجمون ينقلون إلى بعضهم أحاديث بعض.

فإلغاء النحو أو إلغاء الإعراب وإرسال الكلام إرسالًا في غير رعاية لقاعدة ولا تحفُّظ من خطأ؛ لا نتيجة له إلا أن يصبح المصريون والسوريون والسعوديون وغيرهم من الشعوب العربية كالفرنسيين والإيطاليين والإسبانيين، قد نشأت لغاتهم المختلفة عن لغة قديمة ماتت وقامت مقامها هذه اللغات الحديثة؛ فتفرقت الأهواء والآراء وذهب كل شعب مذهبه في الحياة، وأصبح ساسة هذه الشعوب وعلماؤها وأدباؤها لا يلتقون إلا احتاجوا إلى التراجم، وأصبحت كتب هذه الشعوب لا يمكن تبادلها إلا عن طريق الترجمة، وأصبحت لغاتها المختلفة تُدرس في المدارس ليتهيأ المترجمون والناقلون، وليظهر بعضهم على ثقافة بعض بواسطة الترجمة والنقل.

وينبغي أن يتصوَّر القارئ هذا العبء المبهظ الثقيل الذي سنَضطَر تلاميذَنا من الأجيال المقبلة إلى النهوض به؛ فلن نعلمهم اللغة العربية واللغات الأوروبية الكبرى فحسب، ولكننا سنُضطَر إلى أن نعلمهم لغات جديدة لا عهد للعالم بها إلى الآن، وهي هذه اللغات التي ستمتاز حين يصبح لكل وطن عربي لغته الخاصة.

وسيصير أمر الدين نفسه بالقياس إلى المسلمين من العرب إلى مثل ما صار إليه أمر الدين المسيحي بالقياس إلى الأمم اللاتينية.

سيُقرأ القرآن في غير فهم إلا أن يُترجم إلى قارئيه في لغاتهم الخاصة، وسيُصلي المسلمون من العرب بقرآن لا يفهمون منه شيئًا كلما بَعُدَ العهد باللغة الفصحى، وستصير الوحدة العربية التي نطلبها ونجدُّ في سبيلها إلى أن تصبح وهمًا من الأوهام لا سبيل إلى أن يحققه العقل، فضلًا عن أن يتحقق في الحياة الواقعة.

كل هذا لسبب يسير، هو أن طائفة من كُتَّابنا وأدبائنا لا يأخذون الأمور مأخذ الجد، وإنما يعيشون كما يستطيعون، مستخفين بكل شيء، غير حافلين بهذا التناقض الخطير بين ما يقولون وما يفعلون، وغير حافلين بأنهم يريدون بناء الوحدة العربية، ويريدون في الوقت نفسه هدم هذه الوحدة وإقامة المصاعب والعقبات التي تجعل تحقيقها أمرًا محالًا.

وفيم يطالب المطالبون بإلغاء نحو هذه اللغة العربية؟! لأنهم لم يتعلموها في المدارس أثناء الصِّبا والشباب كما كان يجب أن يتعلموها!

وإذا كان الجهل بشيء من الأشياء يكفي للمطالبة بإلغائه، فما يمنعنا بأن نطالب بإلغاء أكثر العلوم لأن أدباءنا لا يعرفونها ولا يستطيعون التصرف فيها؟! وإذا كانت صعوبة شيء تغرينا بالانصراف عنه والزهد فيه، فما أسخف الذين يُضيعون أوقاتهم ويهدرون جهودهم ويكلفون أنفسهم ألوان المشقة والعناء للنهوض بعظائم الأمور وجلائل الأعمال؟!

وقد كنَّا نتعلم فيما مضى من الزمان أن الحياة جهاد، وأنها ليست يسرًا كلها، وأن مطالب الحياة ليست قريبة ولا دانية القطوف، وإنما هي عسيرة بعيدة، يجب السعي إليها والجد في طلبها واحتمال المشقة في تحصيلها؛ فأصبحنا الآن نطمئن إلى الدعة والراحة وننتظر أن تُساق إلينا حاجاتنا ونحن وادعون لا نتكلف في سبيلها جهدًا ولا عناءً.

ولست أعرف شيئًا يلقى من الظلم مثل اللغة العربية؛ يجهلها قوم فيُعرضون عنها ويدْعون إلى إلغائها، ويجهلها قوم آخرون فيُعسِّرون أمرها أشد التعسير ويُلحُّون في المحافظة عليها كما تركها القدماء لا يبيحون فيها تجديدًا ولا يسمحون لها بالتطور، وإنما يفرضون عليها جمودًا لا يفهمونه ولا يُقدِّرون عواقبه، وجدوا آبائهم على أمة فهم على آثارهم مقتدون، شأنهم في ذلك شأن الجاهلية العربية الأولى التي كانت تكره الانحراف عن أوثانها.

وكذلك تضيع اللغة العربية، وتضيع الوحدة العربية أيضًا، ويضيع التراث العربي كله بين المسرفين في المحافظة والمسرفين في التجديد، والناس جميعًا يقولون إن خير الأمور أوساطها، ولكن ما أكثرَ ما يقال وما أقلَّ الفهمَ لما يقال.

وبين غُلوِّ المحافظين والمجددين طريق وسطى تحفظ على اللغة العربية حياتها أولًا وصفاءها ونقاءها ثانيًا، وتهيئ للأمة العربية وحدتها المرجوة؛ وهذه الطريق الوسطى هي طريق التيسير، ولكن حديث هذا التيسير يطول فلنَعُدْ إليه في حديث آخر. ومن يدري! لعله لا يبلغ قلوب الغلاة من المحافظين والمجددين جميعًا؛ فقد اتبع أولئك وهؤلاء أهواءهم، ولم يخطئ الشاعر القديم حين قال:

إذا أنت طاوعت الهوى قادك الهوى
إلى بعض ما فيه عليك سبيل

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤