مجتمعات ما قبل الإقطاع

(١) المرحلة البدائية

لم يعرف الإنسان المِلكية الفردية بمعناها الصحيح في المراحل البسيطة الأولى من حياته، بل كان يسود هذه الحياة نوع من التضامن والمَشَاعيَّة، ناشئ عن صعوبة الظروف التي لم يكن الفرد قادرًا على مواجهتها وحده، وعن ضآلة الإنتاج وبساطته، وعدم وجود أي فائض إنتاجي يسمح باستغلال عمل الآخرين؛ لأن العمل كان كله موجهًا نحو تلبية الحاجات الضرورية المباشرة.

في هذه المرحلة كان الفكر الإنساني يتسم بنفس البساطة والبدائية اللتين كان يتسم بهما الإنتاج؛ فكل حوادث الطبيعة كانت تُفَسَّر تفسيرًا أسطوريًّا، يتمشى مع العجز عن فهم الظواهر الكونية وعدم القدرة على كشف أي قانون من قوانينها. وكان العالم يحتشد بالقوى التي تُنْسَب إليها صفات إلهية؛ فهناك آلهة للرعد والمطر والزرع والبحر والخصب والموت … إلخ، بحيث كان الحد الفاصل بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان يكاد يكون منعدمًا؛ فالطبيعة تشعر بنفس الأحاسيس الإنسانية، وتتحكم فيها نفس العوامل التي تتحكم في أفراد البشر. وربما كان من الممكن تشبيه فكرة التقارب بين الإنسان والطبيعة وإزالة الحواجز بينهما، بمبدأ الملكية المشاعية السائدة في الاقتصاد البدائي لهذه الفترة. وكان السحر هو التعبير الواضح عن مجتمع يعجز فيه الإنسان عن السيطرة على الطبيعة من خلال فهم قوانينها، فيلجأ إلى القوى الخفية والغيبية التي يتصور أنه يستطيع عن طريقها التحكم في مجرى الأشياء. ومن الملاحظ أن السحر بدوره يفترض نوعًا من العلاقة المشاعية المشتركة بين الإنسان والطبيعة؛ إذ إن الطبيعة تخضع لكلمات الإنسان وأوامره وتعاويذه، ويزول كل حد فاصل بين المجال البشري والمجال المادي الخارجي.

(١-١) مرحلة الرق

لم يحدث الانتقال من المرحلة البدائية إلى مرحلة نظام الرق مباشرة. بل إن التطور بينهما كان متدرجًا وبطيئًا إلى أقصى حد. وكانت نقطة التحول هي تقدم القوى الإنتاجية إلى الحد الذي لا يعود الإنسان ينتج فيه من أجل تلبية حاجاته المباشرة، أو الوفاء بضرورات الحياة، بل أصبح إنتاجه عما يحتاج إليه لاستخدامه الخاص. وكان هذا التوسع مؤديًا إلى نتيجة ضرورية: هي بداية التقسيم الطبقي للبشر. فبعد أن كان التجانس والمساواة في الفقر هو الطابع المميز للمرحلة البدائية؛ أصبح هناك اختلاف وتميز بين مستويات الناس، نتيجة لبداية ظهور فوائض في الإنتاج تزيد عما يلزم للاستخدام المباشر في المعيشة اليومية، وظهر الفرق بين الغني والفقير أو القوي والضعيف. وكان هذا التميز هو ذاته بداية استغلال الإنسان للإنسان؛ إذ إن تراكم الثروة — ولو على نطاق ضيق — يتيح للغني أن يستعين بالفقراء في استثمار ممتلكاته، ويستغل ضعف مركزهم من أجل فرض شروطه عليهم.

ولم يتخذ هذا الاستغلال شكل الرق في كل الأحوال. بل إن العالم القديم عرف نظمًا اقتصادية متقدمة بُنِيَت على أساس سلطة استبدادية مطلقة، تتميز فيها طبقة الحكام والكهنة عن عامة الشعب بميزات هائلة. ولكنها لا تتخذ من عامة الشعب عبيدًا بالمعنى الصحيح. وفي ظل هذه النظم ازدهرت حضارات هائلة، كانت دعامتها الأولى هي الاقتصاد الزراعي المتقدم، كما هي الحال في الحضارة المصرية القديمة.

أما نظام الرق فكان النموذج الواضح له هو المجتمع اليوناني القديم؛ فعندما اتسع نطاق الحروب التي يخوضها اليونانيون؛ أصبح الأسرى في هذه الحروب يُجْلَبون إلى البلاد لكي يستعان بهم في الأعمال المنزلية في بداية الأمر، واكتسبوا بالتدريج صفة الرقيق الذي يتحكم سيده، لا في عمله فحسب، بل في شخصه أيضًا، وأصبح لهذه الصفة أساس قانوني ينظِّم العلاقة بين السيد والعبد لصالح الأول على طول الخط، وباستمرار التطور أصبح الأرقَّاء يُستخدمون في الإنتاج الاقتصادي، لا في الأعمال المنزلية وحدها، وصاروا يمثِّلون قوة عمل رئيسية تتولى القيام بالأعمال اليدوية المرهقة، وتوفر على السادة عناء الاحتكاك بالعالم المادي، وتكفل لهم فرص العيش الرغد على حساب «الآلات البشرية» التي تُنتج لهم كل ما يحتاجون إليه في معيشتهم، وتضيف إليه فائضًا يحقق لهم ما يشاءون من أرباح.

في ظل هذا النظام الاجتماعي بدوره ظهرت حضارات قديمة مجيدة، أعظمها — بلا نزاع — هي الحضارات اليونانية، التي امتدت فترتها المزدهرة من حوالي القرن الثامن قبل الميلاد إلى ما يقرب من ألف عام بعد هذا التاريخ؛ أي إلى القرن الثاني الميلادي، وإن كان العصر الذهبي فيها يمتد — باعتراف المؤرخين جميعًا — من القرن السادس إلى القرن الثالث قبل الميلاد.

وعلى الرغم من أن الرق — من حيث هو نظام اقتصادي — ينطوي على استغلال فئة من الناس لفئة أخرى استغلالًا تامًّا يصل إلى حد التحكم في أشخاصهم معنويًّا وماديًّا، فإنه كان على الأقل يضمن قدرًا كبيرًا من الحرية (المعنوية والمادية أيضًا) للمواطنين الأحرار. وكان لذلك أثره الكبير في ازدهار الفكر في ذلك العصر.

(١-٢) مقارنة بين النظم الاستبدادية القديمة ونظام الرق

ولو أجرينا مقارنة بين النظم الاستبدادية — كما عُرف في بلاد الشرق القديم — وبين نظام الرق، من حيث مدى تشجيع كلٍّ منهما للنهضة الفكرية والعلمية؛ لكانت المقارنة في صالح النظام الثاني؛ ذلك لأن مبدأ الحكم الاستبدادي المطلق كان يطبَّق على الميدان العقلي والروحي بدوره؛ فالعلم كله تحتكره طبقة من الكهنة، هي وحدها التي تتداول أسراره وتتوارثها، وتحرص على كتمانها عن بقية الناس. ومن المستحيل أن تحدث نهضة فكرية وعلمية شاملة في جو التكتم هذا. وكل ما كان يحتاج إليه الناس هو مجموعة من المعارف العلمية التي تساعدهم على تحقيق أغراضهم المباشرة في الزراعة والعمارة والملاحة … إلخ؛ ولذلك أحرزت المعارف العملية تقدمًا كبيرًا في بلاد الشرق القديم، تُعد الآثار المصرية الباقية نموذجًا رائعًا له. والأرجح أنه هناك من وراء هذا التقدم العملي فكر نظري لا يستهان به. ولكن هذا الفكر لم ينتشر ولم يُتَدَاوَل؛ نظرًا إلى حرص الكهنة عليه كما لو كان أسرارًا مقدسة. وهكذا كانت السلطة المطلقة في ميدان المعرفة (وهي انعكاس للسلطة المطلقة في ميدان الحكم) عاملًا من عوامل تضييق نطاق التقدم الفكري والعلمي، واستحالة الانتفاع من ثماره على مستوًى واسع.

وهنا يظهر الفرق واضحًا بين النظام المطلق وبين نظام الرق كما كان مطبقًا عند اليونانيين القدماء؛ فهؤلاء الأخيرون كانوا يقسمون المجتمع إلى أحرار وعبيد. ولكنهم لم يقسموه إلى كهنة وأناس عاديين. صحيح أن التقسيم كان حادًّا وقاطعًا في الحالتين. ولكنه كان في الحالة الأولى يتيح فرص المعرفة لعدد من الناس أوسع بكثير، هم المواطنون الأحرار، أن يصلوا إليه، لم يكن معرفة محاطة بهالة من القداسة، بل كان معرفة متاحة للجميع يستطيع أي شخص أن يُساهم في تقدمها وينتفع من ثمارها، إذا ما توافرت له القدرة على ذلك.

بل إن طبقة العبيد المستغَلة ذاتها كانت تقوم بدور غير مباشر. ولكنه عظيم الأهمية، في التقدم الفكري لليونانيين في ظل نظام الرق؛ ذلك لأن هذه الطبقة كانت تتولى القيام بالأعمال اليدوية المرهقة، التي تتطلب جهدًا جسميًّا كبيرًا؛ ومن ثَم كانت تعفي الأحرار من القيام بهذا النوع من الأعمال. وهكذا كان ميدان العمل المادي مقفلًا أمام المواطنين الأحرار، على حين أن ميدان العمل العقلي كان مفتوحًا أمامهم على مصراعيه، بل كان هو الميدان الوحيد الذي يمكنهم أن يمارسوا فيه نشاطهم.

(١-٣) الطابع الفكري لمرحلة الرق

ويعزو بعض مؤرخي الفكر تقدُّم التفكير العلمي والفلسفي، وتقدُّم الآداب والفنون — عند اليونانيين القدماء — إلى هذا العامل بالذات؛ أي إلى عدم اضطرار قطاع كبير من الشعب إلى القيام بأعمال جسمية مرهقة، وتفرُّغهم للجوانب الروحية والعقلية في الحياة. وربما كان هذا تعليلًا مقتصرًا على جانب واحد، ولا يشمل كل نواحي الظاهرة التي نتحدث عنها. ولكنه على أية حالٍ تعليلٌ طريف لا يصح تجاهله؛ لأنه يلقي بعض الضوء على ذلك التقدم الهائل الذي أحرزه اليونانيون القدماء في ميادين الفكر والأدب والفن خلال العصر الذي ساد حياتَهم فيه نظام الرق.

والأهم من ذلك أن هذا التعليل يفسر لنا «الطابع الخاص» الذي اتخذه الفكر والعلم اليوناني؛ ففي اليونان وُلِدَت الفلسفة. وظهر لأول مرة ذلك النشاط الفكري النظري الخالص الذي لا يبحث عن الحقيقة كما تتمثل في جانب بعينه من جوانب الوجود، بل يبحث عن الحقيقة لذاتها، وبأعم معانيها. وفي اليونان أحرز العلوم النظرية — ولا سيما الرياضيات — تقدمًا كبيرًا. وكلنا يعرف أن هندسة إقليدس — بنظرياتها التي لا تزال تُدْرَس حتى اليوم — هي إنتاج يوناني صِرْف. ومن جهة أخرى فإن اليونانيين لم يبرعوا في ميدان العلوم التجريبية. بل إنهم نظروا إليها على أنها في مرتبة أقل بكثير من العلوم النظرية؛ لأن هذه الأخيرة علوم يستخدم فيها الإنسان عقله فقط، أما الأولى فيستخدم فيها يده بقدر ما يستخدم عقله؛ وبذلك يكون احتقار العمل اليدوي والمادي قد انعكس على نظرة اليونانيين إلى العلوم، ويكون التقسيم الطبقي للمجتمع اليوناني إلى أحرار وأرقاء قد ولَّد نوعًا آخر من تقسيم العلوم حسب مراتبها؛ بحيث تكون منها علوم تليق بالأحرار، وأخرى لا تليق بهم. ويكفي لكي ندرك أهمية تأثير هذا العامل على التفكير اليوناني أن نقارن نظرتهم هذه إلى العلم بنظرتنا الحالية؛ فنحن اليوم لا نعترف بأي نوع من «الطبقية» بين العلوم، بل نسوي بينها جميعًا، ولو نظرنا إلى علم الطبيعة، الذي يقوم اليوم بدور عظيم الأهمية في حياتنا؛ لوجدنا أنه كان في نظر اليونانيين علمًا غير رفيع؛ لأنه يتطلب اتصالًا بالعالم المادي. ومن جهة أخرى فإن العلوم التي تتصل بأحط الموضوعات تحتل في نظرنا مكانةً لا تقل عن مكانة تلك التي تتصل بأرفع الموضوعات؛ فعالِم الحشرات يمكن أن يؤدي إلى الإنسانية خدمة كبرى لو استطاع أن يقضي على آفة مثل دودة القطن أو قواقع البلهارسيا، وعالِم التربة (الطين) يمكن أن يُحْدِثَ انقلابًا في الاقتصاد القومي لو تمكَّن من تهيئة ظروف تؤدي إلى مضاعفة إنتاج محاصيل معينة. وكل هذه أمثلة تدل على أن عصرنا — الذي تسوده مُثل عليا ديمقراطية — لم يعد يعترف بتقسيم العلوم إلى مراتب؛ ومن ثَم فإن الاحتمال كبير في أن يكون ازدراء العمل اليدوي وإعلاء قيمة العمل العقلي النظري (وهو ذاته نتيجة مترتبة على التقسيم الطبقي للمجتمع إلى أحرار وعبيد) هو الأصل في تقسيم اليونانيين للعلوم إلى علوم رفيعة وأخرى ليست لها إلا مرتبة دنيا.

ولا شك أن هناك عوامل أخرى، إلى جانب نظام الرق، تضافرت على تحقيق النتائج التي أشرنا إليها؛ فالازدهار الاقتصادي والتبادل المستمر للسلع والاختلاط الدائم بالشعوب الأخرى ونمو النشاط الصناعي والحرفي؛ كل هذه العوامل تساعد على تهيئة الجو للبحث الحر عن الحقيقة في الميدان الفكري والعلمي، وإذا كان نظام الرق هو أسهل الطرق التي توافرت في العالم القديم لتحقيق هدف تحرير فئة من الناس إلى القدر الذي يكفي لجعلها قادرة على ممارسة النشاط العقلي والروحي الخلَّاق، دون سعي إلى تحقيق منفعة عملية مباشرة، أو إلى خدمة أغراض السحر، أو مساعدة الكهنة على نشر عقائدهم، فإن مجرد تكدُّس الثروات وتحقيق فائض اقتصادي معقول، يمكن أن يكون بدوره وسيلة لتحقيق هذا الهدف نفسه، ومعنى ذلك أن النهضة العقلية والروحية في اليونان القديمة كانت مرتبطة بالنهوض الاقتصادي الشامل. ولكن الطابع الخاص الذي اتخذته هذه النهضة يصعب تعليله إلا إذا ربطنا بينه وبين انتشار نظام الرق في المجتمع اليوناني.

(٢) المرحلة الإقطاعية

(٢-١) السمات العامة للمرحلة الإقطاعية

ليس من السهل أن يأتي المرء بمجموعة من الصفات المميزة للمرحلة الإقطاعية في التطور الاقتصادي؛ إذ إن معظم هذه الصفات تصدق على مجتمعات معينة ولا تصدق على مجتمعات أخرى.

ففي بعض الأحيان يعرَّف الإقطاع تعريفًا زمنيًّا، فيقال: إنه هو النظام الاقتصادي السائد في العصور الوسطى. ولكن هذا التعريف لا يسري إلا على نظام الإقطاع في أوروبا. أما في كثير من أماكن العالم الأخرى — وضمنها الشرق — فلا زال للإقطاع وجود — بشكل أو بآخر — حتى اليوم. وفي أحيان أخرى يُعَرَّف الإقطاع تعريفًا سياسيًّا أو اجتماعيًّا، فيقال: إنه النظام الذي يستبد فيه المالك الإقطاعي بأقدار كلِّ مَن يعملون عنده، وتكون له عليهم سلطة مطلقة تعلو على سلطة الدولة ذاتها. ومع ذلك فإن هذا التعريف يتجاهل حقيقةً عرفتها أوروبا في بداية عصر التصنيع؛ وهي أن الإقطاع كان في بعض الأحيان أرحم من العصر الرأسمالي في الفترة الأولى من تاريخه؛ لأنه كان يمنح الناس قدرًا من الأمن والحماية على الأقل.

كذلك يُعرَّف الإقطاع أحيانًا على أساس مركز السلطة فيه، فيقال: إنه ذلك النظام الذي تتفكك فيه السلطة المركزية للحكومة أو تختفي نهائيًّا؛ لتحل محلها سلطات متعددة ينفرد بكلٍّ منها إقطاعي يكون له الأمر والنهي على كلِّ مَن يعملون في أرضه. ولو صح هذا التعريف لما أمكن القول بوجود مرحلة إقطاعية في البلاد التي ظلت السلطة فيها — طوال تاريخها — في يد حكومة مركزية واحدة، ومن بينها مصر.

وربما كان الأصح أن نربط بين الإقطاع وبين النمط الزراعي في الاقتصاد، فنقول: إنه ذلك النظام الذي يقوم في البيئات الزراعية على أساس علاقات معينة بين المالك الكبير والفلاحين المشتغلين في أرضه، تتسم أساسًا بأنها علاقات تسلُّطية. والواقع أن البيئة الزراعية ضرورية لفهم الإقطاع؛ إذ إن عناصر النظام الإقطاعي لا تكتمل بصورتها المطلقة في الحالات التي يكون فيها مالك الأرض الكبير مشتغلًا بمهمة أخرى لا صلة لها بالحياة الريفية، كالعمل في ميدان المال أو التجارة أو الصناعة. كذلك فإن هذه البيئة هي التي تُضفي على الإقطاع طابعًا خاصًّا، وتنشر في المجتمع الذي يسوده الإقطاع قيمًا معينة تظل متأصلة في النفوس حتى بعد أن يتم التخلص — اقتصاديًّا — من العلاقات غير المتكافئة التي يستتبعها نظام الإقطاع.

ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي تقتضي منا اهتمامًا خاصًّا بالمرحلة الإقطاعية؛ ذلك لأن أوروبا بدأت تتخلص من السيادة المطلقة لنظام الإقطاع منذ عصر النهضة الأوروبية؛ أي في حوالي القرن السادس عشر، وسُدِّدَت الضربة القاضية إلى هذا النظام في عهد الثورة الفرنسية (على المستوى السياسي) وفي عهد الثورة الصناعية (على المستوى الاقتصادي والاجتماعي)؛ بحيث يمكن القول إنها قد تخلصت من آخر آثاره في القرن التاسع عشر. أما بالنسبة إلينا فإن الإقطاع ما زال نظامًا يعيش بيننا ويؤثِّر في عقليتنا وفي قيمنا ونظرتنا إلى العالم. صحيح أننا استطعنا تصفيته منذ اللحظة التي قضى فيها على نظام الملكيات الزراعية الكبيرة بفضل قوانين الإصلاح الزراعي. ولكن من الواجب أن نتذكر أن الإقطاع — بأشكاله المختلفة — ظل هو النظام السائد في بلادنا مئات بل ألوفًا من السنين، وأن التصفية المادية للنظام لا تعني التخلص من آثاره المعنوية التي ستظل تلازمنا فترة غير قصيرة من الزمن ما لم نبذل جهدنا من أجل التخلص منها بالعمل الواعي والسعي الدائب.

وطبيعي أن يكون من الصعب الحديث عن الخصائص الفكرية لمرحلة مرت بها البشرية زمنًا طويلًا كهذا، وانتشرت في بيئات شديدة التباين؛ فمن العسير أن نتحدث عن «إقطاع» واحد في العالم بأسره؛ لأن الإقطاع كان يتخذ أشكالًا تختلف باختلاف الظروف المحلية التي ينتشر فيها. وربما كان الأيسر أن نعالج الإقطاع — من الناحية الفكرية — على أنه نوعان: إقطاع غربي وإقطاع شرقي؛ على أن يكون مفهومًا أن المقصود بالشرق تلك المنطقة التي نعيش فيها من العالم، لا البلاد الشرقية على إطلاقها.

(٢-٢) الإقطاع في الغرب

من العوامل الأساسية لظهور نظام الإقطاع في أوروبا تلك الحروب الكثيرة التي كان يخوضها الملوك، إما ضد بعضهم، وإما ضد أعداء من الخارج، فلقد أدت هذه الحروب إلى ازدياد أهمية فئة العسكريين المحترفين، وزيادة عدد أفرادها، ونظرًا إلى أن الملوك لم يكن لديهم دائمًا المال الذي يكفي لمكافأة هؤلاء المحاربين — ولا سيما القادة منهم — على خدماتهم، فقد كانوا يمنحونهم قطعًا من الأرض جزاءً لهم على حسن بلائهم في الحروب، ولم تكن هذه المنح في البداية على شكل ملكية دائمة، بل كانت تُعطي المحارب حق الانتفاع من الأرض، ثم تحوَّل هذا الحق فيما بعد إلى ملكية دائمة. ومما ساعد على هذا التحول أن صغار الفلاحين كانوا يجتمعون بالمالك الكبير ضد أخطار الضرائب وعدم الاستقرار، ورغبةً منهم في الشعور بمزيد من الأمن. وهكذا كان الفرسان المحاربون من أهم العناصر التي تكوَّنت منها طبقة الإقطاعيين في العصور الوسطى. وكان لهذه الحقيقة أثرها البالغ في صبغ القيم الفكرية في عصر الإقطاع الأوروبي بطابعها الخاص.

ومن ناحية أخرى كان كبار رجال الكنيسة والأديرة يسيطرون على مساحات شاسعة من الأرض، قُدِّمَت إليهم بوصفها هبات أو منحًا أو هدايا، فضلًا عن أن الإعفاءات الضريبية والتسهيلات الكثيرة التي كانوا يتمتعون بها قد ساعدتهم على استثمار ثرواتهم ومضاعفتها، حتى أصبحت أملاك الكنيسة تكوِّن نسبة كبيرة من الأراضي الخاضعة للإقطاع، كما أصبح رجال الدين من أهم عناصر الطبقة الإقطاعية في العصور الوسطى.

ولقد كان هذا الأصل المزدوج لنظام الإقطاع في الغرب؛ أعني انتماء الإقطاعيين إلى فئة الفرسان المحاربين من جهة، وإلى فئة كبار رجال الدين من جهة أخرى؛ كان هذا الأصل المزدوج هو الذي يعلل مجموعة القيم والعادات العقلية التي سادت المجتمع الإقطاعي الغربي في العصور الوسطى.

  • (١)

    فقد كانت أهم القيم الأخلاقية في العالم الغربي في العصر الوسيط هي قيم الشجاعة والأرستقراطية والترفع. وتلك هي قيم الفرسان النبلاء من مُلاك الأرض، الذين ظلوا يحتفظون بالفضائل العسكرية حتى بعد أن تحولوا إلى الحياة المدنية المستقرة. وفي استطاعة المرء أن يلمس مدى أهمية هذه القيم إذا رجع إلى أي عمل أدبي تدور حوادثه في عالم فرسان العصور الوسطى. وفي كثير من الأحيان كان هذا الترفع الأرستقراطي يتسم بنوع من النظرة الأبوية إلى عامة الشعب. وليس معنى النظرة الأبوية في هذه الحالة وجود نوع من العطف أو المحبة بالضرورة، بل إن المقصود منها هو نظرة المالك الإقطاعي إلى عامة الناس على أنهم من رعاياه، وعلى أنه مسئول عنهم بمعنى ما؛ أي إنه يتخذ القرارات الحاسمة بشأن مستقبلهم. وربما شارك في حل مشكلاتهم إذا كانت طبيعته تسمح له بالاهتمام بهذه المشكلات.

    ومما ساعد على اكتمال سيطرة مالك الأرض على الفلاحين، ضَعْف السلطة المركزية في العصور الوسطى، وعدم وجود حكومة مسيطرة وإدارة حكومية قوية لها سلطة تنفيذية كاملة. وهكذا كان الإقطاع يقوم بمهمة حماية أرواح الفلاحين وممتلكاتهم (إن كانت لهم ممتلكات)، وهو أمر كانت له أهميته البالغة في عصر لم يكن فيه من مصدر للثروة سوى الأرض. وكان دور التجارة والصناعة في الإنتاج محدودًا إلى أبعد حد. ولكنه كان يتقاضى ثمن هذه الحماية باهظًا؛ إذ كان الفلاحون المشتغلون بأرضه رقيقًا لهذه الأرض. وكانت حقوقهم ضئيلة جدًّا، وواجباتهم باهظة فادحة، ولم تكن أمامهم أية سلطة يحتكمون إليها إذا زاد طغيان المالك الإقطاعي عن الحد؛ إذ كان هذا الإقطاعي هو الخصم والحكم في آنٍ واحدٍ.

    ولذلك فإنه إذا كانت قيم الشجاعة والترفع والأرستقراطية هي السائدة في جانب الإقطاعيين، فإن قيم الخضوع والولاء كانت هي السائدة في جانب عامة الناس. وكان النموذج المرغوب فيه لإنسان العصر الوسيط هو نموذج الإنسان الخاضع، الذي لا يتجاوز حدوده ولا يتطلع إلى ما هو أعلى منه، والذي تنحصر أغلى أمانيه في رضاء سيده الإقطاعي عنه.

  • (٢)

    وقد أسهم رجال الدين بدورهم في إكمال صورة العصر الإقطاعي الغربي، فنشروا بين عامة الناس قيم الزهد، وصوروا حياة الإنسان على هذه الأرض بأنها مرحلة عابرة، لا ينبغي أن يوليها اهتمامًا كبيرًا؛ ومن ثَم كانت أفكارهم منصرفة عن هذا العالم زاهدة فيه، ولم تكن لأوجه النشاط المتعلقة بهذه الحياة من قيمة سوى أنها تهيئ الإنسان للحياة الأخرى الباقية؛ على أن هذه القيم كانت — في واقع الأمر — موجَّهة نحو عامة الشعب؛ أعني نحو أولئك الذين يريد رجال الدين في ذلك العصر أن يظلوا في حالة من القناعة والاكتفاء بأقل القليل. أما رجال الدين أنفسهم فكان الكثيرون منهم يعيشون حياةً لا صلة لها على الإطلاق بما يدعون الناس إليه؛ إذ إنهم كانوا يستمتعون بكل مباهج الحياة، ولم يكن إصرارهم على تأكيد قيم الزهد إلا تغطيةً لنمط حياتهم الذي كان أبعد ما يكون عن الزهد. والمهم في الأمر أن انتشار أفكار الخضوع والولاء والرضا بالقليل كان يرجع إلى تأثير رجال الدين بقدر ما كان يرجع إلى تأثير النبلاء الإقطاعيين.

(٢-٣) دور الإقطاع في حياة الشرق

لا يمثِّل الإقطاع في الشرق — إذا فُهِمَ بمعنًى واسع لا بالمعنى الذي كان سائدًا في الغرب فحسب — نظامًا تاريخيًّا كان له دوره خلال مرحلة من مراحل التطور ثم انقضى عهده، وإنما هو نظام ما زالت له — في المنطقة التي نعيش فيها من العالم — آثار عميقة، بل لا يزال له وجودٌ فعليٌّ ملموس في كثير من أرجاء هذه المنطقة.

ولسنا نود أن نتحدث عن العوامل المختلفة التي أدت إلى ظهور نظام الإقطاع وتوطده في هذه المنطقة من العالم؛ إذ إن هذا الحديث كفيل بأن يبعد بنا عن غرضنا الأصلي، وهو البحث في الاتجاهات الفكرية والمعنوية التي ترتبت على انتشار نظام الإقطاع. وحسبنا أن نشير إلى أن الامتداد الزمني الهائل لنظام الإقطاع لا يسمح لنا بأن نتحدث عنه كما لو كان نظامًا واحدًا متجانسًا في كل الأحوال، بل كان من الضروري أن يتغير طابعه من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى آخر، وأن يتداخل أحيانًا مع نظم أخرى سابقة على الإقطاع كنظام الرق، وأحيانًا أخرى مع نظم لاحقة له كالنظام الرأسمالي.

ولذلك كان يكفينا؛ لكي نحقق أغراض بحثنا الحالي، أن نشير إلى نظام الإقطاع بوصفه ذلك النظام الذي يرتبط أساسًا بالحياة الزراعية، والذي يتسم بعلاقات اقتصادية واجتماعية بعيدة كل البعد عن التكافؤ بين ملَّاك كبار من ناحية، وبين فلاحين مستعبدين بدرجات متفاوتة، وينبغي أن نتنبه في هذا الصدد إلى أن آثار هذا النظام تظل تطبع الحياة الريفية بطابعها الخاص، حتى بعد أن يطرأ تحوُّل أساسي على نمط الملكية الزراعية، ولا يعود الملَّاك الإقطاعيون مسيطرين على أقدار الفلاحين؛ ذلك لأن التغير في النظم التشريعية أيسر وأسرع بكثير من تغير العقليات الاجتماعية؛ ومن هنا كانت العادات القديمة تظل مستحكمة في النفوس بعد فترة طويلة من زوال النظم التي أدت إلى ظهورها.

ولنَقُلْ — بعبارة أصرح: إننا في الوقت الذي قضينا فيه على الإقطاع من حيث هو نظام اقتصادي تتسم العلاقات الاجتماعية فيه بطابع معين، لم نستطع بعدُ أن نقضي على العادات الفكرية والاتجاهات المعنوية التي يولِّدها نظام الإقطاع. بل إننا حتى في حياتنا الحضرية قد انتقلنا إلى المدن حاملين تراثًا كاملًا من الأفكار والاتجاهات الريفية المرتبطة بعصور إقطاعية عميقة الجذور، فكانت النتيجة أننا أصبحنا في كثيرٍ من الأحيان نحيا حياة مزدوجة بالمعنى الصحيح؛ فنمارس في المدن أعمالًا ترتبط في صميمها بالعصر الحديث كإدارة دفة الأداة الحكومية أو الاشتغال في مصنع أو شركة تجارية. ولكنا نمارس هذه الأعمال بعقليات وقيم موروثة من بيئة هي في صميمها ريفية، بل هي في صميمها إقطاعية.

ولا شك أن لهذا الازدواج أخطاره وأضراره؛ إذ إنه يُحْدِث انفصامًا معنويًّا في المجتمع، بين طبيعة الواقع الذي يعيش الناس فيه ونوع العقلية أو النفسية التي يواجهون بها هذا الواقع ويحاولون حل مشاكله؛ ولذلك فإننا حين ندرس العادات والاتجاهات العقلية التي ترتبط بالنظام الإقطاعي أو تتولد عنه، لا ندرس مرحلة غابرة من التاريخ، بل ندرس واقعًا لا يزال يحيا بيننا حتى اليوم، وما زال يمارس تأثيره في سلوكنا على الرغم من اختفاء النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي أدَّى إلى ظهوره، فلنحاول أن ندرس — بشيء من التفصيل — نوع العادات والقيم التي يولدها النظام الإقطاعي في المجتمع؛ لكي تتضح لنا عن طريقها كثير من مظاهر عدم التوازن في حياتنا الراهنة، وتستبين من خلالها وسائل التخلص من هذا الاختلال.

(٢-٤) السمات المعنوية للحياة في ظل الإقطاع

ومن الواجب أن تكون نقطة بدايتنا في دراسة السمات العقلية المتولدة عن نظام الإقطاع هي تلك الحقيقة التي أشرنا إليها من قبل؛ وأعني بها أن نظام الإقطاع مرتبط أساسًا بالحياة الريفية الزراعية. ولا شك أن طول المدة التي ظل فيها الإقطاع سائدًا في الريف قد أدَّى إلى تداخل وثيق بين العلاقات الاجتماعية الإقطاعية وبين نمط الحياة الريفية بوجه عام؛ بحيث يمكن القول إن قدرًا غير قليل من معالم الحياة في الريف — كما نعرفها حتى يومنا هذا — قد تحدد عن طريق نظام الإقطاع، كما يمكن القول من ناحية أخرى إن السمات الرئيسية المميزة للعقلية التي تعيش في ظل الإقطاع قد تشكلت نتيجة لظروف البيئة الزراعية التي لا يسود هذا النظام إلا فيها.

  • (١)

    أولى السمات التي تلفت الأنظار في البيئة الريفية التي يسودها الإقطاع — والتي تؤثر تأثيرًا قويًّا على العقليات في هذه البيئة — هي بساطة نمط الحياة وبطء إيقاعها. وصحيح أن هذه سمة مشتركة بين كل المجتمعات الزراعية. ولكن نزوع المجتمع إلى الثبات ومحاربته للتجديد من الصفات التي تزداد وضوحًا في المجتمع الإقطاعي على وجه التخصيص؛ ذلك لأن الإقطاع بطبيعته نظام راكد، يحرص أصحاب السلطة فيه على الاحتفاظ بنفوذهم وسيطرتهم، ويؤمنون — عن حق — بأن شيوع الاتجاه إلى التجديد في أي ميدان من ميادين الحياة الاجتماعية يمكن أن تنتقل عدواه إلى سائر الميادين؛ ومن ثَم فإنه يهدد سلطتهم ذاتها بالخطر.

    في مثل هذا المجتمع تتخذ أساليب الإنتاج ذاتها طابعًا ثابتًا، ولا توجد أية حوافز للتجديد، وينعكس ذلك مباشرةً على العقول، فتكون النتيجة أن تتسم طرق التفكير بالثبات، وتتسم العادات الاجتماعية والقيم الأخلاقية بالجمود والتحجر. وإلى هذا العامل يرجع قدرٌ كبيرٌ من النفور من التجديد في مجتمعاتنا الريفية، والاعتقاد بأن الأحوال السائدة في المجتمع المحلي هي أوضاع أزلية، كانت ولا تزال موجودة في كل مكان وزمان. ولا جدال في أن ضيق نظام التجارب في المجتمع الريفي يقوم بدور هام في هذا الصدد؛ إذ إن الانفتاح على العالم الخارجي، وتبادل الخبرات مع الشعوب والمجتمعات الأخرى، ظل حتى عهد قريب أمرًا عسيرًا بالنسبة إلى معظم المجتمعات الريفية في العالم، وزاد تحجر نظام الإقطاع من إحكام هذه العزلة، فكانت النتيجة هي ما نلمسه في المجتمعات الريفية من ارتياب وتشكك في أي نمط من أنماط السلوك أو الاعتقاد يخالف النمط الشائع في المجتمع المحلي، والنظر إلى كل تجديد على أنه بدعة لا تشكل انحرافًا فرديًّا فحسب، بل تمثل خروجًا على تقاليد المجتمع ذاته وتحديًا وإهانة له.

  • (٢)

    ويرتبط بالسمة السابقة مباشرةً تقديس الماضي على حساب الحاضر والمستقبل؛ ففي المجتمع الذي يسوده النزوع إلى الثبات، والنفور من التغير والتجديد. تُعد عبادة الماضي ظاهرة لا مفر منها. وهذه بدورها ظاهرة نلمسها في كافة المجتمعات الريفية عامة، حيث لم تتغير أساليب الإنتاج إلا في عشرات السنين الأخيرة، بينما ظلت عشرات القرون تكاد تكون ثابتة. ولكن المجتمع الإقطاعي يضيف إلى هذا التعليل العام سببًا آخر؛ ذلك لأن زمام السيطرة في هذا المجتمع يقع في قبضة أناس يتجهون، بحكم وضعهم الاجتماعي، إلى تكريم الأسلاف والإشادة بماضيهم؛ فالمالك الإقطاعي الكبير يَدين بثروته ونفوذه — في معظم الأحيان — للوراثة، وكثيرًا ما تكون ممتلكاته موروثة من أسلاف بعيدين. بل إن لقبه ذاته قد يكون موروثًا من أجداد سبقوه بمئات من السنين. وهكذا فإن أمجاده كلها مرتبطة بالماضي، وكل قيمة للحاضر إنما تُسْتَمَد في نظره من علاقته بهذا الماضي، ولما كان الأعيان الإقطاعيون هم المسيطرون في مثل هذا المجتمع، فإن طرق تفكيرهم وقيمهم الأخلاقية هي التي تنتشر وتطبع صورتها على المجتمع ككل؛ ومن هنا تتعلق الأذهان في مثل هذا المجتمع بالماضي، وتنظر إلى المستقبل — الذي يحمل في طياته دائمًا احتمالات التغيير — بعين الارتياب. بل إنها لا ترضى عن الحاضر ذاته إلا بقدر ما يكون انعكاسًا للماضي، وترى أن القديم أفضل دائمًا من الجديد، وأن ما انقضى عهده لا يمكن أن يعوَّض. وحين تصبح هذه الطريقة في التفكير ظاهرة عامة، يؤمن بها الإقطاعيون والفلاحون على حدٍّ سواء، يكون معنى ذلك أن أصحاب المصلحة في التغيير يعملون — عن غير وعي منهم — على محاربة التغيير، وعلى تأكيد حقوق الغاصبين الذين يعد التعلق بالماضي عاملًا أساسيًّا من عوامل تثبيت سلطتهم وإحكام قبضتهم على المجتمع.

    ويمكن القول: إن كل إفراط في التعلق بالتراث الماضي، في مجتمع معين، إنما هو — في جانب من جوانبه — أثر من آثار هذه العقلية الإقطاعية التي تدين بمبدأ عبادة الأسلاف. صحيح أن من حق كل شعب — بل من واجبه — أن يتذكر أمجاده الماضية ويستمد منها قوة تعينه على النهوض بحاضره. ولكن حين يصل تقديس التراث الماضي إلى حد الإلحاح المريض على هذه الأمجاد مع نسيان الحاضر نسيانًا تامًّا، وإلى حد الاعتقاد بأن تذكير الناس بماضيهم يكفي وحده لتعويض كل نقائص حاضرهم؛ فعندئذٍ لا تعود عبادة الماضي عاملًا من عوامل نهضة الأمة، بل تصبح عائقًا في وجه تقدمها.

    وحسبنا أن نُشير إلى أن هذا التعلق المفرط بالماضي ينطوي ضمنًا على إنكار لمبدأ التقدم، بل على إيمان بإمكان هذا التقدم، فمثل هذا المجتمع يرى أن كل علامات التقدم المحيطة به إنما هي مظاهر خادعة، ويعتقد أن مضي الزمن لا يؤدي إلى زيادة تدهور البشرية، أو على أحسن الفروض: يتركها على ما هي عليه، دون أن يخطو بها إلى الأمام خطوة واحدة. ولا جدال في أن هذه النظرة التشاؤمية مرتبطة أوثق الارتباط بالنزعة الرجعية السائدة في عصور الإقطاع؛ إذ إن بقاء الأوضاع على ما هي عليه، أو على ما كانت عليه في الماضي، هو خير ضمان للمحافظة على مكاسب الإقطاعيين واستمرار سيطرتهم على المجتمع.

    هذه الظاهرة تتمثل في بعض المجتمعات التي ظلت خاضعة أمدًا طويلًا لسيطرة الإقطاع (فضلًا عن أنها تنتشر أيضًا في المجتمعات التي كان للنظام القبلي فيها دور هام في تحديد طبيعة العلاقات الاجتماعية). وهي إن دلت على شيءٍ فإنما تدل على عجز عن التكيف مع الواقع، أو على رغبة لا شعورية في الهروب منه. وحين تتخذ عبادة الماضي طابعًا متطرفًا فإنها تصبح عاملًا من عوامل تخدير المجتمع وصرف أنظاره عن مشاغله الحاضرة وعن واجباته في المستقبل؛ ولذلك كان لزامًا على كل مجتمع يتطلع إلى إحداث تغيير ثوري في حياته أن يجعل لتأثير ماضيه حدودًا لا يتعداها. وأفضل ما يمكن عمله في هذا الصدد هو أن يتخذ من ماضيه قوة تعينه على السير قُدُمًا نحو مستقبل أفضل. وهذا أمر لا يصعب إنجازه؛ إذ إن قدرة الأمة على اكتشاف نفسها والاهتداء إلى هويتها الأصلية تُعَدُّ من أهم العوامل التي تساعدها على النهوض في مستقبلها. بل إن البعض يرى أن تعمُّق الأمة في معرفة ماضيها وفهم أبعاد شخصيتها يعينها حتى في عمليات التنمية ذاتها، سواء أكانت تلك تنمية اقتصادية أم اجتماعية. في هذا الإطار يُعَد التعلق بالماضي والسعي إلى استكشاف أبعاده أمرًا مشروعًا. أما الوقوف عند حدود هذا الماضي دون النظر إلى متطلبات الحاضر وأهداف المستقبل فمظهر من مظاهر عقلية معتلة ربما كان من أهم أسباب تكوينها انتشار عادات التفكير التي ترجع إلى العصور الإقطاعية.

  • (٣)

    ومن الطبيعي أن يؤدي هذا النمط الاجتماعي السكوني المتحجر — الذي يسود عصور الإقطاع، والذي يربط العقول بعجلة الماضي أكثر مما يوجهها نحو المستقبل — إلى شيوع التزمُّت وضيق الأفق في مجال الفكر؛ ففي مثل هذا المجتمع لا يوجد للشك مجال؛ ذلك لأن كل الأسئلة تجد إجابات مُعَدَّة سلفًا، متفقًا عليها بما يُشبه العُرْف، والمفروض أن تكون هذه الإجابات كافية، وألا يثار من الأسئلة إلا ما يوجد عنه مثل هذه الإجابات. أما حالة الشك العقلي أو التردد أو عدم الجزم (وهي المعروفة فلسفيًّا باسم «اللاأدرية») فغير مقبولة في مجتمع كهذا؛ ذلك لأن الشك هو أول خطوات السعي إلى التغيير، الذي هو أكبر المحرمات في المجتمع الإقطاعي. وفي مثل هذا المجتمع لا يُسْمَح لأحد بأن يظل معلقًا بين الشك واليقين؛ لأن كل الحقائق التي يُسْمَح بمعرفتها ينبغي أن تكون يقينية وأن تُقْبَلَ بلا مناقشة.

    أما الآراء المعارضة فإن التسامح معها يؤدي إلى انهيار أسس المجتمع الإقطاعي؛ ومن هنا كان مبدأ التسامح ذاته من المبادئ التي لا يعترف بها مجتمع كهذا، ويصدق ذلك على مجال العلم والفكر، مثلما يصدق على مجال السياسة. فكما أن الحريات الفردية لا يُسْمَح بها في المجال السياسي، فكذلك لا تبدي السلطات المسيطرة على المجتمع تسامحًا فكريًّا مع الرأي الذي يخالف العرف المتفق عليه، وتعمل على كبت روح النقد والتحليل العقلي.

    على أننا لسنا بحاجة إلى جهد كبير لكي ندرك أن عددًا هائلًا من أعظم الكشوف التي توصلت إليها البشرية لم يظهر إلا لأن هناك عقولًا سيطرت عليها — في البداية على الأقل — روح الشك في المعرفة القائمة، ولم تقتنع بالإجابات السهلة التي يُرَد بها على تساؤلات العقول، بل لم تكتفِ أصلًا بالنسبة التي يشيع طرحها، وإنما طرحت أسئلة جديدة، وحاولت أن تهتدي بنفسها إلى الإجابة الصحيحة عنها. وهذا يعني أن التزمُّت الفكري الذي يسود هذه المجتمعات سيساعد — بدوره — على بقائها في حالة الجمود والتحجر التي أشرنا إليها من قبل بحيث يكون عدم التسامح وضِيق الأفق سببًا ونتيجةً لهذا الجمود في آنٍ واحد. ولعل في هذا ما يكفي لتفسير ظاهرة انعقد عليها إجماع المؤرخين؛ وهي أن أي عصر من عصور الإقطاع لم يشهد تقدمًا علميًّا أو فكريًّا بالمعنى الصحيح، بل حدث هذا التقدم، جزئيًّا، في بعض العصور السابقة على الإقطاع، ثم تحقق معظمه في العصور اللاحقة له. وكان العامل الأساسي الممهد لهذا التقدم هو التخلص من تزمُّت العقلية الإقطاعية، والاعتراف بمبدأ التسامح الفكري. فمنذ اللحظة التي أدرك فيها المجتمع أن الشك في المعرفة والآراء السائدة ليس جريمة، وإنما هو دليل على حيوية الفكر. وقد يكون هو الخطوة الأولى نحو الوصول إلى كشف جديد؛ منذ هذه اللحظة أصبح التقدم مسألة وقت فحسب. ولكن لا بُدَّ للاعتراف بحق الغير في إبداء آراء مخالفة، ولإدراك قيمة المعارضة الفكرية في النهوض بالمعرفة البشرية في كافة مجالاتها؛ لا بد لذلك من التخلص من بقايا العقلية الإقطاعية بما تفترضه من مجتمعٍ نمطي موحَّد التفكير.

  • (٤)

    وإذا كان إنكار مبدأ الشك وعدم التسامح هو الوجه السلبي للعقلية السائدة في عصور الإقطاع، فإن الوجه الإيجابي لهذه الظاهرة نفسها هو الإيمان المفرط بالسلطة؛ ففي جميع مجالات الحياة توجد سلطة نهائية يُرْجَع إليها، وتكون لها الكلمة الأخيرة في كل أمر يختلف عليه الناس.

    ولا شكَّ أن فكرة السلطة هذه مستمَدة أصلًا من وضع المالك الإقطاعي في المجتمع، الذي تكون لديه بالفعل سلطة مادية على ساكني إقطاعيته، كما تكون لديه سلطة معنوية عليهم، تتمثل في إطاعتهم لأوامره وسعيهم إلى محاكاته والرجوع إليه من أجل حل مشكلاتهم. هذا النمط من السلطة يمتد بحيث يسري على سائر المجالات؛ ففي الأمور العقلية بدورها يكون هناك مصدر معين للسلطة يحتكم إليه المشتغلون بالعلم في كل مسألة يريدون استجلاء غوامضها. وقد يكون هذا المصدر شخصًا حيًّا. ولكنه في معظم الأحيان حكيم من الحكماء السابقين الذين تطمئن العصور الإقطاعية إلى آرائهم، بعد أن تصبغها بصبغة متحجرة، كما هي الحال بالنسبة إلى أرسطو في العصور الوسطى.

    على أن نوع الشخص — ماديًّا كان أم معنويًّا — الذي يتخذ منه المجتمع سلطة، لا يهمنا بقدر ما يهمنا مبدأ السلطة ذاته؛ فنتيجة لانتشار هذا المبدأ، يصبح منهج التفكير المعترف به هو إرجاع الجديد إلى القديم، ويضيع عنصر الابتكار الفردي في التفكير. بل إن الإبداع الفردي أمر لا يُعْتَرَف به أصلًا في المجتمع الإقطاعي؛ فكل ما يتم إنجازه في مثل هذا المجتمع يتحقق عن طريق جماعات، لا عن طريق أفراد. أو لنَقُل بعبارة أدق: إن الفرد لا ينجز في هذا المجتمع شيئًا بصفته الفردية، بل بوصفه عضوًا في جماعة كبيرة تُمْحَى فيها شخصيته الفريدة المميزة؛ فالفرد لا يتميز إلا من حيث هو عضو في طائفة دينية معينة، أو مشتغل في إقطاعية معينة، أو ينتمي إلى جماعة حرفية معينة. وحتى الإبداع الفني الذي تعد الفردية — في نظر الإنسان الحديث — شرطًا أساسيًّا لتحققه، حتى هذا الإبداع كانت تُمْحَى فيه شخصية الفنان، الذي لم يكن يقوم بعمله الفني إفصاحًا عن مشاعره الخاصة، أو رغبة منه في التعبير عن نفسه، وإنما كان يقوم به خدمة لأغراض الطائفة الدينية التي ينتمي إليها، أو تخليدًا لاسم الحاكم الذين يدين له بالولاء، أو غير ذلك من الأغراض التي لم تعد لها مكانة هامة — أو لم تعد لها مكانة على الإطلاق — عند الفنان ذي النزعة الفردية في عصرنا الحديث.

    ومجمل القول: إن العصور الإقطاعية لم تعترف بالفرد من حيث هو كيان مستقل. بل إنها كانت دائمًا تدمج الفرد في كيان أوسع تذوب فيه شخصيته الخاصة. وكان على الفرد أن ينظر إلى المبادئ التي تحكم عمل هذا الكيان الأوسع — سواء أكان إقطاعية أم طائفة دينية أم جماعة حرفية — على أنها سلطة لا تناقَش، وأن يرجع إليها كلما تشعبت أمامه المسالك والْتَبَست الأمور؛ ليجد لديها الكلمة الأخيرة في كل ما يريد أن يعرفه أو يبتَّ فيه.

    وفي مثل هذا الجو العقلي يستحيل أن تتقدم عملية البحث عن الحقائق؛ إذ إن كل شيء يُرَد إلى أصولٍ معترَف بها من قبل، وتتوقف قيمة النتائج التي يتوصل إليها المرء، لا على قدرتها على إقناع العقل، بل على قوة السلطة التي ترتكز عليها. وهكذا تظل الملكات العقلية للإنسان في حالة خمول وتعطل، ويشيع الاعتراف بمنهج القياس؛ أعني منهج إرجاع كل واقعة جديدة إلى واقعة أخرى أعم تكون معروفة سلفًا، وتنحصر قيمة كل إنسان في مدى قدرته على الاستشهاد بآراء الغير، وبالعبارات المحفوظة عن الأجداد والأسلاف، أو المنقولة حرفيًّا عن أقوال أُولي الأمر، لا في قدرته على استخدام عقله من أجل توسيع معارفه والارتقاء بحصيلة المجتمع الإنساني من العلم، ومن فهم العالم الطبيعي والاجتماعي المحيط به.

  • (٥)

    ولقد كانت النتيجة المباشرة لسيادة أسلوب التفكير القائم على فكرة السلطة، هي شعور الفرد بالاستسلام والعجز عن تغيير أي وضع من الأوضاع التي يجدها سائدة في المجتمع، بل لقد كان الفرد يحس بأن هذه الأوضاع لا تقبل التغيير أصلًا؛ فهي أوضاع أزلية لا يملك المرء إلا أن يقبلها على ما هي عليه.

    ولقد كان البعض يَعْمَد أحيانًا إلى تفسير المبادئ الدينية تفسيرًا باطلًا يساعد على تقوية هذا الشعور بالعجز عن تغيير الواقع، وذلك عن طريق الدعوة إلى فهم معين لأفكار مثل القضاء والقدر، يزيد من إحساس المرء بأن ما يحيط به في العالم مقدَّر له منذ الأزل أن يكون على ما هو عليه، وأن جهود الإنسان في هذه الحياة لن تجدي فتيلًا؛ لأن كل شيء يسير في طريق مرسوم محتوم لا يملك الإنسان إزاءه شيئًا. بل إن بعض المفكرين يرون أن هذا التفسير المتطرف للقدرية إنما هو التعبير المباشر — في المجال الديني — عن الرغبة في الإبقاء على الأوضاع السائدة في العصر الإقطاعي على ما هي عليه، وصبغها بصبغة أزلية لا تتغير ولا تتبدل؛ فحين يصبح كل حادث أمرًا يستحيل على الإرادة الإنسانية أن تتدخل فيه أو تعمل على تغييره، يكون معنى ذلك أن النظم الاستبدادية الظالمة في المجتمع هي بدورها شيء مقدَّر منذ الأزل، وأن الإنسان لا يملك إلا أن يتركها على ما هي عليه. وبعبارة أخرى: فإن التفاوت الهائل بين الطبقات، والاستغلال البشع الذي تمارسه الطبقة المالكة على الطبقات الدنيا في المجتمع، يُنظر إليه في هذه الحالة على أنه تعبير عن المشيئة الإلهية، التي ينبغي أن يقبلها الإنسان دون أدنى اعتراض. وليس هناك ما هو أبعد من هذا التفسير عن الفهم السليم لجوهر العقائد الدينية، التي كانت كلها تستهدف إقرار العدالة ومحاربة كافة أشكال الظلم. وليس هناك أيضًا ما هو أحب إلى الطبقات العليا المسيطرة، وأقرب إلى تحقيق أهدافها ومصالحها، من هذه الدعوة التي تؤكد استحالة تجاوز الفوارق بين طبقات المجتمع، وتُشيع بين الناس الاعتقاد بأن النظام الاجتماعي ينتمي إلى مجال الأمور الأزلية المقدَّرة سلفًا، وأنه جزء من النظام العام للكون، وأن الإنسان — مثلما يعجز عن أن يجعل الشمس تُشرق من الغرب — لا يمكنه أن يتدخل في تغيير الفوارق الاجتماعية التي نُظمت بها حياة الناس منذ الأزل.

    فهل من المستغرَب بعد ذلك أن نجد أصحاب السيطرة في المجتمعات الإقطاعية يشجعون أمثال هذه التفسيرات الباطلة للعقائد الدينية؟ لا جدال في أن الارتباط واضح بين مصالحهم الشخصية وبين انتشار الدعوة القائلة بأن الشكل الجائر للنظام الاجتماعي هو جزء من نظام الكون؛ ومن هنا فقد أصبحوا، على مر التاريخ، حماة لأصحاب هذه الآراء الباطلة، وكوَّنوا معهم تحالفًا وثيقًا، بل لقد تداخلت الفئتان تداخلًا وثيقًا، كما حدث في أوروبا عندما أصبح رجال الدين في العصور الوسطى هم في الوقت ذاته من كبار الإقطاعيين، وصار دفاعهم عن فكرة ثبات النظم الاجتماعية القائمة وأزليتها دفاعًا عن مصالحهم الخاصة، لا عن مصالح حلفائهم فحسب.

  • (٦)

    وأخيرًا، فإن تأثير هذه المصالح قد انعكس على التصور الديني لكثير من المجتمعات الإقطاعية في صورة أخرى، أسهمت بدورها في تشكيل عقول أفراد هذه المجتمعات بصورة مميزة؛ تلك هي إدخال نوع من التفاوت أو التسلسل في المراتب في المجال الروحي ذاته، فهناك مجتمعات تتصور الألوهية عالية مترفعة عن عالم البشر، وتقيم نوعًا من تدرج المراتب بين هذه الألوهية وبين عامة الناس؛ فبعد الله يأتي الأنبياء والقديسون، ثم كبار الكهنة أو رجال الدين، ويتدرج الترتيب بعد ذلك حتى يصل آخر الأمر إلى الإنسان العادي.

    ولا بُدَّ للارتقاء إلى كل مرحلة من هذه المراحل من المرور بالمراحل السابقة؛ أي إن الإنسان العادي لا يستطيع مثلًا أن يتقرب إلى الله، أو يحظى بشفاعة أحد القديسين، إلا عن طريق الكاهن الذي يتوسط بينه وبينهم.

    والدليل على أن هذه النظرة إلى الدين انعكاس لنظام اجتماعي يتسم أيضًا بالتدرج وتفاوت المراتب، هو أن هناك نظرات أخرى إلى الدين تختفي فيها هذه الحواجز، ويشيع فيها التقارب بين الله والإنسان؛ إذ يُعد الله قريبًا من البشر، مستجيبًا ومعينًا لهم. بل إن بعض المذاهب الدينية تؤكد حلول الله في العالم، وإمكان اتحاد الإنسان به إذا ارتقى إلى مستوًى معيَّن من الروحانية. هذه الفكرة الأخيرة ترتبط بنظرة أكثر ديمقراطية إلى المجتمع البشري؛ لأنها لا ترتكز على تأكيد الفوارق في المرتبة بين الموجودات، ولأنها تعطي الإنسان العادي أملًا في بلوغ أهداف العقيدة الدينية دون حاجة إلى واسطة. وبالفعل سادت هذه النظرة في العصور التي كانت أقرب إلى الروح الديمقراطية، على حين أن فكرة تسلسل المراتب من الأعلى إلى الأدنى كانت مقترنة بالتفاوت والفوارق التي هي أول خصائص المجتمع الإقطاعي.

(٣) المرحلة الرأسمالية

مقدمة

لم يكن الانتقال من نظام الرق إلى المرحلة الإقطاعية انتقالًا مفاجئًا، ولم يكن يمثِّل ثورةً إنتاجية وعقلية بالمعنى الصحيح؛ ذلك لأن القوى المنتجة في نظام الإقطاع — وهي رقيق الأرض — لم تكن تختلف كثيرًا عن العبيد في نظام الرق القديم. كذلك فإن شكل الإنتاج لم يطرأ عليه تغيُّر أساسي؛ إذ إنه ظل في أساسه زراعيًّا، فضلًا عن أن حجم الإنتاج كان محدودًا. وكانت أساليبه لا تختلف كثيرًا في بساطتها عن نظيرتها في نظام الرق.

أما الانتقال من المرحلة الإقطاعية إلى المرحلة الرأسمالية فكان انتقالًا حاسمًا بحق؛ فقد طرأ على شكل الإنتاج تحوُّل أساسي؛ بحيث لم تعد الزراعة هي المصدر الأساسي لثروة المجتمع، بل حلَّت محلها الصناعة، التي لم يكن لها في المراحل السابقة إلا دور محدود، يناظر الأساليب الساذجة التي كانت تُسْتَخْدَم في ممارسة الحرف اليدوية. كذلك فإن القوى الإنتاجية قد طرأ عليها تغير أساسي، يتمثل في الانتقال من رقيق الأرض إلى العامل الأجير. ولعل أهم مظاهر هذا التغير هو أن الاستبداد الذي كان يحل على رقيق الأرض أو حتى على العبد كان منصبًّا عليه مباشرة من حيث هو «شخص». أما العامل الأجير فقد أصبح يخضع لنوع غير مباشر من الاستبداد، لا ينصبُّ على شخصه، بل عليه من حيث هو ينتمي إلى «طبقة»؛ فصاحب العمل لا يستغل هذا العامل أو ذاك على وجه التحديد، بل هو يستغل العمال من حيث هم أجيرون؛ أي من حيث إن لهم وضعًا طبقيًّا خاصًّا.

ولقد كان من الطبيعي أن ينعكس تأثير هذه التغيرات الحاسمة على العادات العقلية والنزعات الفكرية للإنسان في العصر الرأسمالي. ومع ذلك فإن هذه التغيرات لم تحدث دفعةً واحدة، بل حدثت متدرجة على مراحل متعددة، يختلف تعدادها باختلاف وجهة النظر المتبعة في بحثها؛ على أننا نستطيع — بالنسبة إلى أغراض بحثنا — أن نلمح فارقًا أساسيًّا بين مرحلتين للرأسمالية، كانت لكلٍّ منهما خصائصها المميزة (مع وجود سمات هامة مشتركة بينهما بطبيعة الحال)، هما مرحلة الرأسمالية المبكرة، ومرحلة الرأسمالية المكتملة، وسوف ندرس كلًّا من هاتين المرحلتين من الزاوية التي ينصبُّ عليها موضوع هذا الفصل؛ وأعني بها التأثير الفكري والمعنوي الذي يترتب على كلِّ مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي.

(٣-١) الرأسمالية المبكرة

كانت أهم المعالم التي تنبئ بانهيار المرحلة الإقطاعية وبداية ظهور مرحلة جديدة في التطور الاجتماعي هي:
  • (١)

    ظهور فئة منتجة مستقلة هي فئة «الصناع»، التي يمكن أن يُعَدَّ ظهورها مرحلة وسطًا بين الاقتصاد الإقطاعي الذي كان زراعيًّا، ولم يكن يعرف إنتاجًا حرفيًّا منظمًا، وبين المرحلة الصناعية المكتملة في العصر الحديث. هذه الفئة لم تكن قد انفصلت تمامًا عن الواقع الذي تُنتج فيه ومن أجله، بل كانت لا تزال لها صلات قوية بإنتاجها وبالأغراض التي تُنتج من أجلها.

  • (٢)

    ظهور نمط اقتصادي لا يستهدف الاستهلاك في نفس الوحدة المنتجة؛ أي ظهور البوادر الأولى «للسوق»، التي ينفصل فيها المنتج عن المستهلك. ومع ذلك فإن المعالم الكاملة للسوق، من حيث هي كيان لا شخصي مجهول لا يعرف العامل المنتج عنه شيئًا سوى أنه قوة تتحكم فيه دون أن يدري عنها شيئًا؛ هذه المعالم لم تكن قد تحددت بعدُ بوضوح في هذه الفترة.

  • (٣)

    ولعل أهم مظاهر التحول إلى المرحلة الجديدة هو ظهور التاجر من حيث هو قوة رئيسية في الاقتصاد، تتحمل مخاطرة الشراء من المنتِج لكي تبيع لمستهلك لا صلة له بهذا المنتِج. ومن المعترف به أن التجارة قد عُرِفَت منذ أبعد العصور. ولكن دورها في هذا العصر كان متميزًا: فقد أصبح التاجر يعتمد على نوع جديد من الثروة لم يكن يعرفه العصر الإقطاعي الذي كانت ملكية الأرض فيه هي الشكل الوحيد المعروف للثروة. هذا النوع الجديد هو رأس المال التجاري الذي أصبحت له أهمية فعَّالة في شراء المواد والأدوات اللازمة للإنتاج ولتخزين المنتجات، فضلًا عن أهميته في الائتمان والمعاملات المصرفية.

والواقع أن الدور الأكبر الذي قام به التاجر في تطوير الاقتصاد نحو المرحلة الرأسمالية، كان يتمثل في تأكيده لأهمية المال كقوة جديدة لها وزنها الفعال في المجال الاقتصادي. فبعد أن كانت الأرض وقوة العمل التي يبذلها فيها الفلاحون هي المصدر الأساسي لإنتاج الثروة في المجتمع، أصبح هناك مصدر جديد لا صلة له بأي شكل مباشر من أشكال الإنتاج (لأن المال النقدي لا يستطيع — بذاته — أن يُنتج شيئًا). ولقد كان هذا المصدر الجديد هو الذي أعطى المرحلة الرأسمالية شكلها المميز، وهو نقطة البداية في تحديد المعالم الرئيسية لهذه المرحلة الجديدة.

(أ) تأثير التعامل النقدي

لكي ندرك قوة التأثير المادي والمعنوي الذي أحدثه التعامل النقدي في العصر الرأسمالي المبكر، ينبغي علينا أن نبدأ بكلمة موجزة نعرض فيها لطبيعة النقود من حيث هي قوة اقتصادية؛ فالنقود وسيط يتم عن طريقه التبادل، وهي وسيلة لتخزين الثروة ومقياس للقيمة، وإن كانت مقياسًا متقلبًا لا يتسم بالثبات. وقد كانت النقود تتخذ في البداية شكل قطع من المعدن (كالذهب أو الفضة أو النحاس) تُوزن عند إجراء كل تعامل أو صفقة، ثم صُنِعَت قطع من المعدن لها وزن ثابت وسُمْك معلوم، وأصبحت الحكومات ضامنة لها، وبهذه الوسيلة أصبح تبادل السلع أيسر بكثير مما كان عليه في نظام المقايضة؛ إذ إن هذا النظام الأخير يحتم على الشخص الذي يريد استبدال سلع أن يجد شخصًا آخر لديه ما يريد من السلع، ويريد ما لديه منها، وهو شرط لا يمكن تحقيقه في كل الأحوال؛ ولذلك كانت النقود عاملًا حاسمًا في ازدهار التجارة، وفي تعميق تقسيم العمل وتوسيع نطاقه. وقد يسَّرت النقود تكديس الفوائض في الثروة، وبالتالي تكوين رأس المال؛ وذلك لسهولة تخزينها وإمكان جمعها في حيز محدود؛ ولأنها لا تفسد كالحاصلات الزراعية مثلًا، فضلًا عن سهولة نقلها من مصادر متعددة؛ بحيث يصبح من السهل جمع مدخرات أناس كثيرين في مكانٍ واحدٍ واستغلالها في مشروع أوسع نطاقًا.

ولا يمكن القول: إن هذا التعامل النقدي قد بدأ لأول مرة في الفترة التي نتناولها هنا بالعرض؛ إذ إن بوادره الأولى قد بدأت منذ الحضارات القديمة: كالحضارة السومرية، التي ظهرت فيها أول بدايات نظام الائتمان ودفع الفوائد لقاء القروض، كذلك تضمن قانون حمورابي الذي يرجع تاريخه إلى حوالي ١٧٥٠ قبل الميلاد نصوصًا خاصة بالعقود وبالتعهدات والالتزامات في مجال الأعمال الاقتصادية. ولكن أهمية التعامل النقدي — بوصفه عاملًا حاسمًا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية — لم تظهر بوضوح إلا في العهد المبكر للرأسمالية.

ذلك لأن مرونة المال النقدي وسهولة تبادله وتشكيله بأشكال مختلفة، أدَّت إلى تحرر الأفراد الذين يملكونه من الارتباط بالمكان الثابت الذي كان من قبل هو المصدر الوحيد للثروة؛ وأعني به الأرض الزراعية، وزيادة قدرتهم على التنقل من مكان إلى آخر، بل من وطن إلى وطن. وكان هذا من العوامل الأساسية التي أدت إلى أن تصبح المدن مركز الثقل في الحياة الاقتصادية في العصر الرأسمالي، بعد أن كانت هذه الحياة تتركز من قبل في الريف؛ فالحضارة الرأسمالية حضارة مدن قبل كل شيء. بل إن بقايا الطبقة الإقطاعية حين شعرت بالضعف — نظرًا إلى ثبات دخلها وافتقارها إلى المرونة — أخذت في بيع أراضيها وتحولت إلى المدينة مستهدفة تحقيق مطالبها فيها؛ وبذلك ازدادت أهمية الريف ضآلة، وساهم الإقطاع في هدم نفسه بنفسه، وكلما توطدت دعائم حياة الحضر؛ ازداد المجتمع تعلقًا بها؛ إذ يجد في المدن خير مجال لتبادل السلع وكذلك لتبادل الأفكار؛ ذلك لأن التبادل التجاري كان على الدوام أيسر الطرق لتبادل الخبرات والتجارب بين مختلف الجماعات.

وكما أدى التبادل النقدي إلى زيادة المرونة في التنقل المكاني، فإنه أدى أيضًا إلى زيادة المرونة الاجتماعية؛ ذلك لأن مكانة الفرد لم تعد متوقفة على ما يملكه من الأرض الزراعية، أو على لقبه الوراثي، بل أصبحت تتوقف على مقدار ما يستطيع تكديسه من المال، والمال قيمة اقتصادية تجريدية، لا شأن لها بالأشخاص، تعطي من يملكها — أيًّا كانت صفاته الأخرى — قوة ونفوذًا في المجتمع. وحين لا يعود للعوامل الشخصية دور في تحديد طابع الملكية، أي حين تصبح الملكية ذات صبغة لا شخصية محايدة، فإن الفوارق الجامدة بين الطبقات تبدأ في الزوال، ويصبح الانتقال من طبقة اجتماعية إلى طبقة أخرى أمرًا ممكنًا إذا توافر المال اللازم. وهكذا فبينما كانت الوراثة والأصل العائلي تحول دون انتقال أي شخص من الطبقات الدنيا إلى الطبقة العليا إلا في أحوال نادرة، فإن مثل هذا الانفصال أصبح الآن أمرًا ممكنًا. بل إن الطبقة العليا القديمة أصبحت عاجزة عن الاحتفاظ بمكانتها، وأصبحت فرص مَنْ لا ينتمون إلى هذه الطبقة في الارتقاء أكبر من فرص كبار الملَّاك الوراثيين؛ لأن أسلوب التعامل النقدي والتجاري لم يكن غريبًا بالنسبة إلى الأولين.

وحتى في الحالات التي لم يكن فيها الارتقاء إلى الطبقة العليا ممكنًا، كان العامل الذي يظل في الطبقة الدنيا أكثر تحررًا من الفلاح المرتبط بأرض الإقطاعي في نواحٍ متعددة؛ ذلك لأن العامل يتلقى أجره نقدًا، على حين أن الثاني يتلقاه — في الأغلب — عينًا. وحين يتخذ الأجر صبغة النقد القابل للتداول الحر في أشكال لا حصر لها، يستطيع العامل أن ينفقه كيفما شاء وأينما شاء، ويصبح له بالتالي مزيد من الحريات من الوجهة النظرية على الأقل.

وهكذا يتضح لنا أن شكل التبادل النقدي لم يقتصر تأثيره على المجال الاقتصادي البحت فحسب، بل لقد امتد هذا التأثير حتى أضفى على الحياة بأسرها طابعًا جديدًا، وسوف تزداد هذه الحقيقة وضوحًا عندما ندرس السمات المميزة للعصر الرأسمالي المبكر.

(ب) السمات الفكرية للمرحلة الرأسمالية المبكرة

  • (١)

    بينما كان العصر الإقطاعي عصر ثبات وجمود في الأفكار والعادات والقيم، أصبح التغيير هو شعار العصر الرأسمالي في مراحله الأولى، فلم يكن الإنسان في ذلك العصر يؤمن بوجود أي نظام راسخ لا يتغير، سواء في الطبيعة أو في المجتمع، بل كان يعتقد اعتقادًا جازمًا بأن قدرته على التغيير تسري على كل شيء، وبأنه لا توجد عوائق تمنعه من استطلاع كل المجالات وإثبات فاعليته فيها.

  • (٢)

    كان ذلك عصرًا اكتشف فيه الإنسان نفسه والعالم المحيط به من جديد. فبعد أن كان اللاهوتيون يوهمونه بأن العالم الآخر هو وحده الذي ينبغي أن تتعلق به آمال الإنسان وتتجه نحوه جهوده، أصبح يتجه بكل قواه نحو استطلاع آفاق العالم الطبيعي بكل تفاصيله، وتمثل ذلك في حركة الكشوف الجغرافية التي تضاعفت بسببها أبعاد العالم المعروف للإنسان، وكشفت فيها قارات جديدة مليئة بالثروات وإمكانات الاستغلال، كما تمثل في عكوف العلماء على كشف أسرار الطبيعة بمناهج واقعية وتجريبية دقيقة، وحرصهم على ملاحظة تفاصيلها ملاحظة تشريحية دقيقة وكأنهم يكتشفون العالم المحيط بهم لأول مرة.

  • (٣)
    ولم يكن من الممكن أن يتم هذا التحول لو لم يكن الإنسان في ذلك العصر قد أصبح متفائلًا معتدًّا بنفسه وبقواه، مؤمنًا بأهمية العمل، وبأن كل جهد يبذله لا بُدَّ أن يعود عليه بمزيد من النفع والرخاء. ولقد كانت تلك بالفعل سمة بارزة من سمات المرحلة الرأسمالية المبكرة، ميزتها بوضوح عن المرحلة الإقطاعية التي كان يسودها الإحساس بالتشاؤم وبالانصراف عن العالم وبعدم جدوى أي جهد يبذله الإنسان في هذه الحياة. وكان للعقيدة البروتستانتية — التي أخذت عندئذٍ في الانتشار في أجزاء هامة من أوروبا بعد أن ظلت الكاثوليكية هي المذهب الرسمي للمسيحية طوال ما يقرب من ألف وخمسمائة عام — دور هام في وضع أسس هذه النظرة الجديدة إلى العالم. بل إن بعض الكُتَّاب — مثل ماكس فيبر Max weber وتاوني Tawney — يرون أن للبروتستانتية تأثيرًا مباشرًا في ظهور الرأسمالية؛ ذلك لأن الروح البروتستانتية قد أزالت العوائق التقليدية التي كانت تقف حائلًا في وجه الرغبة في التملك، ولم تكتفِ بتأكيد أن دافع الربح مشروع، بل قد نظرت إلى السعي إلى الربح على أنه أمر تتجه إليه الإرادة الإلهية مباشرة، وكل ما ينهى عنه الله هو الترف المفرط والتبديد. أما الاستخدام الرشيد للثروة من أجل تحقيق مصالح الفرد والمجتمع فأمر تدعو إليه العقيدة الجديدة بحماسة، كذلك كانت هذه العقيدة تُعلي من قدر العمل الدائب المستمر الشاق، سواء أكان عملًا يدويًّا أم عقليًّا. وفي ذلك كانت تختلف اختلافًا واضحًا عما تدعو إليه الفلسفة اليونانية — ممثَّلة في قطبيها الكبيرين: أفلاطون وأرسطو — من احتقار للعمل اليدوي، واعتقاد بأنه يحط من قدر من يشتغل به وينزع عنه إنسانيته. وهكذا كانت البروتستانتية تحمل بشدة على حياة التكاسل والاسترخاء، حتى بالنسبة إلى من تسمح لهم ثروتهم بمثل هذه الحياة، وقد بلغ الأمر بالعقيدة الجديدة إلى حد أنها دعت إلى ممارسة العمل لذاته، بوصفه شيئًا يأمر به الله، لا من أجل ما يجلبه من جزاء. وكان ذلك في رأي البعض مَظْهَرًا من مظاهر حاجة الرأسمالية في بداية نشأتها إلى عمال يمكن استغلالهم اقتصاديًّا على أساس من العقيدة، وهو نوع من التبرير لم يعد ضروريًّا بعد أن اكتملت السيطرة للرأسمالية في مرحلة لاحقة من تاريخها.
  • (٤)

    على أن هذا العصر، في تفضيله للنزعات المتعلقة بالدنيا على الروح الزاهدة، لم يكن على الإطلاق عصرًا لا دينيًّا، وكل ما في الأمر أنه كان مضادًّا لسلطة الكهنوت والكنيسة الرسمية بقدر ما كانت تضع قيودًا على نشاط الإنسان في استغلال العالم المحيط به، وترتب على ذلك أن الدين أصبح ينظم العالم الداخلي الباطن للإنسان. أما العالم الخارجي فإنه يترك للإنسان حرية التصرف فيه، ولا يتدخل في أفعاله الظاهرة. وكان ذلك عاملًا ساعد على إطلاق طاقات الإنسان الأوروبي بعد أن كانت أحكام الدين تتدخل حتى في أبسط ما يقوم به من أفعال، وتنظم كافة مظاهر سلوكه وفقًا لمبدأ الزهد والانصراف عن شئون الحياة.

  • (٥)

    على أننا نستطيع أن نقول: إن أبرز السمات التي تميزت بها المرحلة الرأسمالية المبكرة عن المرحلة الإقطاعية السابقة عليها تميزًا قاطعًا، كانت الاعتراف بالسيادة المطلقة للعقل، والتخلي عن كل النزعات اللاعقلية التي كانت تسود العصر السابق. ولا شك في أن عنصر التعامل النقدي — الذي أشرنا إلى أهميته من قبل — كان مرتبطًا بهذا الإعلاء من شأن العقل؛ إذ إن التعامل النقدي يتسم — كما بيَّنَّا — بأنه تجريدي لا شأن له بالعوامل الشخصية، وتلك بدورها سمة هامة من سمات التفكير العقلي الذي يترك المحسوسات جانبًا ليتعامل مع المجردات، فضلًا عن أنه لا يعمل حسابًا للانفعالات والمشاعر الشخصية، وكلما تمكن من التخلي عن العوامل الذاتية كان أَقْدَر على أداء وظيفته الحقة. وفضلًا عن ذلك فإن التعامل النقدي وما يرتبط به من حسابات مالية ومصرفية معقدة، يحتاج إلى تقدم في التفكير الرياضي العقلي؛ ومن هنا لم يكن من المستغرب أن تُحْرِزَ الرياضيات في ذلك العصر تقدمًا كبيرًا بالقياس إلى فترة الركود التي مرت بها منذ انقضاء العصر اليوناني القديم.

    ولقد كان من الضروري للتاجر — ثم لصاحب المصنع فيما بعد — أن ينظر إلى كل الظواهر على أنها قابلة للتنبؤ وللحساب الدقيق؛ بحيث يرى العالم كله كما لو كان مصنعًا آليًّا ضخمًا يمكن حساب كل ما يجري فيه من عمليات. وكانت تلك القدرة العقلية على حساب التفاصيل والتنبؤ — على أساس مدروس — بتطورات الأحداث جزءًا لا يتجزأ من تكوين رجل الأعمال الناجح في ذلك العصر، بل لقد كانت الواقعية الصارمة صفة لا بد منها لمثل هذا الرجل، ولم تكن الروح المكيافيلية إلا تعبيرًا صادقًا عن أخلاق العصر الرأسمالي الأول، وعن القيم العقلية السائدة فيه. كما أن قصة مثل «دون كيخوته» لم تكن بدورها إلا تأكيدًا — لا يخلو من مرارة — لانقضاء عهد الفرسان النبلاء المؤمنين بقيم الشهامة والبطولة الفردية، وظهور عالم واقعي صارم يحسب كل شيء فيه بحساب العقل الموضوعي الدقيق.

    ولم يكن من الممكن أن يصمد في المنافسة الحادة التي أصبحت تميز ميدان الأعمال الاقتصادية، إلا من توافرت له صفات الذكاء الفردي والمهارة والصرامة والقدرة على التوقع واستباق الحوادث. أما الصفات المكتسبة من الحسب والنسب والمزايا الوراثية فلم تعد تُجْدِي نفعًا، وهكذا فإن وزن الأمور كلها بميزان العقل الدقيق — بغضِّ النظر عن أي اعتبار شخصي — أصبح هو السمة التي ينبغي أن تتوافر في الإنسان كيما يتحقق له النجاح.

    بل إن الحروب ذاتها قد اصطبغت بهذه الصبغة العقلانية اللاشخصية، فقد كان حلول المدفع محل السيف تعبيرًا رمزيًّا عن الانتقال من عصر شخصي إلى عصر عقلاني صارم؛ لأن القتال بالسيف قتال بين شخص وآخر، أو بين إنسان وإنسان، على حين أن المدفع يصيب دون التحام مباشر بين أشخاص، ولا يميز في الإصابة بين إنسان وآخر، بل لا يعرف من الذي يصيبه، ولو أمعنَّا الفكر قليلًا لتبين لنا وجود نوع من التوازن بين الانتقال من التعامل العيني بالسلع إلى التعامل النقدي المجرد، أو من إنتاج الثروة في مزرعة يملكها سيد إقطاعي إلى مصنع يعمل فيه عمال لا تربطهم بصاحب العمل أية صلة شخصية، وبين التحول الذي أشرنا إليه في أساليب الحرب من السيف والدرع إلى المدفع والبارود.

  • (٦)

    ولقد كان العلم بدوره يقوم بدور حاسم في تأكيد هذه النظرة الموضوعية إلى الأمور؛ بحيث يمكن القول: إن الكشوف العلمية الحديثة قد أرست الأساس العقلي الذي تستطيع الرأسمالية الناشئة أن ترتكز عليه، في نفس العصر الذي نتحدث عنه حدث تحول في العلم لا يمكن تجاهل سماته التي توازي سمات التحول الاقتصادي، فقد بدأت الرياضيات تقوم بدور هام، لا في المجال العلمي فحسب، بل في مجال الحياة اليومية أيضًا، وإذا كنا اليوم قد اعتدنا أن نعبر عن عدد لا حصر له من مظاهر حياتنا بالأرقام — كما في الإحصائيات التي تحدد مستوى التقدم الاقتصادي. وفي الحسابات التي تقوم بها في حياتنا الخاصة — فإن الأوروبيين في العصر الإقطاعي لم يكونوا يُبْدُون اهتمامًا بالأرقام، بل لم يكونوا يهتمون حتى بتحديد أعمارهم بدقة، ونستطيع أن نلمس الفارق بين العصرين وبين العقليتين — بوضوح — إذا ما قارنَّا بعض العادات التي لا تزال شائعة في الريف المصري بعادات أهل المدن؛ ففي الريف لا زلنا نجد بعضًا من كبار السن يصعب عليهم تحديد يوم ميلادهم، كذلك لا يقوم الزمن بدور أساسي في الحياة اليومية، وإنما تحدد المواعيد حسب «مغرب الشمس» أو «في العشية»، على حين أن ساكن المدينة يعمل حسابًا للدقائق قبل الساعات، ولا يستغني عن الدقة الكاملة في جميع معاملاته.

    وهكذا كان اكتساب عادات الدقة والانضباط من الصفات الضرورية في المرحلة الرأسمالية الجديدة. بل إن من المفكرين من يذهبون إلى أن العصر الرأسمالي قد بدأ منذ اللحظة التي اختُرِعَت فيها «الساعة»: وذلك أولًا لأن الساعة نموذج كامل للآلة الدقيقة التي تنظِّم حركاتها بنفسها؛ ومن ثَم فهي النموذج الأول لحركة التصنيع الآلي في العصر الرأسمالي، وثانيًا — والأهم — لأن الساعة أدت إلى تأكيد عادات الدقة والضبط والانتظام، وخلقت عالمًا ينظمه العقل، ويحسب كل شيء فيه حسابًا دقيقًا، لا عالمًا يخضع لإيقاع الطبيعة الخارجية أو الطبيعة الإنسانية الداخلية في تحديد المواعيد وتنظيم الأعمال.

    ولقد كانت عادات الدقة هذه هي أول العوامل التي أدت إلى قيام الثورة العلمية الحديثة في أواخر القرن السادس عشر، وإلى التوصل إلى أساليب جديدة في البحث العلمي لم يكن للعصور السابقة عهد بها، فبفضل هذه العادات استطاع علماء الفلك — مثلًا — أن يقوموا بحسابات دقيقة أدت إلى إحداث انقلاب كامل في نظرة الإنسان إلى العالم، ومثل هذا يقال عن علم الطبيعة (الفيزياء)، ثم الكيمياء فيما بعد، وغيرها من العلوم الحديثة.

    ولو تأملنا مثلًا واحدًا، وهو النظرية الجديدة في علاقة الشمس بالأرض كما توصل إليها كبرنيكوس في القرن السادس عشر؛ لاستطعنا أن ندرك مدى التأثير المتبادل بين التحول في نمط التفكير العلمي والتحول في نمط الإنتاج الاقتصادي؛ ذلك لأن كبرنيكوس حين أكد أن الأرض هي التي تدور حول الشمس لا العكس، لم يكن يتحدى بذلك تراثًا علميًّا يرجع إلى قرون كثيرة فحسب، بل كان يتحدى أيضًا اعتقادًا راسخًا لدى الإنسان العادي، تؤيده حواسه وتجربته اليومية الملموسة؛ إذ لا يبدو أن هناك ما هو أكثر يقينًا، بالنسبة إلى هذه التجربة، من أن الأرض ثابتة، وأن الشمس والكواكب الأخرى هي التي تدور حولها؛ ومن هنا لم تكن الثورة التي أحدثها كبرنيكوس ثورة في مجال علمي محدد فحسب، بل كانت أيضًا ثورة في طريقة الإنسان الحديث في النظر إلى الأمور؛ أعني أنها كانت دعوة إلى عدم التقيد بالعوامل الشخصية والأحكام التي توحي بها إلينا التجربة اليومية، وتفضيلًا للعقل الموضوعي الصارم على الآراء الذاتية، وإعلانًا لانهيار النظرة الشخصية إلى الأمور وحلول النظرة العلمية — المبنية على الحساب الدقيق — محلها، وتلك كلها في واقع الأمر أمور تحققت، بطريقة تكاد تكون موازية تمامًا لهذه، في مجال الاقتصاد؛ إذ إن نمط الاقتصاد التجاري والرأسمالي الجديد كان يتصف، بالقياس إلى النمط الإقطاعي الزراعي بنفس النوع من الموضوعية ومن تجاهل الاعتبارات الذاتية والشخصية، والاعتماد على التنبؤ والحساب الدقيق بصرف النظر عن كل رأي شخصي أو شعور ذاتي.

    على أن تقدم العلم لم يقتصر على الجانب النظري وحده. بل إن العلم أحرز تقدمًا كبيرًا في الجانب التطبيقي أيضًا. وكان التقدم التطبيقي دليلًا على أن العلم أخذ يمارس وظيفته الاجتماعية على نحوٍ أكمل. وقد تمثلت هذه النظرة إلى العلم بوصفه نشاطًا يؤثِّر في المجتمع ويتأثر به، تمثلت بوضوح كامل في فكر الفيلسوف الإنجليزي «فرانسس بيكن»؛ ففي رأيه أن العلم يجب أن يزيد من سعادة الحياة الإنسانية، وألا يكون معرفة من أجل المعرفة فحسب. وكان يرى أن المخترعين والعلماء التطبيقيين هم الذين يحتلون قمة السلم الاجتماعي، لا الحكماء النظريون أو رجال اللاهوت. والواقع أن بيكن قد استبق عصر التكنولوجيا الحديثة عندما أكد أن المخترعات المرتكزة على العلم قادرة على تغيير حياة البشر، وعلى أن تضفي على العالم بأسره شكلًا جديدًا. وهكذا كانت لديه قدرة تنبؤية على الاستبصار بالعالم الذي سيأتي من بعده عالم التقدم التكنولوجي المتلاحق.

    وإذن، فعلى المستوى النظري كان تقدم العلوم الرياضية، وزيادة دقة التعبير الكمي عن قوانين الطبيعة، مرتبطًا أوثق الارتباط بالعصر الجديد، تقوم فيه الحسابات الرياضية بدور هام في معاملات السوق، وعلى المستوى التطبيقي انتفع العصر الصناعي الجديد من الرياضيات التطبيقية كثيرًا في صنع الآلات، فضلًا عن انتفاعه من العلوم الطبيعية والكيماوية في تسخير طاقات جديدة لخدمة الإنسان، وسرعان ما اقتنع رجال الصناعة بأن السبيل إلى زيادة إنتاجهم وتحسينه والإقلال من مصروفاتهم هو اتباع الأساليب العلمية؛ أي ما يُعْرَف بأساليب الترشيد، فضلًا عن إدخال الآلية على نحو متزايد، وبالاختصار فإن نفس الروح التي كانت تدفع الرأسمالي إلى مزيد من الاستثمار والنشاط الاقتصادي، كانت تدفع المكتشف إلى ارتياد آفاق جديدة، والعالم إلى كشف قوانين جديدة، والمخترع إلى ابتداع تطبيقات جديدة؛ إذ إن الجميع كانوا يسعون إلى زيادة قوة الإنسان وإحكام سيطرته على الطبيعة.

  • (٧)

    وأخيرًا، فلا بُدَّ لنا أن نشير إلى سمة أخرى هامة من سمات هذا العصر، ترتبت على التحول الأساسي الذي طرأ على حياته الاقتصادية، هي نمو النزعة الفردية في مجالات الأخلاق والأدب والفن. وليس من الصعب أن نجد تعليلًا لهذه الظاهرة في ضوء ظروف العصر؛ ذلك لأن الشخص الناجح في العصر الجديد لم يكن يدين بنجاحه لأسرته أو لقبه الوراثي، ولم يَعُد الانتماء إلى جماعة معينة هو أساس التفوق. بل إن كل شيء أصبح يتوقف على الجهود الخاصة التي يبذلها كل فرد. وكان ذلك العصر حافلًا بأمثلة الأشخاص العصاميين الذين تمكنوا بجهودهم الخاصة من أن يصلوا إلى مكان الصدارة في المجتمع وخاصةً في المجال الاقتصادي، ومن شأن هذا الاتجاه أن يزيد من شعور الفرد بقدراته الخاصة، ويجعله أقدر على تحدي السلطة بكافة أنواعها بحيث لا يعود معتمدًا على عامل «الانتماء» بقدر ما يعتمد على عامل الكفاح الفردي، وإلى هذه الظاهرة ترجع مختلف مظاهر التحرر من السلطة في ذلك العصر؛ أعني سلطة الفلاسفة القدماء (مثل أرسطو)، وسلطة رجال الدين، وسلطة الإقطاع الوراثي، وسلطة العادات والتقاليد الاجتماعية المرتبطة به، وقد انعكس ذلك في مجال الفكر على شكل كثرة من الاتجاهات الفكرية المستقلة التي تتسم بقدر كبير من الخصوبة والاستقلال، على عكس اتجاهات العصور الوسطى التي كانت متقاربة متجانسة إلى حد بعيد، كما انعكس في ميدان الأدب والفن على شكل أعمال تسعى إلى استكشاف العمق الباطن للفرد، والاهتمام بمشكلاته وأحاسيسه الخاصة، على خلاف الاتجاهات السابقة التي كان الفن يقتصر فيها على خدمة قضية دينية أو سياسية معينة دون أدنى اهتمام بالعنصر الفردي. وهكذا فإن الفنان أو الأديب «الفرد»، الذي يعبر عن نفسه من حيث هو فرد، ويطلب إلينا أن نهتم به على أساس أنه إنسان متميز عن كلِّ مَن عداه، قد ظهر لأول مرة في ذلك العهد. وربما قال البعض: إن ظهوره كان رد فعل على النزعة العقلانية اللاشخصية المتطرفة التي كان يتسم بها العصر الجديد. ولكن الأرجح أنه كان متمشيًا مع مقتضيات عصر فتحت فيه أمام الفرد آفاق لا نهائية، وازداد فيه الإنسان ثقة بنفسه وشعورًا بكيانه، وأُزِيلت فيه الحواجز التي كانت تحول دون تحقيقه لأمانيه في النجاح والارتقاء إلى أعلى درجات السلم الاجتماعي.

(٣-٢) الرأسمالية المكتملة

كانت المرحلة المبكرة من العهد الرأسمالي مرحلة كفاح ضد قوى الإقطاع المادية وقيمه المعنوية، وإذا كنا قد أكدنا من قبل مزايا هذه المرحلة وسماتها الإيجابية، فذلك لأنها تمثل بالفعل تقدمًا ملموسًا بالقياس إلى المرحلة السابقة عليها؛ فهي قد دفعت بالبشرية خطوات واسعة إلى الأمام، حين أكدت سيادة العقل على كل النزعات اللاعقلية المضطربة الغامضة التي كانت تسود في العصور الوسطى. وحين أطلقت طاقات الإنسان ليستكشف الطبيعة جغرافيًّا ويفهمها علميًّا ويستغلها اقتصاديًّا.

على أن هذا النمط الجديد من أنماط العلاقات الاجتماعية — أعني النمط الرأسمالي — كان ينطوي على عناصر سلبية أساسية لم تظهر بوضوح في مرحلته المبكرة؛ وذلك أولًا لأن جميع سماته لم تكن قد ظهرت مكتملة بعدُ، وثانيًا لأنه كان في معركة مع علاقات اجتماعية أكثر منه تخلفًا بكثير، وعندما تم له الانتصار في هذه المعركة، واكتملت خصائصه بحلول العصر الصناعي وسيادة الإنتاج الآلي، أخذت العناصر السلبية في نمط الإنتاج الرأسمالي تبرز إلى السطح بوضوح كامل، وظهرت العيوب المعنوية والفكرية للنظام الرأسمالي على نحوٍ لا يدع مجالًا لأي شك.

(أ) خصائص الرأسمالية المكتملة

ولكي ندرك هذه العناصر السلبية يتعين علينا أن نبدأ بتحديد الطابع الذي تميزت به المرحلة الرأسمالية في عهد اكتمالها:
  • (١)

    فالرأسمالية المكتملة قد تحددت معالمها عندما بدأت تظهر طبقة عمالية متميزة، ترك أفرادها الطوائف الحرفية القديمة التي كانت راعية لهم، أو هاجروا من الريف بلا حماية، وأصبحوا واقعين وقوعًا تامًّا تحت رحمة صاحب العمل، دون أن تكون لهم أية فرصة للارتقاء في سلم المجتمع، على عكس الصانع الحرفي التقليدي الذي كانت لديه على الأقل فرصة الارتقاء إلى مرتبة «متعهد الأعمال» (المقاول) أو «الصانع الماهر» (المعلم)، وحتى في الحالات التي لم يكن يتحقق فيها هذا الارتقاء، كانت هناك علاقات شخصية متينة تربط الصانع بزملائه وبصاحب «الورشة» التي يشتغل بها. أما في ظل الرأسمالية المكتملة فقد تحوَّل العمل من خدمة شخصية إلى سلعة لا شخصية، لا يرتبط فيها العامل بصاحب العمل إلا من حيث إن الأول يقدم قوة عمل معينة، والثاني يدفع أجرًا معينًا. وفيما عدا ذلك لا تقوم بين الاثنين أية علاقة؛ فالعامل في هذه الحالة شخص مجهول، أو هو على الأصح «قوة» لها طاقة معينة، ولا يهتم صاحب العمل على الإطلاق بالشخص أو الإنسان الذي يبذل هذه القوة. بل إن العلاقة بينهما تصبح تجريدية تمامًا، ولا تصطبغ بأية صبغة إنسانية. وهكذا فإن التوسع في استخدام الآلات في العصر الصناعي قد تولدت عنه نزعة آلية عامة أثَّرت في تقدير الإنسان ذاته، فأصبح العامل مجرد ترس في آلة الإنتاج الضخمة المعقدة قابل للاستبدال شأنه شأن أي جزء أصم في أية آلة.

  • (٢)

    وفي مقابل ذلك تراكم رأس المال وازدادت الثروات ضخامة في أيدي أصحاب الأعمال، الذين أصبحوا يلجئون إلى التخطيط الدقيق ويعملون على ترشيد الإنتاج بحثًا عن أفضل الوسائل التي تكفل تحقيق أقصى قدر من الربح وأعظم قدر من الإنتاج.

(ب) السمات المعنوية للرأسمالي

والواقع أن الطريقة التي أصبح أصحاب الأعمال ينظرون بها إلى عالم الاقتصاد كانت طريقة متميزة عن كل ما عداها، ولا يمكن فهمها إلا في ضوء العصر الجديد؛ ذلك لأن المحور الذي كان يدور حوله النشاط الاقتصادي من قبل كان على الدوام هو الإنسان، بلحمه ودمه وبحاجاته ومطالبه. أما في عصر الرأسمالية المكتملة فقد حلت محل الإنسان تجريدات لا شأن لها به كالعمل والسوق والربح، وعلى حين أن الإنسان ظل — بمعنى ما — مقياس كل شيء حتى في العصر الرأسمالي المبكر، فإن البحث عن الربح والسعي إلى التوسع في الأعمال الاقتصادية أصبح الآن هو الغاية القصوى. بل إن الأعمال — كما لاحظ بعض الكُتَّاب — قد أصبح لها وجود مستقل حتى عن أصحابها أنفسهم: فمن الممكن أن يكون أصحاب شركة معينة أشخاصًا غير موثوق بهم، أو ذوي سمعة سيئة، ومع ذلك يظل اسم شركتهم أو الناتج الذي ينتجونه يحوز ثقة العملاء وإعجابهم؛ أي إنه يصبح شيئًا مستقلًّا عن أصحابه، ويصبح للأعمال الاقتصادية وجود موضوعي لا صلة له بالإنسان الموجود من ورائها، وتتحول إلى كيان قائم بذاته، وكل ما يهتم به صاحب العمل هو أن يزيد هذا الكيان المستقل صحة ونموًّا وازدهارًا.

إن من الشائع أن يوصف الرأسمالي بأنه شخص لا همَّ له سوى أن يحصل على مزيد من الربح، ومن المؤكد أن هذا الوصف صحيح إلى حد بعيد. ولكن ينبغي أن نكون على شيء من الحذر حين نتحدث عن سعي الرأسمالي إلى الربح؛ فالهدف الأكبر للرأسمالي هو أن تتوسع أعماله وتزداد نموًّا. وليس الربح إلا وسيلة لتحقيق هذه الغاية، وهنا قد يكون من المفيد أن نفرق بين لفظين يُسْتَخْدَمَان في الأغلب بمعنيين مترادفين، هما الكسب والربح؛ فالكسب هو البحث عن مزيد من الأموال لكي ينتفع بها الشخص ذاته، أو من يحيطون به في حياته. أما الربح فهو البحث عن مال أكثر يخصص أساسًا للعمل نفسه، ولتوسيع نطاق الصناعة أو التجارة، بهذا المعنى يكون الكسب شخصيًّا عينيًّا، والربح لا شخصيًّا مجردًا، وقد لا يكون من الخطأ أن نقول في ضوء هذه التفرقة: إن كبار الرأسماليين يبحثون عن الربح قبل الكسب، بدليل أن الكثيرين منهم لا يعيشون — حتى وهم في قمة النجاح — حياة شديدة الترف. بل إن بعضهم قد يصل به الاستغراق في أعماله إلى حد إهمال حياته الشخصية وممارسة نوع خاص من الزهد (وإن كان الترف الشديد — بطبيعة الحال — موجودًا بدوره لدى كثير من الرأسماليين)؛ ذلك لأن الموضوع الرئيسي لاهتمام أمثال هؤلاء الرأسماليين هو نجاح الأعمال ذاتها.

ولا يمكن القول: إن هناك نقطة يتوقف عندها هذا النجاح؛ فكل توسُّع يجلب رغبة في مزيد من التوسع؛ بحيث كان «فيرنر زومبارت Werner Sombart» على حق حين قال: إن نشاط صاحب العمل الرأسمالي يتطلع نحو غاية لا نهائية؛ ففي الماضي، عندما كانت حاجات الجماعة هي التي تتحكم في النشاط الاقتصادي — كانت هناك حدود طبيعية لا يمكن أن يتعداها هذا النشاط. أما عندما تصبح الغاية هي أن تزدهر الأعمال لا أن تلبَّى حاجات الجماعة، فلا يمكن أن تكون مثل هذه الحدود موجودة، ويستحيل أن يصل صاحب العمل الرأسمالي إلى نقطة يمكن أن يتوقف عندها ويقول: كفى! وحتى لو وقفت أية عوائق في وجه نشاطه، فإنه يبدأ في تجربة جوانب أخرى من النشاط تكون فرص التوسع أمامها أعظم؛ وبذلك يمتد توسعه طولًا وعرضًا أو انتشارًا وعمقًا، ويستحيل تصور هذا النشاط متوقفًا؛ لأن التوقف معناه الاختناق والتدهور والانحدار.

وحين بحث «زومبارت» عن قيم للحياة كامنة وراء هذا السعي الجنوني إلى التوسع، رأى أن هذه القيم أشبه ما تكون بقيم الطفولة، فرجل الأعمال في نظره طفل كبير، وذلك في سعيه إلى الضخامة، مثلما يريد الطفل أن يكون كبير الجسم؛ بحيث يكون الحجم المجرد هدفًا في ذاته، ويخلط بين الضخامة وبين ارتفاع المكانة أو العظمة. كذلك فإن رجل الأعمال طفل في سعيه إلى السرعة، واختصار الزمن في كل شيء. وفي بحثه عن التجديد المستمر، مثلما يرغب الطفل في تجديد لعبه وملابسه تجديدًا دائمًا. وفي رغبته في الشعور بمزيد من القوة عن طريق توسيع أعماله واستخدام ألوف الناس الذين يتوقف مصيرهم على كلمة منه.

على أننا سوف نتبين بعد قليل أن هذا الوصف إذا كان ينطبق على وجه من أوجه نشاط الرأسمالي، فإنه لا ينطبق أبدًا على بقية أوجه النشاط التي يتبدى فيها الرأسمالي أبعد ما يكون عن الطفل الكبير، ويتخذ صورًا لا صلة لها على الإطلاق ببراءة الطفولة وسذاجتها.

والذي يهمنا الآن هو أن نلاحظ التحول الأساسي الذي طرأ على الرأسمالية وعلى شخصية الرأسمالي منذ مرحلتها المبكرة حتى مرحلتها المكتملة، فقد بدأت الرأسمالية — في عهدها الأول — تشق طريقها بفضل روح المغامرة والبحث عن الجديد والكشف عن المجهول. وكانت الأعمال الاقتصادية الناشئة في ذلك العهد تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من إشباع الحاجات الاستهلاكية للإنسان. أما عندما اكتملت خصائص الرأسمالية فقد انعدمت روح المغامرة، وأصبح رأس المال «جبانًا»، على حد التعبير الشائع، وتحولت المنافسة التي كانت من أبرز سماتها في البداية إلى احتكار يعمل على تخفيف حدة التنافس أو تنظيمه أو إزالته لصالح أصحاب الأعمال وضد مصالح المستهلكين، وبدلًا من أن تعمل الرأسمالية على إشباع الحاجات الحقيقية للإنسان، فإنها أخذت تخلق لديه عادات زائفة لا هدف لها سوى أنها تؤدي إلى فتح باب جديد للربح. ولكن على حساب الاستخدام الرشيد لموارد المجتمع.

وعلى حين أن الرأسماليين كانوا في أول عهدهم أشخاصًا يتسمون بصفات النشاط والمثابرة وتقديس العمل — أيًّا كانت عيوبهم الأخرى — أو يبتدعون الأفكار الجديدة التي تكفل نجاح أعمالهم، فإن الكثيرين منهم أصبحوا في المرحلة اللاحقة أشخاصًا تأصَّلت فيهم عادات الترف المفرط، والتفنن في التبذير الماجن. وكانت هذه الصفات الأخيرة أوضح ظهورًا لدى الرأسماليين الذين انفصلوا عن عملية الإنتاج، ولم يعودوا يرتبطون بمصانعهم أو يعرفون شيئًا عما يتم فيها، بل يعهدون بها إلى مديرين أكفاء، ويكتفون هم بما ينالونه من أرباح.

وبالمثل فإن الطبقة الرأسمالية أو البورجوازية — التي كانت في أول عهدها تحارب امتيازات الأشراف والإقطاعيين، أخذت تكرس جهودها للمحافظة على نفوذها عندما تحققت لها السيطرة، بل إن الطبقة الجديدة كانت في بعض الأحيان تتداخل مع طبقة النبلاء الزراعيين القديمة بالمصاهرة، وتحاول محاكاة العادات الأرستقراطية العتيقة. وبعبارة أخرى، فإن الرأسماليين عندما أصبحوا هم أصحاب المصالح الحقيقية القائمة، أخذوا يتجهون إلى المحافظة على مصالحهم، وبعد أن كانوا في البداية يستخدمون «العقل» قوة ثورية، أخذوا يستعينون به في تبرير الأوضاع القائمة بطريقة يغلب عليها الطابع المحافظ. والواقع أن هذا التحول كان أمرًا تقتضيه نفس روح المرونة والحركية التي كان يتسم بها المجتمع الرأسمالي، فهذه المرونة ذاتها كانت تحتم أن تتحول العناصر التقدمية في الطبقة البورجوازية — بمضي الوقت — إلى أسلوب محافظ في التفكير والحياة، ثم تظهر طبقة جديدة أكثر نشاطًا وابتكارًا؛ لتحتل مكانة الطبقة التي أصبحت محافظة، ثم تتحول هذه الجديدة بدورها إلى الطابع المحافظ وهكذا. ولكن هذا الطابع المحافظ أصبح هو الطابع المميز للرأسمالية منذ اللحظة التي ظهرت فيها طبقة عاملة واعية تهدد مصالح الرأسماليين، أي منذ القرن التاسع عشر.

(ﺟ) الأوجه السلبية في المرحلة الرأسمالية

ليس من الصعب أن ندرك أن التحول الذي طرأ على الرأسمالية وعلى الطبقة البورجوازية من قوة تقدمية تعمل على محارية امتيازات الإقطاعيين الوراثية، وتؤكد انتصار العقل المنظم الواضح على الأفكار اللاعقلية الصوفية الغامضة التي سادت العصر الوسيط، إلى قوة رجعية لا تستهدف سوى المحافظة على مصالحها التي تزداد على الدوام توسعًا وانتشارًا. هذا التحول يمثل في ذاته وجهًا سلبيًّا إلى أبعد حد في النظام الرأسمالي؛ ذلك لأنه يدل على أن النظام لم يكن تقدميًّا إلا في مرحلته المبكرة، وعلى أن من شأن هذا النظام أن يتحول إلى الرجعية بمجرد أن تتحدد معالمه وتكتمل خصائصه.

على أن هذا ليس الوجه السلبي الوحيد للرأسمالية. بل إن عناصر الضعف والهدم تتغلغل في صميم بناء هذا النظام، وتجعل تجاوزه أمرًا محتومًا، وسوف نقتصر هنا على ذكر بعض الجوانب السلبية المرتبطة بالموضوع الذي نعالجه في هذا الفصل، وهو الوجه الفكري والمعنوي لمختلف النظم الاقتصادية:
  • (١)
    أول هذه الجوانب هو اللاأخلاقية. وربما بدا للبعض أن صفة اللاأخلاقية لا تصدق صدقًا تامًّا على المجتمع الرأسمالي؛ لأن لهذا المجتمع نمطه الأخلاقي، وبالفعل يبدو هذا الحكم الأخير صائبًا للوهلة الأولى؛ ذلك لأن الرأسمالية قد ولدت مذاهبها الأخلاقية الخاصة، مثل مذهب المنفعة Utilitarianism في إنجلترا، والبرجماتية Pragmatism في الولايات المتحدة. ولكن الواقع أن كلًّا من هذين المذهبين الأخلاقيين إنما كان تعبيرًا عن الطابع العملي لعصر التصنيع، وعن نوع من الأخلاق يقوم بحساب كل فعل تبعًا لمقدار المنفعة المترتبة عليه، أو لمدى نجاحه العملي، بغضِّ النظر عن أية قيمة كامنة في هذا الفعل؛ ومن هنا كانت هذه الاتجاهات في الأخلاق تعبيرًا صادقًا عن أشد نزعات المجتمع الرأسمالي تطرفًا، وحقيقة الأمر في موقف هذا المجتمع من الأخلاق هو أنه لا يأخذ منهم إلا بالقدر الذي يكفي لمساعدة النظام القائم على المضي في طريقه بنجاح؛ فنحن نجد بالفعل — لدى كثير من الرأسماليين — قدرًا معينًا من الفضائل كالأمانة والانضباط والدقة ومراعاة المواعيد. ولكن هذه الفضائل لا تكتسب قيمتها إلا لأنها تفيد الرأسمالي وتحقق مصالحه، فقد تبين له بطول التجربة أن من مصلحته أن يكون في معاملاته أمينًا دقيقًا، وأن يسدد ديونه في مواعيدها، وأن يكون نظام حياته منضبطًا، ومعنى ذلك أن كل هذه الفضائل ليست مقصودة لذاتها. بل إنه يراعيها لما فيها من منفعة، وأبلغ دليل على ذلك أنه إذا كان الممكن تحقيق نفس المنفعة عن طريق مجرد التظاهر بالأمانة، فإن الرأسمالي لا يتردد في سلوك هذا السبيل.

    ويتضح تجاهل الرأسمالية للأخلاق في أساليب الدعاية والإعلان التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من هذا النظام؛ فالمبدأ السائد في ميدان الإعلان هو زيادة البيع أيًّا كانت الوسائل المؤدية إلى تحقيق هذه الغاية. وهكذا يلجأ المعلن إلى الصراخ والتهويل أمام عملائه، ويجذب أنظارهم بلافتات صارخة، ويعمد إلى الشهادات الكاذبة والمنطق المغلوط، ويلجأ إلى أحدث أساليب علم النفس ليبثَّ في نفوس الناس إيحاءً واقتناعًا لا أساس له، ولا يتورع في سبيل ذلك عن أن يفسد أذواق الناس ويسلبهم القدرة على الحكم الموضوعي السليم؛ فالإعلان لا يتجاهل أصول الأخلاق واحترام الآخرين فحسب. بل إنه يتنافى في كثير من الأحيان مع أبسط مقتضيات الروح الجمالية.

    وأخيرًا، فإن طبيعة المنافسة الرأسمالية تُشكِّل في حد ذاتها دليلًا بالغًا على مدى اللاأخلاقية الكامنة في هذا النظام؛ فهي تعامل الرأسماليين بعضهم مع بعض لا يتورع أحدهم عن اتباع كل الأساليب من أجل سحق الآخر، ولا يقف أي وازع في وجه رغبته في التوسع، ومن أشهر الأمثلة في هذا الصدد: جون روكفلر، مؤسس أسرة الرأسماليين الأمريكيين المشهورة، الذي قال: إنه على استعداد لدفع مليون دولار كمرتب لأي موظف تتوافر فيه صفات معينة، أهمها ألا يكون لديه أي نوع من تأنيب الضمير، وأن يكون على استعداد لسحق ألوف الضحايا دون أن تَطْرِفَ له عين.

  • (٢)

    لا يستطيع أحد أن يُنكر أن الحضارة الرأسمالية قد أحرزت انتصارات ومكاسب لم تتوصل إليها أية حضارة سابقة، فقد عرفت كيف تسيطر على العالم المادي كمًّا وكيفًا، وتسخِّر الطبيعة لخدمة الإنسان، ووفرت للناس سلعًا وخدمات على نطاق لم يُعْرَف له من قبل نظير، وكافحت الأمراض والكوارث الطبيعية بكفاءة نادرة، وأبدعت عددًا هائلًا من روائع الفن والأدب، وتمكنت من إحراز تقدم هائل في الميدان العلمي، بفضل تطبيق مبدأ تقسيم العمل الذي أحرز نجاحًا كبيرًا في الميدان الاقتصادي، على النشاط الذي نبذله من أجل معرفة العالم الطبيعي والمجتمع بطريقة عقلية.

    ولكن على الرغم من هذا النجاح في شتى الميادين، فقد كانت هناك نقطة ضعف كبرى للنظام الرأسمالي، هي ارتباطه الوثيق بالحرب، فليس يكفي أن يقال: إن النظام عاجز عن منع الحرب، أو إن الحرب مرض يصيب جسم الرأسمالية بسبب انتقال العدوى إليه من مصدر خارجي. بل إن الحرب تنتمي إلى صميم بنائها وتركيبها الباطن. والواقع أن الرأسمالية بما تثيره من حروب لا تنقطع، تهدد بالقضاء على ما أنجزته هي ذاتها، وما أنجزته كل الحضارات السابقة من تقدم. وهكذا فإن القوة الكبرى التي اكتسبها العالم خلال المرحلة الرأسمالية هي التي تهدد بالقضاء على ما أنجزته هي ذاتها. وفي هذا النزوع إلى تحطيم الذات يكمن الضعف الأكبر للرأسمالية، وتناقضها القاتل، وقد أصبحت مظاهر تقدم الرأسمالية في الآونة الأخيرة، هي ذاتها مظاهر فنائها؛ إذ إن هذا التقدم بلغ قمته في أسلحة الدمار الشامل التي تهدد العالم في كل لحظة بالهلاك.

    ولسنا نود أن نخوض في تفاصيل العلاقة بين النظام الرأسمالي وبين الحرب؛ إذ إن هذا البحث خارج عن نطاق مهمتنا في هذا الفصل، إنما الذي نود أن نشير إليه هو الآثار المعنوية المخربة التي تحدثها حالة الحرب أو حالة التهديد المستمر بقيام الحرب. وحسبنا أن نشير إلى تلك الأنانية المفرطة وبلادة الحس الزائدة التي تثيرها الحروب المستمرة في نفوس أفراد الشعوب التي تمارس هذه الحروب. ومن المعروف أن الاستعمار مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالرأسمالية، وأنه — في صورته المباشرة وغير المباشرة أو التقليدية والجديدة — هو السبب الأول لظاهرة الحرب في العالم المعاصر، ولسنا في حاجة إلى الوقوف طويلًا عند تأثير الاستعمار في الشعوب التي تعاني من ويلاته؛ لأننا في هذه المنطقة من العالم نعرف الكثير — من تجربتنا المباشرة — عن هذا الموضوع. ولكن للمشكلة وجهًا آخر، هو أن الاستعمار يولد في الشعوب التي تمارسه نوعًا من الأنانية يجعلها لا تعبأ بالفقر والظلم والاضطهاد والقتل الجماعي الذي يلحق بالشعوب الواقعة تحت قبضتها، بل وتسعى في كثير من الأحيان إلى تبرير السلوك الاستعماري الشائن والدفاع عنه كما لو كان أمرًا مشروعًا. وهذا لا يمنع — بطبيعة الحال — من ظهور جبهات داخلية تعارض الاستعمار داخل الدول الاستعمارية ذاتها، وهي ظاهرة مشرقة تمثلت بوضوح في فرنسا خلال حرب التحرير الجزائرية، وتتكرر حاليًّا في الولايات المتحدة على صورة معارضة شعبية واسعة النطاق ضد حرب فيتنام.

    ومن خلال ظاهرة الحرب نستطيع أن نعلِّل كثيرًا من مظاهر الانحلال الفكري والمعنوي التي انتابت العالم الرأسمالي منذ القرن التاسع عشر، التي ظهرت واضحة — بوجه خاص — خلال القرن العشرين، فقد انتشرت في ذلك العالم فلسفات اليأس والتشاؤم، والاتجاهات التي تؤكد أن المصير المحتوم للحضارة الغربية هو التدهور والانحلال، وبينما كانت الرأسمالية في بداية عهدها متفائلة مؤمنة بقدرة الإنسان على التقدم المستمر، نراها في مرحلة اكتمالها تعود مرة أخرى إلى روح التشاؤم المظلم التي حاربتها في البداية، وتشيع فيها الأفكار التي تضع الإنسان في طريق مسدود لا مخرج منه.

    وقد شاعت في القرن العشرين — وبعد الحرب العالمية الثانية بوجه خاص — اتجاهات في الفكر والفن والأدب تجمعها كلها صفة هي تلك التي اصطلح على تسميتها «باللامعقول». وليس من الصعب أن ندرك الروابط التي تجمع بين هذه الاتجاهات، بما فيها من زعم بأن كل ما في الحياة عبث غير مفهوم، وبأن العالم التطور والتاريخ لا يسير نحو أية غاية معقولة، بل كل شيء فيه يفتقر إلى العقل ويستحيل فهم سببه أو الغاية منه، وبين حالة اليأس التي تنتاب الإنسان في المجتمع الرأسمالي، وشعوره بأن كل جهد يبذله عبث لا طائل وراءه، والأهم من ذلك كله إحساسه بالخطر يهدد كيانه في كل لحظة من جراء حربين عالميتين راحت ضحيتهما ملايين الناس، فضلًا عن عشرات الحروب «الصغيرة» التي أزهقت أرواحًا كثيرة وسببت دمارًا هائلًا، في مثل هذا المجتمع الذي تحل عليه الحرب — كما لو كانت لعنة لا يملك منها خلاصًا — يكون من الطبيعي أن تصبح الاتجاهات الفكرية والفنية السائدة هي اتجاهات تؤكد عجز العقل وسيادة التشاؤم حتمية التدهور والانحلال.

    ولقد ترتب على ذلك تزييف لطبيعة الحياة في المجتمع الحديث، وقع فيه عدد غير قليل من كبار مفكري المجتمعات الرأسمالية، فأدانوا التقدم التكنولوجي ذاته، ونظروا إليه كما لو كان هو أصل الشرور التي تعانيه البشرية، وتحسروا على «عهد ما قبل التصنيع» الذي كانت فيه البشرية بريئة من آثام الصناعة وأطماعها، الخطأ الأكبر الذي وقع فيه هؤلاء المفكرون هو أنهم ظنوا أن الشرور الناجمة عن تنظيم معين للمجتمع الصناعي، هو التنظيم الرأسمالي، تسري على كل شكلٍ من أشكال هذا المجتمع، أو هي جزء لا يتجزأ من طبيعة عصر التقدم التكنولوجي ذاته؛ ومن هنا كانت حملتهم على التصنيع، واعتقادهم بأن الحروب والأزمات وانعدام الأمان كامنة في طبيعة المجتمع الصناعي ذاته، مع أن هذه الشرور لا ترجع في الواقع إلا إلى أسلوب الحياة الرأسمالية في هذا المجتمع.

  • (٣)

    وإذا كانت الحروب انحرافًا شاملًا في السلوك على المستوى الدولي، فإن المرحلة الرأسمالية قد شهدت أنواعًا أخرى من الانحرافات على المستويات المحلية، أهمها بالطبع هو الإجرام الذي أصبح مشكلة قومية بالنسبة إلى بلد كالولايات المتحدة، حيث تزداد معدلات الجريمة ارتفاعًا عامًا بعد عام، ولا يمكن بالطبع أن يزعم أحد أن ظاهرة الإجرام وليدة النظام الرأسمالي؛ إذ إن الظاهرة ذاتها قديمة قدم المجتمع الإنساني. ولكن الكثيرين يؤمن بأن الاتساع الهائل في نطاق الجريمة قد تولَّد عن المجتمع الرأسمالي عندما بلغ أقصى درجات نموه، ويدللون على ذلك بأن أكثر الدول الرأسمالية تقدمًا — وهي الولايات المتحدة — هي التي تنتشر فيها الجريمة بأعلى النسب، وبأشد أنواع التنظيم والتدبير إتقانًا.

    وليس من الصعب أن يجد المرء رابطة بين الارتفاع الشديد في معدل الجرائم، وبين تقدم الدول في سلم التنظيم الرأسمالي؛ ذلك لأن أسلوب العمل الرأسمالي حين يصل إلى أشد حالاته تطرفًا، يثير في النفوس أطماعًا لا حدود لها. وحين يجد المنحرفون أن طريق الثراء مسدود أمامهم، فإنهم يعملون على تحقيق غاياتهم بأيسر الطرق وأسهلها وهي الجريمة؛ ومن هنا رأى البعض أن ظاهرة الجريمة يمكن أن تُعَدَّ، في مثل هذا المجتمع، وسيلة خاصة منحرفة، ومن وسائل إعادة توزيع ثروة المجتمع.

    ولا جدال في أن المجتمع الرأسمالي المتقدم — في الولايات المتحدة — يعرف أنواعًا أخرى من الجرائم غير المرتبطة بالمسائل الاقتصادية كجرائم القتل والتعذيب والاغتصاب إلخ. ولكن هذه الجرائم بدورها ترتبط «بمعنويات» النظام الرأسمالي؛ إذ إن تمجيد هذا النظام للعنف والتجاءه الدائم إلى الحروب واستخفافه بالجوانب الإنسانية للحياة، لا بد أن يخلق مناخًا نفسيًّا عامًّا تزدهر فيه أعمال العنف التي لا يكاد المرء يجد لها سببًا أو مبررًا معقولًا.

    وأخيرًا، فقد انتشر في المجتمعات الرأسمالية في الآونة الأخيرة مظهر آخر من مظاهر الانحراف، هو إدمان المخدرات، وأصبحت هذه الظاهرة تهدد كيان عدد كبير من شباب هذه المجتمعات، وأقرب تفسيرات ظاهرة الإدمان هذه إلى المنطق السليم، هو أنها ظاهرة هروبية، فالمدمن شخص هارب من واقع لا يطيقه. وهذا الواقع هو — بطبيعة الحال — واقع العنف والحرب والمنافسة المريرة التي لا ترحم، وبطبيعة الحال فإن هناك أنواعًا أخرى من الهروب قد تكون أقل ضررًا من إدمان المخدرات. ولكن الوطأة الشديدة لنظام الحياة السائد هي التي تدفع الكثيرين إلى السير في هذا الطريق الانتحاري. وهكذا فإن نفس النظام الذي بدأ بتمجيد العقل وإعلاء شأنه قد انتهى به الأمر إلى الهروب من العقل، أو إلى العجز عن مواجهة ذاته بصدق وصراحة.

(٤) المرحلة الاشتراكية

ظهرت الفكرة الاشتراكية، في صورتها المحددة المعالم، من قلب الرأسمالية، بوصفها رد فعل على ذلك النظام الذي ظن الناس في وقت ما أنه سيجلب لهم مزيدًا من الرخاء، فإذا به يصيب الأغلبية الساحقة منهم بالفقر والشقاء، ويصيب الإنسان بأنواع من العبودية ربما كانت أشد مما كان يعانيه في كثير من مراحل التطور الاجتماعي السابقة، ولما كانت الاشتراكية قد ظهرت بهدف نقل المجتمع الإنساني إلى مرحلة جديدة يتخلص فيها من نقائص المرحلة الرأسمالية، فإن قدرًا كبيرًا من الجوانب الإيجابية في المرحلة الاشتراكية يمكن التوصل إليه — استنتاجًا — مما قلناه من قبل عن المرحلة الرأسمالية.

والواقع أننا أَطَلْنَا الكلام عن المرحلة الرأسمالية لسببين: أولهما أن هذه المرحلة — التي لا يزال يمر بها جزء لا يستهان به من العالم — تمثل تحديًا أمام المجتمعات التي قررت أن تسير في الطريق الاشتراكي، ولا بد من معرفة نقاط القوة والضعف فيها معرفة كاملة حتى تبدأ هذه المجتمعات مسيرتها وهي على علم تام بكلِّ ما لدى الخصم الذي تحاربه من إيجابيات وسلبيات، أما السبب الثاني فهو أن الرأسمالية مرحلة اكتملت بالفعل، ومرت بأطوار متعددة حتى وصلت إلى شكلها الحالي الذي لا ينتظر أن تطرأ عليه تغييرات كبيرة في المستقبل. صحيح أن الرأسمالية تحاول في المجتمعات المتقدمة صناعيًّا أن تقاوم التيار الاشتراكي عن طريق اقتباس عناصر كثيرة منه. ولكنها تحارب في الوقت الراهن معاركها الأخيرة، ولا ينتظر منها أن تمر بتطورات مفاجئة غير متوقعة في المستقبل. أما الاشتراكية فما زالت — بالرغم من نجاحها السريع — تمر بمرحلة التجارب، والدليل على ذلك كثرة المذاهب والاتجاهات وتعدد التطبيقات فيما بين البلاد الاشتراكية المختلفة؛ ولذلك فإن الحكم على المرحلة الرأسمالية أيسر؛ لأن عيوبها ظهرت واضحة للجميع. أما تحديد الإيجابية للاشتراكية فيبدو أمرًا أكثر صعوبة؛ لأن هذه المعالم بسبيل التحدد والتشكل في المرحلة الراهنة من تاريخ العالم.

ولقد كانت نقطة البدء في التفكير الاشتراكي هي محاولة استرداد القيم الإنسانية التي أهدرها النظام الرأسمالي. وكان لهذا الإهدار مظاهر متعددة تحدثنا من قبل عن الكثير منها، ولكن هناك مظهرًا لم نتحدث عنه بعد، وتعمدنا أن نستبقيه حتى المرحلة الراهنة؛ نظرًا لارتباطه الوثيق بظهور الاشتراكية، وأعني به ما يسمى في الفكر الاجتماعي والفلسفي «بالاغتراب».

(٤-١) فكرة الاغتراب

كان «الاغتراب» — ولا يزال — ملازمًا للرأسمالية منذ بداية عهدها؛ فحين اكتسبت النقود — في أول العصر الرأسمالي — كيانًا قائمًا بذاته، مستقلًّا عن السلع التي كانت في الأصل مساوية لها. وحين أصبحت قادرة على النمو بذاتها وعلى التوالد والتزايد، بغضِّ النظر عن العمل الإنساني الذي كان في الأصل منتج كل قيمة، عندئذٍ أصبحت النقود تجسيدًا لحقيقة الاغتراب؛ ذلك لأن قدرة النقود على التزايد بذاتها، وقدرة رأس المال على التوالد، تعني الانفصال بين القيمة — التي تمثلها النقود — وبين الجهد الإنساني الذي يُبْذَل من أجل اكتسابها، وتعني أن الاقتصاد قد أحدث انشقاقًا بين الإنسان من حيث هو منتج للقيمة، وبين نتاج عمله؛ بحيث أصبح هذا النتاج يتخذ طابعًا تجريديًّا منقطع الصلة بالمصدر الذي نبع منه، وهذا الانشقاق والانفصال هو الحقيقة المعنوية الكبرى المميزة للمرحلة الرأسمالية.

  • (١)

    فحين بلغت هذه المرحلة أوج اكتمالها، كانت أولى الخصائص التي تنبَّه إليها نقاد النظام الرأسمالي هي خاصية الاغتراب هذه، التي اتخذت في عصر التصنيع طابع الانفصال بين العامل من جهة، وبين وسائل إنتاجه وحصيلة هذا الإنتاج من جهة أخرى؛ فالعامل يشتغل في مصنع لا يملك منه شيئًا، وهو لا يستطيع أن يحصل على قوت يومه إلا بأن يشتغل أجيرًا لدى من يملك تلك الآلات والأدوات التي بها وحدها يستطيع أن يكون منتجًا؛ أي إن العامل مغترب عن الوسائل التي بدونها لا يكون عاملًا، ومن جهة أخرى فإن حصيلة إنتاج العامل تسير في مسالك لا يعلم عنها شيئًا، فالسلع التي ينتجها العامل تذهب إلى «السوق»، تلك الحقيقة الكبرى في العالم الرأسمالي، التي هي مع ذلك حقيقة غامضة مجهولة لا يعرف أحد كيف يتحكم فيها؛ فالسوق قوة تجريدية تتحكم في كل ما ينتجه العامل دون أن تكون له أية صلة بما يدور فيه، وهنا أيضًا نجد العامل مغتربًا عما ينتجه، ونجد العمل الذي يفني عمره فيه يضيع بين أيد لا يعرفها، ويتبدد وسط قوى مجهولة لا يدري عنها شيئًا.

  • (٢)

    إن الاغتراب هو فقدان العنصر الإنساني في المعاملات الرأسمالية، وهو اقتلاع الإنسان من جذوره في المجتمع الذي لا تحكمه غاية سوى تحصيل المزيد من الربح. وهذا الاغتراب لا يقتصر على العامل وحده. بل إن المنافسة الحامية التي تسود الاقتصاد الرأسمالي تباعد ما بين البشر، وتنشر بينهم العداوة، وتجعل العلاقات بينهم مفتقرة إلى الروح الإنسانية، وحتى لو أراد الرأسمالي أن يكون إنسانيًّا في معاملاته، فإنه لا يملك ذلك؛ لأن قوانين المنافسة هي التي تملي عليه طريقة معاملته للعمال، ومقدار الأجر الذي يدفعه لهم وساعات عملهم، وهي التي تحدد طبيعة علاقاته مع غيره من الرأسماليين الذين ينافسونه في ميدان إنتاجه الخاص، فهو ليس حرًّا في معاملاته. بل إن هناك ما يشبه القدر الذي لا يرحم والضرورة المحتومة التي تتحكم في تصرفاته؛ ذلك لأن رأس المال — كما قلنا من قبل — يختنق إذا لم يتوسع، التوسع يقتضي عمل حساب قوانين المنافسة.

    والواقع أن الرأسمالي ذاته يغترب عن نفسه بمعنى ما؛ ذلك لأن عمله — كما قلنا من قبل — يتخذ صبغة مستقلة عنه؛ بحيث يصبح هدفه الوحيد في الحياة هو أن تزداد أعماله توسعًا وازدهارًا، دون أن تعود نتيجة هذا التوسع عليه هو ذاته بفائدة ملموسة، فكثيرًا ما تتدهور صحته وتسوء علاقاته بالناس وتتحطم أعصابه وتتخذ حياته طابع التوتر الدائم نتيجة لطموحه الزائد عن الحد. وهكذا يصبح التوسع في الأعمال أشبه ما يكون بقوة خارجة عنه، تملي عليه شروطها وتفرض عليه قانونها الخاص.

  • (٣)

    وأخيرًا، فإن المستهلك بدوره مغترب عن نفسه في المجتمع الرأسمالي؛ ذلك لأن النظام لا يعمل على إشباع حاجات الإنسان الحقيقية، وإنما يخلق حاجات زائفة، الهدف الوحيد منها هو أن تكون مجالًا لمزيد من الربح والتوسع. ولكن على حساب تكامل الشخصية الإنسانية وتوازنها، وعلى حساب الاستخدام الرشيد لموارد المجتمع؛ فالمفروض أن يكون الإنتاج تلبية لحاجات موجودة بالفعل. ولكن كثيرًا ما يحدث في المجتمع الرأسمالي أن يكون الإنتاج هو الأصل، وأن تظهر الحاجات فيما بعد، لا لشيء إلا لتصريف هذا الإنتاج فحسب. وهكذا يعم الإعلان على إقناع الناس بأمور تافهة تتحول لديهم بالتدريج إلى ضرورات، مع أنها في الأصل لا تلبي أية حاجة حقيقة لديهم؛ ففي البلاد الرأسمالية الكبرى تُصْرَف الملايين على أنواع متعددة متنافسة من «أكل الكلاب»، أو على السيارات الفاخرة التي يحتاج الإنسان فعلًا إلى ربع الطاقة التي تسير بها، والتي يتغير طرازها عامًا بعد عام، ويستعين الإعلان بأحدث أساليب البحث النفسي ليبثَّ في نفوس الناس اقتناعًا زائفًا بأن قيمتهم في المجتمع يحددها طراز السيارة التي يركبونها، وبأن ضخامة السيارة واتساعها وزيادة طاقة محركها علامة من علامات علو المكانة. وهكذا تفسد طباع الناس، وتخلق فيهم عادات سلوكية سطحية تافهة، ويعتادون بالتدريج التعلق بالمظهر السطحي بدلًا من الجوهر الحقيقي، وتفرض عليهم حاجات مزيفة تنطوي على تبديد للموارد المادية، فضلًا عن تحطيم المبادئ المعنوية، لا لشيء إلا لغرض الربح. وحين تسود على هذا النحو عقلية الاستهلاكية لأجل الاستهلاك، لا من أجل تلبية حاجات حقيقة، أو تحقيق ماهية الإنسان؛ فعندئذٍ يكون المستهلك بدوره قد اغترب عن ذاته؛ لأنه لم يعد يعرف ما هو في حاجة إليه من أجل استكمال إنسانيته، ولأن المطالب العرضية الزائفة أصبحت لها الغلبة على مطالبه الجوهرية، كل ذلك لكي يستطيع رأس المال أن يواصل توسعه، ولكي تستمر أرباحه في التدفق.

    وهكذا يبدو الاغتراب منتميًا إلى صميم الكيان الرأسمالي ذاته، ويصبح هو الوضع المميز للعامل إزاء وسائل إنتاجه وحصيلة عمله، وللرأسمالية إزاء عماله ومنافسيه بل وإزاء ذاته، وللمستهلك إزاء حاجاته ومطالبه الإنسانية، إنه هو التعبير الصادق عن الوضع الإنساني في ذلك المجتمع. ومن المستحيل مواجهة هذا الموضوع مواجهة حاسمة إلا بالخروج على النظام الرأسمالي نفسه.

(٤-٢) الاشتراكية نزعة إنسانية

كانت تلك نقطة بداية كثير من المذاهب الاشتراكية في دعوتها إلى ضرورة القضاء على النظام الرأسمالي الذي يجعل الإنسان عبدًا لنفس القوى التي خلقها بيديه؛ فالاشتراكية تدعو الإنسان إلى السيطرة مرة أخرى على القوى التي أصبحت مسيطرة عليه، خارجة على إرادته، وهي تطالب بإعادة هذه القوى مرة أخرى إلى الإنسان، بدلًا من تبديدها وتشتيتها خارجًا عنه؛ وعلى هذا الأساس تكون الاشتراكية في صميمها نزعة إنسانية، هدفها أن تستعيد الإنسان المتكامل، الذي يجمع كل ما فرقته الرأسمالية من شتات، ويعيد ضمها إلى ذاته.

ومن هذه الزاوية تبدو المرحلة الاشتراكية سعيًا إلى تحقيق جميع الإمكانات المادية والمعنوية للإنسان، وهي حين تفعل ذلك لا تستهدف التقدم المادي وحده على حساب التقدم المعنوي؛ ذلك لأننا لو قسنا المراحل المختلفة بمقياس ما أحرزته من تقدم مادي، فإن المرحلة الرأسمالية ستحتل — دون شك — مكانة هامة في تاريخ الإنسانية؛ لأن البشرية حققت فيها مكاسب مادية لا يمكن إنكارها. ومع ذلك فإن هذه المكاسب كانت تتم في كثير من الأحيان على حساب معنويات الإنسان وأخلاقياته.

فحين نستعرض أسباب النجاح الاقتصادي للرأسمالية، يجب ألا يغيب عن أذهاننا أنها لم تقتصر على استغلال الموارد الاقتصادية لأوروبا الغربية وقارتي أمريكا، وهي مناطق حافلة بالموارد الطبيعية الغنية التي لم تكن قد استُغِلَّت بعدُ في حالة أمريكا بالذات. بل إنها قد استفادت أيضًا — بفضل الاستعمار المباشر والاستغلال الاقتصادي — من موارد العالم بأكمله، وذلك بوسائل هي أبعد ما تكون عن التبادل النزيه؛ ففي الحالات التي لم يكن فيها الاستغلال استعماريًّا مباشرًا يستنزف موارد شعب واقع تحت قبضة الاستعمار، كان الغش والاغتصاب هو القاعدة التي يتم على أساسها التبادل، كانت المعاملات بين الدولة الرأسمالية والدول الأضعف بعيدة كل البعد عن التكافؤ، في مثل هذه الحالات لا يكون من المستغرب أن تحرز الدولة الاستعمارية أو الاستغلالية تقدمًا اقتصاديًّا سريعًا، ولا ينبغي أن يُعْزَى هذا التقدم إلى فضيلة كامنة في نظامها الرأسمالي. بل إن سببه الأهم هو أنها لا تتورع عن الالتجاء إلى أبعد الطرق عن الشرف في سبيل التفوق على الغير. ولقد أشار أحد زعماء الزنوج في أمريكا ذات مرة إلى التقدم الاقتصادي الهائل لبلاده، فأرجعه إلى عوامل من أهمها استغلال عمل الملايين من الزنوج لمدة عشرات بل مئات من السنين بلا أجر، حين كان الزنوج عبيدًا أو بأجر أسمى زهيد، بعد أن تحرروا شكليًّا من حالة العبودية، وتساءل في هذا الصدد: هل من المستغرب إذا وُجِدَ تاجران: أحدهما لا يدفع لعُمَّاله أجورًا، والآخر يدفع لهم أجرهم بانتظام، أن يتفوق الأول على حساب الثاني؟

هذا مجرد مَثَل بسيط يوضح سببًا من أسباب التقدم في المرحلة الرأسمالية. ولكنه في الوقت ذاته يكشف عن ضخامة المسئولية الملقاة على عاتق النظام الاشتراكي؛ ذلك لأن على هذا النظام أن يحقق — وبوسائل نزيهة يقضي فيها على استغلال الإنسان للإنسان — تقدمًا يفوق ما أحرزته الرأسمالية بوسائل سهلة تفتقر إلى النزاهة؛ فالتحدي الأكبر الذي يواجه النظام الاشتراكي ليس مجرد التقدم، وإنما هو بلوغ التقدم في ظل علاقات إنسانية سليمة.

(٤-٣) القيم الإيجابية في النظام الاشتراكي

  • (١)

    إن الاشتراكية تتخلص من روح المقامرة التي تسود النظام الرأسمالي، حيث تنتشر المضاربة في الأسهم سعيًا وراء ربح لا يقابله أي عمل أو مجهود. بل إن أقصى ما يمكن أن يكون قد بُذِلَ فيه من جهد هو استخدام ذكاء المقامر، وهي تسعى إلى القضاء على الانفصال بين رأس المال وبين العمل المنتج، وذلك حين تجعل الملكية وظيفة اجتماعية بحيث يشعر كلُّ مَن يعمل بأن له فيها نصيبًا، وتقوم الاشتراكية على إدراك صحيح لقيمة العمل؛ ومن هنا فإنها تحاول بقدر طاقتها أن تجعل لكل فرد في المجتمع مستوى يعادل مقدار الجهد الذي يبذله ذلك الفرد في خدمة المجتمع، ويترتب على ذلك أن تستغني الاشتراكية عن الطفيليات الاجتماعية التي تعيش على عمل الآخرين، وعن أولئك «العاطلين بالوراثة» الذين لا فضل لهم سوى انتمائهم إلى أسر من مستوى اجتماعي معين.

  • (٢)

    وبالمثل فإن الاشتراكية — في سعيها إلى التقدم — لا تعمل على خلق حاجات زائفة لدى جمهور المستهلكين من أجل توسيع دائرة النشاط الاقتصادي في مجال ما؛ ذلك لأن ما يحدث في المجتمع الرأسمالي من إصرار على التوسع لأجل التوسع، يمكن أن يؤدي إلى اختلال هائل في توازن الحاجات الاجتماعية؛ بحيث يتوقف مقدار نجاح أي مرفق اقتصادي على قدرته على الدعاية لنفسه واجتذاب العملاء، لا على تلبيته لحاجات حقيقية في المجتمع. وهكذا تزدهر صناعة أدوات الزينة — مثلًا — ازدهارًا هائلًا، وتتعدد أنواع هذه الأدوات بلا مبرر؛ لأن أجهزة الدعاية تنجح في خلق طلب زائف على كل نوع جديد تبتدعه هذه الصناعة منها. أما في النظام الاشتراكي فإن الحاجة إلى سلعة كهذه تقاس بالحاجة إلى سلع أخرى أكثر حيوية — كالكتاب مثلًا — وتعطي كل سلعة ما تستحقه من جهد واهتمام تبعًا لحاجة المجتمع الحقيقية إليها.

    وهكذا يظهر مبدأ التخطيط في المجتمع الاشتراكي بوصفه وسيلة لتحقيق التوازن بين حاجات المجتمع وبين ما يستطيع أن ينفقه على هذه الحاجات من موارد؛ فالتخطيط في أساسه جهد يُبْذَل من أجل التخلص من فوضى الإنتاج، ومن أجل تحقيق النظرة الشاملة إلى موارد المجتمع وتوزيعها، حسب الأولويات، على مطالبه وحاجاته، ومثل هذه النظرة الشاملة يستحيل أن تتحقق في المجتمع الرأسمالي، الذي تسعى فيه كل صناعة وكل شركة إلى نفعها الخاص، حتى ولو كان ذلك على حساب الآخرين. ومن الواضح أن لمبدأ التخطيط في المجتمع الاشتراكي قيمة معنوية كبرى إلى جانب قيمته المادية، فهو من جهة يساعد على ترشيد الإنتاج في المجتمع على النحو الذي يضمن له نموًّا متوازنًا لا يطغى فيه جانب على جانب إلا بمقدار ما يلي من حاجات حقيقية للمجتمع، وهو من جهة أخرى يساعد على انتشار مبادئ معنوية لا غناء عنها لكل مجتمع يسعى إلى تقدم حقيقي: كمبدأ النظرة الكلية إلى الأمور بدلًا من النظرة الجزئية، والبحث عن نفع المجتمع ككل بدلًا من نفع قطاعات معينة منه، والتخلص من أنانية الأجيال عن طريق التخطيط للمستقبل القريب والبعيد.

  • (٣)

    ومن هنا كانت الاشتراكية هي وحدها المرحلة التي تتحقق فيها للإنسان حريته الحقيقية، ومن الضروري أن نفرق في هذا الصدد بين الحرية الحقيقية وبين الحرية الوهمية؛ ذلك لأن أنصار الرأسمالية هم أكثر الناس حديثًا عن الحرية وتشدقًا بها، حتى لقد وصل بهم الأمر إلى حد تسمية العالم الذي يطبق فيه نظامهم باسم «العالم الحر»، وبالفعل كان الاقتصاد الرأسمالي منذ بداية عهده — ولا يزال حتى الآن — يسمي نفسه باسم الاقتصاد الحر. وكان ازدهار الرأسمالية مرتبطًا بفهم معين للحرية، هو حرية الأعمال التي لم يكن من المشروع التدخل في مسارها؛ لأنها — كما يعتقد — تنظم نفسها وفقًا لمقتضيات السوق، ووفقًا لمصالح المنتج والمستهلك في نهاية الأمر.

    على أن هذه الحرية التي ساعدت الرأسمالية على توطيد مركزها في بداية عهدها، سرعان ما تكشف وجهها الحقيقي، فإذا بها عبودية لمعظم طبقات المجتمع؛ ذلك لأنك تستطيع أن تقيم علاقة بين صاحب العمل القوي والعامل الضعيف على أساس من «الحرية». ولكن لمن ستكون الحرية في هذه الحالة؟ لا جدال في أن عدم التناسب في القوة بين الاثنين، واحتياج العامل إلى صاحب العمل لكي يضمن عيشه، سيجعل مثل هذه الحرية في التعامل بينهما وسيلة لاضطهاد الأول للثاني. وفي هذه الحالة لا يعد تدخل الدولة لحماية العامل حَدًّا من الحرية. بل إنه إقرار وتأكيد لها.

    مثل هذا يقال عن سائر «الحريات» المشهورة في العالم الرأسمالي، فحرية الصحافة شيء رائع دون شك. ولكن أين صحافة البلاد الرأسمالية من الحرية؟ إن اعتمادها على الإعلان — الذي تتحكم فيه المؤسسات الرأسمالية الكبرى — يجعلها ألعوبة في يد نفس القوى التي تدَّعي أنها حرة إزاءها. أما الصحافة التي تتسم بقدر من الحرية يتيح لها أن توجِّه النقد إلى الأسس التي يقوم عليها النظام القائم، فإن الأموال تُقْبَض عنها إلى أن تفلس، أو تصدر بصورة لا تسمح بقراءتها إلا لعدد محدود جدًّا من القُرَّاء، ومثل هذا يقال عن حرية التعاقد بين العامل وصاحب العمل؛ إذ إن هذه حرية شكلية لا أساس لها في الواقع، الذي يكون فيه مركز العامل من الضعف بحيث لا يستطيع على الإطلاق أن يقف ندًّا لصاحب العمل في عملية التعاقد، مما يضطر العمال إلى التجمع في اتحادات تقوي مركزهم على المساومة، وقد يلجئون — إذا أَعْيَتْهم الحيل — إلى إضرابات طويلة الأمد، تعود على معيشتهم اليومية بأضرار لا يستهان بها. أما حرية تكوين الأحزاب، فإنها في الدول الرأسمالية الكبرى أشبه ما تكون بلعبة مسلية تتغير فيها الوجوه دون أن يطرأ على السياسة ذاتها أي تغيير حقيقي، والمثل الواضح لذلك هو الحزبان: الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة، وهما الحزبان اللذان لا يستطيع أقطابهما ذاتهم أن يضعوا حدًّا فاصلًا واضحًا بين اتجاهاتهما السياسية، ومثل هذا يقال عن حزبَي العمال والمحافظين في بريطانيا. وأخيرًا فإنَّا نسمع في العالم الرأسمالي عن حرية المنافسة بوصفها فضيلة من فضائل ذلك النظام. ولكن تجربة التاريخ أثبتت أن المنافسة تتحول في الدول الرأسمالية الكبرى إلى احتكار يؤدي إلى تنظيم العلاقات بين المنتجين على حساب جمهور المستهلكين.

    مثل هذه الحرية الشكلية ليست هي الهدف الذي يسعى إليه النظام الاشتراكي، فهذا النظام يحاول أن يكفل للإنسان حرية حقيقية تنبع من الجذور، لا حرية تطفو على السطح، وهو حين لا يترك لشخص واحد أو مجموعة من الأشخاص حرية التحكم في وسائل الإنتاج الاقتصادي؛ يضمن بذلك تحرر الجماهير العريضة من طغيان رأس المال، ويرسي الأساس الحقيقي لسائر أنواع الحريات، صحيح أن هذه الحريات قد لا تكون صارخة كتلك التي يتشدق بها دعاة الحرية الليبرالية. ولكنها مع ذلك حريات حقيقية تستمتع بها الغالبية العظمى من المواطنين، فحرية الكلمة تصبح عندئذٍ بحثًا وراء الحقيقة. وحين تصبح الحقائق في متناول أيدي الجميع فإنها تحررهم من الأوهام والأكاذيب والتضليل. ومن التشنيع السطحي الذي يقدَّم إلى الناس على أنه نقد اجتماعي عميق. أما الأحزاب فإنها عندما تعكس موازين القوى الحقيقية بين طبقات المجتمع، ولا تعود مجرد أداة في يد فئات من الأفراد الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، فإنها تصبح عاملًا أساسيًّا من عوامل التعبير عن الرأي في المجتمع الاشتراكي. وأخيرًا فإن حرية المنافسة مكفولة في النظام الاشتراكي بدوره، ولكنها منافسة في خدمة المجتمع. وليست منافسة في استنزاف الأرباح من أفراده؛ ففي كل هذه الحالات إذن توفر الاشتراكية للمجتمع حرية حقيقية، مبنية على التخلص من الاستغلال الاقتصادي والظلم الاجتماعي.

وهكذا يتبين لنا أن الاشتراكية في صميمها مذهب إنساني يسعى إلى أن يرد للقيم الإنسانية معناها الحقيقي الذي شوَّهته الرأسمالية وابتذلته، ويهدف في نهاية الأمر إلى أن ينشر بين الناس اتجاهات معنوية لم تعرفها البشرية في عهودها السابقة التي كان يشيع فيها كلها استغلال الإنسان للإنسان وامتهانه لكل ما يعتز به من قيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤