العلم والحرية الشخصية

مقدمة

ومشكلة الحرية الإنسانية — في عمومها — من المشكلات التي خلَّفت وراءها تراثًا طويلًا، وعولجت بإسهاب طوال فترات الفكر الإنساني من الزوايا الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية والقانونية والنفسية. ولكن العلاقات بين العلم والحرية الشخصية لم تُبْحَث بحثًا صريحًا، ولم يخصص المفكرون لها — فيما نعلم — كتابات مستقلة. وليس معنى ذلك أن الموضوع جديد كل الجِدَّة، وإنما الذي نعنيه أن أية معالجة لهذا الموضوع لن تكون مرتكزة على تراث قديم العهد من المراجع والكتابات التي تعين الباحث على الاهتداء إلى طريقة، بل سيكون لزامًا عليه أن يستخلص معلوماته في هذا الموضوع على نحو ضمني من كتابات لم تكن تتخذ مشكلة الصلة بين العلم والحرية محورًا لأبحاثها. أما التركيب العقلي الذي يقوم به من أجل استكشاف الأبعاد المختلفة للموضوع والجمع بين أطرافه، فلا مفر للباحث من أن يعتمد فيه على جهوده الخاصة.

(١) العلم والحرية: لمحة تاريخية

من المعروف أن مفهوم «العلم» بمعناه الدقيق المحدد — الذي نستخدمه فيه للدلالة على المعرفة المنظمة الخاضعة لمناهج دقيقة — يُعَد مفهومًا حديثًا نسبيًّا، وأن البشرية ظلت طوال الجزء الأكبر من تاريخها تستخدم لفظ العلم بمعنى آخر لا يمكن القول: إنه مضاد لهذا المعنى الأول، بل هو أوسع منه وأشمل بكثير، وأعني به معنى «المعرفة» والسعي إلى بلوغ الحقيقة، إلى اكتساب معارف عن الإنسان والمجتمع والطبيعة، بل وعما وراء الطبيعة وما يخفى عن طرق إدراكنا المألوفة؛ فالبحث الميتافيزيقي في مثال المثل — عند أفلاطون — أو في المحرك الأول — عند أرسطو — كان عندهما يدخل في صميم العلم، بل ربما كان هو «العلم» على الحقيقة، مع أنه بمقاييس المناهج العلمية الحديثة أبعد ما يكون عن العلم. بل إن البحث في الأمور الغيبية هو عند رجال الدين واللاهوت علم بأكمل معاني الكلمة، وإن كان في نظر العلماء المنهجيين مفتقرًا إلى أبسط الشروط التي لا يمكن بدونها أن يسمى البحث علمًا. وهكذا عاشت البشرية أمدًا طويلًا تستخدم لفظ العلم بمعنى موسع لا يكون المعنى الراهن إلا جزءًا ضئيلًا منه.

بهذا المعنى الموسع الذي يكون فيه العلم مرادفًا «للمعرفة» — أيًّا كان نوعها — ظهر ارتباط وثيق بين العلم وبين الحرية منذ أقدم عصور الوعي الإنساني. بل إن قصة هبوط آدم من الجنة — في العقائد السماوية — تنطوي على دلالة واضحة من حيث الربط بين الحرية وبين الفهم والمعرفة والعلم، وتأكيد الإنسان لنفسه بوصفه موجودًا له كيانه الخاص، وله عقله الذي يستقل به عن الطبيعة الجامدة، ويسعى به إلى فهمها والسيطرة عليها في الوقت ذاته.

«في البداية كان الرجل والمرأة يعيشان في جنة عدن في انسجام تام معًا ومع الطبيعة، وهناك كان السلام مستتبًّا، ولم تكن ثمة حاجة إلى العمل ولم يكن ثمة اختيار ولا حرية ولا تفكير أيضًا، كان الرجل محرمًا عليه أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر. ولكنه تصرَّف على نحو معارض للأمر الإلهي، وخرج عن حالة الانسجام مع الطبيعة التي يكون جزءًا منها، وإن لم يكن يعلو عليها. ولقد كان هذا — من وجهة نظر الكنيسة التي تمثل السلطة — خطيئة أساسية. أما من وجهة نظر الإنسان، فكان بداية الحرية الإنسانية، فسلوك الإنسان ضد أوامر الله يعني تحرير ذاته من القهر، وارتقاءه من طريقة الوجود غير الواعية المميزة للحياة في مراحلها السابقة على الإنسانية إلى مستوى الإنسان. هذا السلوك ضد أوامر السلطة وارتكاب الخطيئة هو في وجهه الإنساني الإيجابي أول فعل من أفعال الحرية، أي أول فعل إنساني؛ ففي القصة تكمن الخطيئة — من جانبها الشكلي — في السلوك ضد الأمر الإلهي. أما من جانبها المادي فهي تكمن في الأكل من شجرة المعرفة؛ أي إن فعل العصيان — بوصفه فعلًا حرًّا — هو بداية العقل.»١

إن الإنسان — حين أكد ذاته بوصفه كائنًا حرًّا — قد اختار طريق المعرفة والعلم؛ ففي فعل المعرفة إذن تكمن حرية الإنسان، وبقدر ما يتوافر لدى الإنسان من المعرفة يكون حرًّا، تلك هي الدلالة التي يستخلصها «أريك فروم» من قصة طرد آدم من الجنة، وهي دلالة لها أهميتها الخاصة بالنسبة إلى موضوعنا. وليس يعنينا هنا أن هذا الفعل الحر — الذي اختار به آدم لنفسه طريق المعرفة — قد أدى إلى طرده من الجنة، فمن المعترف به أن طريق المعرفة شاق، محفوف بالمخاطر والآلام، وأن المسئولية التي يحملها على أكتافه من يريد الوصول إلى علم بالأشياء مسئولية ثقيلة فادحة؛ وبذلك يكون الإنسان قد اختار عذابه — أي خرج من الجنة — في نفس الوقت الذي اختار فيه لنفسه، بحرية، طريق المعرفة. ولكن المهم في الأمر أن أول فعل حر للإنسان كان فعلًا غايته العلم، وأن هذا الفعل كان يشكل تحديًا لله وعصيانًا له؛ أي إن الإنسان كان يعلم أنه بسلوكه هذا الطريق كان يريد — بمعنى معين — أن يشارك الله في إحاطته بالأشياء علمًا.

على أن القصة الدينية التي تتحدث عن الفعل الحر الأول للإنسان لم تكن هي الموضع الوحيد الذي ربطت فيه العقائد الدينية بين الحرية وبين العلم — بمعنى المعرفة — بل إن فكرة الثواب والعقاب — وهي فكرة مشتركة بين العقائد السماوية جميعًا — كانت تفترض مقدمًا وجود حرية اختيار لدى الإنسان بين الخير والشر، وهذه الحرية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمعرفة؛ إذ إن الله أعطى الإنسان معرفة الخير والشر، ووهبنا إرادة — ترك لنا حرية التصرف — لكي يصدر حكمه علينا فيما بعد، ولولا هذه الحرية وتلك المعرفة لكانت المسئولية أمام الله مستحيلة، ولما كان هناك معنى للعقاب والثواب. وهكذا يبدو أن فكرة الحرية ترتبط بالعلم هنا ارتباطًا مزدوجًا: فحرية الإنسان ومسئوليته أمام الله تفترض معرفته الكاملة بما هو خير وما هو شر، واختياره أحدهما اختيارًا واعيًا مقصودًا، ومن جهة أخرى فإن العلم الإلهي بنوايا الناس وبأفعالهم الظاهرة والباطنة هو الذي يضمن عدالة الثواب والعقاب في العالم الآخر؛ وعلى ذلك فإن حرية الإرادة ترتبط بالعلم الإلهي والعلم الإنساني معًا، وبدونهما لا تبلغ نتائجها الكاملة.

وربما كانت المذاهب الدينية التي تنكر الحرية وتؤكد القدرية تبدو متعارضة مع مبدأ الارتباط بين الحرية والعلم؛ ذلك لأنها تعني أن كل ما يحدث في حياة الإنسان إنما هو قدر مكتوب مقدمًا، وأن طريقة فعلنا لن تؤثر على الإطلاق في المجرى الذي تسير فيه الحوادث، وأن الله قد حدَّد منذ البداية المسار الكامل لحياة الإنسان؛ بحيث لا تكون حرية الإنسان في التصرف إلا وهمًا كبيرًا. وبالمثل فإن معرفة الإنسان لن تقدم ولن تؤخر؛ لأن أقصى ما يستطيع عقل الإنسان أن يفعله هو أن يمتثل لحكم القدر. ومع ذلك فليس من الصعب أن يدرك المرء في هذا المذهب القدري تأكيدًا — عن طريق السلب — للارتباط بين الحرية والعلم؛ ذلك لأن انتفاء تأثير المعرفة مرتبط في هذا المذهب بانعدام الحرية؛ أي إن الإنسان حين لم يعد حرًّا لم يبقَ لمعرفته أي أثر في مصيره. أما إذا نظرنا إلى هذا المذهب من زاوية المسلك الإلهي، فسوف نجد أن الله فيه هو الكائن الحر الوحيد، فإذا ما بحثنا عن السبب الذي يدعونا إلى نسبة هذه الحرية إلى الله في المذاهب القدرية؛ لوجدنا أنه هو العلم؛ فبفضل العلم الإلهي — الذي يحيط بكل شيء ويدرك المجرى الكامل للحوادث المقبلة — يكون الله وحده هو الحر. وبعبارة أخرى: فإن مذهب القدرية ينطوي — بصورة ضمنية غير مصرَّح بها — على تعريف للكائن الحر بأنه هو ذلك الذي يحيط علمه بمجرى الحوادث وبأسباب حدوثها، ويرى أن هذا التعريف يستحيل انطباقه على الإنسان، ولا ينطبق إلا على الله. وهكذا تبدو فكرة القدرية منطوية ضمنًا على تأكيد للربط بين العلم والحرية.

فإذا ما تركنا المجال الديني جانبًا، وانتقلنا إلى التاريخ الفكري الدنيوي، لم يكن من الصعب أن ندرك وجود ارتباط مماثل بين الحرية والعلم في عصور الفكر المختلفة. وحسبنا أن نضرب لذلك أمثلة قليلة؛ إذ إننا سنناقش هذا الموضوع فيما بعد بمزيد من التفصيل، من حيث هو مشكلة فكرية. أما الآن فإن هدفنا لا يعدو أن يكون تقديم عرض تاريخي سريع للربط بين العلم والحرية.

في العصر اليوناني الكلاسيكي اتخذ مفهوم الحرية الشخصية في بداية الأمر معنًى خارجيًّا لم يكن من الصعب أن يكون فيه مرتبطًا بمفهوم العلم؛ فالشخص الحر عند اليونانيين كان هو المواطن الذي يتمتع بمركز اجتماعي معين، يؤهله لأن يتصف بصفات خاصة كالحكمة والكرم والشجاعة. والأمر الذي يتيح للحر اكتساب هذه الصفات، هو أن العبيد يُعفونه من أعباء الأعمال الاقتصادية المرهقة؛ بحيث يستطيع التفرغ لرعاية جسمه وعقله، والتمتع بثمار المعرفة؛ فالحرية إذن كانت في الأصل صفة قانونية يكتسبها المرء بحكم وضعه في المجتمع. ولكن هذه الصفة القانونية كانت تؤدي بصاحبها إلى اكتساب القدرة على ممارسة أرقى أنواع المعارف العلمية التي عرفها العصر اليوناني، وهي العلم الرياضي والفلسفة بوجه خاص، ولم يكن من العسير على كثير من مؤرخي الفكر الفلسفي أن يُثبتوا أن التفوق الكبير الذي أحرزه اليونانيون في الرياضة والفلسفة كان يرجع جزئيًّا — على الأقل — إلى انتشار نظام الرق، الذي أتاح للمفكرين من الوقت ومن الراحة الجسمية والذهنية ما مكَّنهم من التفرغ لتلك المهام العقلية الرفيعة. وبعبارة أخرى: فإن العلم الذي ورثته البشرية عن اليونانيين كان مرتبطًا إلى حد بعيد بذلك النوع الخاص من الحرية الذي كان سائدًا بينهم؛ أعني حرية المواطن، في مقابل العبودية التي يضيع فيها العلم والحكمة مع ضياع الحرية.

وقد طرأ فيما بعدُ نوع من التعديل على معنى الحرية عند اليونانيين، فانتقل هذا المعنى إلى داخل النفس الإنسانية بعد أن كان مجرد تعبير عن وضع قانوني معين، أصبحت الحرية هي التخلص من عبودية الانفعالات ومن سيطرة الظروف الخارجية. وكان وجه الاختلاف بين هذا المعنى الجديد القديم هو أن العبد ذاته يمكن أن يكون حرًّا بالمعنى الجديد؛ ولذلك إذا استطاع أن يقهر انفعالاته ويمتنع عن الانسياق وراء أهوائه، وإذا أمكنه أن يتحكم في الظروف الخارجية مهما كانت معاكسة أو مؤلمة. ولكن على الرغم من هذا التعبير الهام الذي طرأ على معنى الحرية، فقد ظلت في الحالة الثانية بدورها مرتبطة بالعلم؛ إذ إن المعرفة وفهم الضرورة السائدة في الكون، هي التي تتيح للمرء أن يقهر انفعالاته ويعلو عليها، وينظر إلى كل ما يمر به من حالات نفسية طارئة في ضوء الضرورة الكونية الشاملة؛ وبذلك يكون الحكيم أو العارف — فيما رأى الرواقيون الذين انتشر بينهم هذا اللون من التفكير — هو وحده الحر.

على أن هذه الحرية — كما هو واضح — لا يمكن أن تتحقق إلا لفئة محدودة من الناس، وهي — بحكم تعريفها — حرية ضيقة النطاق، ولا تتوافر إلا لمن كان لديهم من الوسائل ما يعينهم على التفرغ للعلم واكتساب المعرفة، أو من ضبط النفس ما يتيح لهم التحرر من الانفعالات. وهكذا كان مفهوم الحرية عند اليونانيين مقتصرًا بطبيعته على فئة قليلة. وكان «هيجل» على حق حين تحدث عن مراحل ثلاث لفكرة الحرية على مر التاريخ البشري: حرية الفرد الواحد في عهود الطغيان القديمة، وحرية الأقلية في العصر اليوناني المرتكز على نظام الرق، وحرية المجموع في العصر الحديث.

ولكن من المعروف أن «هيجل» حين تحدَّث عن العصر الحديث، كان يعني الأمة الألمانية على وجه التخصيص. وكان يتصور — على نحوٍ لا يخلو من الصوفية الغامضة — أن هذه الأمة هي وحدها التي تحقق فيها حلم الحرية الشاملة بين مجموع الناس، وبطبيعة الحال لم يكن لرأي «هيجل» هذا أي أساس من الدراسة الاجتماعية الفعلية، ولم يكن مبنيًّا على فهم للواقع الذي كانت تعيش فيه الأمة الألمانية في عصره، والذي كان أبعد ما يكون عن الحرية الشاملة. بل إنه ليمكن القول: إن الحرية الشاملة ما زالت هدفًا بعيدًا عن التحقيق في جميع أرجاء عالمنا المعاصر. فهل يعني ذلك أن عبارة هيجل السابقة بعيدة كل البُعد عن الصواب في شطرها الأخير الذي يتحدث فيه عن شمول الحرية في العصر الحديث؟

والواقع أن هذه العبارة يمكن أن تصدق إذا استبعدنا منها أية إشارة إلى الأمة الألمانية بالذات، وطبقناها على العصر الحديث بأكمله، وإذا لم نأخذها على أنها تعبير عن أمر واقع، بل نظرنا إليها على أنها مَثَلٌ أعلى يسعى العصر الحديث إلى تحقيقه؛ ذلك لأن العصر الحديث — وإن لم يكن قد حقق الحرية الشاملة — يتخذ من حرية المجموع هذه هدفًا لكل ما يبذله في هذا السبيل من جهود، وهو في ذلك يختلف اختلافًا جذريًّا عن العصر الكلاسيكي الذي لم يكن يتصور إلا نوعًا من الحرية يستحيل أن يكتسبه إلا فئة قليلة من البشر. صحيح أن الإنسان في العصر الحديث بعيد كل البُعد عن تلك الحرية التي يحلم بها، وأن هناك مجتمعات كاملة تعيش في ظل نظم لا تسمح — من حيث المبدأ — بتحقيق الحرية للجميع. ومع ذلك فإن الهدف المعلن عنه — حتى في هذا النوع الأخير من المجتمعات — هو حرية المجموع، وهو هدف لم يكن من الممكن أن ينادي به أحد في العصور القديمة، فما سبب هذا التغير الجذري في نظرتنا إلى الحرية؟ وما هي الظروف التي ساعدت على اتخاذ الحرية الشاملة شعارًا لا تجرؤ على إنكاره حتى تلك النظم التي لا تتلاءم بطبيعتها إلا مع نوع محدود من الحرية، أو مع نوع شامل من الاستبداد؟

من المعروف تاريخيًّا، أن انتشار المثل الأعلى للحرية الشاملة كان مرتبطًا ببداية عصر التصنيع واستغلال الإنسان للطبيعة على أساس الفهم الصحيح لقوانينها. ومن المعروف أن عصر التصنيع لم يكن من الممكن أن يبدأ إلا بعد أن مهَّدت له الطريق كشوف العلم الحديث منذ القرن السابع عشر. وربما قبل ذلك، وهنا يظهر الارتباط واضحًا بين النهضة العلمية الحديثة وبين توسيع نطاق فكرة الحرية؛ فالعلم الحديث إذا كان قد أدى — من الوجهة السلبية — إلى تحرير الإنسان من الجهل وتحقيق سيطرته التدريجية على الطبيعة، فإنه أدى — من الوجهة الإيجابية — إلى نشر أفكار عن الحرية يمكن أن يقتنع بها ويحارب من أجلها ملايين الناس.

وقد أثبت العصر الحديث، على نحو لا يدع مجالًا لأي شك، أن العلاقة بين العلم والحرية الشخصية علاقة طردية، وأن التقدم في أحدهما يعني تقدمًا في الآخر، فمنذ بداية عصر النهضة كان ظهور البوادر الأولى للمنهج العلمي الحديث يعني تحررًا من سلطة الكنسية التي فرضت أقصى القيود على إنسان العصور الوسطى، ولم تكن الكشوف الفلكية الحاسمة التي توصَّل إليها كبرنيكوس وكبلر وجاليليو تعني بداية عصر جديد في تاريخ العلم فحسب، بل كانت تعني أيضًا تحرير الإنسان من خرافة الاعتقاد بأن الأرض التي يعيش عليها هي مركز الكون، وبأن كل شيء في العالم مسخَّر لخدمته، بأن الكون يدور من حوله بينما هو ثابت مستقر. وكانت تلك ضربة قاضية إلى النظرة الغائية التي سيطرت على تفكير الفلاسفة والعلماء أمدًا طويلًا، كما كانت بداية النظرة الموضوعية إلى العالم، التي يكتسب فيها الإنسان حريته بعلمه وكفاحه وسعيه إلى إخضاع كل شيء لما يضعه هو ذاته من النظم والقوانين، ولا يظن فيها أن هذه الحرية قد مُنِحَت له من السماء لمجرد كونه إنسانًا، أو أن غاياته وقيمه الإنسانية مطبوعة أصلًا على نظام الكون، وكان التقدم المطرد الذي أحرزه العلم التطبيقي — ممثلًا في التكنولوجيا — مرتبطًا أوثق الارتباط بالكفاح من أجل نشر الحرية على أوسع نطاق. وحسبنا أن نضرب مثلًا واحدًا على ذلك: فحركة المطالبة بتعديل قوانين الانتخاب البريطانية، وهو الحركة التي أحرزت نجاحًا حاسمًا لها في قانون الإصلاح النيابي عام ١٨٣٢م، لم يكن من الممكن تصورها قبل الثورة الصناعية التي كانت في ذاتها أوضح تعبير عن تقدم العلم والتكنولوجيا في العصر الحديث.

وكانت لهذا الارتباط بين المطالبة بالحريات الديمقراطية وبين تقدم العلم دلالته العميقة؛ ذلك لأن الحرية والعلم — في أعلى صورهما — ديمقراطيان؛ فالحرية لا تكتمل إلا إذا أصبحت حرية للإنسان من حيث هو إنسان، لا حرية فرد واحد، أو طبقة واحدة في المجتمع. بل إن الحرية المحدودة إنما تحمل في داخلها بذور القضاء على كل حرية، ومثل هذا يقال عن العلم، الذي لا يبلغ أوج اكتماله إلا حين يصبح عامًّا، ولم يَعُد احتكارًا لفئة تنكر ثماره على الآخرين، ومعنى ذلك أن كلًّا من العلم والحرية لا ينقص كلما ازداد عدد المشاركين. بل إن اتساع نطاق المشاركة فيهما يزيد من نصيب المجموع ومن نصيب كل فرد منهما معًا، وهنا نجد أن الحرية تتأثر بالعلم، ليس فقط من حيث إن تعميق العلم نوعيًّا وكيفيًّا يساعد على تحقيق المزيد من الحرية، بل أيضًا لأن توسيع القاعدة التي يرتكز عليها العلم — من الناحية الكمية الخالصة — يعني مزيدًا من انتشار الحرية وتعميمها. ولا شك في أن هذا هو أبلغ الدروس التي نكتسبها من تطور مفهومَي العلم والحرية الشخصية في تاريخ عصرنا الحديث.

(٢) تحليل نظري للصلة بين العلم والحرية

إذا كان العرض التاريخي السابق قد أكد وجود علاقة طردية وثيقة بين العلم والحرية في عصور التاريخ الرئيسية، فإن المناقشة النظرية التحليلية لا تنتهي دائمًا إلى هذه النتيجة، فقد ظهرت آراء متعددة في هذا الموضوع، وصل بعضها إلى حد التناقض التام مع النتيجة السابقة. وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا من وجهة النظر الفلسفية؛ إذ إن المناقشة الفلسفية النظرية للمشكلات تعمل — كما هو معروف — على استطلاع مختلف جوانبها، من هنا فإن هذه المناقشة، وإن تكن تنتهي في كثير من الأحيان إلى نتائج نهائية، فإنها تساعد دائمًا على استكشاف كافة الأبعاد الظاهرة والخفية للمشكلة موضوع البحث، وتقدم مدخلًا لا غناء عنه لكل دراسة عملية لهذه المشكلة، ومن هنا كان لزامًا علينا أن نعرض لأهم الآراء التي قيلت — من وجهة النظر الفلسفية — في العلاقة بين العلم والحرية؛ لكي نتبين مدى اتفاق التحليل الفلسفي مع الواقع التاريخي أو اختلافه عنه.

(٢-١) حياد العلم إزاء الحرية

أول رأي يصادفنا في موضوع العلاقة بين العلم والحرية هو ذلك الرأي الذي يستبعد أصلًا وجود هذه العلاقة؛ فالعلم في نظر الكثيرين يلتزم الحياد التام إزاء القيم البشرية كلها، وضمنها الحرية. وليس معنى ذلك — عند أصحاب هذا الرأي — أن العلم لا يكترث بهذه القيم أو أنه يرفضها أو يأبى أن يعمل لخدمتها. بل إن كل ما يعنيه هو أن العلم لا يتدخل في مجال القيم، ويترك لأنواع أخرى من النشاط الروحي والعقلي للإنسان مهمة بحث القيم والعمل على إعلائها، والواقع أن اتجاه العلم الحديث كله — منذ أيام ديكارت — يوحي بهذا الرأي؛ إذ إن التفسير الآلي للطبيعة وللكون قد أخذ يزداد قوة، وأصبح العلم يقف على الطرف المقابل للقيم البشرية، ويؤكد استقلاله التام عنها، وأصبحت الروح الموضوعية ذاتها — وهي شرط لا غناء عنه للعلم — تعني ترك القيم والمشاعر والأماني البشرية جانبًا، وصار المثل الأعلى للمعرفة العلمية هو العلم الرياضي الذي أخذ يغزو على الدوام ميدانًا بعد الآخر من ميادين المعرفة، حتى أصبح له اليوم دور أساسي في العلوم الإنسانية ذاتها، والعلم الرياضي محايد بطبيعته، بل هو النموذج الأكبر للحياد الموضوعي التام إزاء كل القيم.

وكانت قمة هذا الاتجاه إلى تأكيد حياد العلم هي المذهب الوضعي، الذي جعل للعلم وللقيم ميدانين مستقلين بينهما هوَّة لا تُعْبَر، وأكد أن القيمة من حيث هي تعبير عن أمان ورغبات إنسانية، لا شأن لها بعملية وصف الأمور الواقعة التي يأخذها العلم على عاتقه. وهذا الحكم العام — حين يطبق على المشكلة التي نحن بصددها — يعني أن العلم محايد إزاء الحرية، فهو لا يقف في وجهها. ولكنه لا يستطيع أن يعمل شيئًا من أجل تحقيقها؛ لأن الحرية تنتمي إلى ميدان خارج عن نطاق اهتمام العلم؛ أعني إلى ميادين القيم المعيارية normative values، على حين أن مهمة العلم تقريرية ووصفية descriptive فحسب.

وعلى الرغم من أننا لا نود أن ندخل الآن في معركة نقدية مع الرأي القائل بحياد العلم إزاء الحرية؛ لأن المناقشة التالية تتضمن في ذاتها نقدًا ضمنيًّا كافيًا لهذا الرأي، فإننا نستطيع أن نلاحظ — منذ الآن — أن هذا الرأي حتى لو صح؛ لكان أقصى ما يعنيه هو أن البحث العلمي في ذاته لا صلة له بالسعي من أجل الحرية. ولكن العلم يمكن أن يُنْظَرَ إليه لا من حيث طبيعته الباطنة فحسب، بل من حيث نتائجه أيضًا. ومن المؤكد أن نتائج العلم وتطبيقاته يمكن أن تكون ذات مساس مباشر بمشكلة الحرية، أيًّا كان فهمنا لهذا اللفظ الأخير؛ فالخطأ الذي وقع فيه الرأي القائل بحياد العلم هو أنه نظر إلى العلم بطريقة انعزالية؛ بحيث لم يضع في اعتباره سوى عملية البحث العلمي والممارسة العلمية فحسب، على حين أنه لو كان قد تأمل العلم في سياقه الأوسع — أعني من حيث أصوله وتطبيقاته الاجتماعية — لانتهى إلى رأي مخالف تمامًا، يظهر فيه التأثير المتبادل بين العلم والحرية بوضوح.

(٢-٢) نقيضة العلم والحرية

لعل التصوير الأصدق للعلاقة بين العلم والحرية — إذا ما نُظِرَ إليها من زاوية فلسفية — هو أنها تمثل «نقيضة antinomy»؛ أعني أن هذه العلاقة مزدوجة على نحو ينطوي على تناقض.
هذه النقيضة يظهر أحد طرفيها بوضوح قاطع في فلسفة اسبينوزا، وذلك في قوله: «إن الناس يخطئون إذ يظنون أنفسهم أحرارًا، وهو ظن لا يرتكز إلا على أن لديهم وعيًا بأفعالهم، على حين أنهم يجهلون الأسباب التي تحكمت في هذه الأفعال، وإذن فقوام فكرتهم عن الحرية هو أنهم لا يعرفون أي سبب لأفعالهم؛ ذلك لأنهم حين يقولون: إن الأفعال الإنسانية تتوقف على الإرادة، فهم إنما يفوهون بألفاظ ليست لديهم أية فكرة عنها. والواقع أن الكل يجهلون ما هي الإرادة وكيف يمكنها تحريك الجسم …»٢
أما الطرف الآخر فنستطيع أن نجد تعبيرًا واضحًا عنه لدى باحث كان في واقع الأمر متأثرًا في تفكيره باسبينوزا إلى حد غير قليل، هو «ستوارت هامبشير»، وذلك حين قال: «بقدر درجة وعيي الذاتي بفعلي، وبقدر معرفتي الواضحة بما أقوم به أُصْبِح حرًّا، بمعنى أن أفعالي تطابق نواياي.»٣

فالنقيضة تتمثل في أن الشعور بالحرية — وهو شعور باطل في رأي اسبينوزا — كان عنده مرتبطًا بالجهل بالأسباب. أما عند هامبشير فإن هذا الشعور ناتج عن المعرفة الواضحة، فكيف إذن يكون الجهل مرتبطًا بالحرية من جهة، وتكون المعرفة مرتبطة بها من جهة أخرى؟ هل الجهل هو الذي يوهمنا بأننا أحرار؛ بحيث إننا لو اكتسبنا معرفة لما عدنا نشعر بالحرية؟ أم أن هذه المعرفة هي وسيلتنا إلى اكتساب الحرية؟

الحق أن هذه النقيضة — وإن بدت حادة قاطعة — ليست بالخطورة التي تبدو عليها لأول وهلة؛ ذلك لأن اسبينوزا نفسه، مع تأكيده أن الشعور بالحرية يرجع إلى الجهل بالأسباب، قد عاد وأكد أن حرية كل كائن إنما تكون في معرفته بالضرورة الباطنة المتحكمة فيه. وبعبارة أخرى: فإن الحرية تكون في نظره وهمًا إذا ما فُهِمَت بمعنى «الفعل الذي لا سبب له»؛ لأن كل فعل لا بد قطعًا أن يكون له سبب، وإن كنا نجهل أسباب أفعالنا في معظم الأحيان. أما إذا فُهِمَت الحرية بمعنى إدراك الضرورة الباطنة المتحكمة في الظواهر؛ فعندئذٍ يكون المرء حرًّا كلَّما عرف تلك الأسباب العميقة الداخلية المنبعثة من طبيعته الخاصة، والتي تدفعه إلى أفعال معينة، ويكون مرغمًا أو مقهورًا إذا كان سلوكه منبعثًا عن عوامل خارجية لا تنتمي إلى طبيعته الباطنة، وإذن فهناك حرية وهمية ترتبط بالجهل، وهناك حرية حقيقية ترتبط بفهم الضرورة الباطنة أي بالعلم، وهناك أيضًا حرية اختيار عشوائية، ليس لها من مصدر سوى عدم معرفتنا بالأسباب. وفي مقابلها الحرية التي يجلبها السير وفقًا للعقل، والتي ترتبط بالضرورة (لا بالقهر) أوثق الارتباط.

ولكن على الرغم من أن من الممكن تجاوز هذه النقيضة بالتفرقة بين الحرية العشوائية والحرية الناتجة عن فهم الباطنة والتصرف وفقًا لها، فما زال من الصحيح أن العلاقة بين الحرية والعلم تنطوي — الوجهة الفلسفية — على إشكال حقيقي؛ ذلك لأن العلم كلما ازداد تقدمًا، أتاح لنا أن نكتشف أسبابًا ضرورية لكثير من الأفعال التي كنا نظنها «حرة» أو منبعثة عن إرادتنا وحدها، وكلما اتسع نطاق العلم؛ تضاءل نطاق ما يُسمى بالأفعال الحرة، بهذا المعنى فالعلم في هذه الحالة يلغي الحرية. ولكن العلم — من جهة أخرى — يعمل على تحرير الإنسان؛ لأنه كلما تقدم أتاح له مزيدًا من القدرة على التحكم في الظواهر والسيطرة عليها. وهكذا يمكن القول — في آن واحد: إن العلم هو الذي يقضي على الحرية، وهو الذي يجعلها ممكنة.

«فكيف يمكن التخلص من هذا التناقض؟»

لا بد لنا — إذا شئنا أن نصل إلى حل لهذا الإشكال — من أن نعرض لكلٍّ من طرفيه بمزيد من التفصيل.

(٢-٣) التعارض بين العلم والحرية

عبر الفيلسوف الألماني «كانْت» عن التعارض بين العلم والحرية أوضح تعبير حين أكد أن العقل عندما يبحث في موضوعات العالم يخضع للضرورة. وحين يتجاوز هذه الموضوعات إلى المجال الإنساني العلمي يصبح حرًّا؛ فالعالم الطبيعي — بكل جوانبه — خاضع لمبدأ السببية والحتمية الدقيقة، ومن هنا لم يكن ثمة مجال للحرية في أي علم من العلوم التي تبحث الطبيعة. بل إن وجهة النظر الطبيعية ذاتها — في بحث الأمور — تتعارض من حيث المبدأ مع فكرة الحرية. أما حين نخوض مجال الأخلاق والقيم الإنسانية، فلا يمكن أن تقف في وجهنا تلك القيود التي تلزمنا بها وجهة النظر الطبيعية؛ إذ إن الروح الإنسانية تمتاز بالحرية المطلقة، والإرادة قادرة على الاستقلال عن كل شروط العالم الطبيعي، وعلى أن تُشرِّع لنفسها من القواعد ما يتفق مع حكم العقل وحده دون خضوع لأي قيد خارجي.

هذه التفرقة بين العالم الطبيعي الخاضع للضرورة، والذي تبحثه العلوم المختلفة، وبين العالم المعنوي أو الأخلاقي الذي ينفرد به الإنسان، والذي يتميز بالحرية المطلقة، تعبر عن فكرة ظلت تتردد فيما بعد على أنحاء شتى بين مفكرين كانوا يؤمنون بأن العلم — الذي يتسم مساره بالضرورة — يتعارض أساسًا مع الحرية، وبأن المجال الإنساني يكون حرًّا حين لا يصبح موضوعًا لأبحاث علمية تسودها وجهة النظر الطبيعية؛ ومن هنا فإن الكثيرين نظروا إلى العلوم الإنسانية التي تطبق مناهج قريبة الشبه بمناهج العلوم الطبيعية على أنها متعارضة بطبيعتها مع فكرة الحرية؛ فالقول بإمكان إيجاد تفسير مبني على فكرة الحتمية، لأفعالنا الذهنية والنفسية، يبدو متعارضًا مع حرية الفعل الإنساني؛ إذ يكشف عن وجود مسار محدد لهذا الفعل لا يمكنه أن يحيد عنه. وحين يصبح الإنسان جزءًا من الطبيعة، خاضعًا لقوانين مشابهة لتلك التي تخضع لها الحوادث الطبيعية؛ أي حين يتحقق الهدف الذي يرمي إليه كل علم ببحث الإنسان مستخدمًا مناهج العلوم الطبيعية؛ فعندئذٍ يكون الإنسان — تبعًا لوجهة النظر هذه — قد فقد حريته واستقلاله بفقدانه الطابع المميز له؛ ذلك لأن مشكلة الحرية لا تثار إلا منذ اللحظة التي يعد فيها الإنسان مقابلًا للطبيعة ومستقلًّا عن قوانينها؛ ولذلك كانت هذه المشكلة تزداد حدة كلما ازداد العلم تقدمًا.

ففي العصر الحديث أصبحت الصورة التي يرسمها العلم للكون تتصف بالآلية، ولا تترك مجالًا لقيم الإنسان ورغباته، أصبح العالم موحشًا — غير مكترث — يسير في طريقه المرسوم بدقة وانضباط لا مكان فيهما لمشاعر الإنسان، وعلى حين أن العصور الوسطى كانت ترسم للعالم صورة متعاطفة مع الإنسان، فتجعله محتشدًا بالملائكة والأرواح والقوى الغيبية، وتعطيه مسارًا متجهًا إلى تحقيق غايات إنسانية، وتطبع القيم الإنسانية على الكون في مجموعه وفي كل جزء من أجزائه، فإن العصر الحديث أوجد انفصالًا قاطعًا بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان، وقضى على التداخل القديم بين هذين المجالين. وكان من نتيجة ذلك أن ازدادت رغبة الإنسان في البحث عن مكان لحريته في هذا الكون الأصم، وأصبح الاهتمام بمشكلة الحرية عامًّا بين الفلاسفة؛ لأن التعارض أصبح واضحًا وقاطعًا بين الشعور الإنساني بالحرية وبين الضرورة الكونية التي تبدو غير متجاوبة مع هذا الشعور. وبعبارة أخرى: فعندما بدا للإنسان أن صورة الكون الجديدة — كما رسمها العلم الحديث — تهدد حريته، أصبحت مشكلة الحرية — لأول مرة — مشكلة أصيلة.

إن المعرفة الدقيقة بكل تفاصيل الحياة والكون — وهي المعرفة التي يستهدفها العلم الحديث ويستخدم مناهجه الدائمة التطور من أجل بلوغها — تبدو في نظر الكثيرين متعارضة مع حرية الإنسان؛ فالوصول إلى معرفة شاملة بالطبيعة وبالحياة، معناه أن كل شيء قد أصبح واضحًا محدد المعالم؛ بحيث لا يعود هناك إلا طريق واحد محدد بدوره لبلوغ الخير الإنساني، عندئذٍ لا يكون هناك معنى لترك الحرية للناس بحيث يسلك كلٌّ منهم وفقًا للقاعدة التي يمليها عليه عقله، بل يكون الأقرب إلى المعقول هو إلزام كل شخص بمراعاة الشروط الضرورية لتحقيق الخير، وهي شروط وحيدة لا بديل لها، وما يبرز هذا الإلزام أن خروج المرء عنه يعني إلحاق الضرر بنفسه وبالآخرين. وهذا يعني أن العلم الشامل — على المستوى الإنساني — لا يترك مجالًا لحرية التصرف، أو للسلوك غير الملتزم باتجاه واحد محدد مقدمًا.

هذه المشكلة — التي أثارها تقدم العلم الحديث — تناظر مشكلة أخرى سبق أن أثارها اللاهوت عن العلم الشامل على المستوى الإلهي، فقد بدا للبعض أن شمول العلم الإلهي وإحاطته بكل شيء يتعارض مع مسئولية الإنسان عن أفعاله؛ ومن ثَم فهو يتعارض مع فكرة الثواب والعقاب، فكيف يعاقب الله إنسانًا وقد كان بعلمه الشامل يعرف مقدمًا أنه سيرتكب الشر؟ إن الخالق يعرف منذ البداية ما سيحدث لما خلقه؛ أي إن فعل الخلق يستتبع علمًا شاملًا، فكيف يكون المخلوق بعد ذلك مسئولًا أمام من خلقه، ومن أحاطه علمه منذ البداية بكل تفاصيل سلوكه في المستقبل؟ لقد لخصت الفيلسوفة «سوزان ستيبنج» وجهة النظر هذه حين أكدت وجود تناقض شديد بين فكرة الله بوصفه خالقًا وفكرة الله بوصفه قاضيًا،٤ فكيف يكون خالق الشيء حكمًا عليه؟ كيف يُشكله على نحو معين، ويعلم مقدمًا ما سيترتب على هذه الطريقة الخاصة في التشكيل، ثم يُحاسبه على تصرفاته المترتبة على طريقة تشكليه له؟ هذا الاعتراض الخطير هو الذي دفع اللاهوتيين إلى أن يبتدعوا فكرة «حرية استواء الأطراف Librté d’indifférence»، بوصفها تلك الحرية التي مُنِحَت للإنسان بحيث يكون أمامه في كل حالة طريقان يستطيع الاختيار بينهما؛ فالله قد شاء أن يمنح الإنسان القدرة على أن يحدد لنفسه المسلك الذي يختاره بين مسالك متعددة ممكنة؛ حتى يكون للثواب والعقاب والمسئولية أمام الله معنى.

ولا جدال في أن هذا الحل يؤدي إلى تحقيق قدر من الحرية للإنسان. ولكن على حساب شمول العلم الإلهي؛ إذ إن إتاحة ممكنات متعددة أمام السلوك الإنساني لن يكون أمرًا يستتبع مسئولية أمام الله إلا إذا كان اختيار الإنسان لواحد من هذه الممكنات أمرًا خارجًا عن نطاق العلم الإلهي الشامل، وإلا عدنا مرة أخرى إلى التعارض بين العلم الإلهي الشامل والمسئولية أمام الله، وهكذا يكون في هذا الحل ذاته تأييد للتعارض بين شمول العلم الإلهي وبين الحرية الإنسانية، بحيث لا يمكن تأكيد هذه الحرية إلا بتضييق نسبي لنطاق العلم الإلهي.

ولعل هذه النقاط كلها كفيلة بإيضاح وجهة النظر التي تؤكد وجود تعارض أساسي بين العلم والحرية، وتذهب إلى أن ازدياد أحكام البناء العلمي يؤدي حتمًا إلى تضييق نطاق الحرية، وإلى أن الحرية لا تزدهر بحق إلا في ظل مذهب يرخي من قبضة الحتمية العلمية على العالم، ويترك مجالًا للاختيار بين ممكنات متعددة تستوي في أهميتها، ولا يتحتم علينا تفضيل أحدهما دون الآخرين؛ أي إن الحرية في نظر أصحاب هذا الرأي لا تقوم لها قائمة إلا بقدر ما يتخلى العالم عن فكرة الضرورة ويستعيض عنها بفكرة العرضية، أو بقدر ما يتنازل عن الحتمية لكي يؤكد أن مسار الحوادث غير محتوم وغير متحدد أو متعين منذ البداية.

(٢-٤) التوفيق بين العلم والحرية

لم يقتنع مفكرون كثيرون بوجهة النظر السابقة، التي تؤكد وجود تعارض أساسي بين العلم والحرية. وكان عدم اقتناعهم هذا راجعًا إلى ما تشهد به التجربة ذاتها، من أن تحرر الإنسان مواكب لتقدمه في العلم، على حين أن الجهل مظهر من أوضح مظاهر عبودية الإنسان، وابتداءً من هذه المقدمة التي لا تحتاج إلى برهان؛ لأنها مستمدة من تجربة المجتمعات التي ارتكز عليها أنصار الرأي السابق، لكي يهتدوا إلى أوجه الخطأ أو النقص فيها، ولم يكن من العسير عليهم أن يهتدوا إلى الأساس النظري الكفيل بتأييد الارتباط الوثيق الذي تشهد به التجربة تقدم العلم وزيادة حرية الإنسان.

ولقد كان لزامًا على هؤلاء المفكرين أن يحاربوا — منذ البداية — وجهة النظر التي تفصل بين العلم والحرية، بحجة أن العلم متعلق بمجال المعرفة، على حين أن الحرية تتعلق بمجال الفعل والسلوك والإرادة؛ ذلك لأن تأكيد هذا الانفصال يعني — في نهاية الأمر — استحالة قيام أية علاقة بين العلم والحرية، ما دام لكلٍّ منهما مجاله الخاص؛ فالعلم يبحث في الأمور النظرية ويستهدف بلوغ الحقيقة لذاتها، على حين أن الحرية مفهوم علمي في أساسه، يحققه السلوك البشري، ولا يتأثر بالحقيقة النظرية في قليل أو كثير.

هذا الرأي ينكر التداخل الوثيق بين الجانب النظري والعلمي في حياة الإنسان، ويتصور العلم عاكفًا على الكشف النظري للحقائق دون أي اهتمام بالتطبيق، ويبدو له أن قيمة الحقيقة تقطن — كما أراد لها أفلاطون — في عالم مثالي مفارق لعالمنا هذا، لا شأن له بمشكلات العالم الأرضي أو بالتطبيقات العلمية، ولسنا في حاجة إلى جهد كبير لكي نثبت بطلان هذا الانفصال غير المشروع بين مجال النظر ومجال العمل أو التطبيق؛ إذ إن العلم — في كل كشف نظري يبلغه — يحرز انتصارات علمية مرتبطة بهذا الكشف أوثق الارتباط، ولا يمكن فصلها عنه إلا تعسفًا.

ليس هناك — إذن — انفصال بين مجالَي الحرية والعلم، أو بين ميدان السلوك العلمي وميدان الحقيقة النظرية؛ فالعلم حين يسعى إلى كشف أسباب الظواهر — وهو سعي يبدو نظريًّا خالصًا — يقدم إلينا في الوقت ذاته الوسائل التي تتيح لنا السيطرة على هذه الظواهر، وبالتالي إثبات حريتنا إزاء الضرورة الطبيعية. بل إن المبدأ العام الذي يرتكز عليه الجهد العلمي، ولا يكون هذا الجهد مفهومًا بدونه، وهو مبدأ الحتمية، ووجود ارتباط منتظم بين الظواهر، هو في ذاته عامل عظيم الأهمية في تحقيق الحرية الإيجابية للإنسان، فهذا المبدأ يعني أن كل جهد يبذله الإنسان يمكن أن يحقق النتائج المقصودة منه، إذا كان هذا الجهد متجهًا في الاتجاه الصحيح، وأننا لو غيرنا اتجاه جهدنا لتغيرت النتائج المترتبة عليه. وهذا معناه أن مبدأ الحتمية — الذي يبدو في ظاهره مبدأً نظريًّا بحتًا — يساعد على تحقيق الحرية بمعناها العلمي الإيجابي، أي من حيث هي بلوغ أهداف فعلية مطابقة لما نبذله في سلوكنا من جهد، وسائرة في نفس الاتجاه الذي يسير فيه هذا السلوك. أما لو تخيلنا أن مبدأ الحتمية ليس هو المسيطر، أي إذا تصورنا أن كل شيء في الكون لا يخضع لقوانين العلم الضرورية، إما لأن هناك قدرًا محتومًا يفرض على الطبيعة مسارها بقوة خارجية، لا بقواها الباطنة الخاصة، وإما لأن العرضية الشاملة هي التي تسود؛ بحيث لا يتعين أن تؤدي نفس الأسباب إلى حدوث نفس النتائج، لو تخيلنا ذلك فسوف تغدو الحرية مستحيلة؛ إذ إن هذا معناه أن أي جهد نبذله لن يكون له أثر، وأن كل شيء إما أن يحدث بطريقة مرسومة مقدمًا بغض النظر تمامًا عن الجهد الذي نبذله، وإما أن يحدث بطريقة عشوائية لا تعبر عن ارتباط منتظم بين الظواهر. وفي كلتا الحالتين تختفي العلاقة السببية بين جهدنا وبين النتائج التي نتوقعها منه، أو التي نبذل هذا الجهد من أجل بلوغها.

وهكذا فإن فكرة العرضية الشاملة التي تستبعد كل حتمية، والتي بدا لنا من قبل أنها هي التي تجعل الحرية ممكنة، تقف حاجزًا منيعًا في وجه كل حرية إيجابية نستهدف فيها تحقيق نتائج معينة من أفعالنا، ومعنى ذلك أن سيادة العرضية لا تقل تعارضًا مع الحرية عن فكرة الجبرية المطلقة، أو القدرية التي لا تترك مجالًا لأي تصرف فردي، وبالحتمية العلمية وحدها؛ أعني بالمبدأ القائل بوجود ترابط منتظم قابل للفهم بين الظواهر، يمكن للحرية أن تتحقق إيجابيًّا، بحيث تترتب على الأفعال الإنسانية كل النتائج التي نتوقعها منها.

بهذا المعنى يزول كل تعارض بين العلم والحرية، بل يصبح العلم أقوى أداة لتحقيق حرية الإنسان في مظهرها الإيجابي الفعال؛ أعني تلك الحرية التي تتجلى في سيطرة الإنسان على الطبيعة بمزيد من الإحكام. وفي قدرته على فهم قوانينها واستغلالها لصالحه، وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق بين العلم والحرية قد تأكد إلى أقصى حد بفضل كشوف العلم الحديث، فإن في وسعنا أن نجد لدى مذهب يوناني قديم — هو المذهب الرواقي — استباقًا لهذا الاتجاه؛ إذ إن الرواقيين كانوا بدورهم يربطون بين فهم الإنسان للضرورة السائدة في الكون، وبين تحرره من انفعالات، فالإنسان — في نظرهم — يظل عبدًا لانفعالاته ما دام يستسلم لها، وينظر إليها كما لو كانت قوة لها كيانها الخاص، تطغى على كلِّ ما عداها من القوى المحيطة به. أما لو توصل إلى إدراك أن انفعالاته ليست إلا جزءًا ضئيلًا من القوانين الكلية للطبيعة، وإلى أن الأسباب التي تؤدي إلى ظهور هذه الانفعالات ليست إلا حوادث ضرورية كان ينبغي أن تحدث، ولا تستطيع انفعالاته — مهما اشتدت — أن تغير منها شيئًا؛ فعندئذٍ يستطيع عقله أن يترفع عن الاستسلام للانفعال، وأن يوجه إرادته إلى موقف من «الكبرياء» يتعالى على كل عوامل الضعف في النفس البشرية.

ولقد لاحظنا من قبل، عند الكلام عن نقيضة العلم والحرية، رأي اسبينوزا القائل: إن حرية الإنسان تتحقق إذا ما استطاع أن يفهم الضرورة الكامنة في الظواهر، وأن يربط كل حادثة جزئية بالمجرى العام للحوادث الكونية. هذه القدرة على الفهم هي التي تحرر الإنسان من عبودية الانفعالات، وبقدر إدراك الإنسان للضرورة الكونية يكون حرًّا. ولا جدال في أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين رأي اسبينوزا هذا وبين الرأي الرواقي، حتى إن الكثيرين نظروا إلى موقف اسبينوزا على أنه ترديد لفكرة رواقية قديمة، لم يأتِ فيه بجديد؛ على أننا نستطيع أن نلمح اختلافًا رئيسيًّا بين الموقفين؛ فالموقف الرواقي كان يقف عند حد النتيجة السلبية، وهي التحرر من الانفعال، ولم يكن يجعل للعقل من دور إلا إدراك مبدأ الضرورة الكونية فحسب. أما اسبينوزا فإنه يتجاوز هذا الموقف السلبي، مع استيعابه له، ويؤكد أن المعرفة والفهم في ذاتهما — لا من حيث هما وسيلة للتخلص من الانفعالات فحسب — هما اللذان يحققان للإنسان حريته بمعناها الصحيح، فإدراك الضرورة عنده مرتبط بالحرية لمجرد كونه فهمًا عاقلًا للقوانين الكونية. وفي العمل العقلي الذي نربط فيه كل الظواهر بأسبابها يكون تحررنا، وما التخلص من الانفعالات إلا خطوة تمهيدية تهيئ السبيل لتلك الممارسة العقلية التي هي أشرف غاية يمكن أن يستهدفها الإنسان. وهكذا يتفق رأي اسبينوزا مع الموقف الرواقي ثم يتجاوزه، والفارق بين الموقفين هو — بطبيعة الحال — تعبير عن الاختلاف بين فلسفة كان كثير من أقطابها مضطهدين، بل كان بعضهم عبيدًا أرقاء بالفعل، تهدف إلى التخلص من مظاهر الانفعال التي تتملك النفس البشرية، دون أن تفكر على الإطلاق في السيطرة على الظروف الخارجية التي تولد هذه الانفعالات؛ لأن تلك الظروف خارجة تمامًا عن قبضتها، وبين فلسفة ظهرت في عصر الكشف العلمي وبداية التصنيع، تؤمن بأن من الممكن السيطرة إيجابيًّا على الطبيعة وعلى كل الظروف الخارجية التي تؤثِّر في الإنسان، ولا تكتفي بأن تقصر مجال اهتمامها على الإنسان من الداخل لكي تحرره من الانفعال فحسب.

ولقد أصبح هذا الرأي — الذي يربط إيجابيًّا بين الحرية والعلم — معبرًا عن وجهة نظر الكثيرين في الفترة الحديثة من الفلسفة، ولسنا في حاجة إلى سرد أمثلة كثيرة لبيان مدى الأهمية التي أصبحت لهذا الرأي في الآونة الأخيرة. ولكن يكفي أن نشير إلى أن مذاهب فكرية متباينة أشد التباين قد أخذت، ومن أشهر هذه المذاهب — في الآونة الحاضرة — والمذهب الماركسي، الذي يرفض كل فهم للحرية مبني على فكرة عرضية الطبيعة أو نقص معرفتنا بقوانينها، ويؤكد أن لا حرية في ظل سيادة الصدفة والعشوائية، وأن الحرية ليست إلا الاستغلال القائم على الفهم لقوانين الطبيعة من أجل مصلحة الإنسان، والجديد الذي تضيفه الماركسية إلى هذا المبدأ — الذي رأينا أمثلة عديدة له خلال تاريخ الفكر الإنساني — هو أنها لا تقتصر على الربط بين الحرية وبين فهم قوانين الطبيعة، بل تربط — ربما على نحو أوثق — بينها وبين فهم قوانين المجتمع، فحرية الإنسان لا تتحقق كاملة إلا إذا استطاع أن يفهم الضرورة الكامنة في تطور المجتمعات البشرية، ويصل إلى القوانين المتحكمة في هذا التطور، ويستخدمها من أجل الوصول إلى مرحلة القضاء التام على استغلال الإنسان للإنسان.

(٢-٥) الحرية والمعرفة الذاتية

كان المعنى الذي استخدمت به كلمة «العلم» حتى الآن هو معنى العلم بقوانين الطبيعة أو بقوانين الحياة الإنسانية. ولكن هناك مجالًا آخر قد يكون للفظ «للعلم» فيه معنى مخالف، هو مجال معرفة المرء بذاته، فهل ينطبق ما قلنا من قبل عن العلاقة بين العلم والحرية على هذا المجال بدوره؟ أم أن الخصائص التي لا بد أن تتميز بها هذه المعرفة الذاتية عن سائر أنواع المعرفة، تجعل لهذه العلاقة طابعًا مخالفًا حين تطبق على هذا المجال؟

إن كثيرًا من المفكرين يفرقون على نحو قاطع بين المشاهدة الخارجية لسلوك الآخرين، وبين تأمل الفاعل نفسه لسلوكه؛ ففي الحالة الأولى يبدو سلوك الآخرين في أغلب الأحيان خاضعًا لعوامل ضرورية. أما حين أتأمل سلوكي الخاص فإني أشعر بنفسي حرًّا من كل قيد، والمشكلة في هذه الحالة هي أن الآخرين بدورهم يمكنهم — حين يشاهدون سلوكي — أن ينسبوه إلى عوامل ضرورية مسببة له؛ بحيث يكون للفعل الواحد طابع الضرورة في آنٍ واحد.

ويتجلَّى هذا الاختلاف بين وجهة النظر الخارجية ووجهة النظر الداخلية إلى السلوك بوضوح تام في حالة القدرة على التنبؤ؛ فالعلم يسعى إلى أن يمنح الإنسان القدرة على التنبؤ بمجرى الحوادث الطبيعية وبسلوك الآخرين، والمثل الأعلى له هو أن يكون من الممكن التنبؤ مقدمًا بأكبر عدد ممكن من الظواهر إن لم يكن بالظواهر كلها. ولكن هل ينطبق ذلك على علاقة الفرد بنفسه؟ وهل يحاول أحد أن يتنبأ «علميًّا» بما سيسلكه بناءً على دراسة وافية بسوابق سلوكه؟ هذا طبعًا مستحيل، ويتنافى مع ما يحدث علميًّا؛ فالأمر المشاهَد فعلًا هو أن الشعور الداخلي بالحرية يظل قائمًا مهما زادت معرفتنا العلمية بدوافع الإنسان. بل إنني لأشعر بأن محاولة التنبؤ بسلوكي محاولة عقيمة؛ لأني أنا صانع أفعالي، فلا أحتاج إلى تتبع العوامل المتحكمة فيها، والتي يمكن أن تساعدني على التنبؤ بها.

في هذه الحالة نجد أن عدم قابلية سلوك المرء الداخلي للتنبؤ — حين يكون الأمر متعلقًا بمعرفته لنفسه — لا يتعارض على الإطلاق مع شعور المرء بالحرية. بل إن هذا الشعور بالحرية هو ذاته الذي يجعل محاولة تنبؤ المرء بسلوكه محاولة لا معنى لها، والأمر هنا مختلف عما هو عليه في بقية الحالات: فتبعًا لوجهة النظر التي عرضناها من قبل، والتي تؤكد عدم التعارض بين العلم وبين الحرية، لا تتنافى الحرية مع قابلية الظواهر الإنسانية للتنبؤ، فإذا تنبأت بأن شخصًا أعرفه جيدًا سيرفض لونًا معينًا من الطعام قُدِّم له، فليس معنى ذلك أنه لم يكن حرًّا في رفضه هذا. وبعبارة أخرى: فإن الجهد الذي يبذله العلم من أجل زيادة قدرتنا على التنبؤ بسلوك الناس لا يتنافى مع الحرية أو يضيق نطاقها. ولكن هذا لا يصدق على ذلك النوع الخاص من المعرفة؛ أعني معرفة المرء بنفسه؛ إذ إن المرء لا يحاول أن يتنبأ بسلوكه قياسًا على تصرفاته الماضية، ليس فقط لأن وراء كل فعل عددًا لا نهائيًّا من العوامل التي يكاد يكون من المستحيل الإحاطة بها، والتي قد يستغرق تتبعها — في حالة مجرد اختيار بسيط نقوم به — عمرًا بأكمله، بل أيضًا لأن الطبيعة الخاصة للمعرفة الذاتية تجعل الشعور بالحرية ضروريًّا في تعامل المرء مع ذاته؛ بحيث يختلف هذا التعامل اختلافًا جذريًّا عن التعامل مع الآخرين.

على أن هذا الشعور الداخلي بالحرية يقابله، ويرتبط به في الوقت ذاته: شعور آخر لا يستطيع أحد أن ينكر أهميته في حياة الإنسان الأخلاقية، وأعني به الشعور بالمسئولية. هذا الشعور يتخذ — في الحضارات الراقية — صورة علاقة بين الفرد وبين نفسه أو بينه وبين «ضميره»، ولسنا الآن بصدد مناقشة مشكلة التطور الذي طرأ على مفهوم المسئولية؛ بحيث تحولت من مسئولية أمام طرف خارجي — كالمسئولية أمام سلطة المجتمع أيًّا كان طابعها — إلى مسئولية داخلية لا يتصل الفرد فيها إلا بنفسه، ويكون الفرد فيها هو السائل والمسئول في آنٍ واحد، إنما الذي يعنينا هنا أن مشكلة المسئولية مظهر من مظاهر المعرفة الذاتية للإنسان؛ أعني أن الإنسان لا يعد نفسه مسئولًا إلا بناءً على معرفة معينة بأبعاد فعله، وبعد تحليل ومقارنة بين فعله الحاضر وأفعاله الماضية، بل بينه وبين ماضيه بأكمله. وربما أدخل مشروعاته المستقبلية في حسبانه أيضًا؛ لكي يستيقن من مدى دخول فعله في الإطار الذي يرسمه لحياته في المستقبل، ومعنى ذلك — بعبارة أخرى — أن فكرة المسئولية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمشكلة العلاقة بين الحرية والعلم، بل إن من الممكن أن تتخذ هذه المشكلة الأخيرة — في أحد جوانبها — طابعًا ثلاثيًّا، يكون أطرافه هو: العلم والحرية والمسئولية، فعلى أي نحو يمكن أن تفهم المشكلة في طابعها الثلاثي هذا؟

ولقد سبق لنا أن ناقشنا موضوع التعارض بين العلم الإلهي الشامل وبين فكرة الثواب والعقاب، أي بينه وبين مبدأ المسئولية أمام الله، وتحدثنا عن الصعوبة التي يواجهها الفكر الإنساني عندما يتصور الله بوصفه خالقًا ويتصوره في الآن نفسه بوصفه قاضيًا؛ أعني عندما يتصور الخلق الإلهي للإنسان على أنه فعل مطلق تتحدد بوساطته الطبيعة البشرية بجميع تفاصيلها، ويتصور الجزاء الإلهي للإنسان على أنه محاسبة من الله لنفس الإنسان على أفعاله المترتبة على طبيعته هذه، أي على أنه تعبير عن مسئولية الإنسان أمام خالق طبيعته التي تسببت في هذه الأفعال، في هذه الحالة نجد تناقضًا واضحًا بين العلم — مفهومًا بمعناه الإلهي الشامل — وبين الحرية وما يترتب عليها من مسئولية، فهل يوجد مثل هذا التعرض على المستوى الإنساني؟ أعني هل يؤدي العلم الإنساني إلى الحد من المسئولية الأخلاقية مثلما يعتقد البعض أنه يؤدي إلى الحد من الحرية؟

إذا بحثنا هذه المشكلة في أبعادها الثلاثة التي أشرنا إليها من قبل — أعني إذا حللنا العلاقة الثلاثية القائمة بين العلم (أو المعرفة) والحرية والمسئولية — لتكشَّفت أمامنا — منذ البداية — نقيضة تبدو — لأول وهلة — على قدر غير قليل من الغرابة؛ ذلك لأن الجميع يسلمون بأن الحرية شرط أساسي للمسئولية، ولم يكن التناقض الذي أشرنا إليه منذ قليل بين الله بوصفه خالقًا والله بوصفه قاضيًا سوى تعبير ضمني عن إيماننا بأن المسئولية لا يكون لها معنى في ظل انعدام الحرية؛ أعني في الحالة التي يكون فيها مصدر الأفعال الإنسانية خارجًا عن الإنسان نفسه، أو تكون فيها تصرفات الإنسان خاضعة — بصورة حتمية — لمقتضيات طبيعة لم يكن للإنسان ذاته دور في إيجادها. صحيح أن هناك مجتمعات بدائية تعد الإنسان مسئولًا عن أفعال لم يكن هو ذاته مصدرها، أو قام بها مرغمًا. ولكن حديثنا الآن ينصبُّ على المراحل المتقدمة في الوعي الأخلاقي، وهي المراحل التي تكون فيها حرية الفعل شرطًا لا غناء عنه لقيام المسئولية، ومع ذلك فإن المسئولية ذاتها تفترض مقدمًا نوعًا من الحتمية؛ إذ إن عملية وضع المرء موضع المسئولية، تفترض وجود اتصال ضروري بين الشخص حين قام بالفعل الذي يُسأل عنه، وبينه في اللحظة التي يُسأل فيها، وتفترض وجود خط سببي واحد يجمع بين هاتين اللحظتين. كذلك فإن نتيجة المسئولية وهي الجزاء — سواء أكان جزاء معنويًّا أم ماديًّا — تفترض الحتمية؛ لأن هذا الجزاء سيوقَّع على الشخص بوصفه سببًا للفعل. كما أن المفروض أن هذا الجزاء سوف يكون له تأثير معين في الشخص، فيشجعه على فعله المحمود ويثنيه عن الفعل المذموم، ومثل هذا التأثير يفترض بدوره الحتمية والسببية. وهكذا تظهر أمامنا تلك النقيضة بوضوح؛ إذ إن المسئولية تفترض الحرية قبلها، أي كشرط ممهد لها، وتفترض الحرية بعدها؛ أي بوصفها أساس تبرير فعل المسئولية ذاته، وما يترتب عليه من جزاء. وبعبارة أخرى، فإذا كان علمنا بأصل الفعل الذي نحاسب عليه الشخص غير ضروري؛ لأننا نفترض وجود حرية لدى هذا الشخص، فإن علمنا بالنتائج التي ستترتب على محاسبتنا له ضروري حتى يكون لهذه المحاسبة ذاتها معنى. وهكذا يتلخص الموقف في أن المسئولية تقتضي الحرية مقدمًا. ولكنها تقتضي عكس الحرية؛ أي الحتمية، في المرحلة اللاحقة، كما أن المسئولية لا تشترط العلم في البداية. ولكنها تفترضه وتشترطه في النهاية.

هذه النقيضة تنطوي ضمنًا على الاعتقاد بأن الحرية، في مقابل الحتمية، هي المقدمة الضرورية لقيام المسئولية، وهو الاعتقاد الذي قلنا من قبل: إنه — بالنسبة إلى الذهن العادي — يكاد يكون قضية مسلَّمًا بها، فهل يصمد هذا الاعتقاد أمام النقد والتحليل؟ وهل من الصحيح أن الحتمية تتنافى مع المسئولية، بمعنى أن السلوك الذي تعرف أسبابه وتحدد مقدمًا لا يمكن أن يكون سلوكًا يُسأل عنه المرء؟

من الملاحظ أن هذا الرأي لا يقدَّم إلا في حالة الأفعال التي تستوجب اللوم فحسب؛ فحين يكون الجزاء المترتب على المسئولية عقابًا، عندئذٍ نبحث في مقدمات الفعل الذي استوجب هذا العقاب، ونحاول أن نثبت أنه لم يكن فعلًا «حرًّا»؛ أي إنه كان فعلًا وقع نتيجة لأسباب حتمية؛ وبذلك نخفف من مسئولية المرء عنه أو ننفيها نفيًا تامًّا. أما في حالة الأفعال التي تستحق المدح والإطراء، والتي يكون الجزاء فيها ثوابًا، فإننا لا نحاول على الإطلاق أن نخفف من مسئولية الفاعل، أو من مسئوليتنا نحن إذا كنا فاعلين، عن طريق الإشارة إلى وجود سوابق ضرورية وحتمية للفاعل، وكما قال منكوفسكي: «فلست أعرف شخصًا رفض اللجيون دونور (وسام الشرف الفرنسي) بحجة أنه من أنصار الحتمية»،٥ ومع ذلك فالمبدأ واحد في الحالتين، فلماذا إذن لا نرفض التكريم على فعل يستحق المدح على أساس أننا لم نكن أحرارًا كل الحرية في القيام به، وأن هناك سوابق ضرورية هي التي جعلت من المحتم علينا أن نتصرف على هذا النحو؟ ولماذا نقتصر في استخدامنا لهذه الحجة على الحالات التي نكون فيها معرَّضين للوم أو العقاب؟ من المؤكد أن هذه الحقيقة وحدها كفيلة بأن تشككنا في صحة الاعتقاد الشائع بأن المسئولية لا قيام لها في ظل الحتمية؛ أي في ظل المعرفة الدقيقة بالأسباب الضرورية المؤدية إلى ظهور الفعل.
وواقع الأمر أنه ليس من الصعب على المرء تصور مسئولية بدون حرية كاملة؛ أعني مسئولية في إطار علم جزئي غير كامل بمقدمات الفعل الذي يسأل عنه المرء؛ فالمسئولية القانونية تفترض قدرًا معينًا من الحرية. ولكنها لا تفترض حرية مطلقة، بدليل أنها تقوم على أساس وجود قواعد تشريعية معينة يتحتم إطاعتها، سواء بحرية أم بغير حرية. وبعبارة أخرى: فإن عملية البحث عن دوافع الفعل — التي يقوم بها القانون من أجل تحديد مسئولية الفاعل — لا تستمر إلا إلى حد معين، بدليل أن القانون لا يظل يتعقب الأصول الوراثية للفاعل — مثلًا — لكي يهتدي فيها إلى الأسباب التي ربما كانت قد تحكمت في جريمته، مع أنه قد تكون هناك من بين هذه الأصول عناصر يفيد منها العلم في الكشف عن عوامل كانت مقيدة لحريته، هي التي دفعته إلى ارتكاب جريمته، ولما كانت المسئولية الأخلاقية تنطوي على قدر من الموازاة مع المسئولية القانونية، ولما كان الضمير الأخلاقي هو «القانون وقد اتخذ طابعًا باطنًا»،٦ فمن الممكن القول: إن المسئولية الأخلاقية تفترض بدورها قواعد معينة، نُقِلَت إلى المجال الباطن في الإنسان، ويتوجب على المرء إطاعتها مثلما يتوجب عليه إطاعة نصوص القانون، في هذه الحالة لا تفترض المسئولية حرية كاملة، بقدر ما تفترض إطاعة قواعد «الضمير الخلقي»؛ أي إنه إذا لم تكن الحتمية مؤدية إلى إعفاء المرء من المسئولية القانونية، ألا يثير ذلك احتمالًا في أن تكون المسئولية الأخلاقية بدورها ممكنة في ظل الاعتقاد بالحتمية؟

إن من المسلَّم به أن هناك اختلافًا أساسيًّا بين المسئولية الأخلاقية والمسئولية القانونية؛ فالقانون «نفعي» يستهدف تحذير الناس من ارتكاب الأخطاء، ويُراعي في عقوباته أن تكون رادعًا للآخرين لا جزاءً للفاعل وحده. أما الأخلاق فهي شخصية، يتركز الحكم فيها على الفاعل نفسه؛ ومن ثَم كانت أكثر اهتمامًا بالنوايا والمقاصد. وكان يبدو أنها تتنافى مع وجود الحتمية. ولكن ألا يجوز أن يكون في الأخلاق بدورها جانب نفعي؛ بحيث إنني عندما ألوم نفسي على فعل خاطئ، لا أوجِّه هذا اللوم إلى نفسي على أساس أنني كنت أستطيع أن أسلك بطريقة مخالفة (إذ أن هذا مستحيل في رأي مذهب الحتمية)، بل أوجهه على أساس أنني آمل بهذا اللوم، أن أتجنب تكرار مثل هذا الخطأ في المستقبل؟ في هذه الحالة تكون المسئولية ممكنة في ظل الحتمية، ولا يكون هناك تعارض بينهما.

على أن هذا التعارض يمكن أن يزول بمزيد من السهولة إذا رجعنا إلى تجربتنا الباطنة، فمهما كان رأي المرء في مشكلة الحتمية، وهل هي السائدة في العالم أم أن الحوادث فيها عنصر أساسي من العرضية، فإنه لا يستطيع أن يستخلص من شعوره الداخلي بالمسئولية؛ أي إن الجمع بينهما ممكن بلا تعارض في داخل الشخص الواحد، وتعليل ذلك ميسور؛ إذ إن الحتمية مبدأ لا شخصي شامل، على حين أن المسئولية ظاهرة معيشية، تُعَدُّ من المعطيات المباشرة للوعي، وبها تتميز حياتنا الإنسانية على وجه التخصيص، الحتمية مبدأ يمتد إلى ما لا نهاية في المكان والزمان على حين أن المسئولية تجربة حية شخصية، تحدث في زماننا ومكاننا الخاصين، ولها حدودها المعلومة، ولما كانت الفكرتان لا تجتمعان على أرض واحدة، فإن التعارض بينهما لا بُدَّ أن يكون مصطنعًا.

وأخيرًا، فحتى لو سلَّمنا بوجود تعارض بين المسئولية التي تفترض الحرية وبين الحتمية التي تنفيها، فينبغي أن نتذكر أن هذا التعارض مصطنع؛ لأن الحتمية — كما أكدنا في موضع سابق — لا تنفي الحرية، ولأن هناك تراثًا فلسفيًّا كاملًا يجعل الحرية كامنة في نفس علمنا بالأسباب المتحكمة في السلوك وإدراكنا الواعي بها، لا في حالة العماء والتخبط التي تبدو فيها أفعالنا مفتقرة إلى أي سبب.

(٣) من الحرية النظرية إلى الحريات العملية

ليست التأملات النظرية السابقة منقطعة الصلة بالبحث العلمي في العلاقة بين العلم والحرية الشخصية؛ ذلك لأن الاتجاه النظري للمفكر لا بُدَّ أن يكون له تأثير في طريقة تناوله للأمور من زاويتها العملية. ومن الزيف أن نعتقد بوجود انفصال بين الوجه النظري والوجه العملي للفكر؛ إذ إن التجربة الإنسانية تشهد في كل لحظة بالتداخل الوثيق بين هذين الوجهين. وفي حالة مشكلة الحرية بالذات، كان للمواقف النظرية للمفكرين تأثيرها الفعَّال في نظرتهم إلى الحريات العلمية؛ إذ إن الفلسفات التي تقيم تعارضًا بين العلم والحرية، لا تنادي عادةً بمبدأ السعي الإيجابي من أجل اكتساب مزيد من الحريات العلمية عن طريق العلم، على حين أن تلك التي تزيل هذا التعارض تفتح الباب على مصراعيه أمام العلم كما يبذل جهود الإيجابية في سبيل نطاق الحريات الإنسانية.

ومعنى ذلك أن انتقالنا من بحث المشكلة على المستوى النظري التأملي إلى بحثها على المستوى الإنساني الواقعي، ليس انتقالًا من مجال مخالف له، وإنما هو انتقال من الوجه النظري إلى الوجه التطبيقي لنفس المجال، وإذا كان قد ظهر من المفكرين من ينكرون أصلًا قيمة البحث النظري في هذه المشكلة، ويؤكدون أن أمثال هذه التأملات الفلسفية إنما هي مناقشات عقيمة يقوم بها أشخاص لا يريدون التصدي للمشكلة الحقيقية في مواجهة مباشرة، فإن من واجبنا أن نؤكد ضرورة الجمع بين الوجهين: النظري والعملي لمشكلة الصلة بين العلم والحرية، وأن نثبت أن الأبعاد الحقيقية لهذه المشكلة لا تتضح إلا عن طريق إدراك العلاقات المتبادلة بين هذين الوجهين، وسوف يتبين لنا من الموضوعات التي اخترنا أن نعالجها في القسم التالي من هذا البحث أن هناك تداخلًا وثيقًا بين جانبي المشكلة هذين، وأن المناقشة النظرية السابقة تكتسب مزيدًا من الوضوح وتحدد المعالم، وتنتقل إلى مجال التطبيق الواقعي بفضل المناقشة العلمية التي سننتقل إليها الآن.

(٣-١) مشكلة الحرية في العلوم المختلفة

أولى المشكلات التي يتعين علينا أن نعرض لها في هذا الجزء من بحثنا هي النتيجة التي تصل إليها العلوم المختلفة بالنسبة إلى مشكلة الحرية، وينبغي أن نلاحظ — منذ البداية — أننا لا نستهدف تقديم عرض شامل لرأي مختلف العلوم في هذه المشكلة؛ لأن مثل هذا العرض يتجاوز بكثير أبعاد بحث كهذا. بل إننا سنكتفي بالحديث عن وجهة نظر مجموعة محدودة من العلوم في هذه المشكلة. كذلك فإن العلوم التي سنعرض لها لا تعالج مشكلة الحرية معالجة مباشرة؛ إذ إن الموضوعات التي تبحث هذه العلوم لا تتصل مباشرةً بمثل هذه المشكلة. بل إن الرأي الذي نقول به في هذا الصدد يمكن التوصل إليه بطريقة ضمنية غير مباشرة فحسب. وأخيرًا ينبغي أن يُلاحَظَ أن هذا الموضوع يمثل جسرًا يمكن العبور عليه من البحث النظري إلى البحث العلمي لمشكلة الصلة بين العلم والحرية؛ إذ إن المسائل التي تُعالج فيه تصلح للجمع بين وجهَي المشكلة هذين، أو على الأصح: تمهد للانتقال من أحدهما إلى الآخر.

(أ) الفيزياء

خلال فترة ازدهار العلم الميكانيكي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ساد الاعتقاد بأن القوانين الطبيعية تخضع لنوع من الحتمية الشاملة يجعل حوادث الكون كلها تسير في اتجاه يمكن حسابه مقدمًا بدقة كاملة إذا ما توافرت المعطيات الكافية، واستدل بعض المفكرين من ذلك على أن السببية الدقيقة التي يخضع لها الكون لا تترك مجالًا للحرية الإنسانية، وعلى أن هذه الحرية لا يعود لها معنى في عالم تتحكم القوانين الضرورية في كل ما يقع فيه من أحداث. وكان أدق تعبير عن هذا الموقف هو تلك الفقرة المشهورة التي عبَّر فيها العالم الفرنسي «لابلاس» عن سيادة الحتمية في الكون، فقال: «لو وُجِدَ عقل يعرف — في لحظة معينة من الزمان — كل القوى التي تمارس تأثيرها في الطبيعة، فضلًا عن المواقع التي تتخذها في تلك اللحظة جميع الأشياء التي يتألف منها الكون؛ لاستطاع أن يضم حركات أكبر الأجسام في العالم وحركات أصغر الذرات في صيغة واحدة، بشرط أن يكون هذا العقل من القوة بحيث يخضع كل المعطيات للتحليل، فبالنسبة إلى عقل كهذا لن يكون هناك شيء غير يقيني، بل يصبح الحاضر والمستقبل ماثلين أمام ناظريه.»

هذه الصيغة تعبر بوضوح قاطع عن موقف العلم الطبيعي في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر من مشكلة الحتمية. ولكن هل يمكن القول: إنها تؤثر فعلًا في نظرتنا إلى مشكلة الحرية كما اعتقد الكثيرون؟ الواقع أن هذه الصيغة فرضية في أساسها؛ فهي تتحدث عن حالة غير متحققة فعلًا، يوجد فيها عقل محيط بكل صغيرة وكبيرة عن العالم في لحظة معينة من الزمان، وحتى لو قيل: إن مسألة إمكان وجود مثل هذا العقل أو عدم وجوده مسألة ثانوية، وأن أهم ما في الأمر هو المبدأ نفسه في صورته الموضوعية، فينبغي أن نلاحظ أن هذا المبدأ لا يمس الحرية الإنسانية، إنه يؤكد إمكان التنبؤ بكل حوادث الكون. ولكنه لا يتدخل في مسار الإطلاق بقابلية الحوادث للتنبؤ، وسيظل هذا السلوك يسير في مجراه دون أي تدخل خارجي.

ومع ذلك فقد كان التفسير الشائع لصيغة «لابلاس» هو أنها تعني إلغاء الحرية. وكان من المألوف في أوساط المفكرين أن يقال: إن علم الفيزياء يؤكد استحالة الحرية الإنسانية، ومن هنا كان الحريصون على هذه الحرية يتحينون أية فرصة للخلاص من هذا المأزق الذي أوقعتهم فيه فكرة العلية الشاملة في العلم الطبيعي.

وحانت هذه الفرصة في أوائل القرن العشرين، حين حدث انقلاب حاسم في علم الفيزياء، انهارت معه مفاهيم الحتمية والعلية بمعناها التقليدي، وأصبح انعدام التعيين أو اللاتحدد كامنًا في قلب جزئيات العالم المادي، وثبت أن التنبؤ الدقيق الكامل بمسار هذه الجزئيات مستحيل؛ لأن عملية الملاحظة ذاتها تتدخل في إحداث نوع من الانحراف في هذا المسار؛ بحيث تكون هناك قفزات غير متوقعة في دقائق المادة، يستحيل تطبيق مبدأ العلية الدقيقة عليها.

وكما سارع المفكرون من قبل إلى استخلاص نتائج تقضي على الحرية الإنسانية من صيغة لابلاس التي تؤكد الحتمية المطلقة، فقد سارع غيرهم إلى استخلاص نتائج تؤكد أن علم الفيزياء ذاته يؤيد الحرية الإنسانية، بعد أن ثبتت استحالة الحتمية بمعناها التقليدي. وكان من أصحاب هذا الرأي من بين العلماء المشهورين في أوائل القرن العشرين، فهذا أدنجتن Eddington يقول في أحد مؤلفاته: «نستطيع أن نلاحظ أن العلم يسحب بذلك (رأي بإدخال مبدأ عدم قابلية التنبؤ) معارضته المعنوية لفكرة حرية الإرادة، فأولئك الذين يقولون بنظرية حتمية عن النشاط الذهني ينبغي أن يفعلوا ذلك بوصفه نتيجة لدراستهم للذهن ذاته، لا على أساس أنهم بذلك يجعلونه أكثر تلاؤمًا مع معرفتنا التجريبية بقوانين الطبيعة غير العضوية.»٧ وفي كتاب آخر يقول: «إن الثورة في النظرية العلمية — التي طردت الحتمية من الفيزياء الحالية — لها نتيجة هامة هي أنه لم يعد من الضروري افتراض أن الأفعال البشرية محتمة مقدمًا بصورة كاملة، وعلى الرغم من أن باب الحرية البشرية قد فُتِحَ، فإنه لم يُفْتَح على مصراعيه، بل ظهر قبس ضئيل من نور النهار. ولكني أعتقد أن هذا يكفي لتبرير إعادة توجيه نظرتنا إلى المشكلة …»٨ ثم يقول: «وهكذا نستنتج أن نشاط الوعي لا يخالف قوانين الفيزياء، ما دام مبدأ اللاتعين السائد حاليًّا يسمح بوجود حرية تمارس عملها فيه.»٩
وبنفس الألفاظ تقريبًا يقول جيمس جينز James Jeans: «إن الفيزياء الجديدة (فيزياء اللاتعين) قد أظهرت على الأقل أن مشكلتَي: العلية وحرية الإرادة في حاجة إلى صياغة جديدة، وعلى حين أن الفيزياء الكلاسيكية بدت كما لو كانت توصد الباب المؤدي إلى أي نوع من حرية الإرادة، فإن الفيزياء الجديدة لا تفعل ذلك، بل يبدو أنها توحي بأن الباب يمكن أن يُفْتَحَ لو استطعنا أن نهتدي إلى المقبض. إن الفيزياء القديمة قد كشفت لنا عن عالم كان يبدو أقرب إلى السجن منه إلى المسكن. أما الفيزياء الجديدة فتكشف لنا عن عالم يبدو كما لو كان صالحًا لأن يكون مسكنًا ملائمًا للناس الأحرار لا مجرد مأوى للحيوانات»،١٠ ويرى جينز أن مبدأ اللاتعين عند هيزنبرخ يؤدي إلى الاعتقاد بأن «مسامير العالم» قد تفككت قليلًا، ودخل في جهاز العالم عنصر من «الخلخلة»، لا لأن صنعة العالم ناقصة، بل لأن كل شيء لم يكن محكومًا تمامًا منذ البداية؛ بحيث أصبح يترك مجالًا للحرية.١١
هذه الاستنتاجات المبنية على التطورات الحديثة في علم الفيزياء — والتي تستدل من هذه التطورات على وجود الحرية الإنسانية — تقع في أخطاء متعددة لا يصعب على المرء أن يتنبه إليها في وقتنا الراهن، بعد أن انقضى عهد الحماسة المندفعة التي لازمت هذه الكشوف في أول عهدها، وأصبحنا أقدر على تأمل «أزمة» علم الفيزياء المعاصر بطريقة موضوعية. والواقع أن من حق المرء أن يتساءل عندما يصادف هذا الدفاع الحماسي عن الحرية: هل كان مكتوبًا على الحرية الإنسانية أن تنتظر حتى تظهر الفيزياء الجديدة لكي تدعمها؟ وهل كان الإنسان عاجزًا عن إثبات حريته طوال تاريخه السابق؟ لقد كان «منكوفسكي» على حق حين قال باستنكار: «في أيامنا هذه، اعتقد البعض أنه استخلص حجة لصالح الحرية من مفاهيم الفيزياء الحديثة. ولكن الواقع أن الحرية الإنسانية لا بد أن تكون مريضة حقًّا إذا بحثت عن حجج كهذه في هذا الميدان، أليس الأقرب إلى المعقول أن نتساءل، على عكس ذلك، عما إذا كانت هذه المفاهيم تبدو قريبة إلى قلوبنا ومغرية لأنها تسير — بقدر ما يمكنها — في الطريق الذي سارت فيه الحرية الإنسانية؟»١٢

ولا جدال في أن قليلًا من التعمق في بحث هذه الحجج يقنعنا بأنها تخلط — على نحو مؤسف — بين مستويين للظواهر: المستوى الذري من جهة، والمستوى المعتاد في حياتنا اليومية، ومن المعروف أن مشكلة الحرية لا تُثار إلا على المستوى الثاني؛ لأنها تتعلق بالسلوك الإنساني في هذا العالم؛ ومن هنا كان من الخطأ أن نطبق ما نصل إليه من نتائج في مستوى الجزئيات الدقيقة على سلوكنا في العالم اليومي بأبعاده المألوفة، وحتى لو كانت اللاحتمية هي القاعدة في مجال الوجود الأصغر، فإن كل الأنساق الأكبر من ذاك يمكن أن تظل محتفظة بحتميتها حتى بالرغم من أن مكوناتها الصغرى لا تسودها الحتمية.

ولقد عبر «جان نابير» تعبيرًا دقيقًا عن هذا التعجل في تفسير النتائج العلمية تفسيرًا فلسفيًّا، الاعتقاد بأن عدم إحكام البناء العلمي هو خير ضمان للحرية الإنسانية، فقال: «إن من سوء الفهم الواضح لكل ما هنالك من فكر وعقل في حتمية الموضوع أن يخشى البعض سيطرة هذه الحتمية على النفس البشرية، ويعتقد أنه لا يستطيع تجنُّب ذلك إلا بتهيئة الجو للحرية في الإنسان عن طريق كشف نوع من العرضية في قوانين الأشياء. ولكن الخطر الذي تتعرض له الحرية يظل موجودًا عندما يجعلها المرء متوقفة على وجود لا معقولية في موضوع المعرفة؛ ذلك لأن هذه اللامعقولية لا يمكن إلا أن تكون نقطة بداية لتحديد أدق للموضوع. والواقع أنه قد تضافرت محاولات متعددة تلاقت كلها على هدف واحد، هو إضعاف قيمة العلم لكي تتيح من جديد إمكان قيام معرفة فوق العقلية، وعلية قائمة على الحرية، وهما هدفان كانت سيادة الضرورة في عالم الأشياء تحول دون تحقيقهما، وكأن المطلوب هو إيجاد رابطة وثيقة بين علم ناقص تتخلله ثغرات عديدة، وبين حرية لا تجد لها طريقًا إلى العالم إلا بفضل هذه الثغرات، والواقع أن نجاح هذه المحاولات أمر مشكوك فيه، فما هي في الحقيقة سوى تفسير فلسفي متعجل لأزمة للعلم سيخرج منها أقوى مما كان، فلا جدال إذن في أن لا عقلية بعض نظريات المعرفة ستظل في التاريخ شاهدًا على عصر كانت الفلسفة تظن فيه أنها تجد في حالة العلم الذي يعمل على زيادة مرونة مناهجه وسيلة لتبرير لحرية الإنسانية على نحو لا يخلو من المخادعة.»١٣

خلاصة القول إذن؛ إن علم الفيزياء لا يقضي على الحرية حين يؤكد سيادة مبدأ الحتمية في الكون، ولا يدعم الحرية حين يؤكد وجود ثغرات في مبدأ الحتمية. بل إن الحرية الإنسانية تظل على ما هي عليه، سواء أكانت الحتمية أم اللاحتمية هي المبدأ السائد في الطبيعة. وهكذا يبدو أن النظريات العامة في علم الفيزياء لا تؤثر — إيجابًا أو سلبًا — على موقفنا من الحرية الإنسانية. ولكن هل يعني ذلك أن علم الفيزياء لا تأثير له على مشكلة الحرية؟ ألا يحتمل أن تكون لتطبيقات هذا العلم آثارها الهامة على الحرية الإنسانية؟ تلك مشكلة سنُرجِئ الكلام عنها مؤقتًا، وسوف يتبين لنا — عندما نعود إلى معالجتها فيما بعد — أن هذا السؤال لا بُدَّ أن يجاب عنه بالإيجاب.

(ب) علم النفس

لعل قدرًا غير قليل مما قيل في وقت ما عن علم الفيزياء وتأثيره في مشكلة الحرية، ينطبق على علم النفس، وكل ما في الأمر أن البحث في حالة علم النفس ينصبُّ على السلوك الإنساني، لا على الحوادث أو الأفعال الطبيعية، فتقدُّم علم النفس كان يكشف دوامًا عن أنواع جديدة من الحتمية تؤدي — على نحو متزايد — إلى زعزعة الاعتقاد بإمكان وجود أساس للحرية الإنسانية، وهكذا أصبح هناك شعور متزايد بأن نطاق حريتنا يضيق كلما ازداد علم النفس تقدمًا.

والواقع أننا حين نتحدث عن علم النفس؛ فنحن إنما نستخدم هذا اللفظ بمعناه الواسع، الذي يمكن أن تندرج تحته أبحاث فسيولوجية كثيرة كان لها تأثيرها الهام في فهمنا لحقيقة السلوك البشري، فتقدم أبحاث المخ مثلًا يؤدي إلى مزيد من الإيمان بالحتمية في هذا المجال، ويدفعنا إلى الاعتقاد بأن سلوكنا يرتد إلى مجموعة من «الدوائر الكهربائية» التي يمكن فهمها بالعلم البحت، فهل يمكن أن تسمى ظاهرة الفكرة — التي ترجع إلى عوامل كهذه — مظهرًا من مظاهر الحرية؟ إننا «نشعر» حقًّا بأن فكرنا حر. ولكن ألسنا نشعر في كثير من الأحيان بأننا متمتعون بصحة كاملة، في الوقت الذي تكون فيه أجسامنا مصابة بأمراض خفية لا نشعر بها عن وعي؟

إن اتساع نطاق معرفتنا النفسية والفسيولوجية بالأفعال وردود الأفعال البشرية يقنعنا بأن تلك الأفعال التي نعتقد فيها أننا كنا نستطيع أن نسلك على نحو مخالف، أو أنه كان أمامنا بديل آخر غيرها، أضيق نطاقًا مما كنا نتصور. وبعبارة أخرى؛ فهناك نسبة عكسية بين تقدم علم النفس والعلوم المرتبطة به، وبين النطاق الذي تحتله تلك الأفعال التي نسميها حرة، فهل نستطيع أن نطمئن إلى وجود ظاهرة الحرية في الوقت الذي نرى فيه مجالها وهو ينكمش باستمرار؟ ألا يحتمل أن يزداد هذا الانكماش حتى يصل إلى حد التلاشي التام؟

لقد اعتدنا من قبل أن نتصور الفارق بين الأفعال الحرة والأفعال غير الحرة على أساس أن أصل الفعل — في الحالة الأولى — موجود فينا، بينما الفعل في الحالة الثانية يرجع إلى أصل خارج عنا. ولكن تقدم علم النفس قد وضعنا في موقف جديد كل الجِدَّة؛ إذ تبين أن كثيرًا من الأفعال التي نظنها منبعثة من داخلنا آتية في الواقع من خارجنا، والمثل الصارخ على ذلك هو الشخص المنوم مغناطيسيًّا، الذي يأمره المنوِّم بأن يخلع معطفه ويفتح النافذة في ساعة معينة، فيفعل ذلك في الوقت المحدد، وينتحل أعذارًا لفعله، متوهمًا أنه حر، بل ربما ظنه الناس جميعًا حرًّا، إلا عندما ينبئهم الشخص الذي أمره بأنه لم يكن إلا مضطرًّا فيما فعل،١٤ ألا يمكن إذن أن تكون أفعالنا كلها اضطرارية بهذا المعنى؟ ألا يحتمل أن تكون لها أسباب خارجية لا نعلم عنها شيئًا؟ ألا يمكن أن يكون لعوامل البيئة والوراثة تأثير خفي ندركه عن وعي، يجعلنا نسلك على نحو لا نملك له دفعًا، ونحاول في الوقت ذاته تبرير سلوكنا على أساس أننا أحرار؟

لا جدال في أن هذا الاحتمال قائم على الدوام. وفي أن تقدم علم النفس والعلوم السلوكية يزيده ترجيحًا باستمرار. ولكن الذي نود أن ننبه إليه هو أن الألفاظ التي نصوغ بها هذه المشكلة تحتاج إلى إعادة نظر؛ فالمسألة — في جوهرها — ليست في واقع الأمر مسألة وجود عوامل قاهرة ترغمنا على أن نسلك على نحو معين، وإنما هي مسألة كشف أسباب لسلوكنا بعد أن لم نكن نعرف له سببًا، وكما قلنا من قبل، فإن الاهتداء إلى المزيد من الأسباب المتحكمة في السلوك (وهو ما يقوم به علم النفس فعلًا) لا يعني الاهتداء إلى المزيد من عوامل القهر، ليس من الضروري أن تكون هذه الأسباب كلها خارجية أو قهرية. بل إن تقدم علم النفس يتيح لنا أن نصنف ما نكتشفه من أسباب سلوكنا إلى فئتين: الأسباب «الداخلية» والأسباب «الخارجية»، وذلك يمكننا من أن نفرق على نحو أدق بين الأفعال الحرة والأفعال الاضطرارية.

وعلى ذلك فمن الممكن القول — نظريًّا: إنه إذا كانت الحرية لا تتعارض مع السببية الباطنة؛ أي كون الفعل راجعًا إلى عوامل منبعثة من داخل الكائن نفسه، وإنما تتعارض فقط مع وجود أسباب خارجية تقهر الفاعل، فإن التقدم الذي يحرزه علم النفس في الكشف عن أسباب أفعالنا لا يؤدي بالضرورة إلى تضييق نطاق أفعالنا الحرة، بل يؤدي فقط إلى زيادة دقة التمييز بين ما هو حر وما هو غير حر من أفعالنا، وسيظل من حقنا أن نفترض — على المستوى العلمي — أن الفعل الإنساني يفترض الحرية بوصفها شرطًا ضروريًّا؛ إذ إن هذا الفعل يغدو مستحيلًا ما لم يتخذ وعينا موقفًا محددًا إزاء إمكانات متعددة للسلوك تظل متاحة لهذا الوعي.

(ﺟ) علم التاريخ

هل يؤدي التعمق في دراسة علم التاريخ إلى دعم شعور الإنسان بحريته؟ أم إلى إضعاف هذا الشعور؟

لا شك في أن الدراسة الجادة للتاريخ تبدو وكأنها تقتضي على الشعور الإنسان بالحرية؛ فكلما ازداد المرء تعمقًا في معرفة التاريخ؛ بَدَتْ له الأحداث البشرية خاضعة لعوامل طاغية كانت هي المتحكمة في ماضي الإنسان منذ بدايته. صحيح أن البشر خلال حياتهم في عصر معين يخيَّل إليهم أنهم أحرار حرية تامة فيما يقومون به من أفعال، وإذا أحسوا بأن أفعالهم خاضعة لقهر خارجي، فإنهم ينسبون الحرية الكاملة إلى الحاكم الذي أخضعهم لإرادته، أو الزعيم أو القائد الذي استطاع أن يوجههم نحو أهداف لم يكونوا ليتجهوا إليها لو أنهم تُرِكُوا وشأنهم، كلما كان المرء قريبًا من زمان وقوع الأحداث، بدت له هذه الأحداث حرة، وخُيِّل إليه أن كل ما وقع منها كان يمكن ألا يقع. ولكنه حينما يقف على مبعدة منها، أي حين يمضي من الزمن قدر كاف لكي يتأملَ المرء الأحداث الماضية بنظرة شاملة، تبدو له هذه الأحداث خاضعة لأسباب حتمية، ويختفي طابعها العَرضي بالتدريج؛ لكي تحل محله الضرورة الحتمية، وبازدياد التعمق في دراسة التاريخ، والابتعاد الزمني عن وقت الأحداث، لا تبقى في نهاية الأمر إلا التيارات العامة، والتسلسل المحتوم للحوادث، ويظهر كل ما كان يبدو عارضًا في وقت حدوثه على أنه حلقة في سلسلة مترابطة ترابطًا محكمًا.

وهكذا فإن الأحداث التاريخية تبدو أشبه ما تكون بميناء ترى تفاصيله ونبضات الحياة في طرقاته ومبانيه وأنت تعيش في جنباته، حتى إذا ما ركبت سفينة وأخذت تبتعد عن الشاطئ، تلاشت أمامك التفاصيل رويدًا رويدًا، ولم يبقَ من كل هذه الحياة النابضة الصاخبة إلا الخطوط العامة أو الهيكل الخارجي في الأفق البعيد، ومن موقع الابتعاد هذا تبدو حياة البشر محكومة بقوانين قد تختلف بعض تفاصيلها باختلاف ميادين تطبيقها. ولكنها في نهاية الأمر سارية على السلوك الإنساني عبر التاريخ بلا تخلف.

وإذن فكلما اتسعت نظرتنا إلى تاريخ البشر وامتدت عبر فترات زمنية طويلة، تكشَّفت لنا الخيوط الخفية التي تربط بين الحوادث في خطوط قد يراها البعض مستقيمة، وقد يراها غيرهم دائرية أو متعرجة أو ملتوية. ولكنها على أية حال موجودة دوامًا، وكلما ازدادت هذه الخيوط الخفية تكشفًا؛ ازددنا اقتناعًا بأن العوامل المسيطرة على تاريخ البشر ثابتة، وتضاءل بالتدريج دور الشخصيات الفردية مهما تكن عبقريتها؛ لكي تحل محلها قوى متحكمة تعلو على الأفراد.

ولكن هل يعني ذلك أن دراسة التاريخ تفضي إلى اليأس من حرية البشر؟ وهل يؤدي بنا التعمق في هذه الدراسة إلى أن نقف مكتوفي الأيدي ونتأمل في يأس هذه العوامل التاريخية الغالبة على القوى الفردية، وهي تقود مسيرة البشر الذين لا يملكون لها دفعًا؟

إن التاريخ — قبل كل شيء — من صنع الإنسان، ومهما يكن من حتمية تلك العوامل التي تطغى على القوى الفردية، فإنها أولًا وأخيرًا عوامل بشرية، ولم تكن قوانين الماضي حتمية إلا لأن البشر أرادوها — بطريقتهم الخاصة في السلوك — أن تكون كذلك، وإذا كانت أفعالنا الماضية قد خرجت تمامًا عن نطاق إرادتنا، (أي أصبحت «في ذمة التاريخ»، كما يقول التعبير الشائع) فإن أفعالنا في المستقبل ما زالت خاضعة لهذه الإرادة. صحيح أننا نصور التاريخ في المستقبل بنفس صورة التاريخ في الماضي. ولكن هذه طريقة في الكلام تنطوي على قدر غير قليل من التجاوز؛ لأن التاريخ هو الماضي لا المستقبل، وكم من الفلسفات كانت تؤكد حتمية القوانين التاريخية المستمدة من ماضي البشر، لا لكي تسد الطريق أمام حرية الإنسان، بل لكي تزيد هذه الحرية تدعيمًا، فلو ظلت القوانين الحتمية التي استُخْلِصَت من الماضي سارية على المستقبل لكان في وسعنا — مع ذلك — أن نستغل هذه القوانين أو «نركب موجتها»، من أجل التحكم في مستقبلنا على نحو أفضل. أما إذا كان مجال تغيير هذه القوانين مفتوحًا في المستقبل؛ فعندئذٍ تكون دراسة الماضي وسيلة لكي نستخلص منه دروسًا تعيننا على تجنب ما وقعنا فيه من أخطاء.

مجمل القول إذن إن دراسة التاريخ — التي تبدو لأول وهلة متعارضة مع حرية الإنسان — تفتح أمام هذه الحرية مجالات جديدة، وتعصم الإنسان في بحثه عن مستقبل أفضل من الوقوع في أخطاء الماضي، وتقدم إليه من خلاصة التجارب الماضية ما يتيح له استغلال فاعليته على أفضل نحو في سبيل تحقيق المزيد من الحرية.

١  Fromm Erich. The Fear of Freedom (Routledge Paperbacks, 1960) pp. 27, 28.
٢  الأخلاق Ethies الباب الثاني، ملحوظة القضية ٣٥.
٣  Hampshire Stuart: Thought and Action (Chatto and Windus 1960), p. 177.
٤  Stebbing L. Susan: Philosophy and the Physicists. Dover Paperrbacks 1958. pp. 247–249.
٥  Minkowski E., dans: Enquéte sur la liberté, paris (Hermann), 1953, p. 151.
٦  Farrer Austin. The Freedom of the Will. Scribner, New York, 1958, p. 254.
٧  The Nature of the physical World. Ann Arbor Paperbacks, 1958, p. 295.
٨  New Pathways in Science. Ann Arbor, 1959, p. 87.
٩  المرجع نفسه، ص٩٨.
١٠  Physics and philosophy. Ann Arbor, 1958, pp. 215-216.
١١  The Mysterious Univeres., p. 27.
١٢  Minkowski E., Dans (Enquéte sur la liberté) op. cit., p. 154.
١٣  Nabret Jean: L’Expérience intérieuere de la Liberté. Paris P.U.F, 1924. pp. 263-264.
١٤  Wilson John: Reason & Morals, Cambridge U. p. 1961. p. 59ff.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤