الحقيقة الفنية

عرفت الإنسانية منذ أقدم عصور الفكر ثلاث قيم كانت تعدها أهدافًا ينبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيقها في نفسه وفي العالم المحيط به بكل ما يملك من طاقات: هي قيم الحق والخير والجمال. وكان هذا التقسيم الثلاثي للقيم الإنسانية الكبرى مبنيًّا على نظرة متكاملة إلى طبيعة الإنسان الروحية، التي لا تكتمل مقوماتها إلا إذا كرَّس الإنسان حياته من أجل اكتساب الحقيقة في العلم، وتوخَّى الخير في التعامل مع الغير، وبحث عن الجمال في الطبيعة والفن، وهكذا كانت هذه القيم الثلاث تناظر ثلاثة أنواع رئيسية من النشاط الروحي للإنسان: العلم والأخلاق والفن، وإذا كانت ضروب النشاط هذه جديرة بسعي الإنسان واهتمامه حتى تتكامل شخصيته، فإنها في الوقت ذاته تعبر عن ثلاثة مسالك متباينة، لكلٍّ منها طابعه الخاص، مع تضافرها جميعًا في تكوين شخصية الإنسان. وهذا معناه أن البحث عن الحقيقة شيء، والبحث عن الجمال شيء آخر، وأن الإنسان إذا كان يستهدفهما معًا، فإنه يسلك لكلٍّ منهما طريقًا مستقلًّا، لا يكون فيه مجال للالتقاء بينهما.

هكذا تطرح المشكلة تقليديًّا على أساس أن الحقيقة لا تتداخل مع الفن، وأن كليهما ضرب مستقل من النشاط الروحي للإنسان، ولو أننا حلَّلنا طبيعة كل نوع من نوعَي النشاط هذين لوجدنا مبررات قوية لهذا الفصل التقليدي بين الحقيقة والفن؛ فحين نمعن النظر في طبيعة البحث عن الحقيقة، ونقارنه بالبحث عن الجمال، نستطيع أن نجد بينهما فوارق أساسية، سوف أبدأ مقالي هذا بالإشارة إلى أهمها:

•  حين نبحث عن الحقيقة نتجنب — قدر استطاعتنا — استخدام الخيال. بل إن الحقيقة والخيال — في تعبيراتنا الشائعة — ضدان لا يجتمعان وحتى حين نقول: «إن الحقيقة قد تكون أغرب من الخيال.» فإن هذا القول — الذي يبدو ظاهريًّا أنه يقرب الحقيقة من الخيال في مجال الغرابة والخروج عن المألوف — يؤكد بطريقة ضمنية وجود تضاد أساسي بينهما؛ على أن الخيال هو دعامة الفن، وهو المَلَكة الأساسية التي نمارسها فيه. وفي مقابل ذلك فإننا — في سعينا إلى الحقيقة — نستخدم ملكة الاستدلال العقلي، وإذا استخدمنا الحواس في المشاهدة والملاحظة فإنا نحرص على أن تكون حواسنا، أو امتداداتها في آلات الرصد أو التكبير أو التصغير، مطابقة للواقع وملتزمة به التزامًا كاملًا، ولو فعل الفنان ذلك لضاع منه كل ما هو مميز له؛ إذ إن الالتزام بالواقع — الذي هو فضيلة في حالة السعي إلى الحقيقة واكتساب العلم — يغدو مظهر نقص وعلامة ضعف حين يكون هدفنا هو خلق عمل فني يتسم بالجمال؛ فالفنان صاحب خيال واسع قبل كل شيء، أو لنقُلْ على الأصح: إن الحد الفاصل عنده بين الخيال والواقع يختفي لكي يحل محله تداخل وتشابك بينهما، فهو ينظر إلى الواقع بعين الخيال، ويضفي على صوره ورؤاه الخيالية كيانًا واقعيًّا، ويجسم أخيلته كما لو كانت حقائق فعلية تروح وتجيء على مسرح الحياة.

ويترتب على الفارق السابق أن سعي الإنسان إلى الحقيقة يجعله مقيدًا وملتزمًا بما هو موجود، على حين أن سعيه إلى الجمال من خلال الخيال هو سعي حر طليق؛ فالعالم الذي يبحث عن حقائق الأشياء لا بد له أن يخضع لنظام صارم دقيق، يتخلى فيه عن أهوائه وعن ميوله الذاتية لكي يدرس الظواهر كما هي، لا كما يريدها أن تكون. وبعبارة أخرى: فإنه يخضع عقله لطبيعة الظاهرة التي يدرسها، ويدربه على أن يراها على ما هي عليه؛ بحيث يكون قانون الظاهرة نفسها هو هدفه ومبتغاه، وعلى العقل أن ينحني دائمًا أمام الضرورة الحتمية الكامنة في الأشياء.

أما الفنان فقانونه الوحيد هو الحرية، وهو يتعمد أن يخالف النظام الفعلي للأشياء ويصورها على نحو مغاير لما هي عليه بالفعل. وربما خلق لنفسه — في مجال فني معين — عالمًا خاصًّا به، يخالف كلَّ مَن هو موجود في عالم الطبيعة؛ فالفنان الموسيقي مثلًا يخلق لنفسه عالمًا خاصًّا من الأصوات المتآلفة، عن طريق الآلات الموسيقية، التي تصدر عنها أصوات لا وجود لمثلها في الطبيعة، ويتحرر بذلك من قيود الصوت الطبيعي، الذي هو عادةً خشن محدود، يسير على وتيرة واحدة؛ لكي يخلق لنفسه عالمًا كاملًا من الأصوات المتآلفة، ذات الإمكانات الهائلة، ويتحرك في هذا العالم بحرية تامة يتجاوز فيها كل ما تقدمه إليه الطبيعة.

وبالمثل فإن الشاعر أو الروائي حين يمسك بقلمه وأمامه صفحة بيضاء لم يبدأ بعدُ في تدوين شيء فيها، يكون في موقفه هذا رمزًا لحرية الفنان الكاملة؛ فالورقة أمامه خالية من كل شيء، وهي لا ترغمه على أن يكتب فيها شيئًا بعينه. بل إن له الحرية التامة في أن يكتب أي شيء، أو في ألا يكتب شيئًا، إنه يستطيع أن يخلق على الورق عالمًا كاملًا من صنعه هو، دون أن يقيده أو يحد من حريته شيء، فهو في هذا المجال السيد الأوحد الذي لا يخضع لقانون، وشتان ما بين موقفه هذا وموقف العالم الذي تقيده قوانين الطبيعة الثابتة، ولا يتحرك عقله إلا في عالم من الضرورة والحتمية لا يملك إلا أن يعبر عنه كما هو دون أن يضيف إليه من عنده شيئًا.

•   في هذا العالم الذي تسوده الضرورة الشاملة، يتعين على من يسعى إلى كشف الحقيقة أن يكون موضوعيًّا في تفكيره، موضوعيًّا في نظرته إلى الظواهر التي يبحثها؛ فالعالم الذي ينشد الحقيقة ينبغي عليه أن يتخلَّى عن أهوائه وميوله الذاتية. بل إنه قد يجد لزامًا عليه أن يسير في طريق «مضاد» لذلك الذي يتجه ميله إليه، وكم من عالم تخلى عن فرض أثير لديه كوَّنه بعد مشقة وجهد استغرق منه سنوات عديدة من البحث والتفكير؛ لأن «واقعة» بسيطة ظهرت أمامه وكذَّبت هذا الفرض، ولو ترك نفسه على سجيتها لتجاهل هذه الواقعة العنيدة كيلا يتخلى عن نتاج عمله الشاق. وهذا بالفعل ما قد يفعله عالم ضئيل الشأن. أما العالم الكبير فإنه يرفض أن يتجاهل ما هو مضاد لتفكيره، بل يوليه اهتمامًا كبيرًا، ولا يجد غضاضة في أن يراجع خطواته السابقة كلها، ويبدأ طريقه الشاق من جديد إذا تأكد أن الفرض الذي كوَّنه يتعارض مع أبسط الوقائع، وهكذا يعود العالم نفسه على الموضوعية، ويتخذها قاعدة أساسية لأخلاقه العلمية.

وبالمثل فإنه يتخذ موقفًا موضوعيًّا إزاء الظواهر التي يبحثها، والتي توجد خارجه، فهذه الظواهر كلها في نظره متساوية، بمعنى أنه لا يقحم تفضيلاته الشخصية وميوله الذاتية عند بحثه عن حقيقة الأشياء، ولو وُجِدَ شخص يبدي اهتمامًا خاصًّا ببحث نبات معين؛ لأنه يفضل لون زهرته مثلًا، لما كان في سلوكه هذا عالمًا بالمعنى الصحيح؛ فالبحث عن الحقيقة يستلزم وضع الظواهر على قدم المساواة في صف أفقي لا تعلو فيه واحدة على الأخرى إلا بقدر ما تفيد في الكشف عن القانون العام الذي يحكمها.

وعلى العكس من ذلك نجد الفنان — بالقياس إلى العالم — منحازًا عاطفيًّا وربما هوائيًّا، وكم من فنان عظيم — وخاصة في عصرنا الحاضر: عصر أجهزة الإعلام المنتشرة على نطاق عالمي — يفرض على الناس نزواته الخاصة ويتناقلها هؤلاء الناس دون أي استياء، وكأنها جزء مما يدينون به لفنه العظيم، وبالمثل فهو في معالجته لموضوعاته لا يضعها أبدًا على قدم المساواة، بل إنها تتخذ أمامه ترتيبًا رأسيًّا، ويكون لبعضها عنده أفضلية مؤكدة على البعض الآخر. وهكذا يحل «التفضيل» في كلِّ سعي إلى الجمال الفني محل «الموضوعية»، وتختفي المساواة بين الظواهر؛ لأن الفنان بطبيعته منحاز. بل إن متذوق الجمال ذاته يتخذ من «التفضيل» معيارًا أساسيًّا، فهو لا يقيس الأعمال الفنية بالمقاييس المتعارف عليها في العلم، وإنما يضعها في ترتيب هرمي، ولا يقبل أي اعتراض على هذا الترتيب؛ لأن الأذواق — في رأي الكثيرين — لا مقياس لها، وما يفضله الواحد قد لا يكون مفضلًا عند الآخر، دون أن يكون لأي منهما الحق في أن يفرض تفضيلاته الخاصة على الآخر.

•  ولعل أحدًا لا ينكر أن سعينا إلى الحقيقة لا يصل إلى غايته إلا إذا استطعنا أن نستخلص من الظواهر قانونها العام؛ فالعالم الذي ينشد معرفة خصائص السوائل — مثلًا — لا يهمه هذه الكمية المحددة من السائل أو تلك، وإنما يتجه جهده إلى استخلاص نتائج عامة عن طبيعة السوائل كلها، كأن يعرف — على سبيل المثال — لماذا هي مرنة على حين أن الجوامد صلبة؟ ولماذا تنتشر فيها الحرارة بشكلٍ متساوٍ؟ إلخ، ولقد أدرك المفكرون والفلاسفة هذه الحقيقة منذ أقدم العصور، فقال أرسطو كلمته المشهورة: «لا علم لا بما هو عام»، وظل من السمات الأساسية للعلم منذ ذلك الحين أن العالم يترك الحالات الفردية والجزئية والصفات العرضية جانبًا، ويستبقي من الظواهر ما هو مشترك بينها. ولا جدال في أن هذا العنصر المشترك سيكون شيئًا أقرب إلى التجريد؛ إذ أن القانون العام للظاهرة لا بُدَّ أن يكون ذا طبيعة مجردة، تتخذ في أغلب الأحيان صبغة رياضية.

وعلى العكس من ذلك نرى الجمال الفني لا يتمثل في شيءٍ فردي ملموس؛ فالعمل الفني يصور موضوعًا معينًا، وحتى لو كان ذلك العمل ينتمي إلى الاتجاه التجريدي المعاصر، فإن هذا التجريد يتخذ بدوره صبغة ملموسة، بدليل أنه يعبر عن نفسه من خلال خطوط أو أشكال أو مساحات لونية محددة ندركها بحواسنا.

وهكذا تختلف الحقيقة عن الجمال في أن مقر الحقيقة هو العقل، على حين أن الجمال يتمثل فيما ندركه بحواسنا؛ أي في موضوع محدد ملموس يقع خارج الإنسان.

وأخيرًا، فإن العالم الباحث عن حقيقة الأشياء يجد نفسه مضطرًّا إلى القيام بتحليل لموضوعات بحتة وتجزئتها إلى عناصرها الأولية، كيما تصبح مفهومة على نحو أفضل؛ فالظواهر التي يبحثها العالم لا تظل على ما هي عليه في الطبيعة، وإنما يقوم بتحليلها عقليًّا أو ماديًّا على نحو تفقد معه طابعها الأصلي، وقد يصعب علينا أن نتعرف عليها بعد أن فقدت وحدتها الأصلية، وأصبح الكل المتماسك مجموعة من العناصر المفككة. غير أن هذا التفكيك والتجزيء شيء لا بد منه لكي يتمكن العالم من فهم الظواهر المعقدة المتشابكة؛ إذ إن تحويل الشيء المعقد إلى بسائطه هو الذي يتيح معرفة تركيبه بدقة، والوصول إلى القانون المتحكم فيه.

وربما كانت هذه الصفة هي أكثر الصفات تمييزًا للحقيقة العلمية عن الجمال الفني؛ وذلك لأن الفنان لا يعمد أبدًا إلى التحليل، وهو لا يسعى أصلًا إلى الفهم أو كشف القانون، وإنما الفن — قبل كل شيء — خبرة و«تجربة». وفي هذه التجربة الفنية لا نتذوق الجمال إلا إذا تركنا أنفسنا نستمتع بالعمل الفني دون تحليل أو تشريح. ولقد عبر الشاعر الألماني العظيم «جوته» عن هذه السمة المضادة للتحليل في التجربة الفنية بقوله: «إن كل نظرية شاحبة. أما وجه الحياة فناضر مفعم بالحيوية.» ويقترب من هذا المعنى القول المشهور: «إن كل تشريح قتل.» والمقصود هنا ليس المعنى المباشر، الذي يتعين علينا فيه أن نقتل الضفدعة مثلًا قبل أن نقوم بتشريحها، بل المعنى غير المباشر، الذي يؤدي فيه التحليل العلمي إلى تشويه التجربة وضياع مذاقها المميز، فلكي تستمتع بالجمال الفني حقًّا ينبغي أن تترك هذا الجمال يسري خلالك ويؤثِّر في أعماقك ويغمرك من جميع الجوانب، وينبغي أن تستغرق في تأمله وفي تذوقه استغراقًا تامًّا، أما إذا بدأت تحلل تجزئ وتشرح، فسوف يضيع منك قدر كبير من تجربة الجمال. صحيح أن الناقد يقوم بمثل هذا التحليل والتشريح. ولكنه يفعل ذلك في وقت ويستمتع بالعمل الفني في وقت آخر، وحتى لو كان من بين أولئك الذين يقومون بالأمرين معًا في وقت واحد، فإنه هو ذاته يعترف بأن هذه مقدرة لا تتاح إلا لقلة قليلة من البشر، وبأن الأغلبية العظمى من متذوقي الفن لو جمعوا بين الاستمتاع والتحليل في وقت واحد؛ لفقدت تجربتهم الجمالية قدرًا كبيرًا من صدقها وأصالتها.

إن الاستمتاع بالجمال الفني هو بعبارة أخرى: واحد من تلك التجارب التي لا يعبر عنها باللغة إلا مجازًا، على سبيل التقريب فحسب، فهو تجربة فريدة لا تتكرر، ولا يستطيع المرء أن ينقلها إلى الآخرين بسهولة؛ ومن هنا كان من أهم سمات التجربة الجمالية كونها شخصية ذاتية، أما الحقيقة العلمية فلا غناء لها عن لغة تعبر عن نفسها من خلالها. وقد تكون تلك هي اللغة الكلامية المألوفة، أو قد تكون لغة خاصة اصطُنِعَت لأغراض علمية كاللغة الرياضية أو أية لغة رمزية أخرى. والمهم في الأمر أن تلك الحقيقة لا تنقل إلى الآخرين إلا من خلال اللغة، ولما كانت الحقيقة العلمية بطبيعتها قابلة للتداول، ولا بُدَّ لكل عقل يفهمها أن يقتنع بها ويتبناها كما لو كانت حقيقته الخاصة، فإن وجود نوع من اللغة يُعَدُّ واحدًا من المقومات الرئيسية للحقيقة العلمية. أما التجربة الفنية فشخصية ذاتية، لا يحس مذاقها كاملًا إلا صاحبها وحده، ويعجز عن نقلها كاملة إلى الآخرين.

•••

هكذا تكشف لنا المقارنة بين سعي العالم إلى كشف الحقيقة وسعي الفنان إلى الاستمتاع بالجمال عن وجود فوارق أساسية بين طبيعة قيمتَي الحق والجمال، وهي فوارق تبرر الرأي الشائع الذي ينظر إليهما على أنهما تمثلان مجالين منفصلين لا سبيل إلى الالتقاء بينهما.

ولقد كان هذا هو ما حدث بالفعل خلال التاريخ؛ إذ إن الطريق الذي سار فيه العلم ظل منفصلًا عن ذلك سار فيه الفن، ولم يحدث بينهما التقاء إلا في الحالات التي حاول فيها الفن أن يتخذ من العلم موضوعًا له، كما في روايات الخيال العلمي Science Fiction أو الموضوعات التي أوحى بها ارتياد الفضاء للفانين في مجالات متعددة، وهي حالات نستطيع أن نعدَّها هامشية محدودة الأثر، أو في الحالات التي حاول فيها العلم أن يخوض ميدان الإبداع الفني لكي يدرسه دراسة منهجية منظمة، وهي حالات أهم بكثير، وتستحق أن نتوقف عندها قليلًا.

ذلك لأن أهم ما يتصف به الإنسان ويتميز عن سائر الأحياء هو أنه مخلوق مبدع، وسواء فُهِمَت كلمة الإبداع هنا بالمعنى الضيق، الذي ينصبُّ على الخلق الجديد في ميادين الفن والعلم، أو بالمعنى الواسع، الذي يتعلق بأي تجديد يدخله الإنسان على جوانب نشاطه مهما كان محدودًا، فإن الأمر المؤكد هو أن الإبداع هو الذي أتاح للنوع الإنساني — على وجه التحديد — فرصة الارتقاء والتقدم المستمر، وهو الذي أنقذ الإنسان من المصير الذي آلت إليه الأنواع الحيوانية كلها، وهو التجمد عند حدود وظائف معينة تؤدي إلى نحو آلي بحت، دون أي تنويع أو تجديد ودون أية قدرة على تطوير هذه الوظائف أو نقل الخبرات المكتسبة منها إلى الآخرين. وهكذا فإن العلم حين يحاول الالتقاء بالفن من خلال دراسة عملية الإبداع، إنما يقترب في الواقع من المنبع الأصيل للكائن البشري، ويستكشف آفاق العملية التي يتميز بها الإنسان بما هو إنسان. بل إنه يستكشف جذوره العميقة (أعني جذور العلم ذاته)؛ لأن الإبداع له دوره الحاسم في الكشف العلمي بدوره.

على أن الدراسة العلمية للإبداع ما زالت في أولى مراحلها. وليس لنا أن ندهش على الإطلاق حين نجد العلم يُرجئ دراسة هذا الميدان العظيم الأهمية ولا يبدؤها إلا منذ عشرات قليلة من السنين؛ ذلك لأن هذه من أعقد الدراسات التي يتصدى لها العلم، إن لم تكن أعقدها على الإطلاق، فهي تتعلق بذلك الميدان المحاط بالأساطير والمغلف بالغموض؛ أعني بتلك القوة الخفية التي بفضلها يتمكن أشخاص معينون من أن يتجاوزوا مستوى البشر الآخرين، ويخلقوا شيئًا جديدًا يحشدون له طاقتهم الروحية ما يعجز عنه سائر الناس. هذه القوة التي لم تملك العصور السابقة إلا أن تعترف بعجزها عن فهمها، فأطلقت عليها اسم «العبقرية» أو «الموهبة»، وصورت من يمتلكها بأنه شخص به مس من «الشيطان» أو على أحسن الفروض بأنه شخص «ملهم» — وكلها ألفاظ تخفي بسذاجة جهلنا بالظاهرة نفسها — هذه القوة الشديدة التعقيد أصبحت الآن موضوعًا لدراسات علمية ينبغي أن نعترف لها بالفضل، ونمتدح فيها تلك الشجاعة التي أتاحت لها أن تقتحم هذا الميدان المستعصي على الفهم، وإذا كانت هذه الدراسات لم تُسفر حتى الآن عن الكثير، ولا يتوقع لها أن تصل في المستقبل القريب إلى نتائج مدوية، فإن هذا لا يمنع من الاعتراف بالأهمية القصوى لتلك المحاولات التي يسعى بها العلم إلى الالتقاء بالفن، وهي محاولات ستكشف أهم أسرار الإنسان حين يُقدَّر لها النجاح.

على أننا إذا استبعدنا محاولات الالتقاء هذه — التي هي في أحد جانبيها محدودة النتائج، وفي جانبها الآخر ما زالت تحبو في أول الطريق — فسوف نجد الفن والعلم يسيران في طريقين منفصلين. وهذا التباعد راجع إلى العوامل التي عددناها من قبل، التي كشفت لنا عن وجود اختلافات أساسية في طبيعة هذين النوعين من النشاط الإنساني.

•••

ولكن هل صحيح أن الاختلافات بين السعي إلى الحقيقة العلمية والسعي إلى الجمال الفني أساسية إلى الحد الذي يتصورها به الناس عادةً؟ وهل هي من الحدة بحيث لا تسمح لنا بالجمع بين الطرفين والكلام عن «حقيقة فنية»؟ إن البحث المتعمق للفوارق التي أوردناها في مستهل هذا البحث، يكشف لنا عن وجود نقاط تشابه لا يستهان بها، بين الحقيقة العلمية والجمال الفني، والواقع أننا حين أكدنا هذه الفوارق في البداية إنما كنا نعرض وجهة النظر الشائعة في الاختلاف بين العلم والفن، وعلى الرغم من أن وجهة النظر هذه صحيحة إلى حد بعيد، فمن الممكن بمزيد من التفكير المتعمق أن نعيد تفسير كثير من عناصر الاختلاف السابقة؛ بحيث نهتدي إلى نقاط التقاء هامة بين هذين الميدانين.

ولسنا في حاجة — لكي نثبت وجود نقاط الالتقاء هذه — إلى تناول عناصر الاختلاف السابقة واحدًا بعد الآخر لكي نهتدي إلى ما يمكن وراء كلٍّ منها من جوانب الالتقاء، بل يكفينا لإثبات وجهة نظرنا أن نشير إلى بعض من أهم هذه العناصر ونعيد تفسيرها في ضوء فكرة التشابه بدلًا من فكرة الاختلاف.

فقد ذكرنا من قبل أن السعي إلى الحقيقة لا يترك مجالًا للخيال، الذي هو ألزم اللوازم في الفن، وأن العالم يسير في طريقه مقيدًا بالواقع وقوانينه الصارمة التي لا يملك إلا أن يخضع لها. ولكن هل القول: إن الحقيقة العلمية لا مجال فيها للخيال، هو قول صحيح على نحو مطلق؟ الواقع أن العلماء الكبار أنفسهم هم أول من يشهدون بأن البحث عن الحقيقة يقتضي من الخيال قدرًا قد يقترب — في بعض الأحيان — مما يحتاج إليه الفنان؛ فالنظريات الكبرى في العلم لم تكن مجرد تقنين وتدوين للمشاهدات والملاحظات العلمية فحسب، وكل كشف علمي كبير كان أكثر من مجرد تلخيص للوقائع المشاهدة؛ إذ إن عقل العالم يقفز — بعد مرحلة جمع الوقائع وتحليلها — لكي يقدم فرضًا جزئيًّا يحتاج إلى قدرٍ كبيرٍ من الخيال. صحيح أن هذا الفرض لا بد أن يكون له ما يبرره — ولو بطريق غير مباشر — في الوقائع المشاهدة. وصحيح أن العالم يسعى إلى تحقيق فرضه هذا عن طريق إجراء تجارب حاسمة تثبت صحته أو خطأه، ولا يقبل أن يظل فرضه هذا مجرد فكرة خيالية غير محققة. ولكن المهم في الأمر أن ملكة الخيال تتدخل في مرحلة حاسمة من مراحل الكشف العلمي، وتقوم بدور أساسي في الوصول إلى الحقيقة العلمية؛ ومن هنا كان إخفاق تلك الفلسفات التي تصور العلم بأنه مجرد تكديس للوقائع وتحقيق لها واستخلاص مباشر لما توحي به المقارنة بين هذه الوقائع؛ فالعالم الكبير — الذي يتوصل إلى النظريات العلمية الحاسمة — غالبًا ما يكون من أصحاب الخيال الخصب، إلى جانب كونه ملاحظًا دقيقًا ومفكرًا عميقًا، وهو لا يفهم الواقع إلا عن طريق تجاوزه بالخيال.

ولو تأملنا تفاصيل الدور الذي يقوم به الخيال في كشف الحقيقة العلمية؛ لوجدنا أن طريقة عمل الخيال مشابهة لما يحدث في ميدان الفن؛ فالفكرة الجديدة لا تظهر إلا بعد إعداد وتهيئة طويلة في ذهن العالم أو الفنان، وهو يظل في حالة انشغال بموضوعه وتفكير متعمق فيه، وبعد ذلك قد تأتي الفكرة المنشودة على شكل إلهام مفاجئ على أن هذا الإلهام لا ينبثق إلا في أرض مهيأة له سلفًا عن طريق الإعداد والتفكير والاهتمام المركز، تلك سمة لا ينكر أحد أنها من أخص سمات الإبداع الفني في الوقت ذاته.

ولنتناول عنصرًا آخر من عناصر الاختلاف بين العلم والفن، وهو عنصر الضرورة والحرية، فلو تعمقنا بحث هذا الموضوع لوجدنا أننا نستطيع تعديل الحكم السابق الذي ذكرنا فيه أن الفنان يتحرك في عالم من الحرية المطلقة؛ إذ إن هذه الحرية المطلقة ترتبط، في الواقع، بتصور تقليدي للفنان، كان سائدًا في العصر الرومانتيكي بوجه خاص. أما في عصرنا الحاضر فقد أحاط الالتزام بالفنان من كل جانب، فمن حيث الموضوعات التي يعالجها الفنان نجده قد أصبح «ملتزمًا»، بمعنى أنه ينشغل بقضايا معينة — قد تكون قضايا اجتماعية أو إنسانية — يأخذ على عاتقه في علمه الفني أن يدافع عن وجهة نظر معينة فيها، وعلى الرغم من أن هذا الالتزام لا يُفْرَض على الفنان — في معظم الأحيان — بقوة خارجية قاهرة، بل يفرضه هو نفسه على ذاته بإرادته، فإن وجوده يدل على أن الفنان الذي يتحرك في عالم الحرية المطلقة قد أصبح في عصرنا الحالي أسطورة بالية، ومن ناحية أخرى فإن الفنان — في كثير من الأحيان — يفرض على نفسه نظامًا صارمًا من التدريب ومن العمل الشاق من أجل إتقان «صنعته»؛ بحيث أصبح الفنان «التلقائي» الطليق الذي يغرد بحرية كالعصفور أسطورة بدوره. وهكذا اكتشفنا في عصرنا الحاضر أن الحرية المطلقة لا تصنع فنانًا رفيع المستوى، وأن هناك أنواعًا من «الضرورة» تتحكم في الفنان، قد لا تختلف كثيرًا عن تلك التي تتحكم في العالم.

ومن ناحية أخرى فإن الضرورة التي تتحكم في العالم قد خفَّت حدتها إلى مدى غير قليل في العلم المعاصر؛ إذ إن الحتمية الدقيقة قد أرخت قبضتها عن العلوم، واستطاع العلماء أن يصلوا إلى مجموعة من أهم اكتشافاتهم عن طريق الخروج عن إطار البديهيات الحتمية التي كان العلم — فيما سبق — يعدها أمورًا غير قابلة للمناقشة. ومن المؤكد أن حرية العالم في هذا التحدي لم تكن مطلقة، بل كانت مقيدة باعتبارات تنتمي إلى صميم بحثه العلمي. ولكن الشيء الذي لا يملك المرء إلا أن يعترف به هو أن التصور التقليدي «للضرورة» التي تتحكم في فكر العالم وسلوكه قد تغير كثيرًا، وأصبح العلم في الآونة الأخيرة يسمح بقدر من الحرية يتيح للعالم أن يبني أنساقًا فكرية جديدة تتسم بالتماسك في داخلها، وإن كانت ترتكز على أسس شاركت في وضعها — جزئيًّا على الأقل — حرية العالم وقدرته على الخروج عن الضرورة المحتومة التي كانت سائدة في نظرة العصور السابقة إلى العلم.

ومجمل القول: إن الشُّقَّة بين الحقيقة العلمية والجمال الفني يمكن أن تضيق كثيرًا، حين نكتشف أن العلم ليس مقيدًا إلى الحد الذي نتصوره عادةً، وأن الفن ليس حرًّا إلى الحد الذي يبدو عليه لأول وهلة.

•••

هناك إذن أرض مشتركة بين الحقيقة والجمال، على الرغم من كل ما يفرق بينهما من الاختلافات، ووجود هذه الأرض المشتركة معناه أننا نستطيع أن نتحدث عن «حقيقة فنية» لها سمات مميزة، تلتقي بالحقيقة العلمية في جوانب وتفترق عنها في جوانب أخرى.

ولنلاحظ — بادئ ذي بدء — أن الفن يمكنه في أحوال كثيرة أن يُقدم إلينا حقائق مباشرة، فالعمل الفني يمكن أن يكون — في حالات معينة — شاهدًا على عصره، ويمكن أن يستخدم «وثيقة» نعرف بواسطتها الكثير عن هذا العصر، ولنذكر في هذا الصدد أن قدرًا كبيرًا من معلوماتنا عن العصور البدائية مستمد من أعمال فنية تركها البدائيون على جدران كهوفهم، ومنها استخلص علماء الحضارات القديمة كنزًا من المعلومات عن حياة الإنسان البدائي. ولعل أحدًا لا يستطيع أن يُنكر الدور الذي تقوم به أشعار «هوميروس» وغيرها من الآثار الفنية اليونانية في تعريفنا بالعالم اليوناني القديم. وفي استطاعتنا أن نجد أمثلة مشابهة في تاريخنا العربي؛ إذ إن الشعر الجاهلي — مثلًا — مصدر عظيم القيمة من المصادر التي يُعْتَمَد عليها في معرفة تاريخ العرب القديم وعاداتهم ونظمهم الاجتماعية … إلخ. وفي أحيان غير قليلة استطاع العلماء — عن طريق التحليل الدقيق لأعمال فنية — أن يملئوا فراغات كبيرة في معرفتهم بعصور ماضية لا تقدِّم إلينا أنواع الوثائق الأخرى معلومات كافية عنها.

وإذن فالفن قادر على أن يزودنا بحقائق مباشرة. ولكن هذا ليس على التحديد ما نقصده حين نتحدث عن «حقيقة فنية»، وإنما نقصد بهذا التعبير نوعًا آخر من الحقيقة، فهناك كثير من الناس يقولون: إنهم تعلموا الكثير عن الحياة والعالم والإنسان من خلال أعمال فنية كشفت لهم «حقائق» لم يكونوا متنبهين إليها. وربما ذهب البعض إلى حد القول: إنهم تعلموا من الفن أكثر مما تعلموا من العلم. هذا هو نوع الحقيقة الفنية الذي نود — فيما تبقى من هذا المقال — أن نَعْرِضَ لأهم خصائصه.

وأول ما يلاحَظ على هذه الحقيقة أنها غير مباشرة، لا تقدم إلينا المعلومات على هيئة سرد ينقلها إلى أذهاننا تامة جاهزة؛ فهي حقيقة «يوعز بها» العمل الفني دون أن يقدمها صريحة على النحو الذي نجده في الكتب العلمية. بل إن التعبير الصريح عن هذه الحقيقة يضعف من تأثيرها ويقلل من قيمة العمل الفني الذي تتجسد فيه؛ ومن هنا كان الفن الذي يُحاكي الواقع محاكاة مباشرة فنًّا ضئيل الشأن، فضلًا عن أنه — بهذه المحاكاة المباشرة — لا يصل إلى الحقيقة الكامنة لهذا الواقع.

وتلك مفارقة قد يجدها المرء غريبة للوهلة الأولى؛ إذ إن الفن كلما أراد الاقتراب من الواقع بصورة مباشرة، أصبح عاجزًا عن التعبير عن أهم ما في هذا الواقع؛ أي ازداد ابتعادًا عنه. ولكن هذه المفارقة تختفي إذا وضعنا نصب أعيننا الوظيفة الحقيقة للفن؛ فليس من مهمة الفن أن يكون نسخة محاكية للواقع كما تصوَّر أفلاطون. بل إن المحاكاة الكاملة مستحيلة في الفن؛ لأن الفن مهما حاول أن ينقل الواقع على ما هو عليه، يظل لديه قدر معين من الاستقلال؛ لأنه على الأقل ينتقي عناصر معينة من هذا الواقع ويستبعد عناصر أخرى، بدليل الاختلاف الدائم بين اللوحة المرسومة — مهما كانت واقعية — وبين الصورة الفوتوغرافية، أو بين الرواية أو المسرحية — مهما كانت واقعية — وبين الشريط الذي يسجل محادثات فعلية دارت بين الناس.

وهكذا تتجلى قدرة الفن على التعبير عن حقيقته الخاصة — أوضح ما تكون — من خلال «الإيعاز» غير المباشر، وتبدو المفارقة السابقة في صورة معكوسة حين نقول: إن الفن يزداد اقترابًا من أعماق الواقع لما ابتعد عنه، وتلك في الحق هي الفلسفة التي ترتكز عليها كثير من الاتجاهات الفنية الحديثة، في التصوير مثلًا؛ فالمصور الذي يقدم إليك وجه إنسان تحتل فيه العين مساحة كبيرة، ولا تقع في موضعها الطبيعي، ولا يحافظ على قواعد المنظور في وضع الوجه، يبتعد عن الواقع ابتعادًا شديدًا. ولكنه يريد بذلك أن يقول: إن هذه هي «رؤيته» لهذا الوجه، وإنه يصوره كما يحس به في أعماقه الباطنة، لا كما يراه كل الناس؛ ومن ثَمَّ فهو يعبر — بهذا الابتعاد عن الواقع — عن حقيقة أعمق بكثير من تلك التي يعبر عنها من يصور هذا الوجه بطريقة «موضوعية» لا تتضمن «رؤية» خاصة.

لقد كان العلم — منذ بدايته — يتضمن تمييزًا أساسيًّا بين «مظاهر» الأشياء و«جوهرها» الباطن، فمن المستحيل أن يتوصل المرء إلى أية حقيقة ما لم يستطع التفرقة بين ما هو عرضي وما هو أساسي في الأشياء، وما لم يستبعد صفاتها المتغيرة، ويحتفظ منها بالصفات الثابتة. وفي وسعنا الآن أن نُدرك وجود تشابه بين الحقيقة العلمية والحقيقة الفنية في هذا الصدد؛ فالعمل الفني بدوره يستبعد ما هو عرضي، ويستبقي ما هو جوهري. صحيح أن هناك اختلافًا يتمثل في أن الحقيقة العلمية تتخذ طابعًا عامًّا، مجردًا، كالقانون الرياضي الذي يعبر عن العلاقات الأساسية بين الظواهر، على حين أن العمل الفني يتخذ طابعًا فرديًّا عينيًّا ملموسًا؛ لأنه ينصبُّ دائمًا على «موضوع» بعينه. وليس على مجردات ذهنية خالصة؛ فالعمل الفني متجسد دائمًا في العالم المحسوس، بينما الحقيقة العلمية مقرها العقل. ومع ذلك فإن الفن — في تصويره للموضوع الفردي — لا يسعى إلى التعبير عن هذا الفرد لذاته، بل يقدم ما هو جوهري وأساسي فيه. وهكذا فإن اللوحة المصورة إذا عبرت عن الفرح، فإنها لا تعبر عن فرح «س» أو «ص» من بني البشر، وإنما تعبر عن «ماهية» الفرح أو جوهره الباطن كما يتصوره الفنان، وقل مثل هذا عن القطعة الموسيقية أو التمثال أو أي عمل فني جاد، فللفن إذن حقيقته الخاصة، وهذه الحقيقة تشترك مع الحقيقة العلمية في أنها تترك جانبًا ما هو عرضي في الأشياء وتحتفظ بما هو أساسي، وإن كانت تختلف عنها في أن الأولى تعبر عن جوهر الأشياء من خلال صيغ عقلية مجردة، على حين أن الثانية تعبر عنه من خلال نماذج فردية محسوسة.

على أن الحقيقة الفنية لا تكتفي بالتعبير عن جوهر «موضوع» ما، بل هي تعبر أيضًا عن جوهر «الذات»؛ فالفنان لا يتعمق بنا إلى لب الشيء الذي يتحدث عنه فحسب. بل إنه يقودنا إلى الأعماق الباطنة لذاته، من حيث هو إنسان، وهذه صفة تنفرد بها الحقيقة الفنية عن الحقيقة العلمية؛ إذ إن العالم يركز جهوده على موضوع بحثه وحده. أما ذاته — من حيث هو إنسان — فتتوارى أو تختفي تمامًا وراء بحثه الموضوعي، ومهما تدخلت العوامل الذاتية في كشفه العلمي، فإنه يحرص كل الحرص على إخفاء هذه العوامل حين يعرض أبحاثه؛ لأن ظهور أي عامل منها يهدد «موضوعيته» بالخطر، ويصبح نقطة ضعف خطيرة في أبحاثه. وربما تحدث العالم عن تأثير هذه العوامل الذاتية حديثًا شخصيًّا، حين يكتب سيرته الذاتية. أما حين يخاطب جمعًا من العلماء فإن ذاته تختفي اختفاءً تامًّا، وينصبُّ الحديث كله على موضوع بحثه.

أما الفنان فإنه لا يحاول أن يخفي ذاته، وإنما يحرص — وخاصةً في العصر الحديث — على أنه يطبع نظرته الخاصة إلى الحياة وميوله وتفضيلاته، على عمله الفني، ولا نعد نحن هذه السمة نقصًا فيه، بل نراها — بعكس ذلك — علامة من علامات النضج الفني؛ فالفنان الذي تظهر خصائصه الذاتية في عمله الفني هو في نظرنا فنان له «شخصيته» المميزة التي تنعكس على أعماله، أما الفنان الذي لا تكشف أعماله عن ذاته، والذي ينتج أعمالًا لا نستطيع أن نربطها به هو بالذات — وكان يمكن أن ينتجها أي فنان آخر — فهو فنان باهت اللون عديم المذاق.

وهكذا تتخذ الحقيقة الفنية طابعًا مزدوجًا لا نجده في الحقيقة العلمية؛ فهي تعبر عن جوهر الموضوع الذي تعرضه، وتعبر أيضًا عن جوهر ذات الفنان، على حين أن الحقيقة العلمية تلتزم جانب التعبير الموضوعي وحده؛ ومن هنا كان في الفن بُعْد لا نجده في العلم، وأعني به «الصدق الفني»، وهو غير الصدق الأخلاقي المعروف، وإن كان يشاركه بعض صفاته؛ فالصدق الفني هو أن يكون الفنان معبرًا في عمله عن تجربة أصيلة، وألا يعمد إلى خداع النفس أو التملق أو التعبير عما لا يحس به. وصحيح أن هذا معيار يصعب التحقق منه؛ لأننا لا نستطيع أن ننفذ إلى أعماق الفنان لكي نعلم إن كان صادقًا مع نفسه أم غير صادق. ولكن الأعمال الفنية الكبيرة هي تلك التي تعبر عن معانٍ ومشاعر عميقة لا بد أن يكون الفنان قد عاشها حتى يستطيع أن يعرضها علينا بكل هذا العمق، ويثير فينا معاني وأحاسيس مناظرة.

هذا الارتباط الوثيق بين العمل الفني وبين «ذات» الفنان هو الذي يجعل الفن في جوهره «تجربة»، بالمعنى الشخصي لهذه الكلمة. وفي هذه الصفة تختلف الحقيقة الفنية عن الحقيقة العلمية، وتقترب من ذلك النمو الخاص من الحقيقة الذي يحدثنا عنه المتصوف، والذي لا يستطيع أن يُعبِّر عن أعمق ما فيه بالكلام؛ لأنه «تجربة» تجلُّ عن الكلام، وعلى حين أن ما يهمنا — حين نقرأ كشفًا علميًّا — هو «الاستنتاجات» النهائية، أيًّا كانت الصيغة التي تُعْرَض بها، فإننا في حالة التجربة الفنية نحرص على المذاق الخاص للعمل الفني، الذي لا يتوافر إلا في جو خاص وعن طريق عناصر معينة تتكامل سويًّا لإحداث التأثير المنشود. وبعبارة أخرى؛ فالحقيقة الفنية لا تقدم إلينا قدرًا معينًا من المعلومات فحسب كما يحدث في الحقيقة العلمية، وإنما تضع هذه المعلومات في إطار خاص وفي قالب متميز، يُحْدِث فينا تأثيرًا فريدًا.

ولو غيَّرنا هذا الإطار أو القالب لفقدت الحقيقة الفنية القدر الأكبر من تأثيرها؛ فحين نحوِّل جميع المعاني المتضمنة في قصيدة شعرية رفيعة إلى لغة النثر، يضيع الجانب الأكبر من تأثير القصيدة، وتفقد «الحقيقة» التي تنقلها إلينا طابعها المميز، وتلك هي المشكلة التي تثيرها «ترجمة الشعر» من لغة إلى أخرى، مما دفع الكثيرين «عن حق» إلى أن ينظروا إلى هذا النوع من الترجمة على أنه تشويه غير مشروع للعمل الشعري الذي لا تكتمل مقوماته إلا في إطار لغته الأصلية.

ولنَقُلْ، بتعبير موجز: إن الحقيقة العلمية تهتم بالمضمون قبل الشكل، على حين أن الشكل في الحقيقة الفنية هو الذي يعطي المضمون تأثيره وقيمته، ويضفي على التجربة الفنية طابعها المميز.

وحين نقول: إن الفن في صميمه «تجربة» فريدة، فإننا نعني بذلك أن الفن لا ينافس الكتب العلمية في تقديم معلومات تغذي عقول الناس؛ إذ إن الفن يخاطب — إلى جانب العقل — مشاعر الإنسان ووجدانه. ولكن هذه التجربة ليست عاطلة أو عقيمة، وليست خبرة ذاتية مقفلة على نفسها دون أن يكون لها أي صدًى خارجي؛ فالفن تجربة غنية مثمرة، قد لا يقدم إلينا معلومات مباشرة، ولكنها تزودنا بخبرة عميقة بالحياة، فقد يقدم إلينا العمل الفني الواحد من الفهم لأنفسنا وللناس وللعالم ما لا تقدمه عشرات الكتب. ولكنه لا يقدم إلينا هذا الفهم بالتلقين المباشر، وإنما يوعز به في إطار شكل متكامل يتسم بالجمال. وهو لا يصل إلى هدفه هذا بالتدرج المعروف عن العلم، بل يقدم إلينا حقيقة تنفذ بنا مباشرةً إلى أعماق الموضوع.

وبفضل هذه السمة الفريدة في الفن؛ رأى بعض المفكرين في الحقيقة الفنية بديلًا عن الحقيقة العلمية، وانتقدوا هذه الأخيرة لأنها لا تقدم إلينا من الظواهر إلا سطحها الخارجي، ووجهها الذي يقبل التعبير عنه بالكم والمقدار، والذي يسمح بمقارنتها بغيرها من الظواهر المشابهة، ولكنه يعجز عن النفاذ بنا إلى جوهرها أو عمقها الباطن. وهكذا تحمَّس هؤلاء للتجربة الفنية بوصفها بديلًا عن المعرفة العلمية، وقدموا إلينا مثلًا أعلى للإنسان يحيا فيه حياة «جمالية» خالصة، لا تشوبها تجريدات العلم أو تشوهها تعميماته.

ولكن هذه الحماسة الزائدة لدى أصحاب النزعة الجمالية هؤلاء — وإن تكن تعبر عن تقديس الفن — لا مكان لها في عالم وُجِدَ فيه العلم ليبقى، وقدَّم إلينا من الإنجازات ما لا يمكن التراجع عنه، وشكَّل مختلف جوانب حياتنا — حتى الفن ذاته — وصبغها بصبغته الخاصة. وأقصى ما يمكننا أن نحتفظ به من موقف عُبَّاد الفن هؤلاء، هو أن الحقيقة الفنية ينبغي أن تكمل الحقيقة العلمية وتعوض بعضًا من نقائصها في عصر التخصص العلمي المفرط الذي نعيش فيه. ولو عرف الإنسان كيف يمزج بين الحقيقتين في كلٍّ متآلف؛ لكان بذلك يحقق أهم الخطوات في طريق تكامل شخصيته، ويبعث الانسجام بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي، ويخفف من غلواء التجريد الذي يُحكم قبضته على الحياة الحديثة من كل جانب، ويضيف بُعْدًا إنسانيًّا عميقًا إلى عالم يفقد طابعه الإنساني على نحو متزايد في كل يوم.

مراجع عامة

  • النقد الفني: دراسة جمالية فلسفية — تأليف جيروم ستولينتز — ترجمة د. فؤاد زكريا (مطبعة جامعة عين شمس عام ١٩٧٤م) الفصل الثاني عشر.

  • Hosperes, J,: Maening & Truth in The Arts (North California U. p.) 1946.
  • Philip Leon: “Aesthetic Knowledge”. In Vivas & Kriegev: Problems of aesthetics, New York (Rinehart 1953).
  • Richards & Ogden: The Meaning of Meaning London, Routhedge 1936.
  • Richards, I. A.: Principles of Literery Criticism. New York (Haveont & Brace) 1950.
  • B. Heyl: Artistic Truth Reconsidered journal of Aesthetics & Arts Criticim, vol, VIII (1960).
  • Sidney Zink: “Poetry & Truth” Philosophical Review, LIV (1945).
  • Weitz, Morris: Philosophy of The Arts. Harward U. p. 1950.
  • Wellek, René: A History of Modern Cristicisme. Yale U. p. 1955 Vol. 1.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤