الخلق الفني بين العلم والتجربة الشخصية

لن نستطيع أن نفهم معنى تعبير «الخلق الفني» فهمًا دقيقًا إلا إذا أجرينا مقارنة بين هذا النوع من الخلق وبين نوعين آخرين: أحدهما يفترض أنه أعلى منه مرتبة، والثاني أدنى منه، ومن خلال هذه المقارنة يمكن أن تتضح لنا مكانة الخلق الفني بين أنواع أخرى من النشاط يمكن أن تختلط به في الأذهان.

  • (أ)

    فلفظ الخلق مرتبط في الأذهان بالخلق الإلهي، حتى إن الكثيرين يتحرجون من استخدام هذا اللفظ في أي مجال سوى المجال الديني. ولكن الواقع أن هذا الحرج مبالغ فيه؛ إذ من المعترف به أن الإنسان ينتج أو يولِّد أشياءً لم تكن موجودة من قبل؛ ومن ثَم يمكن أن يعدَّ فعله هذا «خلقًا». ولكنا حين نقول: إن ما ينتجه الإنسان «لم يكن موجودًا من قبل» ينبغي أن نتحفظ قليلًا في استخدام هذا التعبير، فهل صحيح أن أي إنتاج إنساني لم يكن له وجود قبل أن يصنعه الإنسان؟ من الجائز أن هذا الإنتاج — بعد أن اكتمل — قد أصبحت له صورة لم يكن يعرفها الناس من قبل. ولكن الأمر المؤكد هو أن «مادة» هذا الإنتاج على الأقل كانت موجودة؛ ولذلك يستحيل القول بأن العمل قد خُلِقَ «من العدم»، وهنا يكمن الفارق بين تعبيرَي: «الخلق الإلهي» و«الخلق الفني»؛ فالمفروض أن الخلق الإلهي يتم من العدم، دون أن يمهد له شيء، فهو عملية مفاجئة، تحدث كاملة بلا مقدمات. أما الخلق الفني فمهما كانت درجة اكتماله، فإنه يظل مع ذلك مرتبطًا بسوابق لا نهاية لها: منها التراث الفني السابق، والمجتمع الذي يظهر فيه هذا العمل، والتكوين الشخصي للفنان، وغير ذلك من الشروط الممهدة التي لا يمكن أن يكون للعمل بدونها معنى أو صدى، بل لا يمكن أن يظهر أصلًا.

    ومع ذلك فإن الشكل النهائي للعمل الفني بالذات يكون مختلفًا عن الأصل المادي أو المعنوي الذي انبثق منه، إلى حد يقترب فيه هذا العمل من الخلق الإلهي اقترابًا يدعو إلى العجب، وهذا ما عبر عنه الناس تعبيرًا مباشرًا — منذ أقدم العهود — حين نظروا إلى الفنان على أن فيه قبسًا من الألوهية، وما عبر عنه بعض أنصار الفن المتحمسين في عصرنا الحديث بقولهم: إن الفن ينافس الخلق الإلهي أو يعيد تصوير العالم كما كان الفنان يريده أن يكون لا كما نتج أصلًا بالخلق الإلهي، وأيًّا كانت التعبيرات التي تُسْتَخدم، فإن الأمر الذي يتفق عليه الكثيرون هو أن الإنسان يقترب من الألوهية إلى أقصى حد حين يبدع فنًّا. ومع ذلك فإن هذا التقارب لا ينبغي أن ينسينا حقيقتين أساسيتين، وهما أن الخلق الإلهي يوصف بأنه يحدث من العدم، على حين أن الخلق الفني يفترض مقدمات لا غناء عنها من أجل ظهور العمل الفني، وأن نتاج الخلق الإلهي هو الطبيعة، على حين أن نتاج الخلق الإنساني مستقل عن الطبيعة ومقابل لها؛ أعني عملًا فنيًّا.

  • (ب)

    وهذه الحقيقة الأخيرة تقودنا إلى تفرقة ثانية بين الخلق الفني ونوع آخر من الخلق، هو ما نسميه عادةً بالصنعة، وإذا كانت التفرقة السابقة قد حددت الصلة بين الفن وبين نوع آخر من الخلق يوصف بأنه أعلى منه مرتبة، فإن التفرقة الحالية تحدد علاقة الفن بما هو أدنى منه مكانة؛ أعني نتاج الصنعة الحرفية، فقد وصفنا الخلق الإنساني من قبل بأنه نتاج مستقل عن الطبيعة ومقابل لها. ولكن هذه في الواقع صفة يتسم بها كل جهد يبذله الإنسان لإعادة تشكيل الطبيعة وفقًا لأغراضه أو لتصوراته الخاصة؛ فالكرسي الذي يصنعه النجار ليس قطعة من الطبيعة، وإنما هو تشكيل جديد لمادة تقدمها الطبيعة، من أجل تحقيق منفعة إنسانية معينة، فهل يعني ذلك أن الفن لا يزيد — بدوره — عن أن يكون نوعًا من الصنعة؟

    هناك — وفي واقع الأمر — اختلافات مؤكدة بين إنتاج الفنان وإنتاج الصانع؛ فالأول عمل فردي، والثاني عمل نمطي؛ ذلك لأن الصانع ينتج مجموعة متكررة من الأعمال، وإذا حدث أن أنتج عملًا واحدًا لا يتكرر، فإنا نمتدح مثل هذا العمل فنصفه بأنه «قطعة فنية»، ونعني بذلك أن نتاج الصنعة إذا كان فرديًّا فإن الحد الفاصل بينه وبين العمل الفني يكاد يختفي. وفضلًا عن ذلك فإن للتعود الآلي دورًا هامًّا في طريقة إنتاج الصانع، على حين أن الفنان ينتج بصورة تلقائية لا أثر فيها للعادات الآلية. وربما كان أهم هذه الفوارق جميعًا هو الدور الكبير الذي يقوم به الخيال في عمل الفنان؛ فالعمل الفني — أيًّا كان شكله النهائي — هو في واقع الأمر خيال متجسد، على حين أن نتاج الصنعة واقعي مادي، ويترتب على ذلك أن العمل الفني لا يستهدف إلا إرضاء حاستنا الجمالية، بينما يستهدف عمل الصانع دائمًا تحقيق غرض علمي.

    ولكن على الرغم من هذه الفوارق، فمن الواجب أن نتذكر أن الفن ليس منفصلًا عن الصنعة انفصالًا تامًّا، فهناك صلة تاريخية قوية بينهما؛ ذلك لأن الصانع هو السلف الأول للفنان، بل إن الحد الفاصل بين الفنان والصانع لم يكن واضحًا في العصور القديمة، وما زالت كثير من اللغات تحمل آثار هذا التوحيد القديم بين الفنان والصانع، فلفظ techné اليوناني القديم يدل على الفن والصنعة معًا، ومن هذا اللفظ اشتُقَّت كلمة «التكنولوجيا» الحديثة، وما زالت كلمة art تحمل معنى الصنعة إلى جانب معنى الفن، كما في التعبير arts and crafts. وهذا التعبير له مقابل عربي يدل على هذه الصلة الوثيقة نفسها، هو تعبير «الفنون والصنائع»، وما زلنا في العربية نستخدم لفظ «صانع فني» بمعنى «صانع ماهر»، إلى جانب هذا التقارب التاريخي بين الفن والصنعة، هناك تقارب واقعي ناشئ عن أن كثيرًا من الفنانين — وخاصةً في الفنون التي تحتاج إلى أداء كالموسيقى والرقص والتمثيل — يُخْضِعون حياتهم لنظام دقيق يتدربون فيه على الأداء الفني بنفس المشقة التي يتدرب بها الصانع على إتقان عمله، ويكتسبون من مرانهم عادات جسمية حركية تقترب من تلك التي يكتسبها الصانع الذي يتقن حرفته.

    وهكذا تكشف لنا المقارنة التي عقدناها بين الخلق الفني والخلق الإلهي من جهة، وبينه وبين الصنعة البشرية من جهة أخرى، عن حقيقة هامة بشأن طبيعة الفن، هي أنه يحتل مرتبة وسطى ما بين الخلق الشامل الذي يوصف بأنه غير مسبوق بشيء، وبين التشكيل والتحوير النمطي لمادة الطبيعة من أجل تحقيق أغراض عملية معينة.

(١) الخلق الفني والعلم

وكيف إذن يمكن معالجة هذا النوع الفريد من الخلق، الخلق الذي يبلغ به الإنسان أقصى درجات الإيجابية والإبداع؟ إن الوسيلة الفعَّالة التي يلجأ إليها الإنسان في فهم الظاهر هي العلم. ومن الطبيعي أن يسعى الإنسان إلى تطبيق هذه الوسيلة الفعالة على جميع المجالات التي يستعصى عليه فهمها وضمنها الفن. غير أن عملية الخلق ظلت — حتى يومنا هذا — محاطة بستار كثيف من الغموض، على الرغم من كلِّ المحاولات التي بُذِلَت من أجل إزاحة هذه الغموض ومعرفة كُنْه العملية الخلاقة. ومن المعروف أن عملية الخلق لا تتمثل في الفن وحده. بل إن الكشف العلمي بدوره — وخاصةً في صوره العليا — يمثل نوعًا من الخلق لا يقل سموًّا عن الخلق الفني. وربما لم يكن يقل عنه حاجة إلى استعمال الخيال. وفي وسعنا أن نستمر في عملية التعميم هذه؛ لنصل في النهاية إلى حقيقة لا بُدَّ من الاعتراف بها؛ وهي أن القدرة الخلَّاقة هي أول وأهم ما يميز به الإنسان عن سائر الكائنات؛ فالخلق — في مجال الفن وفي غيره من المجالات — هو الذي حقق للإنسان كل إنجازاته التي ضمنت له التفوق على بقية الأحياء من جهة، وأكدت تفوقه المستمر على نفسه من جهة أخرى. إن الخلق بعبارة أخرى: هو ماهية الإنسان، فإذا كان التفسير العلمي قد ظل حتى الآن عاجزًا عن الإحاطة بعملية الخلق، فمعنى ذلك أن العلم لم يفهم الإنسان فهمًا كافيًا، ولنَقُلْ بتعبير آخر: إن أزمة العلوم الإنسانية، أو أزمة الفهم العلمي للإنسان، تتمثل — أوضح ما تكون — في استمرار عجز العلم عن تقديم تفسير لعملية الخلق.

على أن هذا لا يعني على الإطلاق أننا ندين العلم بالقصور نظرًا إلى عجزه في هذا المجال؛ فالعلم حركة مستمرة. وليس لأحد أن يلومه على ما لم يصل إليه بعدُ. والواقع أن هناك — في حالة الإبداع على وجه التخصيص — أسبابًا خاصة تعلل الصعوبة التي يجدها العلم في فهم عملية الإبداع، وعلينا أن نتدبر هذه الأسباب جيدًا حتى لا نسارع إلى توجيه لوم لا مبرر له إلى العلم.

ذلك لأن الخلق هو في أساسه إنتاج لشيء لم يكن له وجود، وانبثاق من هوة العدم، فهو يفترض انفصالًا بين الظواهر، وانقطاعًا في سلسلة العلل والمعلولات، والخلق الذي يمكن فهمه فهمًا كاملًا من خلال مقدماته والسوابق الممهدة له لا يستحق أن يُسمى خلقًا بالمعنى الصحيح. وفي مقابل ذلك يفترض العلم اتصالًا لا ينقطع بين الظواهر، وتسلسلًا مستمرًّا للأسباب والنتائج؛ فمجال الانبثاق المفاجئ غريب عن العلم، أو هو على الأقل يقتضي نوعًا من المعرفة يختلف عن ذلك الذي عرفناه في المعرفة العلمية بمعناها المألوف.

وفضلًا عن ذلك فإن الخلق ينطوي على مراحل لا شعورية لها أهميتها البالغة. ولقد كانت هذه المراحل اللاشعورية هي التي جعلت الفن محاطًا بهالة أسطورية منذ أقدم العهود، وجعلت الفنان يوصف بأنه إنسان به مس من الجنون، أو تسيطر عليه قوى شيطانية خفية. وكلنا نعلم أن «العبقرية» في اللغة العربية يرتبط باسم «عبقر»، وهو موطن الجن، وإن هذا اللفظ نفسه في اللغة الفرنسية (Génie) يدل أيضًا على معنى الجن. ولكن إذا كان العصر الحديث يطرح جانبًا كل هذه الارتباطات الخرافية ويحتفظ باسم «اللاشعور» لكي يدل به على مجموعة الظواهر السابقة؛ فإن هذه التسمية ذاتها لا تقل استبعادًا للتفسير العلمي عن كل إشارة إلى الشياطين أو الجن؛ ذلك لأن العلم يهتم أساسًا بعالم الوعي، والنشاط العلمي يفترض الوعي مقدمًا، بوصفه شرطًا أساسيًّا لا غناء عنه؛ ومن هنا كان ثمة انفصال حاد بين العنصر اللاشعوري في الفن، وبين اعتماد العلم في تفسيراته على الشعور، وعجزه عن التحرك في أي مجال لا يكون فيه للوعي سيطرة تامة.

ومن ناحية أخرى، فإن ارتباط الخلق الفني بالخيال لا بُدَّ أن يؤدي بالعلم إلى أن يلتزم الحذر التام في التعامل معه؛ ذلك لأن العلم لا يستطيع أن يجد لديه وسيلة أو منهجًا يتمكن به من حفز الخيال وإثارته، بل يبدو أن الخيال يتبع مسار التلقائي الخاص الذي لا شأن لقوانين العلم به؛ على أن عجز العلم عن فهم الخيال يدل على أن العلم لا يستطيع أن يفهم الأصول التي ظهر هو ذاته بها؛ ذلك لأن قدرًا كبيرًا من الأفكار العلمية الرئيسية قد تم إبداعه عن طريق الخيال، وعلى الرغم من ذلك فإن العلم حين يتحدث عن هذا النوع من الخيال الذي أدى إلى ظهور نظرياته الهامة، فإنه يفعل ذلك على استحياء، وكأنه يخوض أرضًا محرمة؛ فالعلم يركز اهتمامه على النتائج النهائية لعملية الكشف العلمي. أما كيفية ظهور هذه النتائج، ونوع العمليات التي كانت من ورائها، والتي أدت إليها، فهذا ما يعجز العلم عن الحديث عنه، ما لا يبدي به اهتمامًا كبيرًا.

ومما يزيد من صعوبة المعالجة العلمية للخلق الفني، أن هذا الخلق لا يتمثل على نمط واحد، فهناك فنانون ينبثق لديهم العمل الفني بسهولة ويسر، ولا يبدو أنهم قد بذلوا فيه جهدًا كبيرًا، وذلك على مستوى الوعي على الأقل، وهناك فنانون آخرون لا يتم الخلق الفني لديهم إلا بعد جهد ومعاناة شديد، وبعد محاولات متعددة يعيدون فيها إنتاج عملهم ويُدْخِلون عليه تعديلات وتحسينات لا حصر لها، إلى أن يصل إلى تلك المرحلة التي يرضون فيها عنه، ويزداد الأمر تعقيدًا حين نعلم أن هذا الاختلاف في أنماط الخلق الفني لا ينعكس على الأعمال ذاتها، بمعنى أن العمل الذي استغرق الفنان في إعداده فترة طويلة، والذي مر بتغييرات وتعديلات متعددة، لا ينم — بعد أن يكتمل — عن هذا الجهد على الإطلاق، بل يبدو — في حالة كثير من الأعمال الكبرى — كما لو كان الفنان قد أبدعه بيسر وطلاقة ودون أي قدر من المعاناة. ومن ناحية أخرى فإن يسر الخلق الفني أو عسره لا يرتبط بقيمة العمل الناتج عنه، فليس العمل الذي ينتج في يسر أفضل بالضرورة من ذلك الذي ينتج بجهد ومعاناة. بل إن بعضًا من أعظم الأعمال الفنية كان الجهد الخلاق فيه شديد البطء والتردد. على حين أن الانطلاق والتلقائية قد يؤديان أحيانًا إلى السطحية في الإنتاج. ومجمل القول: إن العلم حين يتصدى لظاهرة الخلق الفني لا يجد أمامه نمطًا واحدًا يخضع لنوع واحد من الدراسة والتحليل، بل يجد أنماطًا متباينة لا تخضع لقاعدة واحدة.

ولقد كانت المحاولات العلمية التي بُذِلَت من أجل الكشف عن القدرات المرتبطة بالإبداع الفني، تتجه إلى الربط بين الإبداع وبين صفات نفسية معينة، أهمها القدرة على الجمع بين عناصر منفعلة في إطار موحد؛ فالإبداع — تبعًا لهذا الرأي — هو إيجاد وحدة جديدة تعمل على تبسيط العلاقات القائمة بين الأشياء، وأساس الإبداع اتجاه إلى الوحدة والتكامل والتوافق، بحيث إن من المستحيل أن ينتج الإبداع أجزاء أو فتات غير متصلة أو مترابطة. وهذا الرأي يصدق بالفعل على أنواع متعددة من الإبداع، وخاصةً في ميدان الكشف العلمي. ولكنه يبدو غير كافٍ في حالة الفن على وجه التخصيص؛ ذلك لأن الخلق الفني يتضمن إضافة جديدة إلى التجربة، ولا يمكن إرجاعه إلى بعث الوحدة في العناصر المشتتة للتجربة، ومثل هذا يقال عن مختلف المحاولات التي تربط بين الإبداع الفني وبين القدرة على «حل المشكلات»؛ لأن هناك فارقًا في النوع — لا في الدرجة فحسب — بين حل المشكلات وإعادة ترتيب العناصر الموجودة قبلًا بطريقة فعالة، وبين ذلك الخلق الجديد الذي هو أهم ما يميز الإبداع في الفن.

وإذا كنا قد تحدثنا حتى الآن عن عدم كفاية المحاولات التي بذلها العلم من أجل فهم ظاهرة الخلق الفني، فمن الواجب أن نذكر أن الفن — من جانبه — قد أسهم بنصيب غير قليل في إبعاد العلم عن مجاله الخاص؛ ذلك لأن الفنان ينفر بطبيعته من التحليلات العلمية، ويتصور أن العلم إذا اقتحم مجاله الخاص فسوف يشوهه ويحيله إلى موضوع للتشريح والتحليل، والفنان بطبيعته فردي النزعة، يؤمن بأصالة إنتاجه وبأن كل ما يصدر عنه غير قابل للتكرار، بينما العلم يبحث عن قوانين وأنماط عامة لا شأن لها بما هو فردي، ويستبدل بالحرارة والحساسية المرهفة نظرة موضوعية باردة تستبعد كل اتجاه إلى التفضيل وكل نزوع إلى تأكيد الفوارق والاختلافات الفردية.

وهكذا نجد بين الفن والعلم نوعًا من عدم الثقة المتبادلة، كانت نتيجته أن كلًّا منهما سار في تطور مستقل، دون أن يحدث بينهما تفاعل حقيقي، فمنذ أوائل العصر الحديث ظل العلم يحرز نصرًا تلو الآخر، واستطاع أن يفتح أمام الإنسان آفاقًا من الفهم ومن السيطرة على العالم لم يكن يحلم بها. وفي الوقت ذاته أخذ الفن يؤكد ذاته بوصفه نشاطًا إنسانيًّا رفيعًا، وتوالت مذاهبه واتجاهاته وتعددت وازدادت عمقًا وتعقدًا. ولكن مسار كلٍّ منهما ظل مستقلًّا عن الآخر، واتجها معًا في خطين متوازيين لا يلتقيان إلا في أندر الأحوال؛ إذ إن العلم ظل ينظر إلى الإبداع الفني على أنه عملية خارجية عن مجاله، والفن ظل يترفع على التحليل العلمي ويأبى الخضوع له.

ويمكن القول: إن هذا النمو المتوازي للعلم والفن من أهم سمات العصر الحديث، وهو سمة تركت تأثيرها في كيان الإنسان ذاته؛ ذلك لأن عصرنا هذا إنما هو عصر التقدم الهائل للعلم والفن، ولكن بغير تفاعل أو التقاء بينهما، فهناك ازدواج حاد في الحضارة الحديثة بين شق علمي وشق فني، ترتب عليه بالضرورة ازدواج مناظر داخل الإنسان ذاته، فلم يقتصر الأمر على تباعد العالم والفنان كل عن الآخر. بل إن الإنسان الواحد أصبح ينظر إلى نفسه على أنه يشتمل على جانبين لا سبيل إلى التوفيق بينهما: جانب عقلي يسيطر عليه العلم، وجانب خيالي إبداعي يسيطر عليه الفن، هذه الازدواجية تَحُول دون تحقيق أي انسجام بين جوانب حياة الإنسان المختلفة، وتجعل من المستحيل ضم حياة الإنسان كلها في وحدة متكاملة تجمع بين دقة المنهج العلمي وحساسية الخيال الإبداعي، ولو تأملنا العصر الحديث في نظرة شاملة؛ لجاز لنا أن نقول: إن قدرًا كبيرًا من مشاكله إنما يرجع إلى هذه الثنائية الحادة التي فرضها الإنسان على نفسه بين عقله العلمي وحساسيته الإبداعية؛ إذ إن العلم قد فرض عليه أن يكون غير مكترث بحساسية الروح، والفن قد فرض عليه أن يكون غير مكترث بموضوعية العقل، واستحل كلٌّ منهما لنفسه — في مجاله الخاص — ما يحرمه الآخر وينهى عنه، كل ذلك مع أن الهدف واحد وأرض الصراع واحدة وهي النفس البشرية.

والنتيجة الواضحة التي تفرض نفسها حتمًا بعد هذا التحليل هي أن محاولة فهم الخلق الفني من خلال العلم ما زالت حتى الآن تتعثر، وما زال من الصعب استيعاب هذا الخلق بواسطة المفاهيم العلمية وحدها، وإن لم يكن من المستحيل أن نتصور مجيء يوم يتحقق فيه اندماج أكبر بين العلم والفن. ولكن إلى أن يأتي هذا اليوم، فإن الدلائل كلها تشير إلى أن الطريق الذي يوصلنا إلى قلب الفن لا بد أن يكون طريقًا آخر.

(٢) الخلق الفني والتجربة

هذا الطريق الآخر هو النظر إلى الفن على أنه تجربة. والواقع أن الذهن البشري قد اعتاد — في أمور كثيرة — أن يضع هذا التقابل بين ما هو موضوع للعلم وما هو موضوع للتجربة؛ فكل ما يعجز الإنسان عن تفسيره علميًّا، يتناوله على أنه موضوع للتجربة، وكل ما يعتقد الإنسان أنه أرفع من أن يُفهم من خلال العلم، يدرجه ضمن الموضوعات التي تجرب مباشرة. وكلما كانت تجربة الإنسان أشد حرارةً وأصالةً، اتجه إلى أن ينأى بها عن مقولات العلم وقوانينه، وإلى أن يجعل منها شيئًا فريدًا يجل عن الوصف. ولقد قيل الكثير من قبل عن تجربة المتصوف، وكيف أنها تسمو على الفهم العقلي والمنطق، ولا يتذوق إلا من يمر بها، وقيل الكثير أيضًا عن تجربة الحب التي لا تخضع للتحليل ولا تنطبق عليها قاعدة أو قانون، وإنما هي معاناة أصيلة لا يعرفها إلا من يُكابدها، ومثل هذا يقال أيضًا عن تجربة الفنان؛ فهي تجربة يقتلها التحليل والتشريح العلمي، وهي علاقة من نوع فريد بين الفنان وموضوعه، لا سبيل إلى وصفها. بل إن الوسيلة الوحيدة لمعرفتها هي الممارسة.

ولكن، ما الذي يميز التجربة والمعاناة — بالمعنى الذي حددناه — عن المعرفة العلمية؟ إن الفارق الحاسم هو أن المعرفة العلمية تفترض نوعًا من التوسط، على حين أن التجربة مباشرة، فحين يمر المرء بتجربة عاطفية — مثلًا — يشعر شعورًا مباشرًا بالانفعالات المرتبطة بهذه التجربة، ولا يحتاج إلى أيِّ وسيط لكي يفهم ما يحس به. بل إنه قد يشوه تجربته ويسيء إليها لو بدأ في استخدام اللغة في التعبير عنها، وحاول أن يصف ما يمر به لشخص ثالث؛ فالعلاقة هنا مباشرة بين الطرفين. أما في حالة المعرفة العلمية فلا بُدَّ من وسيط بين العارف وموضع معرفته، وهذا الوسيط قد يكون هو اللغة العادية أو اللغة الرياضية أو المفاهيم العلمية المصطلح عليها أيًّا كانت، ويترتب على وجود هذا الوسيط أن المعرفة العلمية قابلة بطبيعتها للتداول. بل إن قيمتها إنما تكمن في قدرتها على إقناع أكبر عدد من الأذهان ومخاطبيها بلغة مشتركة يفهمها ويقتنع بها الجميع. أما التجربة الفنية فهي وإذا أصبحت تجربة متداولة فإن وقعها يغدو مختلفًا في كل حالة عن الأخرى.

على أن هذا الاختلاف الأساسي لا يعني بالضرورة أن العلم يدير ظهره للتجربة الفنية ويستبعدها من قاموسه؛ ففي حالات معينة يقدم العلم تفسيرات لا يمكن أن تستقيم إلا إذا كانت هذه التجربة — بكل ما تتصف به من فردانية وأصالة — مفترضة ضمنًا، فعلم النفس مثلًا يعترف بدور اللاشعور في الخلق الفني. وحين يحاول أن يقترب من مجال اللاشعور — مستخدمًا لغة شبه علمية — يذكر أن ما يتم في اللاشعور هو نوع من «اختمار» الفكرة، يمهد الطريق لتدفق مفاجئ للإبداع. ولكن الشرط الأساسي لحدوث هذا «الاختمار». وهذا النضج البطيء غير الواعي، هو أن يكون الفنان مهتمًّا بموضوعه ومنشغلًا به، وإن طغى عليه الرغبة في التعبير عن نفسه من خلال وسيطه الفني الخاص، فلا يمكن أن يؤدي اللاشعور دوره في الإعداد لخلق فني مفاجئ إلا بالنسبة إلى شخص يستغرق الموضوع الفني قدرًا كبيرًا من تفكيره الواعي، ويشغل وقته وجهده به. هذا ما يقول علم النفس حين يحاول تجاوز نطاق الغموض الذي ظل طويلًا يشوب كل ما يقال من عملية الإبداع الفني. ولكن هذا الاهتمام الدائم، والانشغال الذي لا ينقطع بموضوع معين، هو ذاته الذي يسميه الفنان تجربة ومعاناة مباشرة، فعلم النفس — في بعض اتجاهاته على الأقل — يفترض وجود تجربة أصيلة لدى الفنان، ويجعل من هذه التجربة بكل صفاتها المألوفة جزءًا لا يتجزأ من عناصر التفسير الذي يقدمه للإبداع الفني، ومن شأن هذه الحقيقة أن تؤدي إلى تضييق الهوة بين المعالجة العلمية الخالصة للخلق الفني، وبين معاملته على أنه تجربة فريدة تأبى الخضوع لمنطق التحليل العلمي.

ولكن ما هي سمات هذه التجربة التي يتعين علينا أن نفهم الإبداع الفني من خلالها، والتي يبدو أنها ستظل هي المفهوم الرئيسي المستخدم في هذا المجال طوال فترة غير قصيرة من الزمان؟

إن المحور الذي يدور حوله أي فهم سليم للتجربة الجمالية هو مفهوم الانتباه؛ فالتجربة الجمالية هي — قبل كل شيء — انتباه مستغرق في موضوع معين، ننصرف فيه إلى إدراك القيمة الكامنة في هذا الموضوع، ونتلقاها كاملة في حضورها المباشر. هذا التحديد لطبيعة التجربة الجمالية من خلال فكرة الانتباه يؤدي إلى استبعاد مجموعة من المفاهيم التي ظلت طويلًا ترتبط بهذه التجربة في أذهان الكثيرين، ومن خلال عملية الاستبعاد هذه يمكننا أن نفهم على نحو أفضل ماهية التجربة الجمالية وعلاقتها بالخلق الفني.

وأول المفاهيم التي تؤدي الطريقة السابقة في تحديد التجربة الجمالية إلى استبعادها — أو على الأقل إزاحتها عن مكانتها المركزية — هو مفهوم الانفعال؛ ذلك لأن الكثيرين يتصورون أن الوسيلة الرئيسية لتحديد طبيعة التجربة الجمالية هي تفسيرها من خلال ما تثيره من الانفعال، ولكن الشواهد التجريبية ذاتها تثبت أن الموضوع الفني الواحد يمكن أن يثير انفعالات متباينة في أشخاص مختلفين. وربما في الشخص الواحد خلال حالاته المختلفة، وهذه الشواهد ذاتها تكشف عن حالات لأشخاص لا يشك أحد في مكانتهم الفنية، ولا يكون للانفعال تأثير واضح في تجاربهم الجمالية، فهناك موسيقيون — قد لا يكونون كثيرين ولكنهم موجودون — يؤلفون بلا انفعال، وهناك شعراء يكتبون بلا انفعال، دون أن يكون غياب عنصر الانفعال مؤديًا بالضرورة إلى الإقلال من قيمة ما ينتجون. وفي الطرف الآخر يوجد أولئك الذين لا يبحثون في العمل الفني إلا عن إثارة انفعالاتهم، وهؤلاء هم الذين لا يرون في الصفات الموضوعية للعمل الفني إلا وسيلة رمزية لبعث مشاعر معينة في النفس، مما يؤدي بهم إلى عدم الاهتمام بهذه الصفات الموضوعية، وإلى تركيز اهتمامهم على أنفسهم، أمثال هؤلاء المتذوقين يرتدون دائمًا إلى أنفسهم، وينظرون إلى مرآتهم الداخلية في الوقت الذي يبدون فيه وكأنهم يتأملون العمل الفني الخارجي، وما العمل الفني في نظرهم إلا ذريعة أو مناسبة لإثارة انفعالاتهم النفسية. وهذا النمط لا يمكن أن يقال عنه: إنه قادر على تذوق الفن في ذاته تذوقًا سليمًا؛ ومن ثَمَّ فهو أشد عجزًا في ميدان الإبداع؛ على أن هذا لا يعني على الإطلاق أن التجربة الجمالية لا صلة لها بالانفعال؛ فالانفعال مرتبط بهذه التجربة في معظم الأحيان. ولكنه يكون في هذه الحالة نتيجة للتجربة. وليس هو المحور الأساسي الذي تدور حوله.

وهناك مفهوم ثان ينبغي استبعاده من مجال التجربة الجمالية، هو مفهوم الإدراك السلبي، فالذهن أثناء التجربة الجمالية لا يكون متلقيًا سلبيًّا للموضع، يستقبله على ما هو عليه دون أي تدخل من جانبه. بل إن الذهن يشارك إلى حد غير قليل في تحديد طريقة إدراكه للقيم الموجودة موضوعيًّا في العمل الفني، ولا يمكن أن توصف حالة التلقي السلبي بأنها هي الحالة المُثلى للتذوق في الفنون. بل إن الشخص الخبير يعرف أن الفن لغة خاصة تحتاج إلى مران وجهد وفهم، وتقتضي نوعًا إيجابيًّا من الانتباه. أما الإدراك السلبي فيندر أن يوصل إلى شيء.

وربما تصور البعض أن تأكيد سمة المشاركة الإيجابية من جانب متلقي الفن في فهم صفات الموضوع الفني، يعني أن هذا المتلقي يضيف من عنده عناصر تزيد من قيمة الموضوع. ولكن الواقع أن القيم التي ينبغي أن نشارك إيجابيًّا في إدراكها هي — كما قلنا من قبل — القيم «الكامنة» في الموضوع نفسه، ومعنى ذلك أنه ليس مطلوبًا ولا مرغوبًا من متذوق العمل الفني أن يخرج عن إطار هذا العمل إلى حد تشتيت انتباهه في أمور خارجة عنه، يضيفها من معلوماته الخاصة أو من ذكرياته السابقة، معتقدًا أنه يزيد بذلك من قيمة هذا العمل؛ فالعمل نفسه ينبغي أن يظل محور التجربة الجمالية وكل ما يخرج عن نطاق العلم لن تكون له قيمة إلا بقدر ما يرتد آخر الأمر إلى العمل نفسه ويلقي ضوءًا عليه.

وهنا يتضح الفارق الأساسي بين نوع الانتباه الذي تتطلبه التجربة الجمالية، ونوع الانتباه الذي نحتاج إليه في حياتنا اليومية، فهذا النوع الأخير من الانتباه غالبًا ما يكون غير مكتمل، نكتفي فيه بإدراك وجه واحد من أوجه الموضوعات التي نتعامل معها؛ فحين أقول: إنني رأيت صديقًا يمر أمامي، قد لا يكون ما رأيته بالفعل مجرد لون مميز لملابسه، أو طريقته الخاصة في المشي، وهذه العناصر البسيطة وحدها تكفي لتحقيق هدف هذا النوع من الإدراك. أما في إدراك العمل الفني فنحن لا نكتفي بهذا الاختزال، وإنما نستغرق في الموضوع استغراقًا تامًّا، ولا نتخذه مجرد علامة لتحقيق هدف آخر.

وهذا يعني أن التجربة الفنية متجردة عن المنفعة، وأنها تأمل مقصود لذاته، لا من أجل أي غرض عملي. صحيح أننا نسمع عن أطماع أو منافسات تدب بين الفنانين، ونعرف أن الفن يُسْتَغَل كثيرًا لأغراض تجارية. غير أن هذه كلها ظواهر تقع على هامش الفن ولا تنتمي إلى صميمه، وإذا أصبحت لها السيطرة في حالة فنان معين، أصبح هذا الفنان في نظرنا مزيفًا مفتقرًا إلى الأصالة.

ومع هذا كله، فلا بد من الاعتراف بأن الوصول إلى حالة من التجرد التام عن المنفعة أو الهدف العملي، ونسيان الذات من أجل الاستغراق في الموضوع، والامتناع عن اتخاذ الموضوع الفني وسيلة للعبور إلى موضوعات أخرى تتداعى معه في أذهاننا، هو في حقيقة الأمر مثل أعلى يصعب تحقيقه، فهو يقتضي اهتمامًا وجهدًا هائلًا، وتدريبًا طويلًا شاقًّا، ونادرًا ما يكون في وسعنا الوصول إليه؛ إذ إننا نجد من الأيسر دائمًا أن نعود إلى أنفسنا ونتأمل الموضوع الفني من خلال انعكاساته على حالاتنا النفسية، أو أن نهرب من التركيز على العمل نفسه إلى موضوعات أخرى سبق أن دخلت نطاق تجربتنا وأصبحت مألوفة لدينا ومريحة لنا. وفضلًا عن ذلك فإن هذا التركيز الشديد يبدو في نظر الكثيرين متعارضًا مع هدف التجربة الجمالية، وهو في نظر هؤلاء هدف يرتبط بالترويج عن النفس وتخفيف توتراتها، فكيف يُراد مني أن أركز انتباهي وأضيف مزيدًا من الجهد إلى ما أقوم به فعلًا في حياتي اليومية، مع أنني أريد من الفن أن يريحني، وأن يزيل ما أعانيه من توتر؟ تلك هي الاعتراضات التي تكمن من وراء المقاومة التي يلقاها كل اتجاه فني جديد لا يدخل بسهولة في نطاق تجاربنا المريحة المألوفة، وأبسط رد عليها هو أنها تفترض أن الفن وسيلة لغاية أخرى، هي الراحة من عناء الحياة، مع أن الموقف الذي ندافع عنه يَعُدُّ الفن غاية في ذاتها، وتجربة أصيلة لا تستخدم لخدمة أي غرض آخر.

هذه النظرة إلى التجربة الفنية على أنها غاية في ذاتها، يترتب عليها مباشرة القول باستقلال التجربة الجمالية عن سائر التجارب التي نمر بها في حياتنا المعتادة. غير أن استقلال هذه التجربة، وكونها فريدة في نوعها، لا يعني على الإطلاق أنها منقطعة الصلة بالحياة. صحيح أنها توصف أحيانًا بأنها دخول إلى عالم جديد لا صلة له بعالم الحياة اليومية، وبأنها تخلق عالمها الخيالي الخاص الذي يتسم بأبعاده ومقولاته الفريدة، والذي لا يكاد يتصل بعالمنا هذا على الإطلاق. غير أن من الواجب ألا نبالغ في الفصل بين التجربة الفنية وبين الحياة المعتادة؛ إذ إن التجربة الفنية ليست آخر الأمر إلا تكثيفًا وإثراءً للتجارب الإنسانية بوجه عام؛ فالفن هو خلاصة الحياة وقد تركزت وتبلورت في لوحة أو قصيدة أو نغم، وما يبدو في نظر البعض فارقًا كبيرًا بين التجربة الفنية وتجربة الحياة المعتادة إنما يرجع — في واقع الأمر — إلى ما تتسم به الأولى من تركيز شديد، ومن قدرة على تلخيص الحياة واختزال عناصر كثيرة منها في عمل عظيم واحد.

ونتيجة لوجود رأيين متعارضين يرى أحدهما الفن منفصلًا عن الحياة ويراه الآخر مرتبطًا بها أوثق الارتباط، أصبح ينظر إلى الفن تارة على أنه هروب من الحياة وتارة أخرى على أنه أعظم مظاهر الحيوية والإقبال على الحياة في الإنسان، وأغلب الظن أن السبب الذي عُدَّ من أجله الفن هروبًا من الحياة، هو أنه يُكْسِب الفنان حرية وانطلاقًا لا يجدهما في حياته الواقعية بما تخضع له من قوانين صارمة؛ فالفنان يضع لنفسه قوانينه الخاصة، ثم يخرج عنها كما يشاء، وهو يشكل عالمًا لا يخضع إلا لإرادته. وربما استخدم حريته هذه على سبيل التعويض عن القهر الذي يعانيه في عالم الواقع؛ ومن هنا لم يكن من الخطأ القول: إن تحرر الفنان وانطلاقه يتناسب تناسبًا عكسيًّا مع تحرر الجو الذي يعيش فيه الفنان؛ فالقهر الاجتماعي يدفع الفنان إلى مزيد من التحرر والخروج عن القواعد، وعلى الرغم من أن هذه ليست قاعدة عامة، فإنها تصلح لتعليل ذلك الخروج الزائد عن المألوف، والتحرر الذي يُتَّخَذ غاية لذاته، الذي يتسم به فن القرن العشرين، ذلك القرن الذي أصبحت فيه الضغوط الاجتماعية تتحكم في الإنسان بقوة لم يُعْرَف لها من قبل نظير. ومع ذلك فإن هذا الهروب من القواعد هو ذاته تعبير عن موقف معين من الحياة، هو موقف الرفض؛ ومن ثَمَّ فهو يعد بهذا المعنى تلخيصًا وتركيزًا لما ينبغي عمله إزاء نوع الحياة الذي يعيشه الفنان. وهذا يعود بنا مرة أخرى إلى الحقيقة التي نحرص على تأكيدها في ختام هذا البحث؛ وهي أن فردانية التجربة الفنية لا تعني استقلالها التام عن الحياة وانفصالها عن المجرى العام للتجربة الإنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤