الأورجانون الجديد وفلسفة بيكن

(١) حياة فرانسس سبيكن

مرت إنجلترا بتغيرات اجتماعية وسياسية هامة في العصر الذي وُلِدَ فيه فرانسس بيكن، فقبل مولده بقليل كانت البلاد قد نزعت عن نفسها سيطرة رجال الدين واصطبغت بالصبغة الزمنية، ولم تكتف بإحلال أناس عاديين محل رجال الدين في المناصب الرئيسية للدولة. بل إنها استولت على الأراضي الشاسعة التي كانت الهيئات الدينية تدعم بها سلطتها، ووزعتها — بعد حلِّ الأديرة — على الملَّاك العاديين. وهكذا بدأ يظهر في إنجلترا نظام جديد، تتضاءل فيه سلطة الكنيسة، ويصطبغ بصبغة زمنية متزايدة القوة. ومما له دلالته الواضحة أن أبا فرانسس بيكن، وهو السير نيكولاس بيكن، كان واحدًا من الوزراء المدنيين الذين حلوا محل رجال الدين في تولي المناصب الهامة، ووصل إلى منصب حامل الأختام الملكية. وكانت أسرته من الأسر التي انتفعت بحل الأديرة وتوزيع أراضيها. أما أمه — وهي ابنة السير أنتوني كوك — فكانت سيدة واسعة الثقافة، ولا سيما في الآداب واللغات القديمة. وكانت كالفينية متعصبة. وهكذا كانت البيئة العامة في إنجلترا، وكذلك بيئة أسرة بيكن الخاصة، ملائمة أشد الملاءمة لظهور مفكر متحرر يؤمن بالعلوم الزمنية ويهاجم كل أنواع السلطة في ميدان العلم.

وقد وُلِدَ فرانسس بيكن في ٢٢ يناير سنة ١٥٦١م، وعُيِّن أبوه في منصبه الكبير بعد مولده بسنوات قلائل: وكثيرًا ما كان أبوه يصطحبه إلى البلاط الملكي، حيث كانت الملكة إليزابيث تُعْجَب بحضور بداهة الطفل وحكمته السابقة لأوانها، وتلقبه «بحامل الأختام الصغير». وهكذا ظهر منذ البداية عنصر آخر كان له تأثيره الواضح في شخصية بيكن: وهو أن نشأته وطبيعة علاقاته العائلية كانت تؤهله على نحو تلقائي لمستقبل سياسي، ولخدمة القصر الملكي في بلاده.

وكان بيكن في الثانية عشرة من عمره عندما التحق بكلية «ترينيتي» بجامعة كيمبردج. وهكذا أتم دراسته فيها وهو لم يكمل الخامسة عشرة من عمره، وهناك ظهر عنصر ثالث كان له دوره الحاسم في تحديد اتجاهه العقلي في المستقبل؛ ذلك لأنه سرعان ما سئم المناهج الدراسية العتيقة التي كانت سائدة في الجامعة، والتي كانت كلها مركَّزة حول منطق أرسطو وميتافيزيقاه ولاهوت القديس توما الأكويني، واتضح له منذ البداية أن الفلسفة التي تلقاها إنما هي فلسفة ألفاظ عقيمة، لا تفيد من الناحية العملية شيئًا، ولا تقدم أية معونة للإنسان في كفاحه الأساسي من أجل السيطرة على الطبيعة والنهوض بحياته. وهكذا تحدد في ذهنه الهدف الذي سيتجه إلى تحقيقه طوال حياته، وهو القضاء على سلطة القدماء والمدرسيين، والدعوة إلى فلسفة مثمرة من الناحية العملية.

وقد انصرف بيكن بعد هذه المرحلة الأولى من دراسته إلى الدراسات القانونية. ولكن لم يتم تعليمه القانوني إلا بعد وقت طويل: فقبل إتمام دراسته، مُنِحَت له فرصة السفر إلى الخارج، ليعمل مساعدًا للسفير البريطاني في فرنسا، فاغتنم الفرصة وسافر إلى باريس، حيث قضى في عمله هذا عامين ونصف العام. وفي عام ١٥٧٩م عاد إلى بلاده على عجل؛ إذ توفِّي أبوه فجأة دون أن يؤمِّن له مستقبله، فكان على بيكن أن يشق طريقه بنفسه بعد أن كان يعتمد كثيرًا على مساعدات أبيه، واضطر بيكن إلى الاستدانة لإكمال دراساته القانونية، ومنذ ذلك الحين أصبحت الاستدانة عادة ملازمة له طوال حياته. وكانت من أوضح مظاهر الضعف في شخصيته.

وفي تلك الفترة بدأت صداقة بيكن للإيرل إسكس Essex وهو شاب مرموق تفوق في الميدان العسكري، واختارته الملكة إليزابيث صفيًّا لها وهو في الحادية والعشرين من عمره، في الوقت الذي كانت هي فيه تناهز الستين من عمرها، وكثيرًا ما كان بيكن يُقدم النصح والتوجيه إلى صديقه، بينما قدم إليه هذا الأخير خدمات كثيرة، ومنها ضيعة صغيرة تدرُّ إيرادًا معقولًا، ومع ذلك فقد ساءت العلاقات بين إسكس وبين الملكة، واتهم بخيانتها وتدبير انقلاب ضدها، فحوكم وأُدِين وأُعْدِم في عام ١٦٠١م. وكان بيكن نفسه من المشتركين في إدانة صديقه. وفي إثبات مسئوليته عن خيانة الملكة، ويرى الكثيرون في ذلك نقطة سوداء في حياة بيكن، ويعدونها من أوضح مظاهر انتهازيته ورغبته في تملق الملوك ولو على حساب أخلص أصدقائه، على حين أن كُتَّابًا آخرين يرون أن بيكن لم يفعل إلا ما يحتمه عليه الواجب، وأن تهمة الخيانة ثابتة على إسكس، فلم يكن مفر من الاشتراك في إدانته، وعلى أية حال فقد أكد بيكن نفسه أنه آثر مصلحة الوطن — ممثَّلًا في شخص الملكة — على علاقته الشخصية بصديقه. وكان يرى في ذلك مبررًا كافيًا لسلوكه.

وبعد عامين من إعدام إسكس، توفِّيت الملكة إليزابيث، واعتلى جيمس الأول عرش إنجلترا، وانتعشت آمال بيكن في الحصول على منصب حكومي كبير، يدرُّ عليه دخلًا سنويًّا يضمن له حياة مستقرة؛ ذلك لأنه كان قد بذل محاولات متعددة للحصول على منصب كبير في عهد إليزابيث. ولكنه لم يتلق إلا وعودًا، ولم يصل إلى شيء مما كان يطمع فيه. وفي سنة ١٦٠٧م تولى بيكن أول منصب عام كان يصبو إليه، وهو منصب المدعي العام. وفي سنة ١٦١٣م أصبح محاميًا عامًّا، ثم مستشارًا خاصًّا للملك سنة ١٦١٦م. وفي العام التالي أصبح حامل الأختام الملكية. وفي سنة ١٦١٨م عُيِّن كبير للمستشارين، ومُنِحَ لقب «لورد فيرولام» ثم مُنِحَ لقب «ألفيكونت» سنة ١٦٢١م.

وعندما بلغ نجاح بيكن في ميدان المناصب العامة هذه القمة، بدأ يتدهور بسرعة، فقد اتُّهم بالرشوة، وبأنه يتقاضى هدايا من المتهمين قبل محاكمتهم وأثناءها، وحاول الإنكار في البداية، ولكنه اضطر إلى الاعتراف بتقاضي الرشوة، وإن كان قد أكد مع اعترافه هذا أمرين: أحدهما أن هذه الهدايا لم تؤثِّر في الأحكام القضائية التي أصدرها، والآخر أن تقاضي الهدايا كان أمرًا شائعًا في بلاده في ذلك الحين، حتى بالنسبة إلى مناصب القضاة، وقد كان بالفعل صادقًا في المسألة الثانية على الأقل، ويبدو أن حاجته إلى المال، وديونه التي ظلت تتراكم طوال حياته، وتعوده حياة البذخ والمتعة، كل ذلك جعله يغض الطرف عن المصدر الذي يحصل منه على المال، أو الوسيلة التي يأتيه بها هذا المال، وعلى أية حال فقد أدانه مجلس اللوردات، وحكم عليه بغرامة مقدارها ٤٠ ألف جنيه، والحبس في البرج طوال الوقت الذي يشاؤه الملك، وعدم تولي أي منصب في الدولة، أو الاقتراب من البرلمان أو المحاكم. ومع ذلك فقد أعفاه الملك من الغرامة ولم يُدِمْ حبسه إلا أيامًا قلائل، وإن يكن قد حُرِمَ بالفعل من تولي المناصب العامة بعد ذلك، ومن الواضح أن تخفيف العقوبة على هذا النحو دليل على أن جريمته لم تكن شيئًا خارجًا عن المألوف في ذلك الحين.

ورغم أن بيكن قد تفرغ بعد نكبته هذه لحياته الخاصة ولمشروعاته العلمية الواسعة، فإن صحته — التي لم تكن قوية في وقت من الأوقات — قد بدأت تتدهور بسرعة. وكان موته مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالهدف الرئيسي لحياته الفكرية، وهو تحويل العلم إلى ميدان التجربة العلمية؛ ففي أثناء تجربة بدا له أن يجريها في يوم مثلج شديد البرودة، لكي يختبر تأثير التبريد في منفع التعفن، أصيب ببرد قاتل، وتفاقم المرض بسرعة، فتوفِّي في التاسع من أبريل سنة ١٦٢٦م. وكان عندئذ في الخامسة والستين من عمره.

فإذا شئنا أن نلخص أهم العوامل التي تحكمت في تحديد الاتجاه الفكري لبيكن من خلال دراستنا السابقة لحياته، لقلنا: إن أولها هو ارتباطه بأسرة لها مصلحة أساسية في التجديد الديني بإنجلترا. وفي استقلال الكنيسة الإنجليزية عن كنيسة روما المتعصبة، فقد كان هذا العامل هو الذي تحكم في دعوته إلى الفصل القاطع بين مجال الدين ومجال العلم. وفي ثورته على السلطة العقلية بجميع أنواعها.

والعامل الهام الثاني هو اندماجه الكامل في الحياة السياسية لعصره؛ ذلك أن هذا الاندماج جعله عاجزًا عن التفرغ لمشروعاته العلمية، وهو أمر كان له تأثيره في تخطيط هذه المشروعات وأسلوب كتابتها، كما سنرى فيما بعد. ومع ذلك فقد أراد بيكن أن يحول حياته السياسية إلى أداة لخدمة مشروعاته العلمية، وينتهز فرصة توليه أرفع مناصب الدولة من أجل تحقيق هذه المشروعات علميًّا، ويستدل بعضهم من ذلك على أن السياسة عند بيكن لم تكن سوى وسيلة، وأن الغاية الحقيقية إنما هي خدمة العلم؛ وبذلك يدفعون عنه تهمة الانتهازية والرغبة في الصعود إلى أعلى المناصب ولو على حساب القيم الأخلاقية. وهذا رأي لا يمكن الجزم بصحته. غير أن هناك شواهد متعددة على أنه كان يعد النجاح في ميدان الحياة العامة وسيلة لتحقيق أهدافه العلمية؛ وذلك لسببين: أولهما شخصي، وهو أنه بطبيعته لم يكن من ذلك النوع الذي يستطيع أن يعيش على الكفاف، بل إنه لم يكن يستطيع أن يقدم خير ما عنده إلا وسط مظاهر الترف التي توارثها واعتادها، والسبب الثاني عام، هو أنه كان يستطيع — بالوصول إلى المناصب الرفيعة — أن يكتسب من النفوذ والسلطة ما يُمكنه من وضع مشروعاته موضوع التنفيذ الفعلي، ومن إقناع الحكومة والناس بها، ومن هنا فإن أهداف حياته كلها تتلخص في ذلك الخطاب الذي بعث به إلى خاله في عام ١٥٩٢م يطلب منه مساعدته على الحصول على منصب هام، ويقول فيه: «لقد اتخذت من المعرفة كلها ميدانًا لي». وفي هذه الرسالة أكد له أنه لا يريد المنصب الرفيع إلا ليستطيع تنفيذ ما في ذهنه من المروعات، إذ إن تطهير المعرفة من الأوهام والتشويهات «هو أمر استقر في ذهني حتى أصبح راسخًا لا يتزعزع.»

ويرى «أندرسن» أن نداءات بيكن المتوالية إلى البلاط لكي يعينه على تنفيذ مشروعاته كانت دليلًا على أن المعرفة عنده مفضلة على المنصب السياسي، «فمن الإنصاف لبيكن أن نقول: إنه كان على استعداد لأن يغامر في سبيل تفسيره الجديد للطبيعة. وفي الوقت الذي كان لا يزال يسعى فيه للحصول على منصب كبير في الدولة، بتقديم نداء صريح إلى رئيس الكنيسة القائمة وحاكم الدولة من أجل مشروع علمي يتضمن فلسفة مادية صريحة، ومن شأنه حتمًا أن يحدث انقلابًا في تكوين معاهد العلم القائمة والأساليب المتبعة فيها»،١ وهكذا ظل بيكن يلح على الأمراء وكبار رجال الدولة، وعلى الملك جيمس الأول — الذي كان يعرف عنه حب العلم؛ لكي يساعده في تحقيق مشروعاته العلمية، التي لخصها ذات مرة بأنها إنشاء مكتبة تضم كل ما جادت به قريحة الإنسان في الشرق والغرب، وحديقة بها كل أنواع النباتات في العالم، وكذلك كل أنواع الحيوانات وكأنها في بيئاتها الطبيعية، ومتحف يضم كل اختراعات الإنسان الآلية، ومعمل كامل المعدات. ومع ذلك لم يستمع إليه أحد، وظنوا أن مطالبه هذه إنما تنبعث عن طموح شخصي أو سعي إلى الشهرة والمنصب الرفيع، ولم يستطع جيمس الأول أن يقتنع بأن يزود بيكن ما زوَّد به الإسكندر الأكبر أرسطو من المساعدات، فلم يساعده في مشروعه الذي يهدف إلى تأليف دائرة معارف للعلوم الطبيعية، وإنشاء مجمع علمي يتفرغ للبحث التجريبي، ولم يفعل شيئًا لتغيير خطة الجامعات ومعاهد العلم القائمة من الدراسة العتيقة إلى الدراسة التجريبية الطبيعية الحديثة، ولم تبدأ هذه المشروعات في التحقيق إلا بعد وفاة بيكن، كما سنرى في الجزء الختامي من هذا البحث.

(٢) مؤلفات بيكن

كان أول مؤلفات بيكن هو كتاب «المقالات» Essays وقد نشره أولًا في سنة ١٥٩٧م. وكان عندئذٍ كتيبًا صغيرًا يحوي عشر مقالات فقط، ثم أعاد طبعه مع إضافة مقالات جديدة إليه، في سنة ١٦١٣م وسنة ١٦٢٥م، ووصل في المرة الأخيرة إلى ثمانية وخمسين مقالًا في موضوعات متفرقة، تتميز كلها بالأسلوب الشيق والأفكار المبتكرة، ويُعَدُّ هذا الكتاب من أحب كتب بيكن إلى نفوس القراء.
وعندما تولى جيمس الحكم، أراد بيكن أن يتقرب إليه ويلفت نظره إلى مشروعاته، فنشر في عام ١٦٠٥م كتاب «النهوض بالعلم The Advancement of Learning» باللغة الإنجليزية وأهداه إلى الملك، وقد حمل بيكن في هذا الكتاب على تعاليم المدرسين، ونبه إلى الطريقة التي يراها كفيلة بالنهوض بالعلوم. وقد أعاد بيكن نشر هذا الكتاب فيما بعد، بعد ترجمته إلى اللاتينية وإدخال إضافات كثيرة عليه، بعنوان: «قيمة العلم والنهوض به De digntitate et augmentis scientiarum في عام ١٦٢٣م»، وعمل بيكن بعد ذلك على نشر آرائه في مجموعة كبيرة من المؤلفات اللاتينية التي لم تُنْشَر خلال حياته، والتي تضمنت أفكارًا تكرر معظمها في كتبه الرئيسية، وقد بلغ عدد هذه المؤلفات اثني عشر كتابًا. وفي عام ١٦٠٩م نشر بيكن كتاب «حكمة الأقدمين De sapientia verterum»، وبدأ في وضع خطة كتابه الأكبر «الإحياء العظيم Instauratio magna». وكان بيكن يتوقع أن يكون هذا الكتاب أعظم ما كُتِبَ؛ بحيث يعبر فيه عن نفسه بحق ويبلغ رسالته إلى العالم.
وكانت خطة كتاب «الإحياء العظيم» — كما رسمها بيكن في البداية — تقضي بأن يتألف الكتاب من ستة أجزاء، لم يستطيع أن يُتِمَّ إلا واحدًا منها، وحتى في هذه الحالة ظهر الكتاب ولما يكتمل بناؤه بعد، ولنتأمل عناوين هذه الأجزاء كما أراد بيكن أن تكون:
  • (١)
    أقسام العلوم  The Divisions of the sciences، وهو تصنيف للعلوم لم يكتبه بيكن فعلًا، ولكنه استعاض عنه مؤقتًا بالجزء الثاني كتاب «النهوض بالعلم»، ورأى أن هذا الجزء يفي بالغرض حتى يتم هو تأليف كتاب خاص في الموضوع، وهو ما لم يفعله قط.
  • (٢)
    الأرجانون الجديد Novum organum وعنوانه الفرعي هو: «إرشادات في تفسير الطبيعة  Directions concerning the interpretation of Nature». وهذا هو الجزء الذي نشره بيكن فعلًا، أما لفظ «الأورجانون» فيعني الأداة، أو المنطق نفسه، بوصفه أداة للتفكير العلمي، وقد أراد بيكن باستخدامه هذا اللفظ، أن يعبر عن معارضته لمنهج أرسطو ومنطقه الذي كان يُعْرَف باسم الأورجانون.
  • (٣)
    ظواهر الكون، أو تاريخ طبيعي وتجريبي تُبْنَى على أساسه الفلسفة The phenomena of the Universe, or a Natural and Experimental History for the foundation of Philosophy.

    ويصف بيكن هذا الجزء بأنه دائرة معارف للعلوم الطبيعية وصنائع الإنسان وفنونه، يمكن عن طريقها إقامة الفلسفة على أساس سليم من دراسة الواقع، بعد أن كانت تُبْنَى من قبل على تجريدات لا صلة لها بالعالم الفعلي، وقد ألَّف بيكن بضعة أبحاث قصيرة من أجل دائرة المعارف هذه. ولكنه كان يؤمن بأن هذا عمل لا يمكن أن يقوم به رجل واحد.

  • (٤)
    سلم العقل The Ladder of the intellect ويوضح الطريقة التدريجية في تطبيق المنطق على تفسير الوقائع التي جُمِعَت في المرحلة السابقة.
  • (٥)
    التمهيدات، أو استباقات الفلسفة الجديدة The Forerunners, or Antieipations of the new philosophy. وهذا الجزء يقدم صورة تمهيدية للمعرفة الجديدة، وللقوة التي يكتسبها الإنسان عندما يتم «الإحياء».
  • (٦)
    الفلسفة الجديدة، أو العلم الإيجابي The New philosophy, or Active Science وقد صرح بيكن بأن قدراته لن تمكنه من كتابة هذا الجزء الأخير، الذي سيكتبه العلماء أنفسهم بأبحاثهم، المفكرون بآرائهم المبنية على دراسة سليمة للواقع. وكان يكفيه أنه بدأ السير في الطريق، وعلى البشرية أن تكمل ما بدأ.

وأول ما يلاحَظ على هذه الخطة هو أن بيكن لم يُتِم الجزء الأكبر منها، وكل ما فعله هو أنه حدد أهدافه العامة، ثم شرع في تنفيذ أجزائها الأولى، وتوقفت جهوده عند هذا الحد، وقد عمل شراح فلسفته على إدراج كتاباته المتفرقة — ولا سيما مقالاته اللاتينية — ضمن هذه الخطة، وإن لم يكن هو ذاته قد فعل ذلك، وحتى في هذه الحالة نجد أن هناك أجزاء غير قليلة من هذه الخطة لم تُكْتَب فيها إلا صفحات قلائل، بينما الجزء الأخير لم يُكْتَب فيه حرف واحد.

ولعل أهم نتيجة تكشف عنها خطة بيكن هذه هي أنه لم يؤلف بالفعل كتابًا اسمه «الأورجانون الجديد»، وإنما ألف جزءًا من «الإحياء العظيم» يحمل هذا العنوان، وعندما نُشِرَ هذا الجزء أثناء حياة بيكن، كان الغلاف يحمل اسم «الإحياء العظيم». وهكذا فإن «الأروجانون الجديد» ليس كتابًا مستقلًّا، وإنما هو جزء من كتاب، أو على الأصح جزء من خطة عامة لإصلاح العلم وللنهوض بحياة الإنسان. ومن الواجب دائمًا أن يُنْظَرَ إليه داخل سياقه الطبيعي، لا أن يؤخذ على أنه بحث منفصل يكوِّن أهم كتابات بيكن. وقد تضمن القسم الثاني من «الأورجانون الجديد» خطة فرعية لهذا الجزء، لم يستطع بيكن أن يتمها بدورها. وهكذا فإن «الأورجانون الجديد» جزء من خطة شاملة لم تكتمل. كما أن للأورجانون الجديد نفسه خطة فرعية لم يكتمل منها إلا جزء بسيط، وقد ألَّف الكتاب على صورة فقرات منفصلة aphorisms لها أرقام ثابتة، وهو مؤلف من جزأين: جزء سلبي بعنوان «تفسير الطبيعة وقدرة الإنسان»، وجزء إيجابي بعنوان «تفسير الطبيعة وسيادة الإنسان»، وأسلوب الكتاب شيق بليغ، يتضمن تشبيهات رائعة اشتهر بها بيكن في كل كتاباته حتى عدَّه البعض أمير البيان في عصره، سواء أكتب باللاتينية أم بالإنجليزية (وقد بلغ من تحكمه في اللغة أن ذهب بعض الباحثين المحدثين إلى أنه هو المؤلف الحقيقي لدرامات شكسبير، على حين أن هذا الأخير لم يكن إلا شخصًا مغمورًا، ورغم ابتعاد هذا الزعم عن الصواب، فإنه ينطوي على تقدير ضمني هائل لأسلوب الكتابة عند بيكن).

ولا شك أن من الأسئلة الهامة التي ينبغي الإجابة عنها في صدد الكلام عن مؤلفات بيكن، السؤال عن السبب الذي دفعه إلى الكتابة بطريقة الفقرات المنفصلة، في هذا الكتاب الرئيسي على الأقل. والواقع أن مجموعة مؤلفاته كلها كانت بدورها أشبه بالفقرات المنفصلة التي تفتقر إلى الإحكام والترابط: فكان يبدأ مشروعًا تأليفيًّا ثم يتركه لينتقل لغيره، وقد يعود إلى المشروع القديم بعد ذلك ولكن بعد تغيير خطته. وهكذا فعلى أي نحو نعلل هذا الطابع غير المتصل لتفكيره سواء في كتاب «الأورجانون الجديد» وفي مؤلفات منظورًا إليها في مجموعها.

أول تعليل لهذه الظاهرة نستمده من طبيعة حياة بيكن: فقد كانت مهامه العامة وآماله في المناصب الكبيرة ومساعيه للوصول إليها تشغل الجزء الأكبر من وقته. وليس معنى ذلك أنه آثرها على العلم، وإنما المهم في الأمر أن أوقات فراغه كانت محدودة. وهكذا كان يكتب في فترات «الهدنة» ما بين حروبه المستمرة مع خصومه، ومشاغله التي لا تنقطع في الحياة العامة، ومن المؤكد أن هذه الحياة المضطربة الصاخبة قد انعكست على طريقة تفكيره وكتابته، وطبعتها بطابع التجزؤ والاضطراب.

على أننا نستطيع أن نهتدي في كتابات بيكن ذاتها إلى تعليل موضوعي آخر لهذه الظاهرة، مستمد من نظرته الخاصة إلى الطريقة التي ينبغي أن يعرض بها المفكر النزيه آراءه، فهو في إحدى فقرات كتاب «الأورجانون الجديد» يعلل سبب إجماع الناس على الإعجاب بكتابات الأقدمين، رغم كل ما فيها من نقص، فيقول: «إنهم يقدمونها إلينا ويعرضونها علينا بطريقة من شأنها أن تضفي عليها قناعًا نتوهم معه أنها كاملة تامة، فلو تأملت منهجهم وتقسيماتهم، لبدا أنها قد انتظمت كل ما يتعلق بالموضوع واشتملت عليه، ومع أن هذا الإطار قد أسيء ملؤه، وأنه أشبه بالقربة الفارغة، فإنه يتخذ في نظر الذهن الساذج مظهر العلم الكامل وصورته. أما الباحثون الأوائل القدماء عن الحقيقة، فقد كان لديهم من الأمانة ومن التوفيق ما جعلهم ميالين إلى أن يصوغوا ويعرضوا كل معرفة أرادوا استخلاصها بالتأمل، في صورة فقرات منفصلة aphorisms، أو جمل قصيرة مبعثرة لا يربط بينهما أي منهج، دون أن يدَّعوا أو يزعموا أنها تشتمل على أي علم كامل»،٢ وواضح من هذا النص أن بيكن يؤمن بأن عرض الآراء في صورة متكاملة قد يكون نوعًا من خداع الناس، إذا كانت هذه الآراء تتعلق بموضوعات لم يكتمل البحث فيها بعد، ولم يصل المرء فيها إلى حقيقة تامة، وطالما أن العلم لم يكتمل، فمن الواجب ألا يُعْرَض على الناس في صورة مكتملة، ولما كان هو ذاته أول من يعترف بأن الموضوعات التي تعرض لها ما زالت في حاجة إلى بحوث كثيرة، فقد كان من الطبيعي ألا يحاول خداع الناس، أو تكرار ما فعله بعض القدماء، بعرض أفكار جزئية في صورة مكتملة. ومما يؤيد هذا التعليل أن بيكن يقدم إلى القارئ وصفًا للجزء الإيجابي من كتاب «الأورجانون الجديد»، فيقول: «نود ألا يعتقد أحد أننا نطمح إلى إنشاء أية مدرسة أو طائفة فلسفية كما فعل اليونانيون القدامى أو بعض المحدثين، إذ ليس هذا هدفنا، ونحن لا نعتقد أن الأفكار المجردة عن الطبيعة ومبادئ الأشياء تُحْدِث تأثيرًا كبيرًا في أقدار البشر، وهكذا فإن جهدنا ليس مركزًا في هذه الموضوعات النظرية، والعقيمة في الوقت ذاته، وإنما استقر عزمنا على أن نحاول إيجاد أساس أمتن لقدرة الإنسان وعظمته، ومد حدودهما إلى أبعد الآفاق، وعلى الرغم من أننا قد نقول في هذا الموضوع أو ذاك وفي بعض المسائل الخاصة، بآراء تبدو لنا أصح وأوثق من الآراء التي يشيع الاعتراف بها، بل أستطيع أن أقول: إنها أنفع منها، فإننا مع ذلك لا نقدم نظرية شاملة ولا كاملة،٣ وهكذا كان بيكن يتحاشى الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه القدماء، ويحرص على أن يعرض آراءه على أنها «محاولات» بحيث تكون طريقة العرض ملائمة لموضوعات البحث وللمرحلة التي وصل إليها فيه.»

(٣) الخصائص العامة لفلسفة بيكن

إذا تأمل المرء فلسفة بيكن من خلال كتاب «الأورجانون الجديد» بدا له أن أهم ما تتميز به هذه الفلسفة هو تجديدها للمنطق، ونظريتها الجديدة في الاستقراء. أما إذا تأمل هذه الفلسفة من خلال الخطة العامة لكتاب «الإحياء العظيم» الذي لا يكوِّن الأورجانون إلا جزءًا واحدًا منه؛ لبدت له محاولة ذات طابع أعم بكثير، لكشف القيم الجديدة التي تتضمنها الحضارة العلمية الحديثة في أول عهودها، ولاستخلاص المضمونات الفكرية لعصر الكشوف العلمية والجغرافية، والتعبير بصورة عقلية عن التغيير الذي تستلزمه النظرة الجديدة إلى الحياة. وفي هذه الحالة الأخيرة تبدو فلسفة بيكن في صورة «إحياء» لقدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة (وبالفعل كان بيكن يؤمن بأن الإنسان — كما جاء في سفر التكوين — كانت له السيادة على المخلوقات جميعًا، ثم أدى فساد العلم إلى استعادة سيطرته على العالم، ولو شئنا أن نترجم عنوان كتابه الكبير ترجمة حرفية لقلنا: «الاسترداد العظيم»).

ولقد ظل مؤرخو الفلسفة طويلًا ينظرون إلى بيكن على أنه فيلسوف منطقي، ويرون أن أعظم ما قدمه إلى الفلسفة هو نظريته في الاستقراء؛ على أن البحث الحديث في فلسفة بيكن قد غيَّر هذه النظرة تغييرًا أساسيًّا، ولا سيما بعد ظهور كتابي: «فارنجتن»٤ و«أندرسن»٥ (في سنتين متواليتين)، فأندرس يحذر من تلك العادة «الهيجلية» التي يُنْظَر فيها إلى المفكر على أنه مجرد حلقة في سلسلة يمثلها اتجاه فلسفي عام؛ بحيث يُعَد بيكن ممثلًا غير ناضج للمذهب التجريبي الذي بلغ قمته عند هيوم، أو مرحلة في الاتجاه الاستقرائي الذي اكتمل عند مِل، أو مكملًا لأرسطو أو المدرسيين؛ فكل هذه تفسيرات الذي باطلة لتفكير بيكن، الذي كانت له خصائصه ومقوماته الفريدة، ويأخذ «فارنجتن» على عاتقه مهمة إيضاح هذه الخصائص؛ ليبين بوضوح كامل مدى ارتباط بيكن بالحضارة العلمية الصناعية الحديثة، وإلى أي حد كانت فلسفته نبوءة تبشر بتطورات هائلة في نظرة الإنسان الأوروبي إلى الحياة، لا مجرد قواعد منهجية أو منطقية جديدة.

وإذا كان من المستحيل التكهن بتلك الفلسفة النهائية التي رأى بيكن أن الواجب إقامتها على أساس الدراسة العلمية للطبيعة — وهي الفلسفة التي تكون الجزء السادس من خطة «الإحياء العظيم» — فإن في وسعنا أن نستخلص الملامح العامة لفلسفة بيكن من خلال كتاباته الباقية، وهي فلسفة لا نستطيع أن نقول إنها نهائية. ولكنها هي التي أرشدته في طريقه العقلي طول حياته، ولهذه الفلسفة جانبان: أحدهما سلبي، والآخر إيجابي، وهما معًا وجهان لموقف فكري واحد، وسنتناول الآن بالشرح كلًّا من هذين الجانبين على حدة.

•••

لا يكاد يوجد كتاب في موضوع «مناهج البحث العلمي»، أو منهاج دراسي في هذا الموضوع، إلا ويبدأ بطريقة واحدة؛ فهو يُجْرِي مقارنة بين طريقة التفكير الشرقية القديمة، والتي تقوم على معارف عملية تطبيقية، وبين طريقة التفكير اليونانية التي تقوم على معارف نظرية، أو على مبدأ «المعرفة لأجل المعرفة»، ويؤكد أن العلم بمعناه الصحيح لن يبدأ إلا حين سادت النظرة اليونانية، وأصبح العلم يُطْلَب لذاته لا لأي غرض عملي. والواقع أن اليونانيين هم المسئولون عن الحضارة الغربية منذ عصرهم، حتى أصبح هو معيار المنهج العلمي الصحيح؛ فاليونانيون هم الداعون إلى بحث «الوجود بما هو موجود»، والوصول إلى «الحقيقة لذاتها»، وإلى احتقار كل بحث يخضع للاعتبارات العملية، وتمجيد كل علم نظري بحت. وهكذا انتشر منذ العصر اليوناني الرأي القائل: إن العلم ينبغي أن يُطْلَبَ لذاته، وأصبح أشبه بالعقيدة الراسخة التي لا يحاول أحد أن يناقشها.

ومن المؤكد أن لهذا الرأي أساسًا من الصحة، حتى من وجهة النظر العملية ذاتها؛ ذلك لأن معرفة القاعدة النظرية أو القانون النظري توسع نطاق العلم، وتزيد بالتالي من قدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة؛ فالشخص الذي يفهم نظرية فيثاغورس في صيغتها المجردة لديه معرفة أوسع نطاقًا بكثير من ذلك الذي يطبقها دون فهم نظري لها، على ميدان عملي محدد، وبذا يكون الأول أقدر حتى من الناحية العملية ذاتها، وإلى هذا الحد نستطيع أن نقول: إن مبدأ المعرفة النظرية كان عاملًا هامًّا في تقدم العلم. وفي تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة.

ولكن الذي حدث بالفعل هو أن هذا المبدأ قد أسيء استغلاله إلى أبعد حد؛ بحيث أصبح عائقًا في وجه تقدم المعرفة؛ ففي العصر اليوناني تحولت المعرفة النظرية إلى معرفة كلامية أو لفظية، وأصبحت النتائج العلمية تُسْتَخْلَص من أقيسة لفظية لا تقدم ولا تؤخر، وازداد ابتعاد الإنسان تدريجيًّا عن واقع الأشياء وعن عالم الطبيعة، متخذًا لذلك ذريعة من مبدأ المعرفة النظرية، وازدادت قوة الاتجاه إلى الابتعاد عن الواقع في العصور الوسطى، ووجد له سندًا في النزعة الزاهدة المضادة للطبيعة في مسيحية العصور الوسطى، فكانت نتيجة ذلك تقلصًا تدريجيًّا في قدرة الإنسان على التحكم في الطبيعة، دون أن يجرؤ أحد على مناقشة هذا المبدأ المقدس، مبدأ المعرفة النظرية أو الاعتراض عليه؛ ذلك لأن الاعتراض على هذا المبدأ المتأصل في النفوس كان في واقع الأمر احتجاجًا على أسلوب كامل في الحياة. وكان دعوة إلى التغلغل في عنصر مكروه هو الطبيعة المادية، ونستطيع أن نقول: إن بيكن كان من أول وأجرأ من ناقشوا المثل الأعلى للحكمة النظرية هذه، ووجهوا إليه اعتراضات حاسمة.

فقد أدرك بيكن بوضوح تام هذا العيب الأساسي في طريقة تفكير فلاسفة اليونان والعصور الوسطى، وهو بأن العقل النظري وحده كفيل بالوصول إلى العلم، وحمل على الفكرة القائلة «بأن مما يحط من قدر الذهن البشري أن يظل عاكفًا مدة طويلة ودون انقطاع على الاتصال بالتجارب والجزئيات، التي هي موضوعات الحس، وأن يقتصر على المادة وحدها، لا سيما وأن هذه الأمور تقتضي عادةً جهدًا في البحث وهي ليست موضوعًا رفيعًا للتأمل. كما أن الحديث عنها ليس بالحديث الرفيع، ودقتها لا حد لها، وهكذا نُبِذَت التجربة بازدراء، ولم يقتصر الأمر على تجاهلها أو إساءة تطبيقها.»٦
وعلى هذا الأساس أعاد بيكن تقويم الفلسفة اليونانية في ضوء اعتراضه الأساسي على مثال المعرفة النظرية هذا، وقلل إلى حد بعيد من قيمة كبار الفلاسفة اليونانيين الذين لم يشتهروا إلا بفضل دعوتهم إلى العلم النظري الخالص، واحتقارهم للتجربة، واستبدالهم عالم الألفاظ بالعالم الطبيعي الحقيقي، «وهكذا فإن اسم السفسطائيين الذي رفضه بازدراء أناس يظنون أنفسهم فلاسفة، وأطلقوه على البلاغيين، مثل جورجياس وبروتاجوراس وهيبياس وبولوس Polus؛ هذا الاسم يمكن أن ينطبق بالفعل على المجموعة كلها، مثل أفلاطون وأرسطو وزينون، والفارق الوحيد بين أولئك وهؤلاء هو أن الأولين كانوا مرتزقة جوالين، يتنقلون بين البلدان المختلفة ويستعرضون حكمتهم ويطالبون بثمن لها، على حين أن الآخرين كانوا أكثر وقارًا واحترامًا. وكانت لهم مقارهم الثابتة ومدارسهم المفتوحة. وكانوا يعلمون الفلسفة بلا مقابل». وهكذا يقتبس بيكن وصفًا مشهورًا لفلسفة أفلاطون بأنها «حديث عجائز عاطلين إلى شبان جاهلين»، ويرى أن هذا الوصف ينطبق على الجميع، وهو يستثني من هذا الحكم الفلاسفة اليونانيين الأوائل، مثل أبنادقليس وهرقليطس؛ لأنهم لم يفتحوا مدارس، وإنما واجهوا الحقيقة مباشرةً، وعلى أية حال، فإن مما يعيب اليونانيين جميعًا أنهم «يشتركون مع الأطفال في الميل إلى الكلام والعجز عن الإنجاب (المثمر)؛ بحيث كانت حكمتهم لفظية لا تثمر أية نتائج.»٧

ومثل هذا النقد يوجِّهه إلى الفلاسفة المدرسيين في العصور الوسطى؛ ففي إحدى فقرات كتابه «النهوض بالعلم» يقول: «إن هذا النوع المنحط من المعرفة قد ساد أساسًا بين المدرسيين، الذين كان لديهم ذكاء قوي حاد، وأوقات فراغ طويلة، وقراءات قليلة التنوع. ولكن كان ذكاؤهم حبيسًا في زنزانات كُتَّاب قلائل أهمهم أرسطو حاكمهم المستبد، مثلما كانت أشخاصهم حبيسة في زنزانات الأديرة ودور العلم، ولما لم يكونوا يعرفون من التاريخ الطبيعي أو الزمني إلا قليلًا، فإنهم قد تمكنوا، باستخدام مادة ضئيلة ولكن مع استعمال مفرط للعقل، من أن يحيكوا أنسجة العنكبوت المضنية التي نجدها في كتاباتهم؛ ذلك لأن ذكاء الإنسان وذهنه، إذا ما مورسا على مادة مثل تأمل مخلوقات الله، فإنهما يعملان تبعًا لمقدار هذه المادة ويتحددان بها. أما إذا مورسا على ذاتهما، مثلما ينسج العنكبوت خيوطه؛ فعندئذٍ لا يكون لعملهما نهاية، يأتيان حقًّا بمعرفة أشبه بنسيج العنكبوت، تعجبنا فيها دقة الخيوط وحبكة النسج. ولكن ليس لها قوام ولا منها جدوى.»

وهكذا تحولت حملة بيكن على العلم النظري الخالص عند القدماء والمدرسيين إلى حملة على كل تقيد بأية سلطة في ميدان العلم، ودعوة إلى البدء في طريق جديد غير تلك الطرق العتيقة التي لا تثمر ولا تجدي. ولا شك أن حملته على السلطة في العلم قد تركزت في شخص أرسطو، الذي وجَّه إليه أشد انتقاداته وأعنف هجماته، وقد نرى نحن اليوم في هذا الهجوم قسوة مفرطة، وجحودًا بفضل أرسطو الذي لا يستطيع أي باحث منصف أن ينكره. ومع ذلك ينبغي ألا ننسى أن بيكن لم يكن يحارب أرسطو من حيث هو أثر تاريخي، وإنما كان يحاربه من حيث هو قوة حية، تعد هي المرجع الأخير في كل علم قائم، ومن حيث هو عقبة قوية تقف في وجه أي إحياء للعلم؛ ومن هنا كان عنف نقده بالقياس إلى أي نقد حديث لأرسطو؛ ذلك لأن أرسطو لم يعد اليوم قوة حية في أي ميدان باستثناء الفلسفة (ويعتقد الكثيرون أنه لم يعد حيًّا في هذا الميدان بدوره)، وإنما هو أثر تاريخي، نبدي نحوه نفس الإعجاب الذي نبديه بمبنى أثري قديم: لا يصلح للسكنى. ولكنه كان في زمنه شيئًا رائعًا.

ونستطيع أن نقول: إن بيكن قد أحدث في مجال المعرفة انقلابًا موازيًا لذلك الذي أحدثه لوثر وكالفن منذ فترة وجيزة — بالنسبة إلى ذلك العصر — في مجال الدين؛ ففي حالة أصحاب الدعوة الدينية الجديدة، الثائرة على جمود الكنيسة الكاثوليكية، كان يكفي لتحقيق غاية الدين أن يكون الفرد إنسانًا صالح النوايا، وهو ليس في حاجة إلى «سلطة يأخذ بتفسيراتها للدين». وفي حالة بيكن كان يكفي لتحقيق غاية العلم أن يبدأ المرء وكأنه طفل بريء، وأن يتحرر من كل سلطة مفروضة على ذهنه، وأن يستخدم عقله ويضع لنفسه منهجًا صحيحًا؛ وبذلك يصل إلى الحقيقة دون معونة من آراء القدماء، ونستطيع أن نمضي في هذه المقارنة أبعد من ذلك فنقول: إن المذاهب الدينية الثائرة كانت تؤمن بقدرة كل شخص على أن يتصل بموضوع الدين، وهو الله، اتصالًا مباشرًا دون وسائط، وبالمثل كان بيكن يؤمن بأن في وسع كل ذهن أن يتصل بموضوع العلم، وهو الطبيعة، اتصالًا مباشرًا دون وسائط، وكما أثبتت الثورة الدينية أن سلطة الكنيسة لا جدوى منها في الوصول إلى الخلاص، فكذلك حاول بيكن أن يثبت — في ثورته العلمية والمنهجية — أن سلطة القدماء وفلسفتهم اللفظية لا جدوى منها في الوصول إلى الحقيقة، وإنما هي عقبات تجعلنا نكتفي بمواجهة الألفاظ بدلًا من أن نواجه الطبيعة والأشياء مباشرةً.

أما الوجه الإيجابي فهو الإيمان المطلق بالعلم وبقدرته على تحسين أحوال البشر؛ ذلك لأن الدعوة إلى المعرفة النظرية — كما كانت سائدة في العصرين القديم والوسيط — كانت دعوة مستسلمة تفصل بين العلم وبين واقع حياة الإنسان. وكان بيكن هو الذي بعث الأمل الذي كان يبدو بعيدًا عن التحقيق، وهو استخدام العلم أداة في يد الإنسان، تعينه على فهم الطبيعة، وبالتالي على السيطرة عليها.

ولقد عبر «فارنجتن» عن هذه الفكرة أوضح تعبير في كتابه عن «فرانسس بيكن»، وهو الكتاب الذي يمكن أن يُعَدَّ إثباتًا مطولًا لرأي بيكن في ضرورة استخدام العلم في زيادة رفاهية الإنسان، وهكذا يقول في مستهل كتابه هذا: «إن قصة فرانسس بيكن إنما هي قصة حياة كُرِّسَت لفكرة عظيمة. هذه الفكرة قد تملكته صبيًّا، ونَمَتْ مع التجارب المنوعة لحياته، وشغلته وهو على فراش الموت، والفكرة اليوم مألوفة متداولة ولكنها في عصره كانت تجديدًا إبداعيًّا، تلك هي الفكرة القائلة: إن المعرفة ينبغي أن تثمر في أعمال، وأن العلم ينبغي أن يكون قابلًا للتطبيق في الصناعة، وأن على الناس أن يرتبوا أمورهم بحيث يجعلون من تحسين ظروف الحياة وتغييرها واجبًا مقدسًا عليهم»٨ كما يقول قرب نهاية كتابه: «إن بيكن يدخلنا جوًّا ذهنيًّا جديدًا، وعندما نحلل هذا الجو؛ نجد أن أهم عناصره ليس ما أحرزه من تقدم علمي، وإنما هو ثقته المتينة في قدرة العلم على تغيير حياة الإنسان.»٩

والواقع أن بيكن إذا كان قد أتى بجديد في تاريخ التفكير الفلسفي والعلمي، فإنما يكون هذا التجديد في المعيار الذي وضعه للعلم الصحيح: وهو قدرته على أن يثمر أعمالًا؛ فالعلم العقيم ليس علمًا، والعلم الذي يذهب ويختفي دون أن تتغير معه حياة الإنسان في شيء ليس علمًا، والعلم الذي هو مجرد تكديس للأفكار والآراء دون أن ينعكس تأثيره على أحوال الناس الفعلية ليس علمًا، وإنما العلم في رأيه هو ذلك الذي يمكن أن يثمر أعمالًا ويؤدي إلى تغيير حقيقي في حياة الناس. وهذا يعني — بعبارة موجزة — أن العلم كما يدرس في معاهد العلم الموجودة ليس علمًا، وأنه لا بد من حدوث ثورة شاملة في نظرة الناس إلى العلم، إلى وظيفته وإلى طريقة تحصيله.

وهكذا اتجهت دعوة بيكن إلى القيام بأنواع جديدة من الدراسات العلمية التي ترتبط بحياة الإنسان ارتباطًا وثيقًا؛ بحيث يكون هذا العلم أساسًا متينًا تُبْنَى عليه الفلسفة الجديدة، بدلًا من ذلك الأساس الواهي القديم، وهو التجريدات اللفظية الخاوية؛ ومن هنا فقد كتب بيكن ملحقًا لكتاب «الأورجانون الجديد»، بعنوان: «المدخل إلى تاريخ طبيعي وتجريبي Parasceve and historiam naturalem et experimentalem». وفيه يقول: «إن ما قلناه في مناسبات متعددة ينبغي أن يؤكد هنا مرة أخرى تأكيدًا قاطعًا، وأعني به أنه لو تجمعت العقول في كل الأزمان أو شرعت في التجمع من الآن فصاعدًا، ولو عكف البشر جميعًا أو شرعوا في العكوف على الفلسفة من الآن فصاعدًا، ولم تعد الأرض كلها إلا معاهد وكليات ومدارس لأهل العلم، فمحال أن يتحقق الآن أو في المستقبل أي تقدم جدير بالبشر — في الفلسفة أو العلوم — دون تاريخ طبيعي وتجريبي كذلك الذي ندعو إليه. هذا على حين أنه لو جُمِعَ تاريخ كهذا ونُظِّم مع إضافة ما سيكون ضروريًّا خلال عملية التفسير من تجارب كاشفة ومساعدة، فإن بحث الطبيعة والعلوم جميعًا لن يقتضي عمل أكثر من سنوات قلائل، وإذن فلا مفر من تنفيذ هذه الخطة، أو التخلي عن الموضوع كله.»
وبغض النظر عما نجده من سذاجة في أواخر النص السابق، حين أعرب بيكن عن اعتقاده بأن مشاكل العلم يمكن أن تنتهي في سنوات قلائل لو تضافرت لحلها جهود العلماء، وهو اعتقاد ينمُّ عن إيمان ساذج ببساطة الكون، بغض النظر عن ذلك، فإن بيكن كرَّس جزءًا كبيرًا من حياته ومن كتاباته للدعوة إلى تنظيم البحث العلمي بصورة تقترب كثيرًا من صورته في العصر الذي ازدهر فيه العلم بعد وفاة بيكن. وهكذا رسم في أحد مؤلفاته المخلفة — واسمه «الأطلنطس الجديدة New Atlantis» — خطوط مشروع لإنشاء نوع جديد من معاهد العلم، يُسمى باسم «دار سليمان»، وهو مشروع اتخذه أنصار العلم الفني الصناعي الجديد أنموذجًا لهم. وفي هذا المشروع عرض بيكن نوعًا جديدًا من التعليم، قد يرى فيه البعض انحدارًا للعلم إلى مستوى الخبرة في الصناعات والحرف الفنية. ولكنه ينمُّ في الواقع عن نزعة إنسانية هدفها ربط العلم بالحياة. وهكذا دعا بيكن إلى توزيع الأبحاث على العلماء، كل في ميدان اختصاصه، مؤكدًا أهمية العمل الجماعي، أو ما يُطْلَق عليه الآن اسم team-work، وحدد موضوعات تكتمل بها الموسوعة الطبيعية التجريبية التي تقوم على أساسها نهضة العلم، وتكتمل بها سيطرة الإنسان على العالم، ويبلغ عدد هذه الموضوعات التي حددها بيكن للبحث حوالي ١٣٠ موضوعًا، تتميز كلها بالاهتمام المفرط برفاهية الإنسان وخيره، وتخلو تمامًا من المجردات التي لا تنفع ولا تجدي، وعلى العلماء أن يقسموا العمل بينهم، وأن يتداولوا نتائج أبحاثهم فيما بينهم ويتدارسوها، ويتولى فريق منهم الجمع بين هذه النتائج … إلخ.

وقد تضمنت خطة بيكن تفصيلات متعددة تدعو إلى الدهشة، وكلها تتعلق بإجراء التجارب الفنية والقيام بملاحظات دقيقة لفصائل النبات والحيوان، وملاحظة الطبيعة في شتى مظاهرها، وبعضها يتعلق بأمور حققها التطور العلمي التالي بالفعل كالتبريد الصناعي والمطر الصناعي، تلقيح الفصائل الحيوانية والنباتية المختلفة لإنتاج أنواع جديدة، واختراع سفن تسير تحت الماء، وأخرى تحلق كالطير في الهواء … إلخ.

ويدرك بيكن أن أنصار النظرة القديمة إلى العلم قد يرون في البحث في هذه الموضوعات الجزئية التفصيلية أمرًا غير لائق بكرامتهم، ويستنكفون من إجراء التجارب والأبحاث في أبسط الموضوعات وأكثرها التصاقًا بحياة الإنسان اليومية، هكذا يرد على خصومه قائلًا: «سيوجَّه إلينا دون شك اعتراض يقول: إننا لم نستهدف من العلم غايته الصحيحة، أو أفضل غاية ممكنة له (وهو نفس الأمر الذي نعيبه على الآخرين)، فيقولون: إن تأمل الحقيقة أكرم وأرفع من أية منفعة تعود بها النتائج العلمية، أو أي توسيع لنطاق هذه النتائج، على حين أن تشبثنا طوال هذا الوقت بالتجربة والمادة، وبالأحوال المتغيرة للأمور الجزئية، يقيد الذهن بالأرض، أو على الأصح يلقي به في هوة من الفوضى والاضطراب، وينأى به عن حالة أكثر قداسة، هي حالة الحكمة المجردة، بما فيها من هدوء وسكينة، ونحن نقبل هذه الطريقة في التفكير عن طيب خاطر، ونحرص أشد الحرص على تحقيق الغاية التي يدعون إليها؛ ذلك لأننا نضع الأسس لأنموذج حقيقي للعالم في الذهن، وهو أنموذج يمثل العالم كما نجده بالفعل، لا كما شوهه عقل الإنسان. وهذا أمر لا يتحقق إلا بتشريح العالم بكل دقة. غير أننا نعلن أن من الضروري القضاء تمامًا على تلك المحاولات العقيمة الهزيلة، التي هي أشبه بمحاولات القرود، لمحاكاة العالم بمخيلة الناس الواهمة، على النحو الوارد في مختلف مذاهب الفلسفة، فيعلم الناس إذن الفرق الموجود بين أوهام الذهن البشري (idols) وبين أفكار الذهن الإلهي (ideas)، فما الأولى إلا تجريدات اعتباطية، أما الأخرى فهي العلامات الحقة للخالق في مخلوقاته، كما انطبعت على المادة وتحددت معالمها فيها بخطوط حقيقية رائعة، هكذا فإن الحقيقة هنا والمنفعة شيء واحد، حيث تكون قيمة النتائج بوصفها ضمانات للحقيقة أعظم من قيمة ما تضفيه على الإنسان من نفع.»١٠

في هذا النص يرد بيكن على خصومه بوضع تقابل بين الأوهام البشرية والأفكار الإلهية، مؤكدًا أن البحث الطبيعي للأشياء المادية أكثر ألوهية من البحث في المجردات الفلسفية؛ لأن موضوعات العالم الطبيعي هي علامات الأفكار الإلهية، على حين أن المجردات من خلق البشر، وما هي إلا تصوير للعالم من خلال أوهام الإنسان. وبعبارة أخرى: فإن التغلغل في جزئيات العالم وتفاصيله إنما هو حل لرموز التفكير الإلهي، واستخلاص لمعاني الأفكار الإلهية عن طريق مواجهة موضوعاتها مباشرة، لا من خلال الصورة الخيالية التي أضفاها عليها عقل الإنسان المجرد؛ وبذلك يثبت بيكن أن بحث العالم الطبيعي أجدر بالإنسان من بحث المجردات الواهمة.

(٤) تحليل كتاب «الأورجانون الجديد»

قلنا، عند الكلام عن مؤلفات بيكن: إن «الأورجانون الجديد» ليس كتابًا مستقلًّا بالمعنى الصحيح، وإنما هو جزء واحد من ستة أجزاء كان بيكن يعتزم تأليفها تحت عنوان واحد شامل هو «الإحياء العظيم»، وتأكيد هذه الحقيقة أمر على جانب كبير من الأهمية؛ إذ إن فهم المرء لبيكن يتغير كثيرًا في الحالتين؛ فالتركيز على كتاب «الأورجانون الجديد» بوصفه كتابًا منفصلًا، بل بوصفه المؤلَّف الأكبر لبيكن، يؤدي إلى فهم بيكن على أنه مفكر منطقي في المحل الأول، على حين أن وضع هذا الكتاب في سياق الخطة الكاملة «للإحياء العظيم» يلقي ضوءًا صحيحًا على مجهودات بيكن في مجال المنطق، بوصفها جزءًا من مجهودات أشمل تتعلق بعلاقة الإنسان بالطبيعة، وتهدف إلى تحقيق سيطرة الإنسان على عالمه عن طريق العلم. ومن المؤكد أن هذه النظرة الأخيرة تنطوي على المزيد من الإنصاف لبيكن؛ ذلك لأن جهوده في ميدان المنطق — وهي ليست بالقليلة — لا تؤلف كلًّا مكتملًا؛ لأن «الأورجانون الجديد» قد ظل كتابًا مبتورًا لم يحقق إلا جزءًا ضئيلًا من برنامجه، مثلما أن هذا البرنامج بدوره جزء من كل أكبر لم يكتمل، والإضافات الجديدة التي أسهم بها بيكن في نظرية الاستقراء لا تكفي، على أهميتها، لكي تجعل منه فيلسوفًا من فلاسفة الصف الأول؛ وذلك لأن موضوع الاستقراء بأَسْرِه غامض، يصعب تحديد قيمته هو ذاته بالنسبة إلى تقدم العلم، كما يصعب إدراجه ضمن النظريات الفلسفية المعروفة.

أما إدراك قيمة بيكن من حيث هو مفكر إنساني يدعو إلى تطبيق العلم من أجل زيادة مقدرة الإنسان المعنوية والمادية، فهو وحده الكفيل بضمان مكانة رفيعة له بين الفلاسفة؛ إذ يغدو عندئذٍ رائدًا من رواد النهضة الفكرية الحديثة، بما لها من مميزات تختلف بها عن العصر القديم والعصر الوسيط اختلافًا أساسيًّا.

(٤-١) خطة الكتاب

ينقسم الكتاب إلى فقرات موزعة على بابين، وبيانها كما يلي:
  • الباب الأول: في الفقرات من ١ إلى ٤ يبحث بيكن موضوع العلاقة بين الإنسان والطبيعة، فيبين أن الإنسان يكمل عمل الطبيعة يفسرها؛ وبذلك ينفي ضمنًا علاقة النفور والكراهية التي كانت سائدة بين الإنسان والطبيعة في العصور الوسطى.
    • من ٥ إلى ١٧: ينتقد بيكن العلوم الموجودة في عصره، كما ينتقد أداة هذه العلوم، وهي المنطق الأرسطي.
    • من ١٨ إلى ٢٧: يتحدث بيكن عن التقابل بين استباق الطبيعة وتفسيرها، ويوجه نقدًا مفصلًا إلى نظرية الاستقراء عند أرسطو.
    • من ٣٦ إلى ٦٨: يعرض بيكن أسباب الخطأ وظاهر الضعف في ذهن الإنسان، وذلك في نظرية «الأوهام الأربعة»، وهو يبدأ بعرض عام لهذه الأوهام، ثم يتحدث عن كلٍّ منها بالتفصيل.
    • من ٦٩ إلى ٧٧: يتحدث بيكن عن المعايير أو «العلامات» التي تميزت بها العلوم والفلسفات الباطلة.
    • من ٧٨ إلى ٩١: يوضح أسباب هذا البطلان أي أسباب تدهور أحوال العلم والفلسفة.
    • من ٩٢ إلى ١٢٩: يشرح كيف يمكن تلافي هذا النقص، وإصلاح العلم وإنهاض الفلسفة.
  • الباب الثاني: إذا كان الباب الأول من «الأورجانون الجديد» ناقدًا هدامًا في معظم أجزائه، فإن الباب الثاني بنَّاءً، يعرض فيه بيكن نظريته الجديدة في الاستقراء، والقواعد الثلاث المشهورة للبحث العلمي، ويطبق هذه القواعد على عدة أفكار أو مفاهيم أساسية في العلم أهمها مفهوم «الحرارة»، ثم ينتقل بيكن إلى بحث «العوامل الأخرى المساعدة للذهن» (إلى جانب قواعده السابقة)، ويعدد من هذه العوامل تسعة. غير أن بقية الكتاب يخصص كله للعامل الأول من هذه العوامل التسعة فقط، وهو «الأمثلة المميزة» Prerogative instances.

(٤-٢) أما العوامل الثمانية الأخرى التي لم يكتب عنها شيئًا، فهي

  • (١)
    دعائم الاستقراء Supports of induction.
  • (٢)
    تصحيح (أو تقويم) الاستقراء Rectification of induction.
  • (٣)
    تنويع البحث تبعًا لطبيعة الموضوع Varying the Investigation according to the Nature of the Subject.
  • (٤)
    الطبائع المميزة Prerogative Natures.
  • (٥)
    حدود البحث، أو إحصاء شامل لكل الطبائع في الكون Limits of Investigation, or a Synopsis of All Natures in the Universe.
  • (٦)
    التطبيق العلمي Application of practice.
  • (٧)
    استعدادات البحث Preparations for Invertigation.
  • (٨)
    السلم الصاعد والهابط للقوانين The Ascending and Descending Scale of Axioms.١١

وكما قلنا من قبل، فإن بيكن لا يبحث في بقية الباب الثاني (ابتداءً من القسم ٢١ حتى النهاية) إلا الموضوع الأول من هذه الموضوعات التسعة، وهو «الأمثلة المميزة»، والمقصود من فكرة الأمثلة المميزة؛ ذلك النوع من الظواهر، الذي يلقي ضوءًا ساطعًا على موضوع البحث؛ وبذلك يكون أجدر بالبحث من غيره من الظواهر؛ ذلك لأن الطبيعة تحفل بأمثلة لا حصر لها، في كل ميدان خاص من ميادينها. ومن المحال أن ندرك أسرار الطبيعة في هذه الميادين إلا إذا عرفنا كيف ننتقي الأمثلة التي تكشف فيها الطبيعة عن أسرارها هذه، والتي تتيح لنا — أكثر من غيرها — اقتحام أبواب الطبيعة المغلقة.

وقد أحصى بيكن سبعة وعشرين من هذه الأمثلة المميزة، أطلق على كلٍّ منها — جريًا على عادته — اسمًا فريدًا. ولكن الكثير من أسمائه هذه قد ثبتت في لغة العلم، وأصبحت اليوم جارية على ألسن العلماء. وليس في وسعنا هنا أن نعدد هذه الأنواع السبعة والعشرين من الأمثلة المميزة، ولكننا نكتفي بذكر أهمها:
  • الأمثلة المنعزلة Solitary Instances: وهي عزل الظاهرة المراد بحثها عن غيرها من الظواهر التي تختلط عادةً بها، كتحليل الألوان بواسطة العدسة، بدلًا من إدراكها مختلطة بعناصر أخرى في الأشياء الطبيعية.
  • الأمثلة الفاصلة أو الحاسمة Crucial: وهي تلك التي تمكننا من المفاضلة والاختيار بين نظريات مختلفة متنافسة.
  • الأمثلة الساطعة Glaring: وهي تلك التي تتمثل فيها الظاهرة بأقصى شدة ممكنة.
  • الأمثلة الخافتة أو الخفية Clandestine: وهي عكس السابقة؛ أي تلك التي تتمثل فيها الظاهرة أضعف وأخفى ما تكون.
  • الأمثلة الحديد Limiting: وهي تلك التي تقف على الحدود بين ظاهرة وأخرى، مثلما يقف الإسفنج على الحدود بين الحي وغير الحي.
  • الأمثلة المنادية Summoning: وهي تلك التي تتضمن تجارب تنادي الظاهرة أو تستدعيها أمامنا.

(٤-٣) الأفكار الرئيسية في الكتاب

كان بيكن يؤمن بأن للبحث أهمية عظمى. وكان يرى في الوقت ذاته أن منهجه جديد كل الجِدَّة، فهو ليس استمرارًا للمناهج القديمة أو إصلاحًا لها، وإنما هو محاولة جديدة لم يجربها أحد من قبل. ولا شك أن قيمة أي منهج لا تقاس إلا بنتائجه؛ ومن هنا كان بيكن يلح أشد الإلحاح على تطبيق مشروعاته العلمية حتى يتسنى تجربة مناهجه الجيدة عمليًّا واختبارها من خلال التطبيق العلمي لها.

وتنحصر قيمة المنهج عند بيكن في أنه الأداة التي تساعد الإنسان على توسيع أفقه العقلي، وعلى كشف المناطق المجهولة من العالم، سواء أكانت هذه المناطق مادية أم معنوية. ولقد كان بيكن يقارن عمله — في كثير من الأحيان — بعمل كولمبس في ميدان الكشف الجغرافي، ولهذه المقارنة دلالتها الواضحة؛ إذ إن نفس القوة التي دفعت كولمبس إلى الإبحار إلى أقصى الغرب، وإلى الأطراف النائية للعالم، هي التي دفعت بيكن إلى محاولة زيادة قدرة الذهن على السيطرة على العالم إلى أقصى مداها؛ فالغاية في الحالتين هي زيادة قوة الإنسان، وإحكام سيطرته على الطبيعة؛ ومن هنا قال بيكن مبررًا جهوده في ميدان البحث المنهجي: «إنه لمن المخجل حقًّا في هذا الوقت الذي فُتِحَت فيه آفاق العالم المادي — من أرض وبحار وسماء — أن تظل حدود العالم العقلي مقتصرة على كشوف القدماء وآرائهم.» ومما يثبت أن كلمة «العالم العقلي» هنا تشمل جميع ميادين المعرفة، ولا تقتصر على ذلك الميدان الذي طالما تحدث عنه، وهو ميدان العلم الطبيعي التجريبي، قوله في النص الآتي: «وربما تساءل البعض: هل نحن نرمي إلى إنهاض الفلسفة الطبيعة وحدها وفقًا لمنهجنا، أو نرمي إلى إنهاض العلوم الأخرى بدورها كالمنطق والأخلاق والسياسة؟ إننا قطعًا نعتزم إدراج هذه العلوم كلها (ضمن منهجنا)، وكما أن المنطق الشائع — الذي ينظم الأمور كلها بواسطة الأقيسة — لا يطبق على العلم الطبيعي وحده وإنما على كل علم آخر، فإن منهجنا الاستقرائي يمتد بدوره إلى كل العلوم الأخرى؛ ذلك لأننا نعتزم جمع تاريخ وقوائم للاختراع، خاصة بالغضب والخوف والخجل وما شابهها، وكذلك بأمثلة في الحياة المدينة وبعمليات الذاكرة والتركيب والتقسيم والحكم وما شاكلها، تمامًا كما نفعل في الحرارة والبرودة والضوء والنبات وما إليها»،١٢ وبعبارة أخرى فالمنهج العلمي ينبغي، في رأيه، أن يطبق على جميع مجالات الفكر، وإن لم يكن وقته قد اتسع إلا للكلام عن تطبيقاته في مجال العلوم التجريبية فحسب.

(٤-٤) الأوهام الأربعة

ربما كان أشهر أجزاء كتاب «الأورجانون الجديد»، بل أشهر أجزاء كتاباته كلها، وهو ذلك الجزء الذي يتحدث فيه بيكن عن مظاهر الزلل في ذهن الإنسان؛ أعني الأوهام الأربعة، وقد ظهرت هذه الفكرة في كتابات مبكرة لبيكن، فتحدث في كتاب «إنهاض العلم» عن أوهام الجنس والسوق والكهف دون أن يذكر أسماءها،١٣ ولكنه عالجها على أكمل وجه في الباب الأول من «الأورجانون الجديد»، وتتعلق هذه الأوهام بالطبيعة البشرية مما هي كذلك، وبالطبيعة الفردية لكل شخص، وبالألفاظ ووسائل تداول الأفكار، وبالمذاهب الباطلة في الفلسفة والعلم؛ وبذلك يكون مذهب الأوهام الأربعة عند بيكن خلاصة لنقده الشامل لتطور العقل البشري، وتحديدًا للاتجاه الذي ينبغي أن يسير فيه إصلاح العلم، وإن يكن من أصعب الأمور، كما أدرك هو ذاته، أن يتخلص العقل من كل الأوهام المتأصلة فيه، ويبدأ صفحة جديدة ناصعة البياض من تاريخه.
  • (١)
    تتعلق أوهام الجنس idola tribus (والأفضل تسميتها بأوهام النوع؛ لأنها ترتبط بالنوع الإنساني بوجه عام، على حين أن كلمة «الجنس» متعددة المعاني وتؤدي إلى الخلط) بالأخطاء الكامنة في الطبيعة البشرية بوجه عام؛ فالحواس البشرية — التي تتخذ مقياسًا للأشياء جميعًا — معرضة للخطأ وعقل الإنسان أشبه بمرآة غير مصقولة تضفي خصائصها الخاصة على الأشياء وتشوه صورتها. وهكذا يضفي العقل على الأشياء ترتيبًا ونظامًا يلائم طبيعة الخاصة ولكنه غير موجود في الأشياء ذاتها، ومن هذا القبيل القول: إن جميع الأجرام السماوية تدور في مسارات تتخذ شكل الدائرة الكاملة. وهكذا فإن العقل البشري عندما يضع نظرية ما يميل إلى إدخال كل الظواهر قسرًا في هذه النظرية، وإلى تجاهل أو إغفال كل الشواهد المتعارضة معها مهما كان من قوتها،١٤ ومن هذا الميل تنشأ الخرافات بشتى أنواعها، كما ينشأ ميل الفلاسفة إلى تفسير كل الظواهر من خلال مجموعة قليلة من المبادئ الثابتة مع إغفال كل التفاصيل الهامة التي ينطوي عليها الكون، ولدى العقل البشري ميل آخر إلى ممارسة نشاطه دون توقف، فيظل يبحث عن العلل، ولا يستطيع أن يتصور شيئًا بغير علة؛ وبذلك يقع في أخطاء مثل تصور «العلة الغائية»، التي هي أكثر ارتباطًا بطبيعة الإنسان منها بطبيعة الكون «والتي هي من أكبر مصادر الفساد في الفلسفة.»١٥
  • (٢)
    ولقد استمد بيكن اسم «أوهام الكهف» idola specus، وهو يعني بها الأوهام الفردية التي يقع فيها كل شخص نتيجة لتكوينه الخاص شأنه شأن سجناء الكهف عند أفلاطون. وربما كان لنا أن نلاحظ — في صدد هذه التسمية — أن أسطورة الكهف عند أفلاطون تتعلق بالنوع البشري كله، أو هي ترمز إلى حالة الإنسان وموقفه بوجه عام؛ فالكهف عند أفلاطون هو الجهل أو النقص الأصيل الكامن في الطبيعة البشرية؛ ومن هنا فإن الاسم أحرى بأن ينطلق، في الواقع، على النوع الأول من الأوهام — أعني أوهام النوع أو الجنس — لا على الأوهام الخاصة بكل فرد على حدة.
    ومن طبيعة هذه الفئة من الأوهام أنها شديدة التنوع؛ لأنها تختلف في كل فرد عنها في الآخر، فمن الناس من يميل بطبيعته إلى إدراك الفروق بين الأشياء، وهؤلاء هم المدققون الميالون إلى تأمل التفاصيل، ومنهم من يميل إلى إدراك أوجه الشبه بين الأشياء، وهؤلاء هم أصحاب المزاج التأملي، ولكلٍّ من الطرفين أخطاؤه ومواقفه المتطرفة،١٦ كما أن بعض الناس ميالون إلى القديم، وبعضهم الآخر ميال إلى التجديد، مع أن الحقيقة لا زمان لها، ولا يلزم بالضرورة أن تكون في القديم وحده أو الجديد وحده. وهكذا الحال في سائر أنواع التحزب والتعصب الفردي، التي ينبغي التخلص منها لضمان نزاهة البحث والتفكير.
  • (٣)
    ويرى بيكن أن أوهام السوق idola fori هي أخطر أنواع الأوهام، والاسم مستمد من عملية التبادل التي تتم في السوق، والتي يشبه بها بيكن عملية تبادل الأفكار وتداولها بين الناس عن طريق اللغة؛ «ذلك لأن الناس يتوهمون أن عقلهم يتحكم في الألفاظ، على حين أن الألفاظ هي التي تعود فتتحكم في العقل وتؤثِّر فيه»،١٧ ويدرك بيكن أن الألفاظ إنما تعرف الأشياء على نحو غير دقيق؛ لأن أصلها شعبي وليس عمليًّا؛ فهي موضوعة أصلًا لتلائم الذهن العامي. وهكذا فإن الذهن العلمي حين يريد التعبير عن أفكاره وملاحظاته المرهفة الدقيقة، لا يجد من الكلمات معينًا، فتنتهي كثير من الخلافات العلمية إلى مجرد مجالات لفظية، بدلًا من أن تدخل في صميم موضوعاتها،١٨ ومن هنا كانت دعوة بيكن إلى مواجهة الأشياء مباشرة، بدلًا من الاكتفاء بمواجهة الأشياء من خلال الألفاظ اللغوية.

    وتنقسم الأوهام التي تفرضها اللغة إلى أسماء لأشياء ليس لها وجود، كالقدر والمحرك الأول وعنصر النار، وأسماء لموضوعات فعلية. ولكنها جُرِّدَت من الأشياء على عجل ودون تدقيق؛ بحيث دب الخلط والاضطراب في معانيها، مثل كلمة «الرطوبة» التي تعددت معانيها إلى درجة يصعب معها الاستقرار على واحد منها، وتتدرج الأسماء في مقدار افتقارها إلى الدقة، من أسماء الأشياء المادية الفردية، التي هي الأقل تعرضًا للخطأ، إلى أسماء الصفات المجردة، التي هي الأكثر تعرضًا للخطأ؛ ومن هنا كان من الواجب أن نحرص على دقة التعريف في الحالة الأخيرة بوجه خاص، مع إدراكنا أن اللغة، في عمومها وفي جميع أحوالها، ميدان خصب للأوهام التي تعوق الذهن عن مواجهة الأشياء وإدراك طبيعتها الحقة.

  • (٤)
    والنوع الأخير من الأوهام هو أوهام المسرح idola theatri، وهي أوهام النظريات والمذاهب التي تفرض نفسها على الأذهان بمنطق مزيف، أو نتيجة لاحترامنا المفرط لآراء القدماء، هذه النظريات والمذاهب تتعدد في الموضوع الواحد بغير حدود، ويقف العقل إزاءها حائرًا، وكأنه مسرح يروح عليه الممثلون ويجيئون بينما يقف هو سلبيًّا: يتقبلها كلها دون مناقشة؛ على أن هذه النظريات كلها لا تستند على أساس من الدراسة الفعلية للواقع، إنما هي ترتكز على الاستدلالات المنطقية البارعة، والمزيفة في الوقت نفسه؛ ومن هنا كانت الحاجة إلى إيجاد أساس أمتن للفلسفة؛ بحيث لا يعود العقل مسرحًا لنظيرات متعارضة في الموضوع الواحد، وإنما يتقبل به الواقع فحسب.
    وينقد بيكن — ضمن هذه الفئة من الأوهام — ثلاثة أنواع من الفلاسفة: النوع النظري أو السفسطائي، ويمثله أرسطو، وهو يخلق عالمًا من الأفكار المجردة التي يقابلها في الواقع شيء كالمقولات والقوة والفعل، ويعالج كل الموضوعات من خلال هذه الأفكار. وحتى التجارب القليلة التي أجراها كانت نتيجتها قد تحددت مقدمًا عن طريق الاستدلال، والنوع الثاني هو التجريبي العشوائي empiric، وهو يعتمد على تجارب قليلة لا تخضع لمنهج منظم، ويحاول أن يُبْنَى منها فلسفة كاملة، ومن هؤلاء الكيميائيون القدامى الذين يتعجلون الوصول إلى نتائج قبل أن يبنوا أبحاثهم على أساس متين، والنوع الثالث هو أصحاب الخرافات الذين يمزجون الفلسفة باللاهوت، ولا يفرقون بين التفكير المنظم وبين الأسطورة الشعرية، ومن هؤلاء فيثاغورس، وكذلك أفلاطون الذي ينتمي إلى هذه الفئة. ولكن «في صورة أدق وأخطر».١٩

ولسنا نود أن نمضي مع بيكن في تفصيلات نقده للنظريات الفلسفية، وللموضوعات التي يبحثها الفلاسفة، وأساليبهم في البرهنة على أفكارهم؛ إذ إن هذا النقد المتعمق لتفكير القدماء يحتاج وحده إلى بحث مستقل، ولا يتسع له المجال ها هنا، وعلى أية حال فحسبنا أن نقول: إن بيكن، في شرحه لهذا النوع الرابع من الأوهام، قد حدد موقفه من الفلسفات وطرق التفكير القديمة، وكشف بوضوح عن رغبته في شق طريق جديد كل الجِدَّة، لا في الفلسفة النظرية وحدها، بل في التفكير العلمي بوجه عام.

وبعد أن يعرض بيكن نظريته في الأوهام الأربعة، يدعو الذهن إلى تطهير ذاته منها، والبدء في البحث على أسس سليمة، فيقول: «لقد أتممنا الآن بحث كل نوع من الأوهام وخصائصها، وهي كلها أوهام ينبغي التخلي عنها بعزيمة صادقة، ويجب تحرير الذهن وتطهيره منها بحيث يغدو دخول مملكة الإنسان — التي تقوم على العلوم — مماثلًا لدخول مملكة السماء التي لا تفتح أبوابها إلا للأطفال»،٢٠ وهكذا ينبغي أن يقبل الذهن على تحصيل العلوم، وهو أشبه بطفل بريء خلا ذهنه من الأفكار السابقة؛ إذ إن التراث — في ذلك الحين — كان في معظم الأحيان تراثًا فاسدًا يضر أكثر مما ينفع.

(٥) نقد المنطق القديم

كانت الأداة الرئيسية التي استعان بها الفلاسفة القدماء في الوصول إلى نظرياتهم الباطلة هي المنطق، وعلى ذلك فإن نقد المنطق القديم وكشف عيوبه هو العنصر الأساسي في حملة التطهير التي ينبغي القيام بها من أجل إرساء التفكير الفلسفي والعلمي على أسس سلمية.

ولقد كان المنطق القديم قياسًا في أساسه، والقياس يتألف من قضايا، والقضايا من ألفاظ، والألفاظ تعبر عن أفكارٍ أو معانٍ في الذهن notions، فإذا ما كانت المعاني أو الأفكار الأصلية مختلفة في الذهن — كما اتضح عند الكلام عن أوهام المسرح — فعندئذ يغدو البناء كله قائمًا على غير أساس؛ ففي عملية التجريد الأصلية — التي تتكون بواسطتها ألفاظ تغدو حدودًا في قضايا القياس — خطورة تجعلنا نشك كثيرًا في عملية القياس من أساسها.
وفضلًا عن ذلك؛ فالقياس بأسره — حتى لو كان صحيحًا من الوجهة الصورية الخالصة — عملية عقيمة، فهو يعين على تثبيت وتوطيد دعائم أفكار موجودة من قبل، قد تكون باطلة كل البطلان، ولكنه لا يعين أبدًا على البحث عن الحقيقة،٢١ وما القياس إلا طريقة لإقناع الخصم وقهره عن طريق الحجج اللفظية؛ على أن هدف البحث العلمي ليس قهر الخصوم، وإنما قهر الطبيعة ذاتها. وليس السيطرة على الألفاظ، وإنما السيطرة على مجرى الحوادث؛ ومن هنا كان القياس منهجًا عقيمًا كل العقم بالنسبة إلى أي علم يرمي إلى كشف حقائق الكون وإخضاعها لسيطرة الإنسان، وغاية ما يمكن أن ينتفع به من القياس، هو استخدامه أداةً لنشر الحقائق وإقناع الأذهان بها، لا لكشف الجديد منها.٢٢
ولعل أكبر عيوب القياس في نظر بيكن، هو أنه يشجع الإنسان على التعميم السريع؛ إذ إن قضايا المنطق الصوري تتخذ عادة صبغة عامة تبدو معها منطقية على كل الظواهر المنتمية إلى مجال البحث، مع أن الوصول إلى أي حكم عام ينبغي أن يكون عملية شاقة متدرجة يمارسها الذهن بحذر شديد وبعد بحوث طويلة. وهكذا فإن الاتجاه إلى التعميم المتسرع في القياس هو في واقع الأمر مظهر من مظاهر اتجاه أعم في الذهن البشري، يطلق عليه بيكن اسم استباق الطبيعة anticipation of nature، والمقصود منه الانتقال بسرعة من معلومات جزئية إلى أعم النتائج التي تتخذ مبادئ يقينية تستمد منها حقائق متوسطة تطبق على المجالات المختلفة؛ ذلك لأن لدى الذهن ميلًا طبيعيًّا إلى استخلاص نتائج متسرعة، وإلى التعجيل بالتعميم، حتى لو كان ذلك الذهن من النوع المدقق الفاحص، ولو تُرِكَ الذهن وحده دون منهج يضبط خطواته، فإن اقتصاره على العمل بقواه الخاصة يؤدي به إلى الوقائع في خطأ التعميم السريع حتمًا،٢٣ ولا شك أن تأكيد بيكن لهذا الميل إلى تجاوز الذهن لذاته، يذكر المرء بما سيقوله «كانت» فيما بعد عن ميل الذهن إلى تجاوز حدود التجربة والخوض في مسائل ميتافيزيقية لا ضباط لها، ولا دليل على صحتها أو بطلانها، فعمل بيكن في هذا الصدد هو نوع من نقد العقل؛ أعني أنه نقد للعقل العلمي كما كان سائدًا في عصره.٢٤
وفي مقابل «استباق الطبيعة»، يقول بيكن بطريقة أخرى سليمة للبحث العلمي، هي «تفسير الطبيعة interpretation of nature» وهي الطريقة التي يلخص بها جهوده في ميدان المناهج العلمية، والتي يرى أنها هي الكفيلة بكشف القوانين العلمية الجديدة، وقهر الطبيعة بدلًا من قهر الخصوم. وفي هذه الطريقة يبدأ الذهن بدراسة الجزئيات وملاحظتها، ثم يصعد تدريجيًّا — بحذر شديد — حتى يصل إلى نتيجة عامة. ولكن التعميم في هذه الحالة لا يكون مطلقًا كما كان الشأن في الطريقة القديمة. ومن المؤكد أن الأذهان لا تُقْبِل على هذه الطريقة بسهولة، إذ إنها تقتضي مجهودًا أشق، فضلًا عن أنها لا ترضي الخيال؛ لأنها لا تقدم إليه مكافأة سريعة، ومع ذلك فلا أمل في تقدم العلم إن لم تستطع الأذهان ترويض ذاتها بحيث تصبر على البحث التدريجي الشاق بدلًا من أن تكتفي بإرضاء ذاتها عن طريق استباق الطبيعة.
على أن المنهج القديم لم يكن قياسيًّا كله، بل لقد تحدث أرسطو نفسه عن الاستقراء، وعرض فيه نظرية اعتقد البعض أن من الممكن الاستعانة بها في الكشف عن القوانين العلمية. غير أن هذه النظرية لم تكن لها أهمية كبيرة. وكان بيكن على حق حين نبه إلى قصورها وعجزها عن الإنتاج، وكثيرًا ما كان الاستقراء الذي تحدث عنه أرسطو يُرَد إلى قياس، وذلك عن طريق إحصاء صفات معينة في «الأنواع»، وإيجاد ارتباط قياسي بينها. وهذا النوع من الاستقراء يفترض القيام بإحصاء لأفراد كل نوع حتى نتحقق من وجود الصفات المطلوبة فيهم؛ أي إنه يكتفي بالأمثلة «الإيجابية» ويستخلص النتائج العامة منها. ولكن هذا إجراء باطل؛ لأن النتيجة المستخلصة من الأمثلة الإيجابية وحدها لا تكون — على أحسن الفروض — إلا تخمينًا، فمن الخطأ إذن أن نستدل دون أن تكون لدينا أمثلة سلبية أو مناقضة؛ إذ إننا لن نضمن أبدًا عدم وجود ما يكذب النتيجة التي انتهينا إليها في النوع الآخر من الأمثلة، ويطلق بيكن على هذا النوع من الاستقراء اسم «طريقة التعداد البسيط simple enumetration». أما الاستقراء الذي يكون مفيدًا بحق في كشف الفنون والعلوم، فهو ذلك الذي «يضع الفواصل في الطبيعة بواسطة عمليات الرفض والاستبعاد الصحيحة، ثم ينتهي إلى النتيجة الإيجابية بعد أن يكون قد جمع عددًا كافيًا من السلبيات.»٢٥

(٦) نظرية الاستقراء عند بيكن

أوضحنا في الجزء السابق أن بيكن يرفض تمامًا منهج القياس الأرسطي، إلا إذا كان الأمر متعلقًا بنشر حقائق اكتُشِفَت من قبل بوسيلة أخرى، أو بإقناع الخصوم عن طريق الجدل اللفظي، كما أنه يرفض ذلك النوع من الاستقراء الذي دعا إليه أرسطو، والذي ينحصر في كل الخصائص المشتركة بين الأمثلة الإيجابية، وأوردنا في النهاية نصًّا يدعو فيه بيكن إلى نوع آخر من الاستقراء يقوم على منهج «الرفض والاستبعاد»، لا على إدراك لأهمية الأمثلة السلبية من حيث هي ضوابط للأمثلة الإيجابية التي تفوقها أهمية في كثير من الأحيان.

ولقد أكد «بروشار» أن الفكرة الرئيسية التي جعلت لبيكن مكانة الفلاسفة هي الفكرة القائلة أنه «في الاستقراء الحقيقي، ينبغي ألا نقتصر على النظر إلى الحالات المؤاتية، أي القضايا الإيجابية، وإنما الواجب أن ننظر أيضًا إلى الحالات غير المؤاتية؛ أي القضايا السلبية.» وفي هذا يكون الفرق بين الاستقراء الساذج والاستقراء العلمي؛ فالأول، هو تعداد دون نقد ودون حساب للحالات غير المؤاتية أو المضادة، إنه بالاختصار منهج إعداد قائمة حضور دون قائمة غياب. أما الاستقراء العلمي فهو حساب دقيق للوقائع، وقياس ومقارنة لها، وعمل موازنات بينهما،٢٦ وربما كان بروشار مبالغًا في قوله: إن هذه أهم أفكار بيكن؛ لأن أفكار بيكن الأكثر أهمية تنتمي — كما رأينا من قبل — إلى ميدان غير ميدان المناهج. ومع ذلك فمن المؤكد أن بيكن قد عبر عن صفة أساسية من صفات المنهج العلمي، حين تحدث عن ضرورة استعراض الأمثلة من جميع أوجهها السلبية والإيجابية، قبل محاولة استخلاص أي قانون علمي.
ولقد طبق بيكن نظريته الخاصة في الاستقراء على بحث قام به عن ظاهرة الحرارة، فقال بضرورة تقسيم الوقائع والموارد المتعلقة بهذا البحث وبأي بحث علمي آخر، إلى ثلاث قوائم:
  • (١)
    قائمة الحضور Table of Essence and presence، وهي جمع كل الأمثلة الإيجابية التي تتمثل فيها الظاهرة المراد بحثها. وفي هذه القائمة جمع بيكن سبعًا وعشرين حالة تتمثل فيها الحرارة بالفعل مثل حرارة الشمس وحرارة الاحتكاك وحرارة الأجسام … إلخ. وكان يرى أنه كلما اتسع نطاق الأمثلة التي نأتي بها للظاهرة المراد بحثها، أدى ذلك إلى زيادة دقة البحث وضمان اشتماله على جميع العناصر المطلوبة.
  • (٢)
    قائمة الغياب أو التخلف مع التقارب Table of Deviation or Absence in Proxemety. وفي هذه القائمة تجمع أمثلة مشابهة لتلك التي وردت في القائمة الأولى. ولكنها تتميز عنها بغياب الظاهرة المراد بحثها، أي الحرارة؛ ففي مقابل ضوء الشمس في القائمة الأولى، نجد ضوء القمر الذي يماثله في كل شيء ما عدا افتقاره إلى الحرارة. وهكذا الحال في بقية الأمثلة؛ ومن هنا كان اسم «التخلف مع التقارب»، أي تخلف الظاهرة رغم تقارب طبيعة الأمثلة، وتزيدنا هذه القائمة اقترابًا من موضوع البحث في طبيعته المنفصلة.
  • (٣)
    والقائمة الثالثة هي قائمة التدرج أو المقارنات Table of Degrees or Comparisons، وهي جمع الحالات التي تختلف فيها درجات الظاهرة المراد بحثها بين الشدة والخفوت، أي تتفاوت فيها درجة حرارة الموضوع الواحد في أوقات مختلفة، أو تختلف من موضوع لآخر كما في تفاوت درجات حرارة أشعة الشمس في الساعات المختلفة من النهار.

وبعد جمع هذه القوائم الثلاث، تبدأ عملية الرفض والاستبعاد؛ أي استبعاد النظريات والفروض التي تتنافى مع ما تضمنته القوائم من معلومات، مثال ذلك النظرية القائلة إن الحرارة تأتي من مصدر خارج عن الأرض، وهي تُسْتَبْعَد لأن القوائم تدلنا على أن الحرارة تتولد في أجسام أرضية أيضًا، كذلك تُسْتَبعد النظرية اليونانية القديمة، القائلة إن الحرارة تتوقف على وجود عنصر معين في الجسم الحار كعنصر النار، أو أية نظرية تربط بين الحرارة وبين العناصر الأربعة؛ لأن أشعة الشمس حارة، وهي ليست من هذه العناصر، ولأن أي جسم يمكن أن يكتسب الحرارة بالاحتكاك، ولما كانت الأجسام لا يزيد وزنها أو ينقص بالحرارة، فإن بيكن يستبعد الرأي القائل إن الحرارة هي انتقال جسم من جوهر إلى آخر. وهكذا يمضي بيكن في استبعاد النظريات الباطلة واحدة تلو الأخرى، حتى يصل إلى التحديد الإيجابي للظاهرة المراد بحثها، فيعرف الحرارة بأنها نوع من الحركة، هي «حركة للجزئيات الصغيرة في الأجسام، يحال فيها دون الميل الطبيعي لهذه الأجسام إلى التباعد بعضها عن البعض». وهذا التعريف يمثل بطبيعة الحال تقدمًا كبيرًا بالنسبة إلى النظريات القديمة، وهو شاهد عملي على أن منهج بيكن الجديد يؤدي إلى نتائج أفضل كثيرًا مما كانت المناهج القديمة تؤدي إليه.

على أن نظرية بيكن في الاستقراء كانت قائمة على الاعتقاد بأن في الكون عددًا محدودًا من «الطبائع natures»، هي تلك التي تكون الأشياء كلها بتجمعها وتفرقها. وكان بيكن يعتقد أن بإمكاننا كشف سر الكون كله إذا عرفنا حقيقة هذه الطبائع وكشفنا قوانينها؛ ومن هنا كان العالم في نظره بسيطًا إلى حد بعيد. وكان يؤمن بإمكان الوصول إلى مجموعة هائلة من الكشوف والاختراعات، ضمان السيطرة «الكاملة» للإنسان على الطبيعة، إذا قمنا بعدد معلوم من الأبحاث الطبيعية. وكان هدف بيكن من «دائرة المعارف» ومن بقية الخطط والمشروعات العلمية التي رسمها في كتاباته، هو الدعوة إلى إنجاز هذه الأبحاث لكشف أسرار الكون كلها، وهو أمر كان يعتقد بإمكان حدوثه في وقت قريب إذا توافرت الإمكانيات، وتلك ولا شك سذاجة مفرطة في التفكير، ولكنها تدل في الوقت ذاته على الإيمان بأن للعلم قدرة مطلقة.

ولقد كان بيكن يعتقد بأن الجزئيات اللامتناهية هي الموضوع الحقيقي للعلم، وإنما تمثل هذه الجزئيات عددًا في الأشياء الجزئية. وهكذا تتمثل طبيعة كالحرارة في موضوعات متعددة كالنار وأشعة الشمس وجسم الإنسان والحيوان، ولهذه الطبيعة «صورة» تحكمها في كل مظاهرها؛ ومن هنا فإن العلم لا شأن له بالجواهر في صورتها الطبيعية، وإنما الأصح بحث هذه الجواهر من خلال ما فيها من طبائع أساسية، وكشف «الصور» التي تندرج تحتها طبائع الأشياء جميعًا.

ولقد أثار استخدام بيكن للفظ «الصور forms» مشكلات كثيرة بين الشراح: فرأى البعض أنه عاد إلى استخدام أسلوب الميتافيزيقا الأرسطية، وأنه قد عاد رغمًا عنه إلى الأخذ بالاتجاهات التي كان يعيبها على الفلسفات القديمة. وكان من أهم الأسباب التي أدت إلى إثارة هذه المشكلات، غموض معنى «الصور» في كتابات بيكن. وهكذا يشير «بروشار» إلى ثلاثة معان رئيسية لكلمة «الصورة» عند بيكن، أولها أنها هي «الفصل» الحقيقي؛ أي إنها ما يتم به التعريف؛ فالصورة هي الجنس تعريف الحرارة الذي أشرنا إليه من قبل، والشروط التي تحدد هذا الجنس وتخصصه بحيث ينطبق على الحرارة وحدها هي الفصل. كذلك فإن الصورة هي الماهية أو ما يوجد كلما وُجِدَ الشيء، وما يوجد الشيء كلما وُجِدَ، والمعنى الثالث هو القانون، أو قانون الفعل المحض للظاهرة،٢٧ ومن الواضح في هذه المعاني جميعًا أن «الصور» ليست مفارقة ولا مجردة كما كان يراها القدماء، وإنما هي كامنة في قلب الشيء الطبيعي ذاته، ولها طبيعة يمكن تحديدها وحصرها بدقة، وما هي إلا طريقة خاصة من طرق وجود المادة، تعين على حصر العالم والتحكم فيه، ويرى «بروشار» أن فكرة القانون هي الفكرة الأساسية في هذه المعاني كلها. ولكن القانون عند بيكن ليس له نفس المعنى المعروف عند جون ستيوارت مِل؛ أي التعاقب الدائم غير المشروط؛ لأن بيكن يميز بين الصورة وبين العلة الفاعلة، ويرى أن كشف الأولى أعمق وأصعب من كشف الثانية، فضلًا عن أن القانون، عنده متعلق «بالفعل المحض» للمادة. وهكذا يفسر معنى القانون عند بيكن — وبالتالي معنى الصورة، بأنه هو التنظيم الميكانيكي لدقائق المادة، الذي يؤدي في كل حالة إلى ظهور إحدى الطبائع كالحار والبارد والجاف والرطب، وعن طريق كشف هذه الصيغة التي هي رياضة خالصة، وإن تكن هي «العملية الكامنة» في قلب الظواهر — يستطيع الإنسان إخضاع الطبيعة لعقله، وتحقيق السيطرة الكاملة عليها.
وإذا صح هذا التفسير فإن من الممكن استخدامه في الرد على اعتراض أساسي كان يوجَّه دائمًا إلى بيكن، وهو أنه يتجاهل قيمة الرياضيات في الكشف العلمي، على العكس من ديكارت الذي كان تفكيره أكثر تمشيًا مع العلم الحديث؛ لأنه أكد الأهمية الأساسية للرياضة ومنهجها، والحق أن فلسفة بيكن العلمية تبدو لأول وهلة فلسفة لا تهتم إلا بالكيفيات؛ لأن «الطبائع» التي تحدَّث عنها إنما هي الكيفيات الأساسية للأشياء. كما أن اهتمام بيكن قد انصبَّ أساسًا على الدعوة إلى دراسة العلم التجريبي والتاريخ الطبيعي، وهي علوم قائمة على الملاحظة والتجارب الكيفية، بينما أبدى تحاملًا على الرياضيات لأنها «مجردة»، تضفي على الأشياء صورة لا تعبر عن حقيقتها، شأنها شأن سائر التجريدات الميتافيزيقية. وهذا كله صحيح. غير أن المرء يستطيع أن يستشف من وراء اهتمام بيكن الزائد «بالصورة» الكامنة في الطبائع الكيفية نوعًا من الاتجاه إلى إدراك قيمة الصيغ الرياضية في التعبير عن القوانين النهائية للعالم الطبيعي؛ أعني اتجاهًا إلى استبدال الكم بالكيف، والحق أننا لو أمعنَّا النظر في النقد الذي يوجهه بيكن إلى اللغة المعتادة في «أوهام السوق»؛ لوجدنا فيه تقديرًا لقيمة الرياضيات؛ إذ إن الخلافات بين العلماء تنحل — بسبب استخدامهم لألفاظ اللغة المعتادة — إلى خلافات حول الأسماء، «ومن هنا فإن من الأفضل (محاكاة للرياضيين في حذرهم) أن نسير بمزيد من الحرص منذ البداية، وأن نضفي النظام على هذه الخلافات باستخدام التعريفات»،٢٨ وهكذا فإن التعريف الرياضي في رأيه وسيلة لإضفاء المزيد من الدقة على الأفكار المتعمقة، ومن هذا كله يتضح أن بيكن — مع تحمسه الشديد للعلم التجريبي — لم يكن معاديًا للرياضيات كما قد يبدو لأول وهلة، وأن انتقاداته للرياضة إنما ترجع إلى حذره من الإفراط في التجريد من جهة، وترجع من جهة أخرى إلى خوفه مما جرَّه المنهج الاستنباطي (عن طريق القياس) من أضرار على العلم، وحرصه على الابتعاد عن كل ما قد يُشتم منه شبهة الاستنباط.

(٧) تأثير بيكن

على الرغم من أهمية نظرية الاستقراء عند بيكن فإن التأثير الأعظم له لم يكن في هذا الميدان؛ ذلك لأن البحث في مناهج العلم أمر مشكوك في قيمته دائمًا، ويبدو أن بيكن ذاته قد وصل إلى هذه النتيجة، وأدرك أن العالم لا يخضع لمناهج يفرضها عليه الفلاسفة، وإنما هو يضع لنفسه مناهجه خلال عملية البحث العلمي ذاتها؛ ومن هنا فقد توقَّف عن إكمال «الأورجانون الجديد»، واتجه بذهنه إلى مشروعات أخرى أجدى من فرض المناهج على العلماء. والواقع أننا نستطيع أن نقول: إن الفارق الحقيقي بين القياس والاستقراء هو أن الأول يزيد من تأكيد أهمية المنهج الفلسفي، على حين أن الثاني يميل إلى الإقلال من هذه الأهمية؛ فالقياس يعني مزيدًا من الاهتمام بالألفاظ، أو تحليل المعرفة عن طريق التعامل مع كلمات، على حين أن الاستقراء يعني مزيدًا من الاهتمام بالأشياء ذاتها والوصول إلى العلم بغير واسطة من الإجراءات والعمليات المنطقية. وبعبارة أخرى؛ فالأول يؤكد أهمية المنطق على حساب الطبيعة، والثاني يؤكد أهمية الطبيعة على حساب المنطق. وهكذا يبدو أن بيكن — حين دعا إلى استبدال الاستقراء بالقياس — لم يكن يدعو في واقع الأمر إلى إحلال نوع جديد من المنطق محل نوع قديم، وإنما كان يدعو إلى تنظيم جديد للمعرفة البشرية، يبتعد فيه الفكر عن عبودية المنطق ويرجع إلى المصدر الأصلي للمعرفة وهو الطبيعة؛ أي إنه في «الأورجانون الجديد» إنما يدعو إلى منطق يقضي على تقديس المنطق، واستدلال يقلل من أهمية الاستدلال.

وعلى هذا الأساس ينبغي البحث عن تأثير بيكن الحقيقي في نواحٍ أخرى من تفكيره، وبالفعل كان لبيكن تأثير عظيم في الأجيال التالية، في أوروبا بوجه عام وفي بلاده بوجه خاص، على الرغم من مظاهر الضعف الأساسية في تفكيره: كاعتقاده بأن العالم بسيط ويمكن كشف جميع أسراره في فترة معلومة وعلى يد عدد محدد من العلماء، وكمعارضته لنظرية «كبرنك» الفلكية الجديدة، وعدم إدراكه الدلالة الحقيقة لأفكار كبلر وجاليليو العلمية، وقد لخص «أندرسن»٢٩ تأثير بيكن الأكبر في ثلاث نقاط:
  • (١)

    تحريره للعلم من حفظ المعارف وترديدها ومن طريقة النقل والرجوع إلى التراث التي كانت سائدة في أعظم الجامعات في ذلك الحين.

  • (٢)

    دعوته إلى الفصل بين العلم البشري والوحي الإلهي.

  • (٣)

    مناداته بفلسفة جديدة ترتكز على أساس متين من العلم الطبيعي، لا من الميتافيزيقا التجريدية.

ونستطيع أن نقول في صدد المسألة الأولى: إن طبيعة العلم قد أخذت تتغير بسرعة بعد وفاة بيكن بوقت قصير. صحيح أن الحركة العلمية الحديثة كانت قد بدأت قبله ومستقلة عنه. ومع ذلك فقد كان لتعاليمه تأثير بعيد في دفع هذه الحركة إلى الأمام، أَسْفَر عن إنشاء الجمعية الملكية في لندن (وهي الجمعية التي أشاد مؤسسها بذكرى بيكن في يوم افتتاحها)، وظهور موجة طاغية من الأبحاث التجريبية والكشوف الفنية التفصيلية التي استلهمت تعاليمه، والتي مهدت لظهور الثورة الصناعية في إنجلترا بعد ذلك بقرن من الزمان.

أما مسألة الفصل بين الدين والعلم، فمن المؤكد أن بيكن قد أسدى بها إلى العلم خدمة كبرى، وجنبه تدخل رجال اللاهوت الذين كانوا يرون أنفسهم «علماء»، وأصحاب الرأي المطلق في كل كشف جديد؛ لأنهم حملة الأسرار الإلهية: ولا يستطيع أحد أن يشك في إيمان بيكن بتعاليم الدين، غير أنه كان في الوقت ذاته حريصًا كل الحرص على إبعاد السلطة الدينية عن مجال الحقيقة العلمية، بحيث اكتفى في الشئون الدينية بالوحي، وترك للعقل مهمة بحث مادة العالم الطبيعي وكشف قوانينها؛ وبذلك صد عن الباحثين في مجال العلم هجمات رجال الدين دون استقرار لهؤلاء الأخيرين.

وأما فلسفة بيكن المرتكزة على أساس علمي فقد ظلت هي التيار السائد في الفلسفة الإنجليزية على التخصيص حتى اليوم. ويمكن القول إن المذاهب التجريبية بمناهجها في الملاحظة التسجيلية الدقيقة لعمليات الذهن البشري، وكذلك المذاهب الوضعية في تحليلاتها الدقيقة للغة العلمية، كل هذه قد تأثرت — بطريق مباشر أو غير مباشر — بدعوة بيكن الفلسفية الجديدة في مستهل العصر الحديث.

(٨) نصوص من «الأورجانون الجديد»

أوردنا خلال البحث نصوصًا متعددة من كتاب «الأورجانون الجديد»؛ ولذا سنكتفي في هذا الجزء بنصوص قليلة، تكمل ما اقتبسناه من قبل:
  • (١)

    في القسم ٨٤ من الباب الأول، يناقش بيكن فكرة احترام القدماء والخضوع للسلطة في ميدان الفلسفة، ويوضح مدى ضررها بالنسبة إلى تقدم المعرفة، فيقول:

    إن الرأي الذي يرفع به الناس من قيمة القديم هو رأي باطل تمامًا، ولا ينطبق على لفظ «القديم» مطلقًا؛ ذلك لأن شيخوخة العالم وتزايد عمره هو الذي يُعَد، في الواقع، «قديمًا»، وهذه هي الصفة المميزة لزمننا هذا، لا للعمر المبكر للعالم في أيام القدماء؛ إذ إن هؤلاء الأخيرين هم بالنسبة إلينا قدماء سابقون. ولكنهم بالنسبة إلى العالم محدثون صغار، ولما كنا نتوقع من الشخص المتقدم في العمر معرفة أعظم بأمور البشر، وحكمًا أنضج من حكم الشاب ومعرفته؛ نظرًا إلى ما اكتسبه الأول من تجارب وما مر به من حوادث منوعة متعددة، ولكثرة ما رآه وسمعه وفكر فيه، فإن لنا الحق في أن ننتظر من عصرنا (لو أنه أدرك قوته وجربها ومارسها) أمورًا أعظم مما ننتظره من العصور القديمة، ما دام العالم قد ازداد اليوم قدمًا، وتضاعفت ذخيرته وتراكمت بفضل عدد لا نهاية له من التجارب والملاحظات.

  • (٢)

    وفي القسم ١٢٩ من الباب الأول، يقارن بيكن بين تأثير المخترعات التي تبدو في ظاهرها بسيطة، بين تأثير الساسة والملوك ورجال الدين في شئون البشر؛ لكي ينتهي من ذلك إلى تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة عن طريق الاختراع، هو أسمى الغايات جميعًا، فيقول:

    «نلاحظ أولًا أن استحداث الاختراعات العظيمة يبدو عملًا من أروع الأعمال البشرية، وعلى هذا النحو نظر الأقدمون إلى هذه المسألة؛ ذلك لأنهم كانوا يخلعون ألقاب الشرف الإلهية على أصحاب المخترعات. ولكنهم كانوا يكتفون بألقاب الشرف البطولية على أولئك الذين أثبتوا امتيازًا في الشئون المدنية (كمؤسسي المدن والإمبراطوريات والمشرعين ومحرري بلادهم من بؤس مقيم وقاهري الطغاة وأمثالهم)، ولو قارن المرء بين الفئتين على النحو الصحيح؛ لوجد أن القدماء كانوا على حق في حكمهم؛ ذلك لأن الفوائد المكتسبة من الاختراعات يمكن أن تعم البشر عامةً، على حين أن الفوائد المدنية تقتصر على مواضع خاصة بعينها. كما أن هذه الأخيرة لا تدوم إلا وقتًا معلومًا. أما الأولى فأثرها باقٍ إلى أبد الدهر. كذلك فإن الإصلاح المدني قليلًا ما يتم دون عنف واضطراب، على حين أن المخترعات نعمة وفائدة لا تؤذي ولا تضر أحدًا.

    وفضلًا عن ذلك، فليتأمل المرء الفارق الهائل بين حياة الناس في أرقى البلاد الأوروبية، وبين حياتهم في أية منطقة همجية من جُزر الهند الجديدة، وسيجد أن هذا الفارق قد بلغ من الضخامة حدًّا يجعل الإنسان أشبه ما يكون بالإله إلى الإنسان، ليس فقط بفضل تبادل المساعدة والمنافع، وإنما بفضل الحالة السائدة لدى الإنسان في كلتا الحالتين، وهي نتيجة فنون الإنسان وصنائعه لا نتيجة التربة أو المناخ.

    كذلك ينبغي علينا أن نلاحظ قوة المخترعات وتأثيرها ونتائجها، وهي أمور تظهر أوضح ما تكون في تلك المخترعات الثلاثة التي لم يعرفها القدماء، وهي الطباعة والبارود والبوصلة؛ ذلك لأن هذه المخترعات الثلاثة قد غيرت وجه العالم بأسره: الأولى في ميدان العلم، والثانية في ميدان الحرب، والثالثة في الملاحة، وهي قد أحدثت تغيرات لا حصر لها؛ بحيث يمكن القول: إن أية مملكة أو مذهب ديني أو نجم فلكي٣٠ لم يكن له من التأثير في شئون البشر أعظم مما كان لهذه الكشوف الميكانيكية.»

وجدير بنا أن نميز بين ثلاث مراتب من الطموح: الأولى طموح أولئك الذين يسعون إلى زيادة قوة بلدهم وسيطرته على البشر، وهو طموح أرفع من السابق. ولكنه لا يقل عنه طمعًا. أما إذا حاول امرؤ أن يستعد ويوسع قوة الجنس البشري في عمومه، فإن مثل هذا الطموح (إن جازت تسميته بهذا الاسم) إنما هو أشرف وأنبل من النوعين السابقين معًا؛ على أن سيطرة الإنسان على الأشياء إنما تقوم على الفنون العلمية والعلوم وحدها؛ إذ إن الطبيعة لا تُحْكَم بإطاعتها.

١  Fulton H. Anderson: The philosophy of Francis Bacon, (University of Chicago press) 1948, p. 14.
٢  الأورجانون الجديد، الكتاب الأول، القسم ٨٦.
٣  الأورجانون الجديد، الكتاب الأول، القسم ١٦٦.
٤  Bengamin Farringtion: Francis Bacon: The Philosophy of Industrial Science. (Henry Schuman), New York 1949.
٥  The Phil. of F. Bacon (op. Cit).
٦  الأورجانون الجديد ١: ٨٣ (والرقم الأول هو رقم أبواب الكتاب، وهي بابان، والثاني رقم القسم في هذا الباب، وهذه الأرقام في جميع الطبعات).
٧  الأورجانون، ٧١.
٨  Farrington: op. cit., p. 3.
٩  Ibid. p. 141.
١٠  الأورجانون الجديد ١: ١٢٤.
١١  يستخدم بيكن لفظ axiom بمعنى مخالف للمعنى الشائع، وهو البديهيات؛ فهي عنده أقرب إلى معنى القضايا أو القوانين العلمية.
١٢  الأورجانون الجديد ١: ١٢٧.
١٣  Anderson: op. cit., p. 98.
١٤  الأورجانون ١: ٤٦.
١٥  الأورجانون ١: ٤٨.
١٦  الأورجانون ١: ٥٥.
١٧  الأورجانون ١: ٥٩.
١٨  الأورجانون ١: ٥٩.
١٩  الأورجانون ١: ٦٥.
٢٠  الأورجانون ١: ٦٨.
٢١  الأورجانون ١: ١٢.
٢٢  الأورجانون الجديد: المقدمة.
٢٣  الأورجانون ١: ١٩، ٢٠، ٣١ …
٢٤  انظر بوجه خاص: الأورجانون ١: ٤٨.
٢٥  الأورجانون ١: ١٠٥.
٢٦  V. Brochard: Etudes de Philosophie ancienne et de phil. moderne Paris (Vrin), 1954. p. 307.
٢٧  Brochard. Op. cit. p. 311.
٢٨  الأورجانون الجديد ١: ٥٩.
٢٩  Op. cit. p. 293–300.
٣٠  الإشارة هنا إلى الاعتقاد الشائع بتأثير النجوم في حياة البشر وشئونهم الأرضية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤