شجرة الفلسفة عند ديكارت

(١) هدف البحث

في مقدمة كتاب «مبادئ الفلسفة» يقدم ديكارت تشبيهًا مشهورًا للفلسفة بشجرة لها جذور وجذوع وفروع تحمل ثمارًا، وهدفنا في هذا البحث هو أن نحلل المعاني المختلفة لهذا التشبيه، ونستخلص منها التفسيرات التي يمكن استخلاصها للعلاقة بين مباحث الفلسفة عند هذا الفيلسوف الكبير؛ ذلك لأن من الممكن أن يفسر هذا التشبيه بأكثر من طريقة واحدة، على عكس الاعتقاد الشائع في الكتابات المألوفة عند ديكارت، ولكلٍّ من طرق التفسير هذه مبرراتها القوية المستمدة من فلسفة ديكارت ذاتها، ومن وجهة أخرى فإن دلالة هذا التشبيه لم تُبْحَث بحثًا كافيًا، على الرغم من شيوع استخدامه في الكتب الفلسفية المتخصصة وغير المتخصصة، وإنما كان يقتبس في معظم الأحيان بوصفه نوعًا من «تصنيف» العلوم الفلسفية فحسب، وسوف يتبين لنا خلال هذا البحث أن طريقة تفسير هذا التشبيه تثير مشكلات أساسية تتعلق بصميم الفلسفة الديكارتية، بل تتعلق بوضع الفلسفة كلها في مطلع العصر الحديث، وبالصراع العلني أو الخفي بين الفيلسوف وبين القوى التي كانت معادية للأفكار الجديدة في ذلك العصر.

(٢) نص التشبيه

يتحدث ديكارت، في المقدمة المذكورة، عن الإنسان الذي يريد أن يكون عاقلًا وعارفًا بحق، فيقول عنه: إنه «ينبغي عليه أن يعكف على الفلسفة الحقة، التي يتألف الجزء الأول منها من الميتافيزيقا، وهي تشمل مبادئ المعرفة، وضمن هذه المبادئ بيان الصفات الأساسية لله، ولا مادية نفوسنا، وكل الأفكار الواضحة والبسيطة التي توجد فينا، أما الجزء الثاني فهو الفيزياء، التي يبدأ المرء فيها بالاهتداء إلى المبادئ الحقيقية للأشياء المادية، ثم يبحث بوجه عام في كيفية تركيب الكون كله، وبعد ذلك يبحث بوجه خاص في طبيعة هذه الأرض وجميع الأجسام التي يشيع وجودها حولها كالهواء والماء والنار والمغناطيس والمعادن الأخرى، وبعد ذلك ينبغي إبداء اهتمام خاص بطبيعة النباتات والحيوانات، واهتمام أخص بطبيعة الإنسان، حتى يتسنى للمرء بعد ذلك الاهتداء إلى العلوم الأخرى المفيدة له. وهكذا فإن الفلسفة كلها أشبه بشجرة جذورها الميتافيزيقا، جذعها الفيزياء، والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي العلوم الأخرى التي ترتد إلى ثلاثة علوم رئيسية: هي الطب والميكانيكا والأخلاق، وأنا أعني بهذه الأخيرة أسمى أخلاق وأكملها، أي تلك التي تفترض معرفة كاملة بالعلوم الأخرى، والتي هي أقصى مراتب الحكمة.

ولما كان المرء لا يجني الثمار من جذور الأشجار ولا من جذعها، بل من أطراف أغصانها فحسب، فإن الفائدة الكبرى التي تُجْنَى من الفلسفة تتوقف على أجزائها التي لا يتسنَّى للمرء تعلمها إلا في آخر المطاف.»١

(٣) الهيكل البنائي للتشبيه

  • (١)

    يشتمل التشبيه — كما هو واضح — على جذور وجذع وغصون تحمل الثمار، وهذه العناصر الثلاثة تؤلف كلها «شجرة»؛ أي إنها تؤلف وحدة واحدة. بل إن الشجرة، وغيرها من أشكال الحياة، هي في تفكيرنا العادي نموذج للوحدة «العضوية»، ولما كانت الفلسفة هي «الشجرة» ككل، فإن المعنى الواضح لذلك هو أن ديكارت نظر إلى الفلسفة بمعنى شامل، وجعلها مرادفة «للمعرفة» بوجه عام، فالعلوم النظرية كالفيزياء، والعلوم التطبيقية أو العملية كالميكانيكا، تندرج تحت ذلك الكل الشامل، الذي هو الفلسفة. وهكذا كان ديكارت من أنصار «وحدة المعرفة»؛ بحيث تؤلف فروع العلم المختلفة في نظره — وكذلك الميتافيزيقا — كيانًا شاملًا واحدًا، ترتبط أجزاؤه في وحدة عضوية. وفي هذه المسألة كان ديكارت فيلسوفًا مذهبيًّا بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة؛ أي بمعنى الفيلسوف الذي يُدْخِل كل جوانب المعرفة في إطار استبصار رئيسي واحد، وإن كان قد اختلف عن أصحاب المذاهب الكبرى من اليونانيين في أنه جعل للعلم مكانًا رئيسيًّا في هذا المذهب، كما اختلف عنهم في تأكيده أن الغاية من المعرفة — آخر الأمر — عملية تطبيقية. وليست مجرد إرضاء حب الاستطلاع النظري لدى العقل الإنساني فحسب.

    وهذا التأكيد لوحدة المعرفة — من ميتافيزيقيا وعلوم نظرية وتطبيقية — في إطار «الفلسفة» مفهومة بمعنى شامل، هو أمر له دلالة بالغة في تفسير الفكر الديكارتي؛ ففي عصر ديكارت كانت مظاهر انفصال نوع خاص من المعرفة — هو العلم — عن المعرفة الفلسفية قد بدأت تتجلى بوضوح، وأخذت تتحدد معالم هذا النوع الجديد من المعرفة البادئ في التبلور، وبدأت مناهجه تتشكل بصورة مستقلة عن المناهج الفلسفية، وقد ظهر ذلك بوضوح في أعمال علماء مثل جاليليو وروبرت بويل، بل لقد عبر عنه فيلسوف مثل فرانسس بيكن تعبيرًا صريحًا، حين جعل «للفلسفة الطبيعية» (أي العلم التجريبي) طبيعة ومنهجًا وهدفًا يختلف بصورة قاطعة عن كل ما عرفته «الفلسفة التأملية» السابقة.

    أما ديكارت فكان تفكيره — ولا يزال — يدور في إطار «المعرفة الموحدة» التي تكون فيها الفلسفة والعلم شيئًا واحدًا، يستخدم فيه منهج واحد، فهو لم يتأثر كثيرًا بالتيار الجديد الذي يدعو إلى بناء معرفة علمية على أنقاض الأسلوب التقليدي في التفلسف، وإنما يُنادي بفلسفة واحدة، تبدأ بمبادئ ميتافيزيقية يقينية، أي «بالمبادئ الأولى» (التي كان أرسطو بدوره يركز بحثه عليها)، ثم تنقل يقين هذه المبادئ حتى أبعد فروع البحث التطبيقي، والشيء الذي تميز به ديكارت عن الأسلوب التقليدي في التفلسف هو دعوته إلى تطبيق منهج يتسم بالوضوح واليقين على جميع مراحل عملية المعرفة؛ ذلك لأن مثل هذا المنهج الصارم كان مفقودًا في أساليب التفلسف التقليدية، التي كانت تعتمد على التأمل والخيال أكثر مما تعتمد على دقة الاستنباط وإحكام الروابط بين المقدمات والنتائج.

  • (٢)

    ولعل السؤال الذي يفرض نفسه بقوة عندما يتأمل المرء هذا التشبيه، هو: أين موقع الرياضيات فيه؟ إن الرياضيات لا تجد مكانًا في أي جزء من أجزاء شجرة المعرفة. وهذا أمر يبدو غريبًا لدى فيلسوف كان يتخذ من الرياضة نموذجًا لكل معرفة يقينية، ويضع لنفسه منذ بداية حياته هدفًا طموحًا هو أن يحقق في جميع مجالات المعرفة نفس اليقين الذي تحققه الرياضة. ولكن الحقيقة هي أن الرياضيات وإن كانت غائبة عن الشجرة، هي في واقع الأمر حاضرة فيها كل الحضور، فالرياضيات هي التي تقدم إلينا منهج البحث في جميع هذه المراحل، بدءًا بالميتافيزيقا وانتهاءً بالأخلاق، وهي الروح التي تسري في جميع عمليات المعرفة التي يقوم بها العقل البشري، فعن طريق الاستنباط — الذي يتبعه الرياضيون — ينقل الفكر يقين المبادئ الأولى إلى كل معرفة تالية يستخلصها منه، ويتوسع في معارفه على الدوام دون أن يفقد خلال ذلك يقين المبدأ الأول، ولو شئنا أن ندخلها ضمن هذا التشبيه لقلنا: إنها هي العصارة التي تسري في الشجرة من جذورها حتى أغصانها وثمارها، أو هي الفن الذي يتبعه البستاني الماهر حين يتعهد النبتة منذ أن كانت بذرة حتى تستوي شجرة باسقة.

  • (٣)
    على أن المشكلة الكبرى في بناء هذا التشبيه هي علاقة عناصره بعضها ببعض، ولا سيما الإشكالات المتعلقة بأول هذه العناصر وهو الجذور التي تعني عند ديكارت «الميتافيزيقا»، هنا تصادفنا مشكلة التفسيرات الممكنة لطبيعة «الجذر» في علاقته بالنبات المتكامل، أو بعبارة أخرى: الميتافيزيقا في علاقتها بالعلوم.
    • (أ)

      فالجذر قد يكون هو «الأهم» والأجدر بالبحث من كل ما عداه؛ لأنه هو الأصل وهو العمق، وهو الثابت المغروس بقوة في الأرض، على حين أن سائر أجزاء الشجرة سطحية مهتزة قد تُودي بها الرياح.

      وبهذا المعنى نتحدث عن جذور أي شعب بوصفها، عنصر الأصالة فيه، في مقابل العناصر السطحية التي لم تتأصل فيه بعد، ونتحدث عن جذور أي موضوع بوصفها أحق الجوانب بالاهتمام فيه.

    • (ب)

      ولكننا قد نفهم الجذر بمعنى آخر، هو أنه ما يأتي في البداية لكي يظهر غيره (الجذع، والثمار بوجه خاص) بناءً عليه؛ أي إنه بهذا المعنى هو «المقدمة» أو «التمهيد»، هو الذي يهيئ الطريق للنبات الكامل ثم لا يعود بعد ذلك موضوعًا لاهتمامنا، إنما ينصبُّ هذا الاهتمام على نواتجه وعلى ما تجنيه الشجرة آخر الأمر من ثمار، فمَنْ منا يفكر حين يرى شجرة ناضجة في الجذور التي هيأت لانبثاقها؟ أليس حجم الشجرة واستواء جذعها ونوع ثمارها هو ما يجتذب كل اهتمامنا، على حين أن الجذر يتوارى عن تفكيرنا لأنه «أدى مهمته» ومهد الطريق للشيء الأساسي والهام؟ إن مما يعزز هذا الفهم للجذر أنه بطبيعته يختفي ويتوارى عن الأنظار؛ فالجذر «تحت الأرض»، والجذع والثمار هي التي تشق طريقها إلى النور، وهي «المرئية» والملموسة، وبقاء الجذر مختفيًا تحت الأرض يرمز إلى وظيفته التمهيدية هذه، فهو عنصر ممهد لغيره فحسب، ومهمته الوحيدة هي أن يكون تهيئة لظهور الأجزاء الظاهرة من الشجرة؛ ومن ثَم فهو أشبه ما يكون «بالشرط السلبي» لوجود هذه الشجرة، أو هو مجرد «وسيلة» لغاية هي النبات المكتمل.

    • (جـ)

      وأخيرًا، فمن الممكن أن نفهم علاقة الجذر بالنبات الكامل على نحو ثالث يجمع بين عناصر في كلٍّ من المعنيين السابقين؛ أي إنه يؤكد — مع المعنى — أهمية الجذور. ولكنه يؤكد — مع المعنى الثاني — أن جذع الشجرة وثمارها هي الغاية، ونقطة الانطلاق في هذا المعنى هي أن الجذر — وإن كان وسيلة لغاية هي النبات المكتمل — لا تنتهي مهمته بعد ظهور هذا النبات، بل إن الشجرة — مهما نَمَتْ وعَلَتْ — تظل في حاجة دائمة إلى جذرها؛ لأنه هو الذي يظل يزودها بالعصارة الغذائية التي يتوقف عليها استمرار حياتها، ولو انتزعت جذور الشجرة لذبلت على الفور مهما بَدَت لأعيننا متطاولة إلى السماء، ومعنى ذلك أن وظيفة الجذور في النبات الكامل «مستمرة»، وأنها هي التي تزود هذا النبات برحيق الحياة، ولولاها لما عاش جذع ولا ثمار؛ أي إن تأثير الجذر هو الذي تطغي أهميته على كل ما عداه. وليس صحيحًا أن النبات المكتمل يلغي أهمية الجذر ويتخذه مجرد أداة تنتفي الحكمة من وجودها بعد أن تؤدي رسالتها، وإنما الصحيح أن هناك علاقة استمرار واتصال دائم بين هذين العنصرين.

    وهكذا يكون للجذر — في علاقته بالشجرة — ثلاثة معان؛ فهو إما أن يكون العنصر «الأهم» الذي يطغى على كل ما عداه أو يحجبه ويكون جديرًا باهتمامنا بدلًا منه، وإما أن يكون العنصر «الممهد» الذي يهيئ المجال لغيره ويتوارى بعد ذلك عن الأنظار، وإما أن يكون العنصر «المستمر» الذي يظل يزود النبات الكامل برحيق الحياة طوال مراحل نموه.

هذه المعاني المستمدة من بناء تشبيه الشجرة ذاته، يمكن أن تترجم فلسفيًّا إلى ثلاثة تفسيرات مختلفة للعلاقة بين الميتافيزيقا (بوصفها جذر الشجرة) وبين الفيزياء والعلوم التطبيقية (أي الجذع والثمار):
  • (١)

    التفسير الأول يرى أن الميتافيزيقا هي العنصر الأهم في فلسفة ديكارت، وكل ما عداها ثانوي الأهمية بالقياس إليها. وهكذا رأى كثير من شراح ديكارت أن فلسفته هي في أساسها «ميتافيزيقا»، وعلى الرغم من أن البحث في الميتافيزيقا لم يكن سوى موضوع واحد من بين موضوعات متعددة أبدى بها ديكارت اهتمامًا كبيرًا، فإن هؤلاء الباحثين يخصصون أكبر حيز من مؤلفاتهم عن ديكارت لآرائه الميتافيزيقية، على حين أن آراءه العلمية ولا يشار إليها في هذه الحالات إلا إشارة عابرة.

    ولا شك أن المرء قد يلتمس عذرًا لمن يعالجون فلسفة ديكارت بهذه الطريقة، على أساس أن البحث الميتافيزيقي يحتفظ بقيمته على مر العصور، على حين أن الآراء العلمية تفقد قيمتها بسرعة ولا يعود لها مكان إلا في متحف التاريخ العلمي فحسب. وهذا تبرير معقول ومفهوم. ولكن كان ينبغي أن يصحبه إدراك للأهمية النسبية لكلٍّ من المبحثين عند ديكارت نفسه، فلا بأس من أن يخصص الشارح المعاصر معظم كتابه للمسائل الميتافيزيقية ويتجاهل المسائل العلمية، بشرط أن ينبهنا إلى أن ديكارت ذاته جعل لهذه المسائل العلمية موقعًا رئيسيًّا في فلسفته. ولكن ما يحدث في أغلب الأحيان هو أن طغيان البحث الميتافيزيقي يصحبه عادةً اعتقاد ضمني بأن الوضع كان على هذا النحو حتى بالنسبة إلى ديكارت ذاته، ألم يقل ديكارت: إن الميتافيزيقا هي الجذور؟ وأليست جذور الشجرة هي الأصيلة والعميقة والراسخة؟

  • (٢)

    أما التفسير الثاني فيذهب — على العكس من ذلك — إلى أن دور الميتافيزيقا عند ديكارت كان «تمهيديًّا» فحسب؛ فهي التي تهيئ الطريق للبحث في العلوم النظرية والتطبيقية، وذلك بأن تزيل عقبات معينة كان من الممكن أن تحول دون قيام هذه العلوم، كعقبة الشك في قدرة الإنسان على المعرفة، أو في وجود العالم، وبعد أن تؤدي الميتافيزيقا هذه المهمة، التي هي سلبية بطبيعتها (أعني إزالة العقبات)، وبعد أن تضيء النور الأخضر للعلم، ينطلق العلم في مساره مستقلًّا عن الميتافيزيقا، ووفقًا لهذا التفسير لا تحتل الميتافيزيقا في فلسفة ديكارت إلا مكانة ثانوية، ويكون اهتمام ديكارت الحقيقي منصبًّا على المسائل العلمية.

  • (٣)

    وأخيرًا، فإن التفسير الثالث يمكن أن يُعَدَّ مركبًا من التفسيرين الأخيرين، فهو يعترف بالأهمية القصوى للميتافيزيقا، ويعترف في الوقت ذاته بأن البحث في العلوم كان هو الغاية النهائية لفلسفة ديكارت، وذلك عن طريق تأكيد الروابط المستمرة بين الجانبين؛ فالعلوم تظل معتمدة على المبادئ الأساسية التي تزودها بها الميتافيزيقا، ومهمة الميتافيزيقا في إعلاء صرح المعرفة العلمية مستمرة؛ لأن تصور ديكارت للعلم لا يستقيم بدون وجود مبادئ ميتافيزيقية أساسية تضفي اليقين على كل ما يتوصل إليه العلم النظري والتطبيقي من نتائج، وعملية المعرفة — في نهاية الأمر — تسير في خط واحد لا انقطاع فيه؛ بحيث يستحيل وضع حد فاصل نهائي بين ما يقوم به الباحث الميتافيزيقي وما يقوم به العالم النظري والتطبيقي. بل إن ديكارت نفسه تصور أنه هو القادر على السير في طريق المعرفة هذا من بدايته إلى نهايته.

وهكذا تتحدد طبيعة فلسفة ديكارت، في علاقتها بالجوانب العلمية من نشاطه، في إطار هذه التفسيرات المرتكزة على ثلاثة طرق ممكنة في فهم تشبيه الشجرة، وسوف تكون مهمتنا — في الأجزاء التالية من هذا البحث — هي تقديم عرض مفصل لهذه التفسيرات، من أجل بيان مدى قدرتها على التعبير عن موقف ديكارت الحقيقي في مشكلة العلاقة بين الجوانب الفلسفية والجوانب العلمية في تفكيره.

على أن من الواجب أن ننبه إلى أن التفسير الأول، وهو القائل إن الميتافيزيقا هي العنصر الهام الذي يطغى على ما عداه، والذي يجعل من ديكارت فيلسوفًا ميتافيزيقا في الأساس، ولا يتحدث عن مواقفه من العلم إلا حديثًا ثانويًّا. هذا التفسير كما قلنا في بداية هذا البحث هو الشائع والمألوف، ولما كانت نسبة كبيرة من الكتابات والأبحاث التي أُلِّفَت عن ديكارت قد دافعت عن هذا الموقف، فإنَّا لا نجد أنفسنا بحاجة إلى عرض مفصل لهذا التفسير؛ ولذلك سنركز اهتمامنا على التفسيرين الأخيرين؛ لأنهما أقل شيوعًا، ولأن كلًّا منهما يلقي ضوءًا من زاوية جديدة على فلسفة ديكارت، ويبرز جانبًا لا تشيع الكتابة عنه، وبطبيعة الحال ففي ثنايا العرض الذي سنقدمه لهذين التفسيرين، ستكون هناك إشارات دائمة إلى التفسير الأول، وحوار مستمر مع القائلين به.

(٤) الدور السلبي للميتافيزيقا إزاء العلم

حينما تصف جور الميتافيزيقا إزاء العلم — وفقًا لوجهة النظر التي سنعرضها الآن — بأنه سلبي، نعني بذلك أن الميتافيزيقا عند ديكارت هي التمهيد المنطقي للعلم، وأن العلم يبدأ من حيث تنتهي الميتافيزيقا.

ذلك لأن من المستحيل أن يبدأ العالم في ممارسة عمله العلمي لو كان هناك شك في أدوات المعرفة التي يستخدمها، وهي الحواس والعقل، أو في الموضوعات التي يبحثها، وهي الداخلي (الإنساني) والخارجي (الطبيعي).

لذلك أخذ ديكارت على عاتقه في بحوثه الميتافيزيقية أن يبدد هذا الشك، وبالفعل قام برحلته الميتافيزيقية الطويلة التي لا نرى هنا ما يدعونا إلى عرض تفاصيلها، لكي يصل في النهاية إلى إثبات وجود الذات الإنسانية، إلى إثبات وجود العالم الخارجي، وإمكان الثقة في حواس الإنسان وعقله، ما دام الله موجودًا وكاملًا، وبالتالي يستحيل أن يقدم إلينا عالمًا وهميًّا، أو يعطينا أدوات زائفة للمعرفة.

منذ هذه اللحظة يصبح العلم ممكنًا. أما قبل ذلك وطوال الوقت الذي كان وجود العالم الخارجي أو سلامة الأدوات التي نعرفه بها معرضًا فيه للشك، فكان من المحال تصور أي علم، وهكذا يكون هدف تلك الرحلة الطويلة في ميدان الميتافيزيقا هو أن يمهد «سلبيًّا» لظهور العلم، بمعنى تبديد الشكوك التي كانت تمنع من قيامه، كأن ديكارت، بعد أن ينتهي من مذهبه الميتافيزيقي، يخاطب رجال العلم قائلًا: «الآن يمكنكم أن تبدءوا بحثكم العلمي وأنتم مطمئنون، بعد أن أثبت أن الموضوعات التي تبحثونها غير معرضة للشك، وأن وسائلكم في معرفة هذه الموضوعات موثوق بها». وبعبارة أخرى؛ فالميتافيزيقا تنتهي بذلك الضوء الأخضر الذي يبدأ بعده العلم في الانطلاق وعند هذا الحد ينتهي دورها.

هذا الرأي ينطبق — كما قلنا — على تفسير معين لجذور شجرة المعرفة، يجعل هذه الجذور ممهدة للنبات الكامل فحسب. ويمكن القول: إن وجود الجذور (تحت الأرض) يرمز بوضوح لهذه الطبيعة «السلبية» للميتافيزيقا الديكارتية. وحين تكون الفيزياء والعلوم التطبيقية هي الجذع والثمار — أي هي الجزء الظاهر فوق الأرض — يصبح المعنى الواضح لذلك هو أن هذه هي المعارف «الإيجابية» التي تضيف إلى حصيلتنا من العلم، بينما الميتافيزيقا تكتفي بأن تجعل هذه المعارف ممكنة، وبأن تفسح لها مجال الانطلاق، ثم تتركها وشأنها، أي تظل متوارية «تحت الأرض».

وعلى أساس هذا التفسير تكون الميتافيزيقا عند ديكارت وسيلة لا غاية؛ فهي — برغم كل ما أولاه إياها مؤرخو الفلسفة من اهتمام — أداة يستخدمها ديكارت لكي يصد عن العلم هجمات تجعل قيامه مستحيلًا. ولكنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما المقصود لذاته هو العلم النظري والتطبيقي.

(٥) فما هي الأسباب التي تجعل هذا التفسير يبدو معقولًا؟

  • (١)

    أول هذه الأسباب هو ضعف بناء الميتافيزيقا الديكارتية. والواقع أن الكلام عن جوانب الضعف في هذه الميتافيزيقا يمكن أن يستغرق مجلدات بأكملها، وعلى الرغم من أن ديكارت كان له على الدوام مريدون يدافعون عن كل ما قال، فإن خصومه قد ظهروا منذ اللحظة الأولى، وسرعان ما أدركوا أن بناء الميتافيزيقا الديكارتية غير متماسك، وأن الحجج التي ساقها للدفاع عن آرائه غير مقنعة.

    ففكرة الشيطان الخادع (Malin génie) إذا أُخِذَت بجدية، وإذا مضينا فيها إلى آخر مداها استخلصنا كل ما تنطوي عليه من مضامين يمكن أن تهدم فلسفته بأكملها، وتجعل «الكوجيتو» ذاته غير مضمون. أما قضيته الأساسية، وهي «أنا أفكر إذن فأنا موجود»، فقد كانت — وما زالت — موضوعًا للنقد الشديد بوصفها قضية مليئة بالمسلمات التي لا يبرهن عليها؛ ومن ثَم فهي متناقضة مع نفس المنهج الرياضي الذي دعا إليه ديكارت، والذي يفترض إثباتًا حاسمًا لكل مقدمة يرتكز عليها الاستدلال الفلسفي. ولكن إذا كان ديكارت نفسه قد رد على الاعتراضات التي توجَّه إليه في هذا الصدد، وإذا كان كثير من شراحه يؤكد أن من الممكن الدفاع عنه ضد كل نقد يوجَّه إليه في هذا الصدد، فإن براهينه على وجود الله قد أثبتت أنها أضعف من «الكوجيتو» بكثير، ولم تستطع أن تقنع عددًا كبيرًا من معاصريه، حتى أولئك الذين كانوا حريصين كل الحرص على إيجاد مثل هذه البراهين. بل إن لاهوتيًّا كبيرًا من خصومه — وهو فويتيوس Voetius الذي كان مديرًا لجامعة «أوترخت» وأستاذًا للاهوت بها — قد اتهمه بالإلحاد والدجل والادعاء؛ لأن براهينه على وجود الله ضعيفة ضعفًا مقصودًا، الهدف منه زعزعة الإيمان. وقد ترتب على هجوم «فويتيوس» هذا اتخاذ إجراءات قضائية ضد ديكارت، كادت أن تؤدي إلى محاكمة لولا تدخُّل أصدقائه لدى بلاط أمير «أورانج»، وتكررت هذه القصة نفسها في ليدن، حيث هاجمه لاهوتي آخر اسمه «ريفيوس» Revius ووصل الأمر إلى القضاء في عام ١٦٤٧م، فكان لا بد من تدخل السلطات العليا مرة أخرى لإنقاذه من المحاكمة، وإن كانت الأوامر قد صدرت بتحريم نشر تعاليمه في الجامعات،٢ أما إثباته لوجود العالم، فلا يمكن أن يُعَدَّ إثباتًا بالمعنى الصحيح، وخاصةً إذا ما نُظِرَ إليه في ضوء الشك الشديد الذي بدأ به ديكارت، وإنما هو أقرب ما يكون إلى الاطمئنان النفسي واستعادة الثقة فيما تنقله إلينا حواسنا عن هذا العالم.٣

    إننا لا نستطيع بالطبع أن نناقش موضوعًا عظيم الاتساع كالميتافيزيقا الديكارتية في هذه اللمحة السريعة. ولكننا نرى أن جميع الانتقادات التي وُجِّهَت إلى البناء الميتافيزيقي عند ديكارت — وما أكثرها — تدعم وجهة النظر القائلة: إن دور الميتافيزيقا سلبي؛ أي إنها تدعم التفسير الذي يركز على «ثمار» الشجرة، ويرى في الجذور الميتافيزيقية مجرد وسيلة تمهد — آخر الأمر — لظهور هذه الثمار.

  • (٢)

    ولو تأمل المرء ترتيب الحقائق التي كان ديكارت يهدف إلى إثباتها في مذهبه الميتافيزيقي؛ لأمكنه أن يفسر هذا الترتيب على نحو تكون فيه الميتافيزيقا أساسًا يمهد لقيام العلم، ولا تكون فيه غاية مقصورة لذاتها؛ فالحقيقة الأولى التي يرتكز عليها بناء الميتافيزيقا هي وجود الذات، والحقيقة الثانية هي وجود الله، والثالثة وجود العالم. ولقد أراق شراح ديكارت بحورًا من المداد لكي يثبتوا أن انطلاقه من الحقيقة الأساسية المتعلقة بوجود الذات، واتخاذه من الكوجيتو (أنا أفكر) أساسًا لإثبات هذا الوجود، وتأكيده أن هذه هي القضية المحورية في مذهبه الميتافيزيقي، معناه أن ديكارت فيلسوف ميتافيزيقي مثالي، بل هو «أبو المثالية الحديثة»، ما دام جوهر المثالية هو تأكيد أولوية الفكر، لكن من الممكن أن يقال — من وجهة نظر أخرى. إن الانطلاق من حقيقة الفكر التي تؤسس وجود الذات لا يدل على أولوية الفكر في مذهبه، بل كانت تلك نقطة بداية ضرورية لكي يتسلسل إثبات الحقائق الثلاث الرئيسية بطريقة مقنعة للعقل فحسب؛ فالترتيب في هذه الحالة هو ترتيب منهجي لا مذهبي؛ أي إن أفضل طريقة عرض ممكنة، وأكثر هذه الطرق إقناعًا للذهن، هي تلك التي تبدأ بحقيقة الفكر ووجود الذات وتنتهي إلى وجود العالم. ولكن هذا الترتيب لا يعكس على الإطلاق أهمية كل حقيقة من هذه الحقائق الثلاث داخل المذهب، ليس ترتيبًا «للأولوية» بينها.

    والدليل الواضح على ذلك هو موضع الحقيقة المتعلقة بوجود الله، فهذه الحقيقة يأتي ترتيبها ثانيًا؛ أي بعد حقيقة وجود الذات، فهل يُعْقَل أن فيلسوفًا مثل ديكارت، بذل كل هذا العناء من أجل تقديم مذهب ميتافيزيقي يرضى عنه رجال اللاهوت، بل ربما كان يستهدف من الميتافيزيقا كلها إسكات الأصوات المعارضة، هل يُعْقَل أن يكون قد تعمد أن يضع حقيقة وجود الله في المرتبة الثانية من حيث الأهمية داخل مذهبه؟ إن هذا مستحيل بالنسبة إلى ظروف فيلسوفنا؛ لأنه لو صح لكان بذلك يناقض نفسه ويهدم كل ما بناه، ويُعطي خصومه سلاحًا قويًّا يهاجمون به ذلك الذي جعل وجود الذات أهم من وجود الله، وهو أيضًا مستحيل بالنسبة إلى البناء الداخلي للمذهب ذاته؛ لأن وجود الله عنده هو دعامة المذهب كله، ومنذ اللحظة التي يتم فيها «إثبات» وجود الله يصبح كل شيء مرتكزًا على هذه الحقيقة الأساسية.

    وإذن فالترتيب الذي جاءت به الحقائق الثلاث في مذهب ديكارت ليس ترتيبًا لأهمية هذه الحقائق داخل المذهب، بل هو كما قلنا ترتيب منهجي، يُقْصَد به عرض هذه الحقائق بأكثر الطرق إقناعًا للعقل، وما هو في حقيقته إلا تطبيق لقاعدة «التركيب»، أي القاعدة الثالثة من قواعد المنهج الديكارتي المشهورة، التي تعطي للباحث عن الحقيقة حرية ترتيب قضاياه، دون التقيد بالترتيب الطبيعي لهذه القضايا؛ بحيث تقتنع العقول بها اقتناعًا كاملًا.

    فإذا كان الأمر كذلك، فلن تعود هناك أسبقية لوجود الفكر على وجود العالم، ولا يحق لأحد أن يستنتج، من ورود حقيقة الفكر أولًا، أنها هي الأولى في الأهمية، أو من ورود حقيقة العالم أخيرًا أنها ثانوية الأهمية. بل إن كل ما في الأمر هو أن تسلسل البرهان على هذه الحقائق يقتضي — لكي يكون مقنعًا إلى أقصى حد — أن يبدأ بحقيقة الفكر ووجود الذات، وينتقل منها إلى وجود الله، ثم من وجود الله إلى وجود العالم.

    في هذا الإطار تبدو الميتافيزيقا الديكارتية كما لو كانت رحلة طويلة تستهدف، آخر الأمر، استرداد الثقة في وجود العالم. وفي الوسائل التي نستخدمها من أجل معرفته، وهي الحواس والعقل، أو بعبارة أخرى في الموضوع الذي يبحثه العلم وأدوات المعرفة العلمية. وحين تكون هذه هي نهاية المطاف في تلك الميتافيزيقا وسيلة تمهد لظهور العلم؛ أي إن مهمتها هي تذليل عقبات معينة كان من الممكن أن تحول دون ظهور العلم أصلًا، وبعد أن تنتهي مهمة الميتافيزيقا يبدأ دور العلم. فبعد آخر حقيقة يتم إثباتها ميتافيزيقيًّا — هي وجود العالم والثقة في حواس الإنسان وعقله — يصبح الطريق ممهدًا لكي يبدأ العالم عمله، وبهذا المعنى تكون الميتافيزيقا هي جذر الشجرة الذي يمهد لظهور غيره، الذي يختبئ «تحت الأرض» لأنه مجرد وسيلة لغاية أخرى مغايرة له.

    هنا يمكننا أن نستشف سمة هامة في الميتافيزيقا الديكارتية، هي أنها خطوة تمهيدية في طريق العلم، إنها تختلف عن الميتافيزيقا التقليدية، عن «ما بعد الطبيعة»؛ أعني عن ذلك المبحث الذي كان — عند الفلاسفة التقليديين في العصور القديمة والوسطى — يظهر بوصفه تتويجًا للمذهب، ويفترض معرفة بالمسائل الطبيعية ثم يتجاوز هذه المعرفة لكي يبحث في «المبادئ الأولى»، بمعنى المبادئ القصوى أو النهائية؛ فالميتافيزيقا الديكارتية، وفقًا لهذا التفسير، هي الفصل التمهيدي في كتاب المعرفة، وبعدها يبدأ العلم في الظهور. بل إننا لو شئنا الدقة لقلنا: إن هذه الميتافيزيقا محاطة بالعلم من الجانبين؛ ذلك لأن مسارها عند ديكارت يفترض معرفة دقيقة بالمنهج الرياضي، الذي يبعث الروح في كل مرحلة من مراحل الرحلة الميتافيزيقية الطويلة، ويوجه هذه الرحلة من بدايتها إلى نهايتها، فقبل أن نبدأ الميتافيزيقا ينبغي أن يكون الفيلسوف قد ألمَّ بالرياضيات وتشبَّع بمنهجها إلى الحد الذي يتيح له أن يرتب أفكاره الميتافيزيقية بالطريقة الصحيحة، وبعد أن تنتهي الميتافيزيقا يكون الطريق قد أصبح ممهدًا لقيام العلم الطبيعي، ومن بعده المعارف العملية التطبيقية؛ وعلى هذا الأساس تكون الميتافيزيقا الديكارتية مرحلة وسطى بين مرحلتين عمليتين: الأولى تسبقها والثانية تلحقها.

    وسواء أخذ المرء بهذا التفسير، أم اكتفى بالقول إن ما تقدمه الرياضة مجرد «منهج»، أي أداة للبحث، وأن البداية الحقيقية هي البداية الميتافيزيقية التي تمهد لظهور العلم فيما بعد، فإنه في كلتا الحالتين يكون قد جعل للميتافيزيقا دورًا سلبيًّا، يصبح فيه وجودها متوقفًا أساسًا على وجود العلم الذي تمهد له أو يمهد لها.

  • (٣)

    ولو تأمل المرء موقع فكرة «الآلية» في فلسفة ديكارت؛ لوجد فيها دليلًا آخر يؤيد الرأي القائل بأن مكانة الميتافيزيقا في مذهبه ثانوية أو تمهيدية بالنسبة إلى المعرفة العلمية؛ ذلك لأن هذه الفكرة تحتل موقعًا رئيسيًّا في مذهب ديكارت. بل إنها هي المحور الذي تدور حوله نظرته إلى العالم وإلى الإنسان، وهنا نود أن ننبه إلى أن «المزاج الميتافيزيقي» — إن صح هذا التعبير — ينفر من فكرة الآلية، ولو تأملنا كبار الميتافيزيقيين طوال مجرى تاريخ الفلسفة؛ لوجدناهم خصومًا ألداء لكل نظرة آلية إلى العالم أو الإنسان؛ فالآلية لا مكان لها في فلسفة أفلاطون، وأرسطو قد جعل من «الغائية» (أعني عكس الآلية) محورًا لتصوره الخاص للعالم وللنفس البشرية، وكبار ميتافيزيقي العصور الوسطى تجاهلوا الآلية تجاهلًا تامًّا؛ أي إن التراث الفلسفي حتى عصر ديكارت على الأقل كان يستبعد تمامًا الجمع بين الميتافيزيقا والتصور الآلي للكون والإنسان، وعلى العكس من ذلك كانت النزعة الآلية تحتل على الدوام مكانة رئيسية في تفكير الفلاسفة ذوي النزعة العلمية، الذين كانوا خصومًا تقليديين للميتافيزيقا، ابتداءً من ديمقريطس حتى أبيقور لوكريتيوس.

    ولكن الصورة التي تبدو عليها فلسفة ديكارت ظاهريًّا، والتي يقبلها القسم الأكبر من شراحه، هي صورة فيلسوف يَجْمَع على نحو فريد بين النزوع الميتافيزيقي الطاغي، الذي تكون فيه فلسفته كلها مرتكزة على الضمان الإلهي للحقائق البشرية، بين نظرة آلية متطرفة إلى العالم، لا تدع مجالًا لتدخل القوة الإلهية إلا في أضيق الحدود. وفي أول المراحل فحسب؛ بحيث يسير كل شيء بعد بقواه الذاتية، وتتفاعل قوى العالم وعناصره فيما بينها بانتظام دقيق.

    هذه الصورة تفتقر — في رأينا — إلى الاتساق الداخلي، وتبعث في فلسفة ديكارت نوعًا من الازدواجية التي تكاد ترقى إلى مرتبة التناقض، فلا عجب إذن أن يحاول أنصار التفسير الميتافيزيقي الإقلال من أهمية الجانب الآخر المرتكز على الآلية، بقدر استطاعتهم، أو عرضه بطريقة مقتضبة عاجلة دون أية إشارة إلى التعارض الحاد بين النزوع الميتافيزيقي وتأكيد سيادة الآلية.

    على أن صورة الفلسفة الديكارتية تبدو أكثر اتساقًا إذا ما أدرك المرء الأبعاد الكاملة لتصوره الآلي للعالم والإنسان، وحاول بعد ذلك أن يجعل للميتافيزيقا المكانة التي تستحقها في مذهب آلي كهذا، وهي قطعًا ستغدو عندئذٍ مكانة أقل أهمية مما تبدو عليه عادةً، فديكارت — كما هو معروف — قد وضع صورة للعالم تختلف اختلافًا كليًّا عن تلك الصورة التي رسمها فلاسفة اليونان للكون المنظم المنسق (Cosmos) وتلك التي قال بها مفكرو العصور الوسطى اللاهوتيون، الذين قالوا بعالم يسير وفقًا لغايات إلهية محددة. وصحيح أن الصورة التي قال بها ديكارت لم تكن حصيلة منهج علمي سليم، بقدر ما كانت استدلالات فلسفية بحتة، (كما سنبين فيما بعد) ولكن هذا لا يمنع من القول إن عالم ديكارت أقرب بكثير إلى العالم الذي يقول به العلم الحديث، على الرغم من أنه لم يتبع كلَّ منهج هذا العلم الحديث في الوصول إلى تصوره هذا، وبغضِّ النظر عن تفاصيل نظرياته الطبيعية — وهي نظريات كان فيها قدر كبير من الخطأ — فقد كان تطور هذا العالم — منذ حالته الأولى حتى حالته الراهنة — يسير بطريقة آلية بحتة؛ إذ تحدث فيه «دوامات» هائلة يؤدي دورانها إلى تناثر أجزاء الكون وتمايزها، دون تدخُّل أية قوة خارجة عن نطاقه، دون وجود أية غايات يتجه هذا العالم إلى تحقيقها. وهكذا كانت الروح الآلية عنده أشبه بتلك التي سادت مذهب «ديمقريطس»، فيلسوف الذرة اليوناني المشهور، الذي كان بدوره من أكبر أنصار التصور الآلي البحت للعالم، والذي لا يمكن أن يُعَدَّ فيلسوفًا ميتافيزيقيًّا بأي حال من الأحوال.

    على أن الأهم من ذلك هو تطبيق ديكارت لفكرة الآلية على المجال البشري، ذلك المجال الذي كان الميتافيزيقيون حريصين كل الحرص على أن يجعلوه مقرًّا للتفسير الغائي. وكانوا يرونه عالمًا قائمًا بذاته، مستقلًّا عن العالم الخارجي، وعن أية نظرية نكونها عن هذا العالم.

    ولننظر إلى ما يقول ديكارت في كتابه «وصف الجسم البشري» La Description du corp humain (١٦٤٨م) مهاجمًا فكرة «النفس» على أساس أنها أسطورة قائمة على التشبيه بالإنسان (anthopomorphisme)؛ نظرًا إلى أننا قد جربنا جميعًا — منذ طفولتنا — أن كثيرًا من هذه الحركات تطيع الإرادة التي هي من قوى النفس، فإن هذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن النفس مبدأ كل شيء، وهو خطأ ساعد عليه الجهل بالتشريح ومبادئ الميكانيكا (لاحظ استخدام لفظ «الميكانيكا» في هذا المجال)؛ ذلك لأننا لا نأخذ في اعتبارنا سوى ظاهر الجسم البشري، فلم نتصور قط أن هناك عددًا كافيًا من الأعضاء أو من مصادر الحركة، تتحرك بذاتها على الأنحاء المتباينة التي نرى الجسم يتحرك بها،٤ وإذن فحركات الجسم ذاتية، لا تحتاج إلى نفس، والجسم تسري عليه قوانين الفيزياء الكونية، وقوانين الحركة بوجه عام.
    ولقد كان ديكارت حريصًا على أن يفصل بين المبدأ الذي يقوم بالوظائف الحيوية في الإنسان، والمبدأ الذي يفكر فيه، فألغى النفس من المجال الأول، بينما كان غالبًا يستخدم لفظ esprit للمجال الثاني، وتكاد كلمة esprit تعني عنده — في كل الأحوال تقريبًا — العقل، ومعنى ذلك أن الثنائية الحقيقية عنده بين العقل والجسم لا بين «النفس» والجسم. ولكن حتى الوظائف الفكرية والعقلية ذاتها كانت أحيانًا تفسَّر في فلسفته بطريقة توحي بأنه يريد تطبيق فكرة الآلية عليها.
    ففي رسالة كتبها ديكارت إلى صديقه «مرسين» Mersenne قال: «إنني أقوم الآن بتشريح رءوس حيوانات مختلفة كيما أفسر طبيعة التخيل والتذكير»،٥ وقد اقتبس مؤرخ الفلسفة المشهور «برييه» Brehier هذا النص٦ دون أن يحلله تحليلًا كافيًا، ودون أن يتوصل إلى دلالته الكاملة؛ ذلك لأن التخيل والتذكر ملكتان بشريتان، ولا علاقة لهما بالحيوانات، لا سيما وأن الحيوانات — في مذهب ديكارت بالذات — أشبه بالآلات التي لا تشعر ولا تعي، فما معنى التجاؤه إلى تشريح رءوس الحيوانات من أجل تفسير طبيعة التخيل والتذكر؟ إن لهذه العبارة دلالة مزدوجة؛ فهي أولًا تدل على أن ديكارت يحاول أن يزيل الحد الفاصل بين الطبيعة الجسمية للحيوان والإنسان، ويفسر الثاني من خلال الأول، والأهم من ذلك أنها تتضمن تفسيرًا ماديًّا وآليًّا، لا للوظائف الجسمية أو الحيوية فحسب، بل للوظائف الفكرية أيضًا؛ فالتخيل والتذكر ملكتان عقليتان، ومع ذلك فإن تشريح رءوس الحيوانات يمكن أن يفسرها، ولنتذكر في هذا الصدد أن ديكارت عندما شرح كلمة «أنا أفكر Cogito» فسرها بأنه يقصد التفكير بالمعنى الواسع، الذي يشمل التخيل والتذكر والرغبة … إلخ؛ أي إن الصفات التي تنتمي إلى صميم النفس من حيث هي جوهر مفكر، يمكن تفسيرها من خلال التشريح.

    هذا الاتجاه إلى توسيع نطاق فكرة الآلية؛ بحيث يصبح الكون كله آلة ضخمة تسير قواها الذاتية دون غايات، وبحيث يصبح الإنسان ذاته خاضعًا لقوانين الفيزياء الكونية، لا في وظائفه الحيوية فحسب، بل ربما في وظائفه الفكرية أيضًا، يتعارض، كما قلنا من قبل، مع المزاج الميتافيزيقي. ومن الصعب أن تكون الميتافيزيقا هي الهدف الأساسي لفيلسوف يضفي على التفسير الآلي للظواهر كل هذه المكانة في مذهبه. كما أن من الصعب أن يكون هناك مكان رئيسي للميتافيزيقا في هذا العالم الديكارتي الذي يخضع لقوانين الميكانيكا وتُسْتَبْعَد منه القوى الخارجة عن الطبيعة.

  • (٤)

    ومن العوامل الهامة التي تؤيد هذا التفسير أن كثيرًا من تعبيرات ديكارت التي تتخذ مظهرًا ميتافيزيقيًّا أو لاهوتيًّا يمكن أن تُفَسَّر تفسيرًا علميًّا. بل إنها تخدم قضية العلم، الذي كان لا يزال ناشئًا في ذلك الحين، أكثر مما تخدم قضية الميتافيزيقا أو اللاهوت التقليدي، وذلك على عكس ما يوحي به مظهرها الخارجي.

    فديكارت يتناول فكرة لاهوتية وميتافيزيقية خالصة، وهي فكرة ثبات الطبيعة الإلهية؛ لكي يستنتج منها عددًا من النتائج الهامة التي تشترك كلها في أنها تخدم العلم الناشئ، فنظرًا إلى أن الطبيعة الإلهية ثابتة، فإن القوانين التي يسير العالم وفقًا لها لا بد أن تكون ثابتة.

    وربما بدا للبعض أن فكرة ثبات القوانين الطبيعية تتعارض مع شمول القدرة الإلهية التي تستطيع أن تخالف هذه القوانين في أي وقت. ولكن ديكارت يحدد موقفه من ذلك فيقول (في رسالة إلى أرنولد Arnauld بتاريخ ٢٩ يوليو ١٦٤٨م): «في رأيي أن من الواجب ألا يقال عن أي شيء أنه مستحيل على الله؛ لذلك لأنه لما كان كل ما هو حق وخير معتمدًا على قدرته الشاملة، فإنني لا أتجاسر حتى على القول: إن الله يعجز عن صنع جبل بغير واد، أو عن جعل الواحد والاثنين لا يساويان ثلاثة، وكل ما أقوله هو أن الله أعطاني عقلًا تقتضي طبيعته ألا يكون في إمكاني تصور جبل بغير واد، أو تصور الواحد والاثنين بغير أن يكون مجموعهما ثلاثة»، هنا نجد دفاعًا يبدو في ظاهره متطرفًا عن فكرة القدرة الإلهية الشاملة، التي تسري حتى على القوانين الفكرية الضرورية ذاتها. ولكن قليلًا من التفكير يقنعنا بأن هذا دفاع على مستوى فرضي، وهو مستوى لا يعني العقل البشري؛ لأن كل علومنا ومعارفنا وتجاربنا تقع في ذلك المستوى الآخر، الذي لا نستطيع فيه — كما قال ديكارت — أن نتصور الجبل بغير واد، أو الواحد والاثنين دون أن يكون مجموعهما ثلاثة؛ أي إن قوانين الطبيعة والفكر تظل فيه ثابتة. هذا هو المستوى الذي يهمنا في العلم. أما الحالة الفرضية المتعلقة بالطبيعة الإلهية في ذاتها، فقد كان ديكارت يستطيع أن يقول عنها ما يشاء ما دامت لا تؤثِّر في العلم أو الفكر البشري.

    وحين أراد ديكارت أن يعبر عن موقفه من فكرة الغائية، لم يقدم هذا الموقف بطريقة مباشرة، وإنما عرضه من خلال تعبيرات ذات مظهر لاهوتي وإن كانت النتيجة المستخلصة منها علمية إلى حد بعيد، فهو لا ينكر الغائية إنكارًا مباشرًا، بل يؤكد على عكس ذلك أن الكون يخضع لغايات إلهية ولكن هذه الغايات تخفى علينا؛ لأن عقولنا البشرية عاجزة عن استيعابها؛ ومن ثَم فلا بد أن نعامل الطبيعة «كما لو كانت» خالية من الغايات. هذا التأكيد للغايات الإلهية — مقرونًا بالتأكيد الآخر الذي يقول: إن عقولنا تعجز عن فهمها، معناه — من الوجهة العلمية — نفي لهذه الغايات أو إبطال لجدواها، ما دمنا لا نملك إلا عقولنا «القاصرة» هذه؛ ومن ثَم فإن ديكارت ينضم في الحقيقة إلى صف المفكرين الذين ينتزعون الغائية عن الكون، وإن كان يغطي آراءه بقشرة لاهوتية لا يصعب على العقل الناقد كسرها.

    ومثل هذا يقال عن رأيه في بساطة القوانين الطبيعية، فأساسها هو بساطة الطبيعة الإلهية ذاتها، التي تسلك في فعلها أقصر الطرق. ولقد كان مبدأ بساطة الطبيعة الإلهية وثباتها هو الذي اعتمد عليه ديكارت في تأكيد مبدأ علمي كانت له في عصره أهمية كبيرة، وهو مبدأ ثبات كمية الحركة في العالم، وسير الأجسام المتحركة في خط مستقيم، مما يؤدي إلى قوانين تصادم الأجسام Lois du Choe التي تُفسَّر على أساسها حوادث الطبيعة كلها،٧ وترتب على ذلك اتفاق ديكارت مع جاليليو في القول بقانون القصور الذاتي، بل وفي التعبير عنه بصيغة دقيقة،٨ فعن طريق التنقل الدائم للأجسام وتبادل الحركة والسكون بينها — في إطار مجموع ثابت من الحركة — تُفَسَّر الظواهر الكونية كلها، كتكوين الأجرام السماوية والضوء والثقل والحرارة والألوان والروائح للأجسام. وهكذا يرتكز ديكارت على مبدأ ذي مظهر لاهوتي، هو مبدأ بساطة الطبيعة الإلهية؛ لكي يصل إلى تفسير لحوادث العالم خالٍ تمامًا من الغيبيات، ويعد في عصره تعبيرًا عن روح علمية أصيلة.
    بل إن فكرة الإلهية ذاتها هي الفكرة التي أوضحنا من قبل مدى تعارضها مع روح الميتافيزيقا، والتي كانت تعبيرًا عن إدراك ديكارت الكامل لأهمية الميكانيكا، وهي أهم العلوم في عصره، قد غُلِّفت بدورها بغلالة لاهوتية؛ ذلك لأن ديكارت يعرض أصل الكون وتطوره في فلسفته الطبيعية وكأنه آلة كبرى تتكون تدريجيًّا. ولكنه كان حريصًا على أن يجامل الأوساط اللاهوتية في تقديمه لهذه الفكرة ذات النتائج الخطيرة، فقال: إنه يعلم أن العالم قد خُلِقَ على أكمل صورة ممكنة، لكنه يود فقط أن يبحث في «احتمال» أن تكون الحالة الراهنة للعالم قد تطورت من حالة أخرى أقل كمالًا. وهكذا اتبع ديكارت هنا أسلوبًا حذرًا يذكرنا بذلك الذي سبق أن اتبعه ناشر كتاب كبرنيكوس الأشهر في «دورات الأجرام السماوية» — وهو الأب «أوسياندر» Oseander — عندما قال في تقديمه للكتاب: إن المؤلف على يقين من أن الأرض ثابتة، وأنها مركز الكون، ولكنه يود أن يتخيل فقط ماذا يكون عليه الأمر لو كانت تدور؛ أي إن أهم كشف علمي حديث قد عُرِضَ كما لو كان تدريبًا عقليًّا فحسب، ولم يكن ذلك في الحالتين إلا نتيجة للصدمة العقلية التي ستحدثها الفكرة الجديدة، وخاصةً في عقول رجال الكنيسة.
    ويمكن القول: إن المكانة الكبرى التي أعطاها ديكارت للرياضيات في تفسيره للعالم، تدخل بدورها في هذا الباب، فديكارت يرى أن القوانين الرياضية هي ذاتها اللغة الإلهية كما تنطبع على العالم. وهكذا يضع ديكارت أساسًا لاهوتيًّا قويًّا لفكرة علمية خالصة، هي الفكرة القائلة: إن مسار الظواهر الطبيعية تحكمه قوانين رياضية دقيقة، وتلك — كما نعلم — فكرة افتتنت بها عقول العلماء في عصر ديكارت. وكانت هي الكشف الكبير التي توصل إليه كبلر وجاليليو وباسكال، ومن بعدهم نيوتن، وقد استنتج Bridoux من ذلك وجود تطابق أساسي بين العقل الإلهي والعقل البشري عند ديكارت، ما دام كلاهما يعمل وفقًا لقوانين رياضية شاملة، فقال: «إن التطابق بين أسرار الطبيعة وتسلل الرياضيات — الذي افتتن به ديكارت عندما شعر بوجوده — أصبح (بعد الوصول إلى المنهج) أمرًا يقينيًّا، فما دام العقل الإلهي متجانسًا مع عقلي فإن أساليب العقل الإلهي في الخلق لا يمكن أن تكون مختلفة عن أساليب العقل البشري في العلم. وهكذا فإن «الميكانيكا الكبرى» التي ذكر ديكارت أن الوصول إليها يكفل لنا معرفة كاملة وشاملة بالكون، هي العلامة التي طبعها الله على ما خلق، وهي في الوقت ذاته نتاج عقلي البشري حين يسير وفقًا لقوانينه الداخلية؛ ومن ثَم فإنني أغدو على ثقة من أن كل الأشياء التي أكون عنها فكرة منظمة يمكن أن تكون ناتجة عن الله بنفس الطريقة التي أتصورها بها؛ أي إن العقل البشري وهو يمارس عمله في الخلق»،٩ وربما كان للمرء الحق في ألا يتفق مع صاحب النص السابق في قوله بالتجانس بين العقل الإلهي والعقل البشري، لا سيما وأن ديكارت لا يكف عن تأكيد التفاوت الهائل بين نطاق فهمنا المحدود والمقاصد الإلهية التي تتجاوز عقولنا إلى حد لا متناه، فضلًا عن تأكيده أن الإرادة الإلهية لا تتقيد بشيء، وأن من الممكن — نظريًّا — أن يجعل الله مجموع الواحد والاثنين غير مساو للثلاثة (كما أوضحنا من قبل). ومع ذلك فسيظل من الصحيح أن الرياضة التي هي علامة الدقة العلمية بالنسبة إلى العقل الإنساني، هي أيضًا لغة إلهية أو تعبير عن طريقة الله في تدبير الكون، والنتيجة العلمية لهذا الرأي هي تأكيد التفسير الرياضي للعالم، وصد أية هجمات لاهوتية يمكن أن توجَّه إلى هذا التفسير.
  • (٥)
    وربما قيل: إن طريقة التعبير التي ضربنا لها أمثلة في النقطة السابقة كانت أصيلة لدى ديكارت، وأنه كان بالفعل يعني ما يقول. ولكن واقع الأمر هو أن ديكارت — شأنه شأن كثير من فلاسفة القرن السابع عشر — كان يعتمد أن يحجب الكثير من آرائه، وألا يصرح إلا بما يعتقد أنه يثير غضب السلطات المسيطرة في ذلك الحين. والواقع أن فيلسوف القرن السابع عشر كان يواجه في التعبير عن آرائه صعوبة كبرى؛ فهو من جهة يتحمس بكل ما يملك من حب للحقيقة، للاتجاهات الجديدة ذات الطابع العلمي، ويود هو ذاته أن يسهم في هذه الاتجاهات كيما يساعد العقول على الخروج من ظلال العصور الوسطى والتحرر من سلطة أرسطو والمدرسة الغاشمة. ولكنه من جهة أخرى كان يرى أنه لا ينطق إلا باسم أقلية مستنيرة كانت حتى ذلك الحين ضئيلة الشأن. وكانت السيطرة الحقيقية للقوى التقليدية، وعلى رأسها الكنيسة التي كان رجالها يشغلون المناصب الرئيسية في الجامعات. وكان لهم نفوذ هائل على السلطات الحاكمة. وفيما بين حب الحقيقة والخوف من اضطهاد المتعصبين كان الفيلسوف يحاول أن يشق لنفسه طريقًا أشبه بصراط يوم الحساب، حيث يمكن أن يؤدي به أقل انحراف إلى الجحيم. ولقد عرضنا في موضع آخر بتوسع لنموذج يمثل الطريقة التي حاول بها واحد من كبار فلاسفة ذلك القرن — وهو اسبينوزا — أن يوفق بين هذين المطلبين المتناقضين،١٠ ولكن من الواضح لمن يدرس أحوال الفكر في ذلك القرن الخصب أن تلك السمة لم تكن تقتصر على فيلسوف واحد. بل إنها كانت تمثل وضعًا حضاريًّا عامًّا كان يسري — بدرجات متفاوتة — على كل الشخصيات الفكرية الكبرى في ذلك العصر.
    والحق أن رسائل ديكارت تزخر بأمثلة تدل على خوفه الشديد من الاضطهاد، واضطراره إلى عمل حساب لرد فعل السلطات على ما يكتب، وخاصةً بعدما بلغته أنباء المحاكمة التي تعرض لها جاليليو بسبب آرائه العلمية، والتي نجا بها من فتك محاكم التفتيش بصعوبة بالغة. وهكذا اضطر ديكارت إلى أن يحجب كتابًا عن العالم (Traite du monde) كان يعتزم نشره. وكان يتضمن آراء مشابهة لتلك التي أدين من أجلها جاليليو، وكتب إلى صديقه مرسين Mersenne في يوليو ١٦٣٣م يقول: «وهذا الموضوع (أي حركة الأرض) مرتبط بكل أجزاء البحث الذي كتبته (أي كتابه في العالم) إلى حد يستحيل معه فصله عنها دون أن تصبح بقية الأجزاء ناقصة نقصًا مخلًّا. ولكني لما كنت لا أرغب البتة في أن يصدر عني قول يتضمن أقل كلمة لا تقرها الكنيسة، فقد آثرت أن أحجب هذا البحث بدلًا من أن أصدره مبتورًا»، وبتاريخ ١٠ يناير ١٦٣٤م كتب إلى مرسين في المعنى نفسه يقول: «إنك تعلم ولا شك أن جاليليو قد حوكم منذ فترة قصيرة على يد قضاة التفتيش على العقائد، وأن رأيه عن حركة الأرض قد أدين بوصفه بدعة وهرقطة؛ على أنني أود أن أخبرك بأن كل الأمور التي شرحتها في كتابي «عن العالم» والتي كان من بينها أيضًا فكرة حركة الأرض، يعتمد بعضها على بعض إلى حد يكفي معه أن يكون أحدها باطلًا لكي يقتنع المرء بأن كل الحجج التي استخدمتها واهية، وعلى الرغم من إدراكي أنها ترتكز على براهين شديدة الوضوح واليقين، فإني لا أرغب البتة في الدفاع عنها ضد سلطة الكنيسة، وإن رغبتي في أن أعيش في هدوء، وأن أواصل الحياة التي بدأتها متخذًا لنفسي شعارًا من المثل القائل: «من عاش هادئًا عاش سعيدًا.» لتجعل شعوري بالارتياح لتخلصي من الخوف الذي كان يمتلكني من أن أكتسب عن طريق هذا الكتاب شهرة تفوق ما أريد، يطغى على شعوري بالأسف على ما أضعته في تأليفه من وقت وما بذلته من جهد.»

    وفي «المقال في المنهج» يصف ديكارت كيف تردد طويلًا في نشر كتابه «في العالم» أو لا ينشره، ثم انتهى إلى النتيجة الآتية: «رأيت أن من اليسير عليَّ أن أختار بضعة موضوعات لا تكون عرضة لمجادلات كثيرة، ولا أضطر فيها إلى أن أعلن من مبادئي أكثر مما أريد. ولكنها تكتشف في الوقت نفسه عما أستطيع وما لا أستطيع أن أفعله في العلوم.»

    إن في وسع المرء أن يأتي بعشرات الأمثلة التي تدل على أن ديكارت قد توخَّى الحذر الشديد في تعبيره عن فلسفته، وأنه كان يكتب وإحدى عينيه على الحقائق التي يريد التعبير عنها، بينما العين الأخرى على رجال الكنيسة وأساتذة اللاهوت في الجماعات، فرسائله تحتشد بعبارات التحوط والخوف من غضب السلطات. بل إنه يقدم إلى أحد تلاميذه — وهو ريجيوس Regius — درسًا علميًّا في كيفية منافقة الجهلاء ذوي النفوذ من أجل اتقاء شرهم، وتقديم التعاليم الجديدة إليهم بطريقة ملتوية غير مباشرة حتى لا تصدمهم،١١ ومعظم ما كتبه عن الأخلاق المؤقتة، Morale proisoire إنما هو نموذج حي للرغبة في «التقية» والابتعاد عن شر أصحاب السلطان بمداراتهم والاستسلام لأوامرهم. ومن الجائز أن ديكارت كان مضطرًّا إلى ذلك، وخاصةً بعد أن شهد بعينيه ما لحق بجاليليو. غير أن المرء لا يملك عندما يقرأ ما كتب في هذا الصدد إلا أن يتفق مع «بريدو Bridoux» الذي قال معلقًا على الجهد الشاق الذي بذله ديكارت لكي يستعيد ما كان لديه من حظوة لدى السلطات: «إن هذا ليس أفضل جوانب ديكارت؛ إذ لا يملك المرء إلا أن يعترف بأنه يبدي في أحيان كثيرة دبلوماسية مفرطة في تعامله مع الأشخاص وطريقة عرضه لأفكاره.»١٢

    ومن المسلَّم به أن هذا الحذر الذي توخَّاه ديكارت قد ظهر أوضح ما يكون في آرائه عن العالم والطبيعة؛ لأن هذا الموضوع هو الذي كان يثير ضجة هائلة في الأوساط الثقافية الأوروبية بعد محاكمة جاليليو. ولكن من المؤكد أن نفس الحذر كان ينطبق على آرائه الميتافيزيقية. بل إن هذه الآراء قد تكون — ومن وجهة معينة — وسيلة يستعين بها ديكارت لإرضاء السلطات الغاضبة على أفكاره العلمية، فمحاولة إثبات وجود الله وصدقه وخلود النفس معناها أن ديكارت كان، في جانب واحد من نشاطه العقلي، يُعالج نفس المشكلات التي دأبت المذاهب التقليدية على معالجتها، ويضع لتفكيره نفس الأهداف.

    ومع ذلك يبدو أن معاصري ديكارت لم يكونوا مطمئنين كل الاطمئنان إلى أن نواياه، في عرضه لمذهبه الميتافيزيقي، كانت خالصة، ويشهد بذلك ما قلناه من قبل عن خصمه «فويتيوس» الذي اتهمه بأنه يتعمد أن يقدم براهين غير مقنعة على وجود الله لكي يزعزع إيمان الناس، وبالمثل فإن «ريجيوس Regius» الذي كان في البداية تلميذًا مخلصًا لديكارت ثم انقلب فيما بعد إلى خصم له، كان يعتقد بأن الميتافيزيقا لا تتلاءم مع تعاليم الدين، الأهم من ذلك أنه كان يشك في أن يكون ديكارت قد صرح بكل ما في ذهنه عندما قدم مذهبه الميتافيزيقي. وهكذا كتب إليه في يوليو ١٦٤٥م رسالة يقول فيها: «إن كثيرًا من ذوي العقل الراجح والشرف قد ذكروا أن تقديرهم لسمو عقلك يمنعهم من الاعتقاد بأن لديك في قرارة نفسك أفكارًا مضادة لتلك التي تظهر علنًا باسمك، وحتى لا أخفي عنك شيئًا، فإن الكثيرين على ثقة من أنك أسأت إلى نفسك كثيرًا بنشرك لآرائك الميتافيزيقية، التي لا تؤدي إلا إلى مضاعفة الشك والغموض.»

    وكان رد ديكارت على ذلك — وهو رد بعث به في الشهر نفسه — غير كافٍ لتبديد هذا الشك، إذ يقول فيه: «إنني أعترف بأن من الحكمة السكوت في ظروف معينة، وألا يقدم المرء إلى الجمهور كل ما يعتقد. أما أن يكتب المرء بلا داع شيئًا مضادًّا لآرائه الحقة، ويحاول إقناع قرائه به، فإني أرى في ذلك وضاعة وخبثًا محضًا»، وبطبيعة الحال فإن من يقرأ كتابات ديكارت ورسائله الكثيرة التي كان يُعرب فيها عن ضرورة التحوط والحذر لأن الظروف تقتضي ذلك، لا بد أن يوقن بأن ديكارت لم يفعل ذلك «بلا داع»، فقد كانت لديه — من وجهة نظره الخاصة — كل الأسباب التي تبرر التجاءه إلى الحذر، والحذف أو الإضافة وفقًا لما تقتضيه الظروف.

  • (٦)

    وأخيرًا، فإنَّا نعلم أن هناك الكثيرين يعترضون بشدة على الرأي القائل: إن الميتافيزيقا كانت عند ديكارت وسيلة من الوسائل التي حاول بواسطتها التخفيف من وقع آرائه في العالم الطبيعي، ولدى هؤلاء المعترضين أسباب متعددة يبررون بها اعتراضهم. ومن المستحيل أن يتسع المجال هنا لأكثر من إشارة أو تسجيل لوجود هذين الموقفين المتضادين.

    ومع ذلك يظل من الصحيح أن ديكارت ذاته قد صدرت عنه عبارات كثيرة تدل على أن الهدف الأكبر لتفكيره كان علميًّا، بل كان نهاية الأمر تطبيقًا، على حين أن الميتافيزيقا لم تشغل من حياته إلا جانبًا ثانويًّا، ولنستمع إليه في التأمل السادس حين يتحدث عن العالم الذي يريده أن يصبح مصنعًا هائلًا يستطيع فيه المرء — عن طريق الآلات — أن «يستمتع دون أي عناء بثمار الأرض وكل ما فيها من خيرات»، أو حين يتحدث عن تقدم الطب الذي «يتيح للناس حياة طويلة سليمة»، ويؤكد ضمنًا أن الموت ليس شيئًا طبيعيًّا على الإطلاق، وأن «الشيخوخة نوع من المرض، وضعف قد يكون من الممكن الاهتداء إلى علاج له»،١٣ ألا توحي هذه الآراء بأن الميتافيزيقا عنده كانت ثانوية الأهمية، وبأن تفكيره الحقيقي كان يستهدف غايات مختلفة كل الاختلاف؟
    إن ديكارت — في نص مشهور في «المقال في المنهج» (الكتاب الأول) — يقارن مقارنة صريحة بين قيمة التأملات الميتافيزيقية النظرية — التي هي دائمًا قيمة نسبية من شخص لآخر — وبين المعارف العلمية المرتكزة على أساس فيزيائي متين، فينحاز بصورة قاطعة إلى الثانية، ويحكم على التفكير النظري الميتافيزيقي بأنه أشبه بتسلية طريفة فحسب. وهكذا يقول: «على الرغم من أن تأملاتي النظرية (speculations) قد أعجبتني كثيرًا، فقد رأيت أن للآخرين بدورهم تأملاتهم التي ربما أعجبتهم أكثر من ذلك. ولكنني بمجرد أن اكتسبت بعض الأفكار العامة المتعلقة بالفيزياء، ولاحظت — بعد اختبارها في حل عدة صعوبات خاصة — إلى أي مدى تستطيع أن توصلني، وإلى أي حد تختلف عن المبادئ التي ظلت شائعة حتى الآن، رأيت أنني لو ظللت أحجبها عن الناس لكنت بذلك ارتكبت إثمًا كبيرًا في حق ذلك المبدأ الذي يحضنا على أن نحرص بقدر ما في وسعنا على تعميم الخير بين الناس جميعًا؛ ذلك لأن هذه الأفكار أوضحت لي أن من الممكن الوصول إلى معارف ذات فائدة جمة للحياة، وبدلًا من تلك الفلسفة التأملية النظرية التي تعلم في المدارس، يستطيع المرء أن يهتدي بواسطة هذه الأفكار إلى فلسفة عملية، تكشف له عن القوة الكامنة في النار والهواء والنجوم والمسارات وكل الأجسام المحيطة بنا وعن تأثيرات هذه الأجسام، بدقة لا تقل عن تلك التي نعرف بها مختلف الحرف التي يجيدها صناعنا، وبذلك نجعل من أنفسنا سادة للطبيعة ومسيطرين عليها.»
    تلك إذن شهادة صريحة من ديكارت، تكشف عن رأيه في القيمة الحقيقة للتأملات النظرية التي لا ترتكز على أساس يمكن الاتفاق عليه، ولا تحدث في حياة الناس العلمية تغييرًا، ولا يمكن لمن يتأمل هذا النص — ونصوصًا أخرى كثيرة غيره — إلا أن يستنتج أن المسافة بين تفكير ديكارت وتفكير معاصره الإنجليزي الأكبر سنًّا — فرانسس بيكن — لم تكن واسعة إلى الحد الذي يتصورها عليه مؤخر الفلسفة؛ فالحلم الذي كان مستحوذًا على عقل بيكن — العدو الأكبر للمنهج النظري التأملي عند مفكري العصور القديمة والوسطى — كان متسلطًا على فكر ديكارت بدوره. بل إن بعض التفاصيل متماثلة، كدعوة ديكارت إلى إنشاء «مدرسة للصنائع والحرف»، وإلى أن تنشأ في الكلية الملكية وغيرها من معاهد التعليم العام قاعات لكل حرفة من الحِرَف، وتخصص الدولة أموالًا تكفي للإنفاق على هذا التعليم … إلخ.١٤ والهدف النهائي واحد، وهو أن يسترد الإنسان مملكته المفقودة، ويعود مرة أخرى سيدًا للطبيعة، ومن خلال كشفه لأسرارها ومعرفته لقوانينها واستغلاله لقواها وطاقاتها.

وأخيرًا، فلنُلْقِ نظرة على شهادة أصرح حتى من هذه، أدلى بها ديكارت في رسالة بعث بها إلى الأميرة إليزابيث، التي كان يبوح لها بالكثير من مكونات نفسه، في ٢٨ يونيو ١٦٤٣م. فبعد أن عدَّد ديكارت ثلاثة أنواع من الأفكار الأصلية: فكرة النفس، التي تدرك بالذهن المحض وتؤلف موضوع الرياضيات، ثم فكرة اتحاد النفس والجسم، التي تدركها الحواس بوضوح تام، وتؤلف موضوع الحياة والمحادثات والمعاملات اليومية، يقول: «أستطيع أن أقول عن صدق: إن القاعدة الأساسية التي أتبعها في دراساتي على الدوام، وتلك التي أعتقد أنها أعانتني أكثر من أي شيء آخر في اكتساب المعرفة، هي أنني لم أقض أبدًا سوى ساعات قليلة كل سنة أفكر في الأمور التي تشغل الذهن المحض، بينما كنت أقضي ما تبقى من يومي مستهدفًا استرخاء الحواس وراحة النفس … وأخيرًا فمع أني أؤمن بأن من الضروري إلى أقصى حد أن يكون المرء قد فهم مبادئ الميتافيزيقا مرة في حياته؛ لأنها هي التي تعطينا معرفة الله وبأنفسنا، فإنني أعتقد في الوقت ذاته أن من أشد الأمور ضررًا أن يشغل المرء ذهنه بالتفكير فيها؛ لأنه لن يستطيع عندئذٍ أن يتفرغ لوظائف الخيال والحواس؛ ومن ثَم فإن أفضل شيء هو أن يكتفي المرء بأن يستعيد في ذاكرته وفي ذهنه النتائج التي استخلصها منها من قبل، ثم يستغل ما تبقى لديه من وقت في التفرغ للأفكار التي يتعامل فيها الذهن مع الخيال والحواس.»

هذا النص يكشف بوضوح عن الموقع الذي احتلته الأفكار الميتافيزيقية وسط اهتمامات ديكارت: فالميتافيزيقا ضرورية بغير شك. ولكن يكفي المرء أن يكون قد عرفها مرة واحدة في حياته، وبعد ذلك لا يحتاج إلا «لساعات قليلة كل سنة» كما يستعيد مبادئها الرئيسية. أما بقية أوقاته فيشغلها التفكير في المسائل الرياضية والفيزيائية (أي تلك التي يقوم بها الذهن مستعينًا بالخيال أو تقوم بها الحواس)، هكذا كان ديكارت يقسم أوقاته، هو تقسيم يعبر تعبيرًا صريحًا عن وجهة النظر التي كنا نعرضها طوال هذا الجزء من البحث، وأعني بها أن الميتافيزيقا الديكارتية كانت «جذرًا» بالمعنى السلبي لهذه الكلمة؛ أي بمعنى الأساس الذي يمهد لغيره ثم تنتهي مهمته، ويظل الجذع والفروع بعد ذلك هما مدار البحث والاهتمام.

(٦) الميتافيزيقا ودورها الإيجابي في العلم

على أن الجذور لا يتعين أن تكون وظيفتها سلبية بالنسبة إلى جذع الشجرة وثمارها، فأجزاء الشجرة — التي تبدو ظاهرة أمام أعيننا وتحظى منا بأكبر قدر من الرعاية والاهتمام — تظل — ما دامت الشجرة حية — في حاجة إلى الجذور؛ إذ تستمد منها رحيق الحياة وعصارتها بلا انقطاع؛ وعلى أساس هذا الفهم لتشبيه الشجرة، قلنا: إن هناك تفسيرًا آخر ممكنًا لعلاقة الميتافيزيقا بالعلم، تظل فيه الميتافيزيقا تقوم بدور إيجابي طوال مراحل البحث عن الحقيقة العلمية.

ومن الواجب أن ننبه — قبل بيان مبررات هذا التفسير — إلى أنه لا يمثل نقيضًا تامًّا للتفسير السابق، فإذا كان التفسير الذي عرضناه في الجزء الأول من هذا البحث قد أكد أن اهتمام ديكارت كان علميًّا في المحل الأول، وأن وظيفة الميتافيزيقا سلبية أو تمهيدية فحسب، فإن التفسير الذي نعرضه الآن لا يعكس الآية، ولا يقول: إن الميتافيزيقا هي المحور الرئيسي، وإن العلم كان ثانويًّا، بل يقول — مع التفسير الأول: إن العلم كان هدفًا أساسيًّا لفلسفة ديكارت (إذ إن الشواهد المؤيدة لهذا أقوى من أن يتجاهلها أحد). ولكنه يخالف التفسير الأول في تأكيده أن الميتافيزيقا تظل تقوم بدور إيجابي في جميع مراحل البحث العلمي؛ أي إن الجذور الميتافيزيقية لا تتوقف مهمتها عند حد ظهور النبتة العلمية فوق سطح الأرض. بل إنها لا تكف لحظة واحدة عن تقديم عصارة الحياة إلى جذع شجرة المعرفة وثمارها.

فلننتقل الآن إلى بيان أهم المبررات التي تثبت وجهة النظر هذه في علاقة الميتافيزيقا بالعلم.

(٦-١) وحدة المعرفة عند ديكارت

في مستهل هذا البحث، ذكرنا أن تشبيه الشجرة ذاته يوحي بأن ديكارت كان من أنصار وحدة المعرفة، ولم يكن يعترف بالاستقلال التام للعلم، وهو الاستقلال الذي كانت بوادره قد بدأت تظهر في عصره بوضوح؛ ذلك لأن الشجرة — كما قلنا — هي نموذج الوحدة العضوية التي لا يكون لأي جزء فيها كيان دون الباقين، وفكرة وحدة المعرفة هذه يمكن أن تكون مبررًا قويًّا للرأي القائل بأن الميتافيزيقا الديكارتية تقوم بدور أساسي في العلم.

لقد حدد ديكارت مهمة الفلسفة في مقدمة كتاب «مبادئ الفلسفة»، وهو كتاب يعبر عن الصورة الأخيرة لتفكير ديكارت؛ لأنه نُشِرَ قبل ثلاثة أعوام من وفاته، فقال إن «لفظ الفلسفة يعني دراسة الحكمة. وليس المقصود بالحكمة هو الفطنة في الأمور العلمية فحسب، بل هو أيضًا المعرفة التامة لكل ما يستطيع الإنسان أن يعرفه سواء بسلوكه في الحياة وبحفاظه على صحته واختراعه لكل الفنون، ولكي تكون المعرفة على هذا النحو، ينبغي أن تُسْتَنْبَط من العلل الأولى؛ بحيث إن العكوف على اكتسابها — أي التفلسف بالمعنى الصحيح — يقتضي البدء بالبحث عن هذه العلل الأولى، أي المبادئ.

هذه النظرة إلى الفلسفة تعود بنا إلى العهد الذي كانت فيه المعرفة الفلسفية حكمة شاملة، تسري على الميدانين النظري والعلمي معًا؛ فالفلسفة تشمل معرفة المبادئ الأولى — أي الميتافيزيقا — ومعرفة الطبيعة، والخبرة والحكمة في شئون الحياة، والحِرف التطبيقية، ورعاية الجسم البشري في الطب؛ أي إنها هي النسق الكامل للمعرفة، ويمثل تفكير ديكارت في هذا الصدد ارتدادًا أو تراجعًا عن ذلك التحول الضخم الذي كانت معالمه قد بدأت تظهر منذ أوائل عصر النهضة، وهو التحول الذي أدَّى إلى استقلال العلم النظري وتطبيقاته العلمية بمجال خاص يميزه عن مجال الميتافيزيقا وبأساليب في البحث لا شأن لها بالتأمل النظري.

وإذا كان ديكارت قد حدَّد هذا التصور الشامل للفلسفة في أخريات أيام حياته، فمن الواجب أن نتنبه إلى أن ذلك لم يكن تصورًا عارضًا طرأ بذهنه في فترة معينة، بل لقد كان ملازمًا له منذ البداية، فقد استهل ديكارت حياته الفكرية «بالحلم» المشهور الذي كان نقطة تحول في حياته، وفي هذا الحلم تراءى له مشروع طموح للمعرفة، يهدي إلى بلوغ «علم شامل يسمو بطبيعتنا إلى أسمى مراتب الكمال»، وتعبير «العلم الشامل Science universelle» هذا كان تعبيرًا دائم التردد في كتابات ديكارت، لازمة من بداية الحياة العقلية حتى نهايتها. ومن الطبيعي أن تتواصل أجزاء هذا العلم الشامل بحيث يكون هناك اتصال وثيق بين الميتافيزيقا وبين العلم الطبيعي وتطبيقاته العلمية؛ لأن العلم الشامل هو الذي يجعلنا «أحكم وأبرع» plus sages et plus habiles؛ أي إنه يعلو بتفكيرنا نظريًّا وعمليًّا.

هذا العلم ينطبق من مبادئ واضحة بذاتها، موجودة لدينا «قبليًّا»، ويشيد البناء الكامل للمعرفة بعملية عقلية خالصة، وما دام «النور الفطري أو الإلهي» هو الذي يهدينا إلى هذه المبادئ الأولى، فلنكن على ثقة من أنها — مهما قل عددها — قادرة على أن توصل إلى أبعد آفاق المعرفة العلمية. وهكذا يقدم إلينا كتاب «مبادئ الفلسفة» نموذجًا لأسلوب بناء المعرفة عند ديكارت؛ إذ يبدأ الباب الأول فيه بعرض مفصل للمبادئ الميتافيزيقية، ويكون الأساس الضروري للأبواب الثلاثة الأخرى التي تتعلق كلها بمشكلات في العلم الطبيعي.

هذه النظرة إلى الميتافيزيقا — بوصفها المبحث الذي يقدم المبادئ الأساسية لكل علم طبيعي — يبدو أنها تقلب وضع العلاقة التقليدية بين الميتافيزيقا وبين الفيزياء عند أرسطو مثلًا، فليست الميتافيزيقا الديكارتية كما كانت تسمى في التراث الأرسطي «ما بعد الطبيعة» أو «ما وراء الطبيعة»، وإنما هي على الأصح «ما قبل الطبيعة»، إنها ليست تتويجًا للمذهب. وليست بحثًا في الصورة النهائية للعالم أو الحدود القصوى، يبدأ بعد أن يكون كل بحث آخر قد اكتمل، وإنما هي الأساس الذي ينبغي أن يأتي أولًا، ويقدم لكل دراسة في الطبيعة تلك الدعامات الضرورية التي ينبغي أن ترتكز عليها، (ولكن لعلنا نظلم أرسطو في هذا الحكم: كما نعلم جميعًا لم يكن هو الذي نحت لفظ «الميتافيزيقا»، والرواية التي تقول: إن اللفظ يرجع فقط إلى ورود الكتاب الذي يعالج هذا الموضوع بعد كتاب «الفيزيقا» في الترتيب، ربما كانت تدل على عدم التأكد من أن مبحث الميتافيزيقا يعني ما بعد الطبيعة، والاسم الذي أطلقه أرسطو على كتابه — وهو «الفلسفة الأولى» — يدل على أنه نظر إليها بوصفها هي الجذور، وهي التي تقدم الأسس الأولى لا الحقائق النهائية. وأخيرًا فقد اشتغل أرسطو نفسه بالميتافيزيقا في المرحلة الأولى من حياته، واشتغل بالفيزياء في مرحلتها الأخيرة؛ أي إن الترتيب الفعلي كان من الأولى إلى الثانية لا العكس، وهذه أيضًا قرينة تدل على أن الفارق بين استخدام ديكارت واستخدام أرسطو للكلمة قد لا يكون كبيرًا إلى الحد الذي يبدو عليه لأول وهلة).»

(٦-٢) المنهج الاستنباطي في العلوم

إن القول بأن المعرفة عند ديكارت متكاملة، بأن الميتافيزيقا تكون أساسًا ضروريًّا لبناء المعرفة الموحد، لا يكفي في ذاته لإثبات الدور الإيجابي الذي تقوم به الميتافيزيقا في بناء العلم، فقد تكون الميتافيزيقا أساسًا ضروريًّا، تقدم إلى العلم مبادئه الأولى، ثم تتركه بعد ذلك وشأنه. ولكن حقيقة الأمر هي أن الميتافيزيقا تظل — عند ديكارت — تمارس فاعليتها إيجابيًّا في جميع مراحل المعرفة العلمية، وتظل جذورها تقدم إلى العلم عصارتها التي تعطيه القدرة على البقاء والنماء، وهذه الحقيقة لا تتضح إلا إذا أدركنا طبيعة المنهج الذي كان ديكارت يدعو إلى اكتسابه في تحصيل العلوم.

إن هناك حقائق معروفة عن منهج ديكارت، تحشد بها الكتب رائعة، ولا نجد ما يدعونا إلى تكرارها، وكلها تدور حول اتخاذه الرياضة نموذجًا لكل معرفة نود أن تكون يقينية، فديكارت واحد من ذلك الصف الطويل من الفلاسفة الذين افتتنوا بالدقة الرياضية، وحاولوا أن يحاكوها في سائر مجالات المعرفة، بدءًا من أفلاطون مرورًا باسبينوزا وليبنتس وكانْت وانتهاءً إلى هوسرل. ولكن الأمر الذي يلفت النظر عند ديكارت هو أنه حاول — في عصر كان فيه العلم التجريبي قد بدا يثبت وجوده، وبدأت نتائجه المثمرة تظهر للعيان — أن يقيم بناءً شاملًا لعلم فيزيائي يعتمد أساسًا على المنهج الذي أثبت نجاحه في الرياضيات وهو الاستنباط، والاستنباط بطبيعته عملية عقلية؛ ومن ثَم فإن أي علم فيزيائي يُبنى عليه لا بد أن تكون أسسه مخالفة للعلم التجريبي. صحيح أن العلم التجريبي يلجأ إلى الرياضة في صياغة قوانينه. ولكنه لا يكتفي بالرياضة وحدها، وإنما يعتمد على المشاهدات والتجارب وتكوين الفروض. وهكذا ما كان يقوم به جاليليو في أبحاثه التي سبقت ديكارت زمنيًّا ثم عاصرته فترة ما. أما ديكارت فكان يعتقد بأن العقل وحده قادر — عن طريق الاستنباط — على أن يشيد بناء الفيزياء كاملًا، ومثل هذه الطريقة في إقامة العلم الفيزيائي لا بد أن يكون للميتافيزيقا فيها دور رئيسي.

ذلك لأن الاستنباط، عند ديكارت، يبدأ من مجموعة قليلة من المبادئ ذات اليقين المطلق، ويقوم العقل بتوسيع هذه المبادئ تدريجيًّا، مع مراعاة الاحتفاظ بيقينها المطلق في كل خطوة، حتى يمتد بها إلى أوسع آفاق المعرفة، ومن طبيعة هذه المبادئ التي تتخذ نقطة انطلاق أنها ميتافيزيقية، ومعنى ذلك أن هناك خطًّا واحدًا متصلًا، يبدأ بالميتافيزيقا وينتهي إلى الفيزياء، وتكون واسطة الانتقال بين كل مراحله هي الاستنباط، وعلى هذا النحو يقيم ديكارت علمًا فيزيائيًّا مرتكزًا، لا على تجارب أو مشاهدات، بل على مبادئ ميتافيزيقية قبلية تعبر عن حقائق أزلية، ويستحيل فهم الفيزياء عنده منفصلة عن مبرراتها ونقاط ارتكازها الميتافيزيقية.

ولا شك في أن منهج ديكارت هذا يظل مختلفًا عن مناهج العصور الوسطى؛ لأن الأسس الرياضية التي يتمسك بها ترتكز كلها على فكرة «الوضوح»، وهي فكرة كان يفتقر إليها تفكير المدرسيين الذي كان مغرقًا في الغموض، ولم يكن يكترث بمناقشة المقدمات التي يرتكز عليها مناقشة نقدية، ومن جهة أخرى فقد كان ديكارت يسعى دائمًا إلى أن يكشف بمنهجه حقائق جديدة، فقيمة الاستنباط عنده تكمن في أنه يتيح توسيع نطاق المعرفة إلى آفاق جديدة لم تكن معروفة من قبل، على حين أن المنهج الذي كان سائدًا عند المدرسيين كان يقتصر على قياس كل حالة تصادفنا بمبدأ عام معروف من قبل؛ ومن ثَم فلا مجال فيه للتوسع أو التجديد.

وبرغم هذه الفوارق فإن منهج ديكارت الاستنباطي في الفيزياء لم يصل إلى مستوى المنهج الذي اتبعه علماء عصره الكبار مثل جاليليو وباسكال، وإنما ظل يحمل من سمات العصور الوسطى فكرة استخلاص حقائق العالم الفيزيائي بالعقل، وعدم الاكتراث بالتجارب، وتشييد البناء العلمي كله على مبادئ يقينية قليلة تُدْرَك كلها بالنور الفطري أو الإلهي، ويظل يقينها المطلق ساريًا على كل تطبيقاتها التالية.

وكانت نتيجة هذا الإصرار على استنباط حقائق الفيزياء بطريقة عقلية: وقوع ديكارت في أخطاء واضحة، مثال ذلك: اعتقاده أنه لما كان الله هو الدعامة الأولى للعلل التي يتسلسل بها عالم الطبيعة، فإن من المستحيل الحد من استمرار هذا التسلسل عن طريق وجود «فراغ Vide»؛ ولذلك رفض ديكارت فكرة «الفراغ» برغم أن معاصريه من العلماء كانوا يجرون تجارب مثمرة حولها، وترتب على ذلك إنكاره لنظرية جاليليو الجديدة عن سرعة سقوط الأجسام في الفراغ؛ لأن الثقل في رأيه لا معنى له في شيء غير موجود وهو الفراغ، وهاجم ديكارت آراء جلبرت في المغناطيسية، مع أنها كانت أصح من آرائه، واعتقد أن الضوء ليست له سرعة، وإنما ينتقل آنيًّا أو لحظيًّا. وفي المجال البيولوجي كوَّن نظرية غير صحيحة عن الدورة الدموية حتى بعد ظهور نظرية هارفي  Harvey الثورية. أما في الميدان الفلكي فقد حاول أن يتخذ موقفًا وسطًا بين النظرية الجديدة والنظرية التقليدية؛ حتى لا يغضب الكنيسة، فقال بفكرة «الدوامات» التي تحيط بالأرض، وتنقلها حول الشمس دون أن تكون الأرض ذاتها متحركة.١٥
لذلك تعرَّض ديكارت لهجوم عنيف من جانب عدد غير قليل من شراحه الذين اتهموه بالتراجع إلى الوراء في منهجه العلمي، بالقياس إلى التقدم الكبير الذي تحقق في عصره. بل إن «ريفيل  Revel» يشكك حتى في قيمة الهجوم الذي شنَّه ديكارت على المدرسيين، على أساس أنه «لم يكن فيه جديد؛ لأن هذه الحرب (ضد المدرسيين) كانت قد بدأت قبل قرنين. كما أن ديكارت — على خلاف جاليليو ومونتين — لم يدخل في هذه الحرب لكي يعمل على إحلال نمط فكري جديد محل النمط القديم، بل دخلها لكي يضع محل القضايا القديمة قضايا أخرى جديدة تظل داخلة في نفس الإطار الفكري»؛ ولهذا السبب يحذرنا «ريفيل» من أن ننخدع بشأن تلك التطبيقات العلمية والتجارب التي دعا إليها ديكارت في نهاية كتاب «المقال في المنهج»، فهو لا يدعو إلى التجريب بالمعنى الذي كان يمارسه به جاليليو، وإنما كانت لديه ثقة مطلقة في صحة مبادئه القبلية التي لا تُدْرَك إلا بنور العقل؛ ومن ثَم كان لديه يقين مسبق بأنها فعالة في المجال العملي. بل إن عزلة ديكارت في هولندا لم تكن — في رأيه — ترجع إلى خوفه من الاضطهاد، بقدر ما كانت ترجع إلى رغبته في التباعد عن الأوساط العلمية التي كان يخشى الاحتكاك بها، ويعتقد أنها لن تنفعه في شيء.١٦
ويذهب «جسدروف Gusdorf» إلى نتيجة مماثلة، فيؤكد أن المنهج الاستنباطي الذي اتبعه ديكارت في الفيزياء كان أقرب إلى الروح المدرسية منه إلى الفكر الحديث، وبدلًا من أن يجهد ديكارت نفسه — كما فعل علماء ذلك العصر الذين بنوا على أكتافهم صرح العلم الحديث — في البحث والتنقيب بصبر وأناة عن وقائع جزئية، يكشفها بأكبر قدر من الدقة، ويعبر عنها تعبيرًا رياضيًّا، نراه يزدري الوقائع ولا يكترث بملاحظتها؛ ولذلك يقتبس «جسدروف» نصًّا لبول موي يقول فيه: «إن فيزياء ديكارت نسق مذهبي. بل إنها — إذا جاز التعبير — كتلة مرتبطة بالميتافيزيقا ارتباطًا وثيقًا؛ فالديكارتية العلمية هي مذهب قبلي apriorisme متكامل».١٧

خلاصة القول إذن: إن ديكارت لم يكتف بأن جعل الميتافيزيقا أساسًا للعلم الفيزيائي. بل إن المبادئ الميتافيزيقية الرئيسية تظل ضرورية طوال مراحل البحث الفيزيائي، وعليها يرتكز كل ما يمكن أن يصل إليه هذا البحث من يقين؛ فالعالم المادي في نظره يستحيل أن يعرف ما لم يكن المرء قد عرف من قبل مبادئ ميتافيزيقية هي التي تستنبط منها كل معرفة بهذا العالم. وفي الوقت الذي كان فيه علماء العصر يشنُّون معركة حامية ضد الميتافيزيقا ويسعون إلى استبعادها من العلم استبعادًا تامًّا، ويصطنعون لأنفسهم منهجًا يجمع بين الملاحظة المتأنية والتجارب الدقيقة التي تجرى على موضوعات جزئية، وبين الصياغة الرياضية الدقيقة للنتائج التي يتوصل إليها البحث العلمي تدريجيًّا، كان ديكارت يسعى إلى استنباط معرفتنا بالطبيعة كلها من مبادئ ميتافيزيقية، ويحاول استخراج الحقائق كلها من أفكاره العقلية وحججه المنطقية البارعة، وبالاختصار كان يريد للجذور الميتافيزيقية أن تظل تزود الجذع الفيزيائي وثماره التطبيقية، بذلك اليقين الذي لا يُكْتَسَب إلا بالاستنباط من مبادئ أولية مؤكدة، فكان في ذلك متراجعًا عن تيار عصره بغير شك.

(٦-٣) الترفع وازدراء العلماء

والنتيجة الضرورية لتمسك ديكارت بالمنهج الاستنباطي في البحث لفيزيائي هي اعتقاده أنه — بفلسفته الخاصة ومنهجه الذي كان يراه جديدًا — هو وحده الذي يستطيع انتشال العلم من وهدة التخلف التي سقط فيها على يد المدرسيين؛ بحيث كان ينظر إلى الجهد العلمي، كما لو كان جهدًا فرديًّا يحتاج إلى عبقريته الخاصة وحدها، وتلك هي طريقة التفكير التي يتحتم أن يصل إليها من يمزج الميتافيزيقا بالعلم؛ لأن المبادئ التي يرتكز عليها بناء العلم كله مبادئ خاصة به، توصل إليها عقله هو بجهد تأملي خاص. أما من يعترف للعلم الطبيعي باستقلاله، ويضع له المنهج الملائم له، فلا بد أن يكون أكثر تواضعًا في فهمه لدوره وللمدى الذي يستطيع أن يصل إليه، ولا بد أن يكون أكثر تقديرًا لجهد الآخرين؛ لأنه يعرف أن العلم ينمو ببطء ومشقة، وأن حقائقه لا تتكشف كلها بنور مفاجئ، وإنما تظهر تدريجيًّا على أيدي أجيال لا حصر لها من الباحثين.

ويظهر هذا الفارق بين عقلية الفيلسوف الذي يمزج العلم بالميتافيزيقا وبين عقلية العالم الحقيقي، في موقف ديكارت من جاليليو، فعلى الرغم من أن ديكارت قد تأثر إلى حد بالغ بمحنة جاليليو. وكانت هذه المحنة، التي بلغته أنباؤها في عهد مبكر نسبيًّا من حياته الفكرية (عام ١٦٣٣م) — نقطة تحول في طريقة تعامله الفكري مع العالم المحيط به، فإنه يبدو أن العامل الذي تأثر به ديكارت في هذا الصدد هو النتائج المحتملة لهذه المحنة على مصيره هو، ولم يكن اهتمامه بمصير جاليليو نفسه، فديكارت كان يفكر في نفسه طوال الوقت الذي يبدي فيه انزعاجه من التهمة الظالمة التي وجهتها محاكم التفتيش إلى رجل لم يكن هدفه — آخر الأمر — إلا توسيع نطاق المعرفة البشرية وزيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة، وهي في رأيه أمور لا ينبغي أن تغضب لها أية سلطة دينية تفهم طبيعة رسالتها. وكان شغل ديكارت الشاغل في هذا كله هو: ماذا يكون موقف هذه السلطات الغاشمة من آرائه هو التي ترتكز على مواقف فيها بعض الاتفاق مع آراء جاليليو؟ وما الذي يفعله في مؤلفاته التي تتضمن هذه الآراء، والتي كان يزمع نشرها قريبًا؟

أما جاليليو نفسه، فلم يكن ديكارت يهتم به كثيرًا، أو كان على الأقل يتظاهر بعدم الاهتمام به؛ ففي خطاب إلى صديقه «مرسين» ذكر أنه لم يطلع على كتاب جاليليو الرئيسي إلا في عام ١٦٣٤م، أي بعد عام من محنة العالم الإيطالي الكبير، واستخدم في هذا الصدد لفظًا يدل على أنه «تصفَّح» هذا الكتاب feuilleter وفي خطاب آخر إلى مرسين، بتاريخ ١١ أكتوبر ١٦٣٨م، علق أعمال جاليليو، فقال: «وفيما يتعلق بجاليليو، أود أولًا أن أقول لك: إنني لم أره أبدًا، ولم يكن لي أي اتصال به؛ ومن ثَم فلا يمكن أن أكون قد استعرت منه شيئًا، كما أنني لا أرى في كتبه شيئًا يجعلني أحسده، ولا أكاد أرى فيها شيئًا أرغب في تبنيه»، ويعلل المؤلف الذي اقتبس هذين النصين١٨ ضآلة اهتمام ديكارت بجاليليو، بأن الأول لا يتصور علمًا بغير منهج؛ ومن ثَم كان ما يعيبه على جاليليو هو أنه ليس «فيلسوفًا»، وبالفعل يمكن أن نعدَّ جاليليو باحثًا بلا منهج، إذا فهمنا المنهج بالمعنى الاستنباطي الذي فهمه ديكارت، وإذا اعترفنا بأن المبادئ الميتافيزيقية الرئيسية هي الدعامة التي يظل البحث في الطبيعة مرتكزًا عليها حتى آخر مراحله. أما إذا كنا نفهم المنهج بمعناه العلمي لا الصحيح، لا بمعناه الذي يخلط بين مقتضيات الفلسفة ومقتضيات العلم، فإن جاليليو يغدو عندئذٍ رائدًا من رواد المنهج الحديث، بالإضافة إلى ريادته المعترف بها في ميدان البحث العلمي ذاته.

وعلى أية حال ففي استطاعتنا أن نستشفَّ من النص الأخير — ومن كلام ديكارت عن «الجسد» وغيره — لهجة ظاهرها الترفع والتعالي، وباطنها الإحساس بأنه إزاء عمل كبير لا يقدر على أن يجاريه، وعلى أية حال فإن تبرؤه الشديد منه لا يخلو من قدرة من الانتهازية.

ومما يلفت النظر أن «جسدورف» قد تنبه إلى الرسالة الأخيرة ذاتها (رسالة ديكارت إلى مرسين بتاريخ ١١ أكتوبر ١٦٣٨م)، واستدل منها على نتائج مضادة لتلك التي انتهى إليها «جوييه  Gouhier»؛ ذلك لأنه ركز على الجزء الذي يقول فيه ديكارت عن جاليليو: «يبدو أنه يفتقر إلى الكثير، من حيث إنه يكثر من الاستطراد ولا يتوقف لكي يقدم تفسيرًا كاملًا لموضوع ما، مما يدل على أنه لم يبحث تلك الموضوعات بطريقة منظمة، وعلى أنه بحث عن أسباب بضع نتائج جزئية قبل أن يدرس الأسباب الأولى للطبيعة، وشيَّد بذلك بناءً بغير أساس»، ويؤكد جسدورف أن تلك «الأخطاء» التي عابها ديكارت على جاليليو هي في الواقع حسنات تُحْسَب له؛ إذ إنه لم يُصْدِر أحكامًا تتجاوز ما يستطيع تأكيده. أما ديكارت فكان يزدري ذلك الصبر الطويل الذي يقتضيه البحث التجريبي، ولا يحاول الرجوع إلى الأشياء ذاتها للتأكد من صحة أحكامه؛ إذ كان على ثقة من أن الوقائع ذاتها ستخضع لأوامر النسق الفلسفي؛ وعلى ذلك فإذا كان جاليليو قد ارتكب خطأً جزئيًّا هنا أو هناك، فإن ديكارت قد أخطأ في موقفه الكامل، وعندما انهارت الأسس الميتافيزيقية التي شُيِّدَ عليها المعرفة؛ انهار بناؤه العلمي بأكمله.١٩

وهكذا يعود المنهج الاستنباطي القائم على أسس ميتافيزيقية إلى صبغ نظرة ديكارت إلى نفسه وإلى معاصريه بصبغة بعيدة عن التواضع والتضافر الذي يقتضيه العلم، فديكارت يتصور أنه لا يدين للعلماء المعاصرين له بشيء، ويترفع عن قراءة أبحاثهم بإمعان، ويتملكه إحساس طاغٍ بأنه هو القادر على إصلاح مسار المعرفة البشرية كلها؛ لأن درجة اليقين التي يستطيع بلوغها في العلم — بفضل المبادئ الأولى التي يرتكز عليها — لا تتوافر لدى أي باحث علمي غيره.

والواقع أن ديكارت كان منذ اللحظة الأولى في حياته الفكرية يشعر بأنه يحمل رسالة مقدسة أُلْقِيَت على عاتقه هو، ولم تكن تلك الرؤى الثلاث التي ظهرت له في شبابه المبكر، والتي شكر من أجلها الله لأنه اختصه برسالة المعرفة؛ لم تكن سوى تعبير عن إحساسه بأنه هو الذي يستطيع أن يحمل العبء وحده. ولقد كان أسلوب «الحلم أو الرؤيا» هو ذاته أسلوبًا ذا طبيعة تنبؤية، وربما كان للمرء أن يشك في صحة التفاصيل التي رُوِيَت عن هذه الرؤيا بعد ثمانية عشر عامًا من حدوثها (حدثت الرؤيا عام ١٦١٩م، ورواها ديكارت في «المقال في المنهج» عام ١٦٣٧م). بل إن من الباحثين مَنْ أبدى عدم اقتناعه بالموضوع بأسره. ولكن هذه مسألة لا تهمنا كثيرًا، وإنما الذي يهمنا هو دلالة الأسلوب الذي اتبعه ديكارت، والذي ينم عن إحساسه بأنه هو الذي اختير لحمل رسالة المعرفة.

وتتوالى الشواهد على هذا الإحساس بالتعالي وبالأهمية الذاتية عند ديكارت؛ إذ تتخذ فكرة «الكوجيتو» عنده طابعًا فيه إشارة دائمة إلى «الأنا» الذي يفكر، والذي يستدل عن طريق أفكاره وحدها على وجودها الله، ويؤسس عليه وجود العالم، ثم يتخذ من هذه المبادئ الميتافيزيقية المستخلصة من داخل العقل والروح البشرية مصدرًا للمعرفة يفوق في أهميته أية كتابات أو أبحاث علمية أخرى، وأية مشاهدة مباشرة للوقائع. وحتى المرحلة الأخيرة من حياة ديكارت ظل هذا الاعتقاد بأنه يستطيع أن يفعل ما لا يقدر عليه غيره ملازمًا له، ويكفي قوله في مقدمة كتاب «مبادئ الفلسفة»: «لقد كان هناك رجال عظماء حاولوا أن يهتدوا إلى، الحكمة حتى الآن.»

هذه لهجة قد يراها البعض تعاليًا وترفعًا، وقد يراها غيرهم تعبيرًا عن كبرياء المفكر واعتزازه بنفسه. ولكنها قبل كل شيء لهجة فيلسوف يحاول أن يفرض طريقته التأملية على مسار العلم، والتعليل الأخير لهذا كله إنما يكمن في ذلك التداخل الفريد بين الميتافيزيقا والعلم عند ديكارت. وفي احتفاظه للجذور الميتافيزيقية — في شجرة المعرفة — بدور إيجابي تظل تقوم به حتى بالنسبة إلى أبعد الأغصان والثمار.

خاتمة

كشف لنا هذا البحث عن إمكان تفسير ذلك التشبيه الذي يبدو بسيطًا في ظاهره — تشبيه الشجرة — على أنحاء متعددة، يؤدي كلٌّ منها إلى فهم مختلف للعلاقة بين الميتافيزيقا والعلم في فلسفة ديكارت؛ بحيث يمكن القول — بمعنى معين: إن الاتجاه الفكري العام لديكارت يتحدد على أساس الموقف الذي نتخذه من هذا التشبيه. وقد تركنا جانبًا الموقف الأول، الذي يركز الاهتمام على الميتافيزيقا ويكاد يتجاهل أو يعده ثانوي الأهمية؛ لأنه يجد من يعبرون عنه بكل قوة بين الكُتَّاب ذوي النظرة التقليدية، وتوسعنا في عرض وجهة النظر التي تؤكد أهمية الجانب العلمي في فلسفة ديكارت، وذلك من خلال تفسيرين: أحدهما يجعل العلم هدفًا أساسيًّا إيجابيًّا تتوارى إلى جانبه الميتافيزيقا التي تكتفي بتمهيد الطريق له فحسب، والآخر يجعل للميتافيزيقا دورًا إيجابيًّا يظل ملازمًا للعلم حتى أبعد أطرافه وأكثرها تشبعًا.

ومن خلال هذين الرأيين الأخيرين، اللذين لا يتعارضان في تأكيدهما لأهمية العلم. ولكنهما يتعارضان في الدور الذي ينسبه كلٌّ منهما إلى الجذور الميتافيزيقية في عملية اكتساب المعرفة، يتضح لنا أن المرء يواجه ها هنا إشكالًا يتعلق بصميم مهمة الفلسفة التأملية عند ديكارت: فهناك شواهد قوية تدل على أن ديكارت أراد من هذه الفلسفة التأملية أن تكون «جواز المرور» إلى المعرفة العلمية، التي هي في نظره الغاية والهدف. ولكن هناك في الوقت ذاته شواهد أخرى تدل على أنه أراد لهذه الفلسفة أن تظل تقوم بدورها في إضفاء يقين راسخ على العلم حتى النهاية.

ويبدو لي أن عصر ديكارت ذاته وموقعه التاريخي ودوره كفيلسوف تحمَّس للمعرفة العلمية، كل هذه العوامل تعمل على الاحتفاظ بالأشكال في حالة تناقض حي، وتدعونا إلى الامتناع عن اتخاذ موقف نهائي بين طرفيه المتعارضين، فديكارت أراد أن يحتفظ للفلسفة بشيء مميز في عصر بدأ العلم فيه يصبح هو الوسيلة الرئيسية لتحصيل معرفة عن العالم، وأغلب الظن أنه اضطرب في محاولته هذه. ولكن هذا الاضطراب، والتخبط، كان طبيعيًّا في عصر حدثت فيه لأول مرة مواجهة بين منهج فلسفي يحمل كل التراث الماضي للمعرفة، ومنهج علمي يبشر بطريق جديد للمعرفة في المستقبل.

بل إن في وسعنا القول: إن مثل هذا الاضطراب في تحديد موقف الفيلسوف إزاء العلم ما زال يلازم الفلاسفة حتى يومنا هذا؛ إذ يسعى الفلاسفة بكل وسيلة إلى أن يحتفظوا للفلسفة بمجال مميز ومنهج خاص بها. ولكنهم يدركون في الوقت ذاته أن العلم هو أفضل وسيلة متاحة لتحصيل معرفة صحيحة عن الواقع؛ ومن هنا تتعدد المواقف. وربما تناقضت الاتجاهات حتى عند الفيلسوف الواحد، وهو تناقض يعبر عن تلك الأزمة الأساسية التي يعانيها الفكر الفلسفي في عصر العلم.

لقد كان الفكر القديم متحررًا من أية أزمة من هذا النوع؛ لأن الفلسفة لم تكن تجد أمامها منافسًا. وكان منهجها هو الوحيد الذي يعد وسيلة لتحصيل أية معرفة. ولكن منذ اللحظة التي ظهر فيها منهج أدق وأكثر ثقة بنفسه وبخطواته وبنتائجه؛ أعني منذ أوائل العصر الحديث وَجَدَت الفلسفة نفسها في أزمة حقيقية هي أزمة تحديد موقفها من هذا النوع الجديد من المعرفة.

وكما رأينا، فقد كان هذا الإشكال واضحًا لدى ديكارت كل الوضوح؛ لأن تفكيره يحمل في أحد جوانبه طابع الانحياز للمعرفة الجديدة والإقلال من أهمية الميتافيزيقا التقليدية، ويحمل في الجانب الآخر طابع الاحتفاظ بإيجابية الميتافيزيقا التقليدية حتى في قلب المعرفة العلمية، ووجود أزمة المواجهة بين الفلسفة والعلم عنده بمثل هذه الحدة هو — في رأينا — ما يجعل منه «أبًا للفلسفة الحديثة»، فهو لا يستحق هذا اللقب؛ لأنه أضفى على الفلسفة الحديثة طابعها المميز وهو المثالية كما يزعم البعض، وإنما يستحقه لأنه أول من عانى من محاولة إيجاد منهج ومجال مميز للفلسفة في عصر أثبت فيه العلم فعاليته، وهو يستحق هذا اللقب؛ لأنه تناقض مع نفسه وأخفق في تحقيق هذا الهدف كما سيحاول ويخفق عشرات من الفلاسفة منذ عصره حتى وقتنا الراهن.

ومجمل القول أن تشبيه الشجرة — بما يكشف عنه من تفسيرات متعارضة، كلها معقولة — للعلاقة بين الميتافيزيقا والمعرفة العلمية، ينتهي بنا إلى حقيقة أساسية — وهي في رأينا حقيقة جديدة — هي أن ديكارت لم يكن فيلسوفًا رائدًا بفضل خصائص معينة في منهجه أو في مضمون فلسفته، بل كان أول المحدثين لأن فلسفته — في علاقتها بالعلم — وصلت إلى مأزق أصبح من لوازم الفلسفة في عصر سيادة المعرفة العلمية.

١  انظر المجلد التاسع من طبعة Adam-Tannery (Paris-Virin) ص١٤، وانظر ص٥٦٥-٥٦٦ من طبعة La Pleiade (Paris, Gallimard 1970).
٢  Jacques Chevalier: Descartes, Paris, Editions plon, 20e edition, pp. 78–82.
٣  انظر للمؤلف كتاب: «نظرية المعرفة والموقف الطبيعي»، القاهرة مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الثانية ١٩٧٧م، ص١٠٣–١٠٥.
٤  Descartes: Euvres، ed. Adam-Tennery, tomexl, p. 224 اقتبس هذا النص G. Gusdorf في كتابه: La Revolution Galileenne, tomel, paris (payot) 1969, p. 272.
٥  نفس المرجع، المجلد الأول، ص٢٦٣.
٦  Histoier de la philosophie, paris (P. U. F), 1950, tome II, I, p. 99.
٧  R. Lefevre: Le Criticisme de Descartes. Paris, P. U. F. 1958, p, 285.
٨  A. Rivaud; Histoire de la philosophie, tome III, P. U. F. 1950, p. 134.
٩  A. Bridoux, “Introduction” á L’édition de la pléiade? Descartes oeuvres, et Lettres, paris, Gallimard, 1953, p. 18.
١٠  انظر كتابنا: اسبينوزا، مكتبة النهضة العربية القاهرة ١٩٦٢م.
١١  انظر رسالة ديكارت إلى Regius بتاريخ يناير ١٦٤٢م.
١٢  A. Bridoux; “Introduction” op. cit. pp. 12-13.
١٣  رسالة إلى هوجنز Huyéns في ٤ ديسمبر ١٦٣٧م — اقتبسها Gouhier في كتابه Descartes Paris (Vrin), p. 95.
١٤  A. Koyré; Etudes d’histoire de la Pensée. Philosophique. Paris (Colin) 1961, pp. 280-281.
١٥  Jean-Francois Revel: Histoire de la philosophie occidentale. Tome II, Paris (Stock) 1970, p. 149.
١٦  Ibid. pp. 128–130.
١٧  Paul Mouy: Le Dévloppement de la physique Cartésienne, Paris, Vrin. 1934, p. 323.
اقتبسه: G. Gusdorf: La Revolution galiltéenne tom 1, p. 347.
١٨  Heneri Gouhier: Descartes, Essais, Paris, Vrin (2e. éd) 1949, p. 70.
١٩  G. Gusdori, La Révolution galiléenne. Tom I, p. 345.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤