مذهب الذرات الروحية «المونادولوجيا» عند ليبنتس

(١) حياة ليبنتس وشخصيته

وُلِدَ جوتفريد فلهلم ليبنتس Gottried Wihelm Leibniz في ليبنتسج في ٣ يوليو سنة ١٦٤٦م، من أسرة اشتهر الكثير من أفرادها بالميول العقلية ولا سيما في ميدان القانون. وقد توفِّي أبوه وهو في السادسة من عمره، وحرصت أمه على أن تنشئه تنشئة بروتستانتينية محافظة. ولقد كان ليبنتس في صباه طفلًا معجزًا، سرعان ما فاق كل زملائه في مدرسة نيكولاي Nikoloischule، وعندما التحق بالجامعة لم يكن قد بلغ الخامسة عشرة من عمره، وتأثر في الجامعة بأستاذ كانت له اتجاهات مدرسية واضحة، وهو ياكوب تومازيوس Thomasius، وعلى يديه ألَّف أول بحث له نال به درجة البكالوريوس في موضوع كانت له أهمية كبرى في فلسفته التالية، وهو مبدأ الفردية De principio individui، وقبل انتهاء دراسة ليبنتس الفلسفية، انتقل إلى دراسة القانون، وأخذ في الوقت ذاته يدرس الرياضيات، فألَّف في عام ١٦٦٦م كتاب «الفن الجامع» Arts combinatorial، ولفت إليه هذا الكتاب أنظار بعض الأوساط العلمية خارج مدينته، وعندما تقدم إلى جامعة «آلتدورف» للحصول على درجة الدكتوراه في القانون — في نفس العام (وهو ١٦٦٦م) — كان بحثه ممتازًا إلى حد أنه تلقى — وهو في هذه السن المبكرة — عرضًا للأستاذية في نفس الجامعة، ولكنه رفض هذا العرض.
وقد اتصل ليبنتس في مستهلِّ حياته العلمية بسياسي ألماني مشهور، هو البارون بوينبرج  Boineburg، وبفضل هذا الاتصال أخذ يزداد اهتمامًا بالشئون السياسية، فسافر إلى فرانكفورت، وتولى مهمة إصلاح اللوائح القانونية المعمول بها في إمارة مينتس Mainz، ومنذ ذلك الحين ظلت السياسة هدفًا رئيسيًّا من أهداف حياته.
وكان من أهم مظاهر نشاط ليبنتس السياسي، تلك المذكرة الهامة التي كتبها عن «الأمن العام الداخلي والخارجي» Securitas publica interna et externa، وتضمنت هذه المذكرة خطته المصرية  Consilium Aegyptiacum المشهورة (التي سنعرض لها بشيء من التفصيل فيما بعد)، والتي اقترح فيها تحويل انتباه لويس الرابع عشر — ملك فرنسا المشهور — عن أوروبا باقتراح إرسال حملة لغزو مصر، وظلت هذه المذكرة تشغل قدرًا كبيرًا من اهتمام ليبنتس، فتوجه بها إلى باريس سافر عام ١٦٧٢م آملًا أن يستمع إليه الملك. وفي خلال إقامته بباريس سافر في رحلة قصيرة إلى لندن حيث انتُخِبَ عضوًا في الجمعية الملكية، وبعد عودته إلى باريس بدأت دراساته الرياضية المركزة على يد الرياضي المشهور كريستان هوبجنز، وتُوِّجَت هذه الدراسات بكشفه حساب التفاضل والتكامل، والاهتداء إلى طريقة تدوينه المعمول بها حاليًّا، في عام ١٦٧٥م. وكان ليبنتس يزمع الإقامة نهائيًّا في باريس؛ إذ كانت هذه الفترة من أخصب فترات حياته العلمية والفكرية، وفيها اتصل بعدد من أكبر رجال الفكر والفلسفة والعلم واللاهوت في عصره، وأجرى معهم مراسلات عميقة ألقت ضوءًا ساطعًا على نواحٍ عديدةٍ غامضةٍ في تفكيره.

ومع ذلك فعندما عرض عليه يوهان فردريك — دوق هانوفر — وظيفة رئيس المكتبة في بلاطه (وهي وظيفة كانت لها في ذلك الحين أهمية غير قليلة) قَبِلَها، وغادر باريس. وفي رحلة العودة إلى ألمانيا عام ١٦٧٦م زار إنجلترا وهولندا، حيث قابل اسبينوزا واطلع على آخر كتاباته وأبحاثه، وأبدى في ذلك الحين إعجابًا شديدًا واهتمامًا كبيرًا بها، وإن كان قد حرص فيما بعد على إظهار عدم اهتمامه بآراء اسبينوزا نظرًا إلى شهرة هذا الأخير بالإلحاد في كثير من الأوساط الأوروبية.

وفي الفترة التي أقامها ليبنتس في هانوفر، بدأ كتابة تاريخ شامل لأسرة برنسفيك، كما نشر كشوفه في حساب التفاضل والتكامل. وفي ميدان الفلسفة ألَّف كتاب «مقال في الميتافيزيقا»  Discours de métaphysique (سنة ١٦٨٦م)، ومجموعة من الأبحاث الهامة، من بينها «مذهب جديد في الطبيعة» Système nouveau de la nature (١٦٩٥م)، وبحثه عن فلسفة لوك بعنوان «أبحاث جديدة في الذهن البشري» Nouveaux essais sur l’entenderment humain (١٦٩٦م).
وعندما تولى جورج فلهلم إمارة الولاية (وقد أصبح فيما بعد جورج الأول ملك إنجلترا) لم يكن ليبنتس على وفاق معه. وكان لذلك بعض الأثر في إنتاج ليبنتس الذي تركز في ذلك الحين على إكمال كتابة تاريخ الأسرة الملكية؛ على أن جهود ليبنتس قد تُوِّجَت بالنجاح في ميدان آخر: فقد نجح بفضل مساعدة تلميذته صوفيا شارلوت أميرة براندبرج (التي أصبحت ملكة بروسيا فيما بعد) في إنشاء أكاديمية برلين عام ١٧٠٠م، واختير هو ذاته أول رئيس لها. ومع ذلك فقد فشلت جهوده الأخرى في سبيل إنشاء أكاديميات مماثلة في درسدن وسان بطرسبرج وفيينا، ونشر ليبنتس في ذلك الحين كتابه الفلسفي الرئيسي الوحيد الذي أشرف على نشره خلال حياته، وهو كتاب «الحكمة الإلهية» Théodicée، وهو يتألف أساسًا من الكتاب الذي نقدمه هنا، وكتاب «مبادئ الطبيعة واللطف الإلهي» Principes de la nature et de la grâce فقد كتبهما عام ١٧١٤م ونُشِرَا بعد وفاته.

وفي هذا العام نفسه أصبح جورج لودفج ملكًا على إنجلترا، ولم يستطع ليبنتس أن ينال حظوة لديه، فأبعد في هانوفر حيث دأب على كتابة تاريخ الأسرة الحاكمة، ولم يكن قد أتم إلا جزءًا بسيطًا من هذا التاريخ عندما توفِّي في ١٤ نوفمبر عام ١٧١٦م.

ومن العجيب أن أوروبا التي كان ليبنتس ملء سمعها وبصرها في حياته، والتي لعب دورًا عظيم الأهمية في ثقافتها وتفكيرها وسياستها، لم تهتم به قط في وفاته، ولم يرثه أحد سوى الفرنسيين. أما الباقون فلم يكادوا يشعرون بموته.

ومن المؤكد أن هناك جوانب عديدة غامضة في حياة ليبنتس، فبالإضافة إلى غموض كثير من المهام السياسية التي كان يضطلع بها — وهو الغموض الذي جعل كثيرًا من الناس ولا سيما اسبينوزا يرتابون في نواياه ومقاصده الحقيقية — كانت حياته الخاصة بدورها مهمة إلى حد بعيد، ورغم كل ما كتبه من رسائل، فإن هذه الرسائل لم تكن شخصية، ولم تكشف شيئًا عن الجوانب الخاصة لحياته، وهكذا فإن علاقاته العائلية ظلت مجهولة، وكل ما عُرِفَ عنها هو أن ليبنتس لم يتزوج أبدًا، وأن أسرته كانت ميسورة الحال، مما أتاح له التنقل بحرية، والتفرغ للأمور السياسية والعلمية دون اهتمام بمشكلات الحياة اليومية.

على أن في وسع المرء أن يلمح خلال هذا الغموض المحيط بحياة ليبنتس عنصرين أساسيين يبرزان بكل وضوح طوال مجرى حياته، هما اتساع نطاق معارفه من جهة، واتجاهه إلى السياسة من جهة أخرى.

فبفضل العنصر الأول — وهو اتساع نطاق معارفه إلى حد مذهل — أحيطت شخصيته خلال حياته وبعدها بهالة أسطورية يتمثل فيها مفكرًا وعالمًا تتحدى عبقريته كل التصنيفات والتقسيمات الشائعة، ولم يكن من المستغرب أن تصوَّر شخصية بهذه الصورة الأسطورية؛ ذلك لأن الرجل كان بالفعل نوعًا من الأسطورة. وربما كان ليبنتس آخر ممثل لتلك الفئة «الموسوعية» من المفكرين؛ ففي عصره وربما قبل عصره بقليل، كان عهد التخصص قد بدأ، واتسعت المعارف البشرية إلى حد أنه أصبح من المحتم على المرء أن يختار بين الفلسفة أو الأدب أو العلم أو القانون أو السياسة، وأصبح من الصعب أن يجمع المرء بين أكثر من فرع واحد من هذه الفروع. ولكن الدهشة تمتلك المرء حتمًا حين يجد ليبنتس قد اشتغل بهذه الفروع كلها معًا. وكانت له فيها كلها تقريبًا مساهماته المبتكرة وكشوفه البارعة؛ ذلك لأن ظهور مثل هذه العقلية الموسوعية أيام اليونان في شخص أرسطو، أو حتى خلال عصر النهضة في شخص ليوناردو دفينشي، كان أمرًا مفهومًا ومعقولًا، أما ظهورها في النصف الثاني من القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر فهو بالفعل أمر يقارب حد الإعجاز، لا سيما إذا كان الشخص الذي تمثلت فيه هذه الظاهرة الفريدة ينافس في مجال الفلسفة أقطاب المدرسة الديكارتية الكبار، وينافس في مجال الرياضة نيوتن ويتفوق عليه في صياغته لحساب التفاضل والتكامل، ويضع من النظريات القانون ومن الآراء السياسية والدبلوماسية ما يجعل له دورًا إيجابيًّا في سياسة عصره، ويشتغل بالعلم الطبيعي فيتفوق فيه، ويكتب شعرًا لاتينيًّا يحوز إعجاب معاصريه، ويؤلف في التاريخ مرجعًا عظيم القيمة، وينشئ، يسعى إلى إنشاء جمعيات وأكاديميات علمية في مختلف المدن الأوروبية، فثقافة ليبنتس عالمية بالمعنى الصحيح، ومعارفه تكاد تكون شاملة بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه، ولهذه الحقيقة — كما سنرى — فيما بعدُ أهمية عظيمة في إيضاح معالم مذهب ليبنتس وطريقة تفكيره.

على أن الجانب السياسي من نشاط ليبنتس الشامل يستحق اهتمامًا خاصًّا؛ لأنه يمثل ظاهرة فريدة فيمن عرفناهم من الفلاسفة؛ ومن هنا فإنه يؤلف وحده عنصرًا قائمًا بذاته نود أن نشير إليه إشارة خاصة، فمنذ اللحظة التي تعرَّف فيها ليبنتس إلى الكونت «بوينبرج» وهو في الحادية والعشرين من عمره؛ أصبح يقضي حياته كلها في صحبة الأمراء والحكام ورجال البلاط، واعتاد صحبة الشخصيات الأرستقراطية الكبرى، ورغم كل ما طرأ على حياته من التقلبات، فإن الاهتمام بالسياسة ظل هو القاسم المشترك بين أهم فترات هذه الحياة، وحتى في تلك الفترة التي تعد أخصب فترات حياته، الوجهة العلمية والفكرية، وأعني بها فترة إقامته في باريس، نراه لا يكف عن القيام بدور الدبلوماسي ورجل البلاط وكاتم أسرار الأمراء، ويقوم بأسفار وبعثات ومهمات غامضة لحساب إمارة «مينتس» الألمانية في نفس الوقت الذي كان فيه يكوِّن صلات مثمرة إلى أبعد حد مع مشاهير رجال العلم والفكر والفلسفة الذين كانت تزدان بهم فرنسا في عهد لويس الرابع عشر.

ولقد كانت السمة البارزة في نشاط ليبنتس السياسي، وهي نمو وعيه الأوروبي إلى أبعد حد؛ ذلك لأنه على الرغم من اشتغاله في معظم أوقات حياته لحساب حكام ولايات ألمانية معينة، كان في تفكيره السياسي يتجاوز حدود الولايات والدول. وكان «مواطنًا أوروبيًّا» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان. وكانت الفكرة الرئيسية التي تستحوذ على تصرفاته السياسية هي أن أوروبا كلها تكوِّن وحدة حضارية وثقافية وسياسية واحدة. ومن المؤكد أن في تفكير ليبنتس في هذه الناحية أوجه شبه عديدة مع تفكير دعاة الوحدة الأوروبية المعاصرين، من أمثال الجنرال دي جول والسياسي البلجيكي «سباك» وغيرهما، رغم اختلاف ظروف الدعوة في كلتا الحالتين، ولا يقف وجه الشبه عند هذا الحد. بل إن تفكير ليبنتس السياسي كان يتضمن عناصر رجعية واستعمارية لا تقل وضوحًا عن تلك التي نجدها عند أقطاب ساسة أوروبا الغربية المعاصرين، ويتمثل ذلك العنصر من تفكير ليبنتس في «خطته المصرية» المشهورة، ونظرًا لأهمية هذه الخطة للقارئ المصري على التخصيص، فسوف نتحدث عنها ها هنا بشيء من التفصيل.

وضع ليبنتس هذه «الخطة» وهو في الخامسة والعشرين من عمره. وكان يهدف منها إلى إيجاد وسيلة لصرف أنظار لويس الرابع عشر — ملك فرنسا وأكبر شخصية سياسية في أوروبا في ذلك الحين — عن أوروبا ذاتها، وتحويل طاقته الحربية إلى مكان بعيد عن أوروبا، بذلك يعود توازن القوى إلى القارة الأوروبية، ويتسنى في الوقت ذاته الدفاع عن أوروبا ضد «البرابرة والزنادقة».

ولقد كانت الظروف السياسية في ولاية مينتس هي التي أوحت إلى ليبنتس بهذه الخطة؛ ففي نهاية عام ١٦٧١م، كان من الواضح أن فرنسا تعد العدة لغزو هولندا. وكان أمير الولاية الألمانية يدرك أن تغير ميزان القوى في أوروبا قد يؤدي إلى تغيير كبير في الخريطة السياسية لأوروبا، وبالتالي إلى فقدان الولايات الصغيرة حريتها. وهكذا أراد — ومعه ليبنتس — أن يحول دون اقتراب الحرب من الولايات الألمانية، وسنحت الفرصة لليبنتس حين وقعت حوادث وتحرشات على حدود الإمبراطورية العثمانية، أذكت الحروب الصليبية من جديد في نفوس الأوروبيين. وهكذا وضع ليبنتس خطته على أساس أن توجَّه أسلحة لويس الرابع عشر — التي كان يعلم أنها ستنطلق عاجلًا أو آجلًا — ضد عدو المسيحية كلها في الشرق، وهم الأتراك العثمانيون، عن طريق غزو بلد عظيم الأهمية مثل مصر، فكتب مذكرة سياسية مفصلة موجهة إلى الملك، قدم فيها عرضًا تاريخيًّا لجميع الحملات التي شُنَّت على مصر من قبل، وتحدث عن مركز مصر الاقتصادي وموقعها الجغرافي، وأوضح مدى سهولة غزوها، والفائدة العظيمة التي ستجنيها فرنسا من هذا الغزو، وهي السيادة البحرية والاقتصادية على البحر المتوسط، والسيطرة على الغرب والشرق معًا، وازدياد ألقاب الملك لقبًا جديدًا مشرفًا! ولم تصل الخطة في بادئ الأمر إلى مسامع الملك. ولكن ليبنتس بذل مساعي عديدة، حتى أتاه رد يقول: إن الملك على استعداد لسماع الخطة منه. ولكنه عندما سافر إلى باريس في مارس سنة ١٦٧٢م كانت الحرب ضد هولندا قد بدأت بالفعل، ووقع ما أراد ليبنتس أن يتجنبه بغزو مصر، ونحن نعلم بطبيعة الحال تكملة القصة؛ وهي أن نابليون بونابرت قد حقق الخطة التي اقترحها ليبنتس. وربما كان قد اطلع على هذه الخطة ذاتها وأخذ بها، فحقق بذلك حلمًا احتل أهمية كبيرة في تفكير فيلسوفنا هذا، وبدأ عهدًا جديدًا من تاريخ الاستعمار الأوروبي في الشرق الأوسط.

ففي حياة ليبنتس إذن عنصران يستحقان اهتمامًا خاصًّا، هما شمول معرفته ونشاطه السياسي، ومن المؤكد أن العنصران متعارضان؛ إذ إن التفرغ للأعمال السياسية، والتنقل المستمر في أسفار وبعثات ومهام علنية وسرية، لا يترك للمرء فرصة الانصراف إلى الفلسفة والعلم، ولا بد أن ليبنتس كان يتمتع بقدرات معجزة، أتاحت له أن يركز ذهنه في أعمق المسائل العلمية، ويتفوق في عدد هائل من الفروع المتباينة للمعرفة، في نفس الوقت الذي كان يحيا فيه حياة صاخبة حافلة بالنشاط وسط عدد كبير من الأباطرة والملوك والأمراء والوزراء والسفراء ورجال البلاط، يقوم فيه بواجباته السياسية والدبلوماسية والقانونية على أكمل وجه، وهنا لا يجد المرء مفرًّا من أن يفترض لدى ليبنتس نوعًا من العزلة الروحية وسط هذا الصخب الذي أحاط نفسه به، ولولا أنه كان يعزل نفسه من آن لآخر بالفكر على الأقل، وعن العالم المزدحم من حوله، لما تسنى له ممارسة نشاطه العلمي الهائل على الإطلاق، فهو إذن كان يشعر بنفسه ذرة واحدة منعزلة بلا أبواب ولا نوافذ، تنطوي في ذاتها على صورة مصغرة للعالم كله، وتلك بعينها هي الفكرة الرئيسية في الكتاب الذي نعرضه ها هنا، وأعني به كتاب «مذهب الذرات الروحية».

(٢) مؤلفات ليبنتس وكتاب «المونادولوجيا»

ذكرنا من قبل أن ليبنتس لم ينشر في حياته سوى كتاب «الحكمة الإلهية» Théodicée، كما نشر بعض الأبحاث القصيرة في صحف علمية مختلفة. أما كتبه الرئيسية الأخرى — التي أوردنا من قبل أسماء بعضها — فقد نُشِرَت بعد وفاته، وإن كان هو ذاته قد أعدَّ بعضها للنشر. ولقد حفظ ليبنتس مؤلفاته — من كتب ومقالات وأبحاث — في صورة مخطوطات ومسودات كاملة، عُثِرَ عليها في مكتبته الخاصة، أو حُفِظَت في سجلات سرية (وهذا ينطبق بوجه خاص على مذكراته السياسية). ولقد كان نشاط ليبنتس السياسي هو سبب حفظ أوراقه العديدة المتناثرة، فعلى الرغم من أن أحدًا لم يهتم به عند وفاته، فإن عددًا من الأحزاب والفرق السياسية كانت تشعر بالقلق خوفًا من أن يكون قد ترك بين أوراقه أسرارًا سياسية. وهكذا ضموا أوراقه ومخطوطاته، ودفعوا لورثته (وهم أقرباء بعيدون) مبلغًا ضئيلًا من المال ليتنازلوا عن حقوقهم فيها، وظلت هذه الأوراق حتى اليوم مودعة في مكتبة هانوفر، ولا يمكن القول إن مؤلفاته الكاملة قد صدرت في نشرة شاملة حتى اليوم؛ ذلك لأن أكمل النشرات، وهي تلك التي بدأتها «أكاديمية العلوم البروسية» سنة ١٩١٣م بعنوان «المؤلفات والرسائل الكاملة» Sämmticke Schriften und Briefe وكانت تزمع فيها نشر كل ما خلَّفه ليبنتس، قد انقطعت عام ١٩٣٣م بعد الانقلاب النازي في ألمانيا.
أما كتاب «مذهب الذرات الروحية» أو المونادولوجيا، فقد كان في الأصل مقالًا قصيرًا عرض فيه ليبنتس فلسفته في ملحق لرسالة بعث بها إلى أحد مراسليه الفرنسيين المتحمسين، واسمه «ريمون» Rémond ولقد أشار بعض شُرَّاح ليبنتس إلى هذه الحقيقة، ولاحظوا عن حق ما فيها من غرابة؛ إذ إن هذا الكتاب الرئيسي الذي يتضمن مذهبًا ميتافيزيقيًّا طموحًا، لم يكن إلا تعبيرًا عارضًا قدمه ليبنتس إلى أحد مراسيله، ولم يكن يقصد منه أن يُنْشَر، وإنما كان مذكرة ملخصة تركها ليبنتس بين أوراقه الشخصية فحسب.
على أن أهمية هذا الكتاب — رغم ضآلة حجمه — إنما ترجع إلى أنه من أواخر مؤلفات ليبنتس الفلسفية، فقد ألَّفه قبل وفاته بعامين، في وقت كان قد اهتدى فيه إلى ذاته، وتكشفت له فيه الجوانب المتعددة التي تميزت بها عبقريته، فهو تعبير واضح عن فلسفته في أخصب فتراتها، وهو يمثل إلى جانب كتاب «مبادئ الطبيعة واللطف الإلهي» principes de la nature et de la grâce الذي ألفه في الفترة ذاتها، أعلى قمم التفكير الميتافيزيقي عنده، ورغم أن ليبنتس قد أعدَّ الكتاب الأخير بنفسه للنشر، فإنه ترك الأول في صورة غير مكتملة تمامًا، مات قبل أن يضع اللمسات الأخيرة فيه. ولكنه مع ذلك ما زال أفضل مدخل إلى فهم فلسفة ليبنتس في صورتها الكاملة.
ويجدر بنا في هذا المقام أن نشير إلى أن ليبنتس نفسه لم يكن هو الذي اختار لكتابه هذا اسمه الذي اشتهر به، وهو «المونادولوجيا»، فليس هذا هو العنوان الذي يصدر الكتاب في مخطوطاته الأصلية الباقية في هانوفر وفيينا، وإنما كان يحمل اسم «مبادئ الفلسفة» Principes de la Philosphie، وظل هذا هو الاسم السائد طوال قرن من الزمان. ولكن كوهلر Koehler — الذي أعد طبعة من أوائل الطبعات الهامة لمؤلفات ليبنتس — وجد أن فكرة الذرة الروحية Monad تحتل المكانة الرئيسية بين أفكار الكتاب، فوضع له في ترجمته الألمانية عنوانًا فرعيًّا هو «المونادولوجيا»، وجاء إردمان Erdmann في القرن التاسع عشر فجعل من هذا الاسم عنوانًا رئيسيًّا للكتاب في نشرته الفرنسية لمؤلفات ليبنتس الفلسفية، ومنذ ذلك الحين اشتهر الكتاب بهذا الاسم.

(٣) الاتجاه العام لفلسفة ليبنتس

ينطوي تفكير ليبنتس على بعض المبادئ العامة التي لا يُفْهَم هذا التفكير بدونها؛ ومن هنا كان لزامًا علينا — قبل أن ننتقل إلى العرض التفصيلي لآراء ليبنتس في كتاب «المونادولوجيا» — أن نوضح أهم هذه المبادئ، ونحدد الاتجاه العام الذي سار فيه تفكير ليبنتس، حتى يتسنى وضع أفكاره المفصلة في إطارها الصحيح، والربط بين هذه الأفكار وبين حياة ليبنتس وشخصيته وعصره.

لقد اشتهر ليبنتس بأنه فيلسوف تلفيقي؛ أعني فيلسوفًا يحرص على التوفيق بين المذاهب الأخرى وجمعها كلها في مذهبه الخاص. ولقد كان بالفعل يود أن يستوعب في مذهبه كل ما أتى به الأقدمون والمحدثون من «أفكار رائعة»، وأراد أن يأتي بمذهب يجمع بين «أفلاطون وديمقريطس وأرسطو وديكارت والمدرسيين والمحدثين، وبين اللاهوت والأخلاق والعقل؛ بحيث يأخذ أفضل ما في كل منها، ثم يتجاوزها إلى ما هو أبعد منها»؛ على أن هذه النزعة إلى الجمع بين المذاهب المختلفة ليس لها في كل الأحوال دلالة واحدة؛ فهي تكون مظهرًا من مظاهر الهزل الفكري، حين يعجز المفكر عن الإتيان من عنده بشيء فيملأ الفراغ بآراء الآخرين. ولكنها قد تكون أيضًا منبعثة عن ذهن ممتلئ بمعارف موسوعية شاملة، متفوق في مجالات متعددة للعلم البشري، ومن فيض هذه المعارف يتألف مذهبه العام، فهناك إذن توفيق ناشئ عن الهزال الفكري، وتوفيق ناشئ عن الامتلاء الفكري. ولقد كانت نزعة ليبنتس إلى الجمع بين المذاهب من النوع الثاني دون شك، فقد كان من الأذهان القليلة التي استطاعت أن تجمع أطرافًا متناثرة من المعرفة البشرية في مركب واحد متناسق تصطبغ فيه العناصر المتفرقة بصبغة العقلية الخاصة؛ بحيث يعد مذهبه «مرآة» تنعكس عليها كل جوانب الحياة العقلية في عصره وفي العصور السابقة، وتتلون — فضلًا عن ذلك — بلون مستمد من طبيعته الذهنية الخاصة.

على أن فلسفة ليبنتس لم تكن محاولة للتوفيق بين المذاهب الفلسفية المختلفة فحسب، بل لقد ذهبت إلى أبعد من ذلك، فحاولت التوفيق بين وجهة النظر الفلسفية والعلمية كلها، وبين وجهة النظر الدينية؛ ذلك لأن ليبنتس كان على وعي تام بالخطر الذي يهدد الدين من جراء الكشوف العلمية الحديثة. وهكذا حرص في فلسفته على أن يحدَّ من تطرف الكشوف العلمية وطموحها، ويحاول تحقيق نوع من «الانسجام» بين مجالي الدين والعلم، مثلما حقق هذا الانسجام بين مملكتي الله والطبيعة، ولم يكن اهتمامه بالتوفيق بين النظرتين الآلية والغائية إلى الكون سوى تعبير عن اتجاهه إلى تخفيف التعارض بين الدين والعلم، فهو من جهة يمضي حتى النهاية في التفسير الآلي للطبيعة، ويسهم بنصيب كبير في وضع الصيغ العلمية لهذا التفسير. ولكنه من جهة أخرى يحرص على إيضاح الأفكار التي يمكن بواسطتها فهم الطابع الغرضي الحي للكون. ومن المؤكد أن ليبنتس كان من أقدر الناس على القيام بهذه المهمة؛ إذ إنه قد استوعب بعمق الثقافة التقليدية المدرسية والفلسفات القديمة. ولكنه في الوقت ذاته لم يكن منعزلًا عن تيار العلم الحديث، بل كان له فيه دور كبير.

ولقد كانت وسيلته إلى هذا التوفيق ذات طابع مزدوج؛ فهو من جهة يؤكد أن الطبيعة لا تخضع للقوانين الآلية وحدها؛ لأنها ليست جوهرًا ممتدًّا فحسب، وإنما هي ذات طبيعة روحية في أساسها، ولما كانت هذه هي الفكرة الرئيسية في كتاب «مذهب الذرات الروحية»، فإن بقية هذا البحث سيتكفل بشرح تفاصيلها؛ على أن ليبنتس لا يغفل الوجه الآخر للمشكلة، وهو التقريب بين تصور الألوهية — أي التصور الديني الرئيسي — وبين العلم، فنظرته إلى الألوهية كانت علمية إلى حد بعيد، وهو يسمي التفسير الإلهي «حسابًا»، ويحمل بشدة على الفكرة القائلة إن القوانين العلمية تتوقف على المشيئة الإلهية، وأن الله كان في استطاعته تغيير هذه القوانين لو شاء، ويعبر ليبنتس عن فكرته هذه تعبيرًا واضحًا في قوله: «ومع ذلك ينبغي ألا نتصور أبدًا ما قال به البعض من أن الحقائق الأزلية لما كانت تعتمد على الله، فإنها اعتباطية متوقفة على إرادته على نحو ما يبدو أن ديكارت قد قال به، فهذا حكم لا يصح إلا على الحقائق العارضة التي تخضع لبدء المنفعة أو اختيار الأفضل. أما الحقائق الضرورية فلا تتوقف إلا على الذهن الإلهي، وهي الموضوع الباطن لهذا الذهن.»١

(٤) الأفكار الرئيسية في كتاب: «مذهب الذرات الروحية» مع نصوص مختارة من الكتاب٢

على الرغم من الطابع التوفيقي أو التلفيقي الذي لاحظناه من قبل في فلسفة ليبنتس، فإن هذه الفلسفة كانت تتسم منذ بدايتها بوحدة تدعو إلى الإعجاب، فمنذ كتابات ليبنتس الأولى، نرى لديه بوادر واضحة لمعظم الأفكار التي تضمنها هذا الكتاب الذي نعرضه الآن، الذي ألفه قبل وفاته بعامين فقط، ومن أهم هذه الأفكار التي ظلت تلازمه من البداية إلى النهاية: الاعتقاد بأن الوحدات الحقيقة التي يرتد إليها العالم ليست وحدات مادية، وأن العالم الحي لا الطبيعة غير الحية، وهو الذي يمثل الفردية بأجلى معانيها. هذا الاتجاه يظهر منذ أول بحث فلسفي كتبه ليبنتس، وهو البحث الخاص بمبدأ الفردية، الذي كتبه عام ١٦٦٣م، ثم يتردد في معظم كتاباته التالية. ولقد اتجه ليبنتس في البداية إلى استخدام لفظ «النفوس» للتعبير عن هذه الوحدات الأولية غير المادية، التي يتألف منها كل ما في العالم من أشياء مركبة. وكان في هذه التسمية متأثرًا — بطبيعة الحال — بتلك التجربة الاستبطانية التي نشعر فيها بأن الذات أو الأنا هي الجوهر الحقيقي لكياننا وأساس الفردية فيه؛ على أن القول بأن الطبيعة مؤلَّفة من نفوس، يؤدي إلى تجاهل الفوارق الأساسية في مراتب الكائنات التي يتميز بعضها بالنطق والتفكير، ويفتقر بعضها الآخر إلى كل مبدأ معقول؛ ومن هنا التمس ليبنتس لفظًا آخر، وجده في كلمة «ألموناد»، وهذه الكلمة اليونانية تعني أصلًا الوحدة الحسابية. ولكنها تحولت إلى معنى الوحدة المادية، أو الجزء الذي لا يتجزأ؛ على أن ليبنتس يضيف إليها معنى جديدًا؛ فهي عنده وحدة حية؛ أي إنها فردية الكائن الحي في أدق وأبسط مظاهرها، وهي موجودة وجودًا فعليًّا. وليست مجرد وحدة فكرية كالوحدة الحسابية، وهو يعرفها بأنها «جوهر بسيط، تشتمل عليه المركبات، المقصود بلفظ بسيط أنه لا يتجزأ، وحيث لا تكون أجزاء، لا يكون الامتداد ولا الشكل ولا الانقسام ممكنًا، وهذه الذرات الروحية هي الذرات الحقيقية، وهي بالاختصار عناصر الأشياء.»٣

وأهم ما يميز فكرة «ألموناد» عند ليبنتس من فكرة الذرة كما عرفها الفلاسفة اليونانيون القدماء مثلًا، هو أن الأولى دينامية في أساسها؛ فالذرة الروحية عند ليبنتس هي قبل كل شيء وحدة للقوة أو للنشاط والفاعلية. وبعبارة أخرى: فإن ليبنتس يريد أن يقول: إنه لا شيء حقيقي حتى في المادة نفسها، إلا ما هو نشيط فعَّال، وما هو في أساسه طاقة دينامية.

ويربط «ماير» بين فكرة الذرة الروحية وبين شخصية ليبنتس على نحو طريف يستحق أن نشير إليه هنا بشيء من التفصيل، فصورة الجوهر الفرد قد تكوَّنت عن طريق تأكيد ليبنتس لذاته في مقابل العالم.

وعبقرية ليبنتس الشاملة كانت تضفي على العالم صورتها. وهكذا تصور الذات على أنها داخلة في تركيب العالم، أو تصور العالم على أن فيه شيئًا من طبيعة الذات، فماهية العالم لا تُفْهَم من خلال الموضوعات الممتدة كما تقول الميكانيكا الديكارتية، وإنما تُفْهَم عن طريق تجربة ذاتية، هي بذل الطاقة والإرادة.

هذه الفكرة تُعَدُّ مظهرًا لشعور ليبنتس بالتقابل بين وجوده الذي يؤكد ذاته بوصفه وحدة عقلية أو جوهرًا فردًا، في مقابل تغير الزمان وتقلباته. وهذا الوجود لا يشعر بذاته وبوصفه شخصًا إلا نتيجة الجهد الفكري الذي يبذله من أجل إضفاء صورة على مادة التجربة الحسية. وهكذا فإن مذهب ليبنتس الديناميكي إنما هو «تعبير باطن واعٍ بذاته عن وجوده الخاص؛ إذ إن تحمسه الشديد للنشاط والفعالية إنما يرجع إلى وجوده الخاص»،٤ وبقدر ما يكون للذرة الروحية من إدراكات واضحة تكون فاعليتها، على حين أن الاختلاط في إدراكاتها يعني سلبيتها. وهكذا تتحدد مراتب القيم في هذا المذهب تبعًا لدرجة النشاط الروحي أو العقلي، أو وضوح المعرفة الذاتية،٥ ولكي يدلل «ماير» على ارتباط فكرة القوة هذه بصفات ليبنتس الذاتية ومسلكه الخاص في الحياة، يربط على نحو طريف بين النص الذي يؤكد فيه ليبنتس فكرة القوة في كتاب «المونادولوجيا» وبين نص آخر في رسالة سياسية، هي رسالة «الأمن العام» التي كتبها في وقت مبكر من حياته. وفيها يقول: «إن الذهن البشري لا يمكنه أن يسكن؛ فالسكون؛ أي انعدام الحركة نحو المزيد من الإدراك — إنما هو عذاب للذهن، ومن يعرف كل شيء يفقد لذة الكشف. كما أن من يملك كل شيء يفقد لذة الكسب، ومن هنا فقد أحس الإسكندر الأكبر بالقلق من أن يغزو أبوه العالم كله، فلا يترك له شيئًا يغزوه»،٦ وفي رأينا أن محاولة ماير هذه وإن تكن تنطوي أحيانًا على قدر من الإسراف، فإن فيها عناصر معقولة إلى حدٍّ بعيد، فأغلب الظن أنه لم يكن من قبيل المصادفة أن نرى ذلك المفكر الذي قضى حياته في صحبة الملوك والأمراء، وشعر بسطوة القوة وتأثيرها وأهميتها، وخضع هو ذاته لتأثيرها، وجاهر باحترامه لها، نقول: إنه لم يكن من قبيل المصادفة أن يجعل ذلك المفكر من فكرة القوة أساسًا لتفسيره للعالم، ومعيارًا للتفرقة بين مراتب الكائنات.

وإذًا فجوهر الأشياء جميعًا — في رأي ليبنتس — هو القوة عنده تصور أسبق من تصور الحركة نفسه؛ إذ إن الحركة — رغم ما لها من أهمية في تفسير الظواهر — ينبغي أن تُرَدَّ آخر الأمر إلى نوع من القوة أو النزوع. ومن المؤكد أن ليبنتس قد أدخل تغييرًا أساسيًّا على مفهوم الجوهر حين عرفه على هذا النحو؛ إذ إن الجوهر في الفلسفات التقليدية كان هو العنصر أو الأساس الذي يظل ثابتًا من وراء تغييرات الظواهر، على حين أنه يغدو — في معناه الجديد عند ليبنتس — متغيرًا فعالًا، خاليًا تمامًا من أي عنصر سكوني.

ولم يكن تقريب ليبنتس بين هذه الوحدات الجوهرية الفردية وبين النفوس البشرية مجرد تشبيه فحسب. بل إنه يعني بالفعل أن ذلك النوع الخاص من الوجود — الذي نستشعره في أنفسنا — منتشر في الكون بأكمله ولكن بدرجات متفاوتة؛ ذلك لأن الطبيعة لا تعرف انفصالًا ولا طفرات مفاجئة، بل إن «قانون الاتصال» يسري على كل أجزائها؛ ومن هنا قال ليبنتس بنوع من الحيوية أو الوجود الحي في الطبيعة بأسرها، وأكد أن الحياة النفسية منتشرة في جميع نظم الطبيعة، وإن كانت تتخذ صورًا غامضة في الكائنات الدنيا، ولا ترقى إلى مرتبة روحية تكتفي بالإدراك وحده Perception، وأخرى يتوافر لديها الإدراك الذاتي أو الوعي appercéption الأولى يسميها بالذرات الروحية المحض أو الكمالات entétéchies، والثانية هي النفوس البشرية، التي تتميز عن الأولى بازدياد تميز إدراكها، وبوجود ملكة الذاكرة والوعي لديها، وبمزيد من الإرهاف في حواسها.

وربما رأى البعض — عن حق — أن فكرة بعث الحياة في الطبيعة، أو تصور كل ذرة في الكون على مثال النفس البشرية، تفتح الباب أمام التفسير الأسطوري للأشياء؛ إذ إن الأساطير ما هي إلا محاولة لبعث الحياة في الكون بأكمله، ولتشبيه طبائع الأشياء كلها بطبيعتنا الخاصة. غير أن من المؤكد — رغم ذلك — أن ليبنتس قد أضفى على رأيه هذا طابعًا علميًّا مستمدًّا من قانون الاتصال الذي أشرنا إليه من قبل؛ فالطبيعة في رأيه تسير على نحو مطرد. وهذا مبدأ أساسي لا غنى عنه للروح العلمية الصحيحة. ومن الخطأ أن نتصور أن ذلك الجزء من المادة — الذي تتألف منه الأجسام البشرية — هو وحده الذي يرتبط بمبدأ نفسي أو روحي، وهو وحده ملكة الإحساس والإرادة، فمعقولية الطبيعة واتساقها مع نفسها تتنافى مع هذا التصور؛ وعلى ذلك فإن الروح العلمية الصحيحة — في رأي ليبنتس — هي التي تحتم القول بانتشار نوع من الحياة النفسية في الطبيعة بأسرها.

ومن المؤكد أن تطور علم الأحياء في عصر ليبنتس كان من أهم الأسباب التي دفعته إلى الأخذ بفكرة انتشار الحياة في الكون بأسره، فقد أتاح المجهر لبعض العلماء — وعلى رأسهم ليفنهوك  Leeuwenhoek — أن يكتشفوا كائنات عضوية دقيقة لا تراها العين المجردة في الأجسام المادية التي تبدو جامدة لا حياة فيها، ووجد ليبنتس في ذلك تأكيدًا تجريبيًّا لرأيه القائل: إن المادة التي تبدو غير حية تنطوي على عالم كامل من الكائنات العضوية الدقيقة المشابهة في طبيعتها لنا. وهكذا تصور الكون كله على أنه جسم عضوي لا متناهٍ يتضمن في ذاته أجسامًا عضوية صغيرة، وهذه بدورها تنقسم إلى أجسام عضوية لا متناهية في الصغر، فكل جزء من المادة ليس فقط قابلًا للقسمة إلى ما لا نهاية، وكل جزء منه يقبل القسمة إلى أجزاء لكلٍّ منها حركته الخاصة …

«ومن هذا يتضح أن هناك عالمًا للمخلوقات وللأحياء وللحيوانات وللكمالات والنفوس في أصغر أجزاء المادة.»

«ونستطيع أن نتصور كل جزء من المادة على أنه بستان مليء بالنباتات، أو حوض مليء بالأسماك، غير أن كل فرع من النبات، وكل عضو من أعضاء الحيوان، وكل قطرة من هذه السوائل، هو بدوره بستان أو حوض هكذا، حتى التراب والهواء الواقعان بين النباتات، أو الماء الذي تسبح فيه الأسماك، يحتوي بدوره على مخلوقات دقيقة لا تُرَى.»٧
فإذا كانت الحياة النفسية والقوة والنزوع منتشرة في الطبيعة بأكملها، فإن ذلك يعني أن كل ذرة تمثل الكون بأكمله، وتشعر بكل ما يحدث فيه، وكما اتضح في كشوف علم الأحياء أن بذرة النبات تنطوي في ذاتها على صورة الكائن بأكمله، وأن في البذرة نوعًا من التشكيل الأصلي Préformation، فإن معنى ذلك أن كل ذرة روحية تنطوي في ذاتها على مبدأ جميع تطوراتها المقبلة.
هذه الفكرة الرئيسية في فلسفة ليبنتس كان لها — كما رأينا — أصل تجريبي مستمد من تطور العلوم في عصره. غير أن في وسعنا أن نُرْجِعَهَا إلى أصول أخرى إلى جانب الأصل التجريبي، فقد استمدها ليبنتس من مبدأ منطقي عام، هو المبدأ القائل: إن كل محمول متضمن في الموضوع omne prqedicatum inest subjecto؛ بحيث لا تكون فكرته الميتافيزيقية إلا تطبيقًا أنتولوجيًّا لهذا المبدأ المنطقي. وفضلًا عن ذلك فربما استطاع المرء أن يردَّها إلى أصل مستمد من نمط الحياة التي عاشها ليبنتس ذاته؛ ففي حياته الحافلة بالنشاط السياسي والعملي كان كلما فرغ لنفسه وخلا لأفكاره؛ استخرج من ذاته كشفًا جديدًا أو فكرة رائعة؛ فالذات إذن تنطوي في داخلها على كل شيء، وتطوراتها كلها موجودة فيها ضمنًا، وتُسْتَخْلَص منها بالاستنباط، وهي رغم عزلتها تعكس العالم كله وتمثله، مثلما كان ذهنه يعكس معارف عصره كلها ويمثلها. ولقد كانت لهذه الفكرة الرئيسية؛ أعني فكرة تمثيل الذرة الروحية الواحدة للكون بأسره؛ بحيث تكون «مرآة» ينعكس عليها الكون في صورة مصغرة، وانطواء كل ذرة روحية على عناصر تطورها المقبل كلها، كانت لهذه الفكرة نتائج فلسفية متعددة، سنورد فيما يلي أهمها:

أولى هذه النتائج هي القضاء على الحد الفاصل بين الكون والفساد والميلاد والممات بحيث لا تكون هذه الأضداد إلا حالات طارئة تتعاقب على الذرات الروحية فحسب، ويؤكد ليبنتس أنه لا يعترف بوجود نفس خاصة تظل مرتبطة بكتلة معينة من المادة وتقتصر على رعاية شأنها؛ «ذلك لأن الأجسام كلها في صيرورة دائمة كالأنهار، وهناك أجزاء تدخل فيها وتخرج منها بلا انقطاع … ويترتب على ذلك أنه لا يوجد كون تام، ولا فساد أو موت كامل بالمعنى الدقيق، يكون قوامه مفارقة النفس. وليس ما نسميه بالكون إلا نماء وزيادة، مثلما أن ما نسميه بالموت إنما هو ضمور ونقصان.»

ومن النتائج المترتبة على القول بأن الذرة الروحية مرآة ينعكس عليها الكون كله، الاعتقاد بإمكان تحصيل معرفة كاملة عن طريق مجموعة من الأفكار البسيطة مرتبة ترتيبًا صحيحًا، فالأفكار البسيطة تؤدي على المستوى المعرفي نفس الدور الذي تؤديه الذرات الروحية على المستوى الأنتولوجي، وهي بدورها تعكس عالم المعرفة بأسره، وتكشفه لمن يستطيع أن يستنبطه منها. ولقد كان هذا الاعتقاد ملازمًا لتفكير ليبنتس منذ شبابه المبكر، وظل على الدوام مؤمنًا بإمكان وجود «أبجدية الفكر البشري»، وبإمكان التوصل إلى ذلك «العلم الإلهي» القائم على التحليل والرمزية والتركيب الجامع. وكان ذلك في رأيه أهم الأهداف وأجدرها بجهد الإنسان وسعيه، فإذا أمكن الاهتداء إلى قائمة كاملة بالأفكار البسيطة، وبالعناصر الأولية التي لا تقبل الانقسام في كل فكر بشري، فمن الممكن عندئذٍ أن نرمز لكلٍّ منها بعلامة، ويصبح استنباط كل الحقائق التي لم تُكْشَف بعدُ مسألة حساب وجمع فحسب، وعلى هذا النحو ينشأ «علم كلي»  Scientia universalis يتيح للإنسان فهم أدق أسرار الكون بطريقة حسابية رياضية دقيقة. ولقد كانت الخطوة الهامة التي اتخذها ليبنتس في سبيل بلوغ هذا الهدف، هي وضعه للدعائم الأولى للمنطق الرياضي، الذي قصد منه أن يكون أداة تدوين هذه المعرفة البشرية الشاملة. وفي هذا المجال كان ليبنتس رائدًا لحركة لم تستأنف سيرها إلا بعد وفاته بما يقرب من مائة وخمسين عامًا، ورغم أن المنطق الرياضي الحديث لا يضع لنفسه — في الوقت الراهن على الأقل — مثل هذا الهدف الطموح الذي قصد إليه ليبنتس، فإنه يدين لهذا الأخير قطعًا بفضل التمهيد لظهوره والقيام بالأبحاث الأولى التي أدى تطورها إلى نضوج هذا العلم.
أما النتيجة الثالثة لرأي ليبنتس هذا فهي فكرة الانسجام، وقد ظهرت هذه الفكرة عند ليبنتس نتيجة لوجود صفتين متعارضتين — الظاهر — للذرات الروحية عنده؛ فكل ذرة هي — حسب تعريفها — فردية تمامًا، منطوية على نفسها، ليست لها «أبواب ولا نوافذ» تطل منها على العالم الخارجي، غير أنها — من جهة أخرى — تعكس العالم كله من وجهة نظرها الخاصة، فكيف إذن يتسنى تحقيق الاتفاق بين وجهات نظر الذرات الروحية كلها؟ لا بد لذلك من وجود نوع من «الانسجام المقدر»  harmonie préétablie بين الكائنات كلها في الكون، ومصدر هذا الانسجام هو الإرادة الإلهية، التي شاءت أن تتفق إدراكات النفس الواحدة مع إدراكات كل نفس أخرى، مع أن كلًّا من هذه النفوس مقفلة تمامًا على ذاتها، ولا سبيل إلى اطلاعها على ما يحدث في الأخريات. وهكذا يرى ليبنتس أن الأصل الإلهي المشترك لكل النفوس هو الذي يضمن منذ الأزل حدوث انسجام بين إدراكاتها؛ بحيث يكون قد قدر لها منذ البداية أن تكون صورة متوافقة متسقة لعالم واحد رغم اختلاف وجهات نظرها إليه.

وتؤدي فكرة الانسجام هذه إلى حل مشكلة العلاقة بين النفس والجسم على نحو يلائم اتجاه ليبنتس الفكري الخاص. ولعل أفضل وسيلة لعرض طريقة ليبنتس الخاصة في اتخاذ فكرة الانسجام سبيلًا إلى فهم العلاقة بين النفس والجسم، هي أن نقدم مقتطفات من نصوصه التي يظهر فيها رأيه في هذه المشكلة بوضوح كامل.

يشرح ليبنتس في رسالة له أصبحت تُعْرَف — ضمن مجموع مؤلفاته — باسم «الإيضاح الثاني»  deuxiéme éclaircissement، رأيه في هذا الموضوع من خلال تشبيه طريف فيقول: «لنفرض أن هناك ساعتين متفقتين تمامًا كل مع الأخرى في الدلالة على الوقت، مثل هذا الاتفاق يمكن أن يحدث على واحد من أنحاء ثلاثة: أولها أن يكون هناك تأثير متبادل على الواحدة في الأخرى، والثاني أن يكون الاثنتان معًا خاضعين لعناية مستمرة من مشرف يدأب على ضبطهما، والثالث أن تظل كل منهما بذاتها دقيقة تمامًا في ضبط الوقت، والطريقة الثالثة تقتضي صنع الساعتين منذ البداية بمهارة وفن يضمنان لنا اتفاقهما في المستقبل، وتلك هي الطريقة التي أُطْلِقَ عليها اسم الاتفاق المقدر، فإذا وضعنا النفس والجسم محل الساعتين؛ لوجدنا أن اتفاقهما أو انسجامهما يمكن أن يحدث على واحدة من طرائق ثلاث: الأولى هي طريقة التأثير، وهي طريقة الفلسفة الشائعة. ولكن لما لم يكن ثمة وسيلة لتصور الطريقة التي يمكن بها أن تنتقل الدقائق المادية أو الصفات اللامادية أو الأنواع الحسية من أحد هذين الجوهرين إلى الآخر، فمن الواجب التخلي عن هذا الفرض. أما طريقة الاستعانة بمشرف فهي مذهب العلل الفرضية causes occasionnelles، ولكني أرى أن ذلك يعني إقحام الألوهية في حادث طبيعي مألوف ينبغي — وفقًا للمبادئ العقلية — ألا يتدخل فيه شيء مضاد للمجرى العام للحوادث الطبيعية، فلا يتبقى إذن سوى فرضي — أعني طريقة الانسجام المقدر — التي نقول فيها إن القدرة الإلهية الأزلية قد صاغت الجوهرين منذ البداية ونظمتهما بدقة تبلغ من الكمال حدًّا يجعل كلًّا منهما، في سيره وفقًا لقانونه الخاص الذي اكتسبه مع وجوده، يتفق تمامًا مع الآخر وكأن هناك تأثيرًا متبادلًا، أو كأن الله يتدخل بيده دائمًا ليُحْدِثَ هذا الاتفاق العام»، ويزيد ليبنتس فكرته وضوحًا حين يقول في «المونادولوجيا»:
ولقد أتاحت لي هذه المبادئ أن أهتدي إلى تفسير طبيعي للاتحاد أو الاتفاق بين النفس والجسم العضوي؛ فالنفس تتبع قوانينها الخاصة، والجسم كذلك يتبع قوانينه الخاصة، وهما يلتقيان بفضل الانسجام المقدر بين جميع الجواهر، ما دامت الجواهر كلها تمثل كونًا واحدًا، فالنفوس تسلك — وفقًا لقوانين العلل الغائية — عن طريقة النزوع أو الرغبة appétiton والغايات والوسائل. أما الأجسام فتسلك وفقًا لقوانين العلل الفاعلة أو الحركات، والعالمان — عالم العلل الفاعلة وعالم العلل الغائية — منسجمان فيما بينهما.٨

وهكذا ينتقد ليبنتس نظرية ديكارت، التي تقول بتأثير الجسم والنفس كلٍّ منهما في الآخر، على أساس استحالة هذا التأثير بين جوهرين: أحدهما مادي والآخر لا مادي، وينتقد نظرية مالبرانش التي تجعل تأثير النفس في الجسم مجرد «فرص» أو «مناسبات» لتدخل القوة الإلهية. ومن المؤكد أن ليبنتس — رغم أنه قد اعتاد التخلص من كل مشكلة تعترضه بالالتجاء إلى فكرة العناية الإلهية — كان في هذه الحالة يخفف من غلواء النزعة الدينية المتطرفة عند مالبرانش، الذي جعل التدخل الإلهي مستمرًّا في كل لحظة يحدث فيها تأثير من النفس في الجسم أو العكس. وليس معنى ذلك أن ليبنتس قد أنكر تدخل المبدأ الإلهي. ولكنه جعل هذا التدخل يقتصر على فعل الخلق الأصلي، الذي أدى إلى وجود الذرات الروحية أو الجواهر البسيطة، ولما كان هذا الفعل كاملًا منذ البداية، فإن كل شيء يسير بعد ذلك في طريقه السليم، ويتحقق الانسجام التام بين الجسم والنفس، على الرغم من أن كلًّا منهما يسلك وفقًا لطبيعته الخاصة، ولا يخضع إلا للقوانين التي تقتضيها هذه الطبيعة.

على أن الانسجام بين الجسم والنفس — داخل الكائن البشري — إنما هو تعبير جزئي عن ذلك الانسجام الأكبر الذي يسود الكون بأسره، فقد كان من الطبيعي أن يؤمن ليبنتس بأن العالم منظم ومعقول، وبأنه لا وجود لشيء ممتنع أو شاذ أو خلو من المعنى. وهكذا يستطيع العقل الخالص أن يدرك كل ما في الكون تبعًا لما فيه من ضرورة، ولما له من دلالة، ويختفي الشر من العالم، ويصبح كل شيء منظمًا واضحًا معقولًا، ولا يخلو العالم من كل خطأ وكل نقيصة، وهذه الفكرة واضحة كل الوضوح من العبارة الأخيرة في النص الذي اقتبسناه منذ أسطر قليلة، والتي أكد فيها وجود انسجام بين عالم العلل الفاعلة وعالم العلل الغائية. وبعبارة أخرى: فحين يسير كل شيء تبعًا لقانونه الطبيعي الخاص، يكون في الوقت ذاته قد حقق الغاية الإلهية المقصود منه، وتفسير الأشياء علميًّا يتفق وينسجم مع تفسيرها في ضوء الحكمة الإلهية، «فلا شيء في الكون يضيع بددًا، ولا شيء عقيم أو ميت، ولا اضطراب ولا خلط إلا في الظاهر فحسب.»٩
في هذا العالم الذي يسوده الانسجام، والذي هو — في رأي ليبنتس — أفضل عالم ممكن؛ لأن الكمال الإلهي يحتم ألا يتحقق بالفعل إلا أكمل ما يمكن أن يتحقق، في هذا العالم المنظم — الذي يتكشف كل شيء فيه للعقل وللمنطق — تقف النفوس في مراتب يعلو بعضها على بعض، وتحتل المرتبة العليا فيها تلك الأرواح العاقلة التي هي صورة للألوهية، والتي ترتبط بالله في علاقة أشبه بعلاقة المخترع بآلته، بل الحاكم برعاياه والأب بأبنائه،١٠ هذه الأرواح العاقلة يكون مجموعها ما أطلق عليه ليبنتس اسم «مدينة الله»، أي «أكمل دولة يحكمها أكمل الملوك.»

ويختتم ليبنتس كتاب «المونادولوجيا» بفقرات شعرية الأسلوب، تتضمن إطراءً «لمدينة الله» هذه وتمجيدًا لما يسودها من خير ونظام. وفي هذا النص يقول:

«هذه المدينة الإلهية وهذه المملكة الشاملة بحق، هي عالم أخلاقي في العالم الطبيعي، وهي أرفع أعمال الله وأكثرها ألوهية. وفيها يكون المجد الإلهي بحق؛ إذ إن هذا المجد ما كان ليوجد لو لم تكن الأرواح تدرك عظمته وخيرته وتعجب بها. وفي هذه المدينة الإلهية تتبدَّى خيرية الله حقًّا، على حين أن حكمة الله وقدرته تتبدى في كلِّ شيء.»

«وكما أثبتنا من قبل وجود انسجام كامل بين مملكتين طبيعيتين: إحداهما مملكة العلل الفاعلة والأخرى مملكة العلل الغائية، فينبغي أن نلاحظ هنا انسجامًا آخر بين المملكة المادية — مملكة الطبيعة — وبين الممالك الأخلاقية، مملكة اللطف الإلهي grâce؛ أي بين الله، منظورًا إليه على أنه مهندس آلة الكون، والله منظورًا إليه على أنه ملك مدينة الأرواح الإلهية.

هذا الانسجام يجعل الأشياء تؤدي إلى اللطف الإلهي بنفس مسالكها الطبيعية؛ بحيث ينبغي مثلًا أن يدمر العالم ويقوم بالطرق الطبيعية في اللحظات التي تقتضيها حكم الأرواح، من أجل عقاب بعضها ومثوبة البعض الآخر.»

ويمكن القول أيضًا: إن بوصفه صانعًا architecte يرضى في كل شيء الله بوصفه مشرعًا، وإن الخطايا — بالتالي — ينبغي أن تنطوي في ذاتها على عقوبتها وفقًا لقانون الطبيعة، وبفضل التركيب الآلي للأشياء، وإن الأفعال الصالحة — بالمثل — تجتذب بطرق آلية بالنسبة إلى الأجسام، وإن لم يكن من الممكن أن يحدث ذلك دائمًا على الفور.
«وأخيرًا، ففي هذا الحكم الكامل لا يمكن أن يكون هناك فعل صالح دون ثواب، ولا حكم فاسد دون عقاب، ولا بد أن ينته كل شيء إلى تحقيق صالح الأخيار، وهذا ما يجعل الأشخاص الحكماء والفضلاء يحرصون على فعل كل ما يبدو متفقًا مع الإرادة الإلهية المتوقعة أو المستبقة، ويرضون مع ذلك بما يصدر عن الله بالفعل عن طريق إرادته الغامضة، التي هي متسقة وحاسمة؛ ذلك لأنهم يدركون أنه لو كان في وسعنا فهم نظام الكون فهمًا كافيًا؛ لوجدناه يفوق ما يتمناه أحكم الناس، ولاتضح لنا أن من المستحيل جعله أفضل مما هو، ليس فقط بالنسبة إلى الكون في مجموعه، بل أيضًا بالنسبة إلينا على التخصيص، وذلك إذا ما تعلقنا كما ينبغي بخالق الكل، لا بوصفه صانع وجودنا وعلته الفاعلة فحسب، بل أيضًا بوصفه سيدنا، والعلة الغائية التي ينبغي أن تكون هي الهدف الكامل لإرادتنا، والتي تكون فيها وحدها سعادتنا.»١١

في هذه العبارات الصوفية التي يختتم بها كتاب «المونادولوجيا» يعبر ليبنتس بدقة عن نظرته العامة إلى الكون، وهي النظرة التي حاول فيها — كما قلنا في حديثنا عن الاتجاه العام لفلسفته — أن يوفق بين العلم والدين على قدر استطاعته. ولقد اتُّهِمَ ليبنتس بأنه يلجأ إلى فكرة العناية الإلهية ليتخلص بها من كل صعوبة فلسفية تواجهه، ولو تأملنا النص السابق جيدًا، لوجدنا لهذا الاتهام ما يبرره؛ إذ يصل به الأمر إلى حد الدعوة فلسفيًّا إلى قبول كل ما يحدث في الكون، حتى ما لا يكون في ذاته مفهومًا أو معقولًا؛ على أنه مظهر لحكمة إلهية غامضة لا نستطيع أن نحيط بجميع أطرافها، ولا يمكننا أن ندرك مقاصدها الحقيقة بعقولنا القاصرة. ولقد كان من الطبيعي أن يلجأ هذا المفكر — الذي قضى حياته وسط الملوك والأمراء والحكام — إلى تشبيه الكون بمملكة إلهية، وتشبيه الله بالحاكم أو «أكمل الملوك»، وشتان ما بين طريقة التفكير هذه وطريقة تفكير اسبينوزا (معاصره الأكبر سنًّا) الذي طالما نبه إلى خطأ تصور الناس لآلهتهم من خلال تصورهم لحكامهم.

ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن ننكر لليبينتس فضلًا كبيرًا، هو أن تأكيده لفكرة الغائية والحكم الكونية لم يتم على حساب القوانين الطبيعية، فهو لم يكن — مثل مالبرانش — على استعداد للتضحية بانتظام الطبيعة واطراد قوانينها في سبيل تأكيد القدرة الإلهية، وإنما حرص على تأكيد الاتفاق أو الانسجام بين انتظام الطبيعة وغائيتها، أو — حسب تعبيره في النص السابق — بين الله بوصفه صانعًا والله بوصفه مشرعًا. وربما كان ذلك أقصى ما يستطيع أن يفعله شخص مثل ليبنتس، كان ذا عقلية علمية نفاذة من جهة. ولكنه كان من جهة أخرى صفيًّا ومستشارًا لحكام رجعيين، وسواء آمن المرء أم لم يؤمن بالفرض الذي يقول به رسل، من أن ليبنتس كان ذا فلسفتين؛ إحداهما لاهوتية هي تلك التي أذاعها في كتاب «الحكمة الإلهية»، والأخرى علمية هي تلك التي تضمنتها أبحاثه وكتاباته المختلفة، فمن المؤكد، على أية حال، أن ليبنتس قد صان حقوق العلم، في نفس الوقت الذي حاول فيه — عن طريق فكرة الانسجام — أن يجعل للاهوت دورًا في تفسيره للعالم.

١  Monadologie. p. 46.
٢  لما كان كتاب «المونادولوجيا» قصيرًا، فقد آثرنا ألا نخصص قسمًا في نهاية البحث للنصوص المقتطفة منه، وأدمجنا هذه النصوص في العرض الذي نقدمه للكتاب، وسوف نرمز فيما يلي بالحرف M ويلي ذلك رقم الفقرة، وهذه الأرقام موحدة في جميع الطبعات.
٣  M. 1.3.
٤  R. W. Meyer: Leizbitn and the 17th Century Revolution (English Tranc). Cambridge 1952, p. 118-119.
٥  Ibid, p. 123.
٦  Ibid, p. 118.
٧  M, pp. 65–68.
٨  M, pp. 78, 79.
٩  M, p. 69.
١٠  M, p. 84.
١١  M, pp. 86–90.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤