مقدمة

بلغت البنائية — من حيث هي اتجاه فكري وفلسفي — ذروتها في السنوات الأخيرة من الستينيات في هذا القرن. وكان من الشائع في أوساط المثقفين أن يُنْظَر إليها على أنها «مذهب فلسفي»، ومن سمات المذهب الفلسفي — أيًّا كان — أنه يسعى بقدر إمكانه إلى الشمول، ويستهدف تقديم تفسير موحد لمجموعة كبيرة من المشكلات الفكرية، ويضم مجالات معرفية متعددة في إطار نظرة واحدة إلى العالم وإلى طبيعة الأشياء، وبالفعل وصل المد البنائي — في فترة الذروة هذه — إلى ميادين شديدة التنوع؛ ففي مجال اللغويات كان جاكوبسون Jakobson وشومسكي Chomsly يقودان حركة نشطة اتخذ منها الكثيرون نموذجًا ومثالًا يحتذى في ميادين أخرى. وفي ميدان التحليل النفسي كان «لاكان Lacan» يشد انتباه معاصريه بنظرته الجديدة إلى هذا العلم الذي كان يبدو — قبل نشر بحوثه — في حالة ركود نسبي. وفي النقد الأدبي كان «بارت R. Barthes» يفتتح عهدًا جديدًا في تفسير النصوص على أساس بنائي. وفي الميدان الفلسفي كان مفكر ميال إلى المحافظة مثل «فوكو  Foucault» يبهر جماهير المثقفين برؤيته الجديدة في كتابه المشهور «الكلمات والأشياء Les Mots et les Choses»، على حين أن مفكرًا ماركسيًّا أصيلًا هو «ألتوسير Althusser» كان يعيد قراءة الأصول الكبرى للفلسفة الماركسية — وخاصةً كتاب «رأس المال» ذاته — من خلال تفسير بنائي مبتكر، وقبل هؤلاء جميعًا كان «ليفي ستروس Lévi-Strauss» يواصل جهوده الرائدة التي كان قد بدأها قبل هذا التاريخ بما يقرب من عشرين عامًا، والتي استطاع بفضلها أن يجعل للبنائية مكانة بارزة على خريطة المذاهب الفلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين، على الرغم من أن ميدان تخصصه كان علمًا اجتماعيًّا وليس فلسفيًّا هو الأنثوبولوجيا.

على أن هذا الانتشار الذي جعل من البنائية مذهبًا فلسفيًّا شاملًا ما يقرب من عشر سنوات، لا ينبغي أن يخفي عن حقيقة هامة، هي أن البنائية لم تصبح مذهبًا فلسفيًّا إلا لأن المتخصصين قد تنبهوا في ذلك الوقت بالذات إلى الإمكانات الخصبة التي تكمن في فكرة «البناء»، إما الفكرة ذاتها، وإما مبدأ التفكير من خلال «بناءات»، فكان معروفًا قبل ذلك بوقت طويل، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إن البنائية هي — قبل كل شيء — «منهج» في التفكير، وبهذا المعنى كانت موجودة منذ عهد بعيد. ولكنها لم تصبح «مذهبًا» فلسفيًّا إلا بعد أن تنبه بعض المفكرين — بطريقة واعية — إلى أهمية هذا المنهج وحددوا معالمه بوضوح بعد أن كان يطبق بطريقة ضمنية دون وعي بكافة أبعاده. وكانت نتيجة الحماسة التي تملكتهم حينما اكتشفوا هذه الطريقة في التفكير أن جعلوا منها «مذهبًا» شاملًا يقدم تفسيرًا للمشكلات التي تواجه العقل في ميادين شديدة التباين، ومعنى ذلك أن البنائية — من حيث هي منهج — قديمة العهد. أما من حيث هي مذهب شامل؛ فهي ظاهرة حديثة في الفكر المعاصر.

ولكن على أي أساس نقول: إن البنائية — من حيث هي منهج — كانت معروفة ومطبقة منذ وقت طويل؟ ذلك لأن مجرد تطبيق نموذج رياضي على موضوع علمي معين، هو في ذاته نوع من البنائية، «فإذا أدركنا أن العلم الحديث — منذ القرن السابع عشر — لم يتمكن من تحقيق إنجازاته الضخمة إلا بفضل تطبيق النموذج الرياضي على الظواهر الطبيعية، كان في استطاعتنا أن نحكم بأن هذا العلم كان منذ بدايته «بنائيًّا»؛ لأنه استهدف الاهتداء إلى «البناء» الكامن وراء الظواهر الطبيعية، وعبر عن هذا البناء بلغة رياضية. بل إن كل علم لا بد أن يكون له من البنائية نصيب؛ لأن دراسته تَنْصَبُّ على بحث أنساق من العلاقات والروابط بين الظواهر.»١
ويؤيد بياجيه — عالم النفس المشهور — الرأي القائل: إن البنائية في تصميمها منهج قبل أن تكون مذهبًا؛ ذلك لأنها أسلوب فني متخصص (Technical)، وتقتضي التزامات عقلية معينة، تؤمن بالتقدم المتدرج. ولقد كان للمنهج الذي تمثله البنائية تاريخ طويل يشكل جزءًا من تاريخ العلوم. غير أن سماتها لم تُكْتَشَف إلا في وقت متأخر؛ وذلك لأسباب منها: صعوبة المنهج البنائي وتعقُّده، واتجاه العقل البشري إلى أن يتجاهل في البداية مفاهيم الاعتماد المتبادل بين الظواهر، والكل النسقي الذي تشكله، مكتفيًا بتفسيرات مبسطة موحدة الاتجاه. هذا فضلًا عن أن البناءات الكاملة وراء الظواهر لا تظهر للملاحظة المباشرة، بل توجد على مستويات لا يتم التوصل إليها إلا بتجريد مضاعف، أو على حد تعبيره: بتجريد «صور الصور Forms of Forms».٢

على أنه إذا كان للبنائية — بوصفها منهجًا — مثل هذا التاريخ الطويل، فإن ظهورها الذي يبدو على شكل انبثاق مفاجئ، والذي اتخذ صورة مذهب فكري متكامل، قد ارتبط بظروف تاريخية معينة، كان لها تأثيرها في الفلسفة الفرنسية بالذات؛ إذ إن أول البنائيين وأهمهم كانوا من الفرنسيين. فبعد الحرب العالمية الثانية كان إنتاج سارتر الغزير في ميادين الفلسفة والرواية والمسرحية والمقال السياسي هو المسيطر على الجو الثقافي الفرنسي. بل إنه تعدى نطاق هذا الجو الثقافي حتى أصبح «أسلوبًا خاصًّا للحياة» يتميز به عدد كبير من الشبان الفرنسيين في مظهرهم وملبسهم ومناقشتهم، هم «الوجوديون» الذين كانوا من المعالم الفرنسية المميزة في ذلك الحين، ولم تظهر قوة فكرية أخرى تتحدد آراء سارتر في الحرية «المحكوم بها» على الإنسان إلا في الماركسية، التي ركزت أبحاثها على قوانين التحول التاريخي، وأكدت حتمية الصراع الطبقي، ولم يمض وقت طويل حتى سعى سارتر نفسه إلى إزالة التعارض الحاد بينه وبين الماركسية، حتى وصل به الأمر إلى حد إعلان أن الماركسية لا يمكن تجاوزها، وأن فلسفته بالتالي تتخذ لنفسها موقعًا «داخل» الماركسية. هذا على الرغم من أن حركة التقارب لم تكن متبادلة من الطرفين؛ لأن الماركسية ظلت تهاجم النزعة الذاتية والمثالية في الوجودية، وتصفها بأنها نموذج واضح للأيديولوجية البورجوازية.

في هذا الجو ظهرت البائية لكي تدخل طرفًا ثالثًا في الصراع الفكري الذي سيطر على الثقافة الفرنسية في الستينيات، فأضافت وقودًا جديدًا إلى لهيب المعارك الدائرة بين المثقفين. وكان لظهورها دويٌّ كبير، لا لأنها أتت باتجاه جديد فحسب، بل أيضًا لأن التقابل بين الوجودية والماركسية — كما قلنا من قبل — كانت قد خفَّت حدته. وكان لا بُدَّ من ظهور خصم جديد يثير المعركة الفكرية مرة أخرى.

على أن البنائية كانت لها جذور فلسفية أقدم كثيرًا من العصر الذي ظهرت فيه، وأهم هذه الجذور — في اعتقادي — هو فلسفة كانْت؛ فالبنائية — مثل فلسفة كانت — تبحث عن الأساس الشامل، اللازماني، الذي ترتكز عليه مظاهر التجربة، وتؤكد وجود نسق أساسي ترتكز عليه كل المظاهر الخارجية للتاريخ. وهذا النسق سابق على الأنظمة البشرية؛ بحيث تستند إليه تلك الأنظمة زمانيًّا ومكانيًّا؛ أي إن هذا النسق «قبلي a priori» بمعنى مشابه لما نجده عند كانت. ولقد ظهر لدى البنائيين — على اختلاف اتجاه تخصصاتهم — ميل واضح إلى فكرة النسق الشامل، ووضع أطر أو قوالب أساسية تندرج ضمنها الكثرة الموجودة في الواقع. بل إن هذه الأطر والقوالب لها عندهم طبيعة عقلية، حتى لو اتخذت مظاهرها أشد الصور حسية، كذلك تدعو البنائية بدورها إلى نوع من الثورة الكبرنيكية مماثل لذلك الذي دعا إليه كانت؛ إذ تؤكد أهمية العلاقات الداخلية والنسق الكامن في كل معرفة علمية، وتسعى إلى تجاوز المظهر الذي تبدو عليه المعرفة من أجل النفاذ إلى تركيبها الباطن، وهي بدورها تترفع على النظرة التجريبية، وتؤكد أن تقدم المعرفة لا يتم عن طريق وقائع تجريبية يضاف بعضها إلى البعض، وإنما يتم عن طريق إعادة النظر في قوالب أو صور أو عمليات موجودة بالفعل. ولكنها تتخذ مظهرًا جديدًا في كل عصر. وأخيرًا فإن البنائية تتشابه مع فلسفة كانت في نقطة أساسية، هي أنها بدورها تستهدف أن تجعل من دراسة الإنسان موضوعًا لعلمٍ دقيق، وتحاول أن تهتدي إلى السر الذي جعل العلوم الأخرى تسير في طريق العلم الراسخ؛ لكي تطبقه على العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإن كان التركيز عند كانت ينصبُّ على العلوم الرياضية والطبيعية، على حين أنه كان في حالة البنائيين ينصبُّ على علوم أخرى، أهمها علم اللغة.
والواقع أن علم اللغة كان مصدرًا من أهم مصادر البنائية، وهو مصدر كان معترفًا به صراحة في كتابات البنائيين، على حين أن تأثير فلسفة «كانْت» في تفكيرهم كان ضمنيًّا في أغلب الأحيان، ولهذا الارتباط بين البنائية وبين اللغويات مبررات قوية؛ إذ لا يوجد «بناء» بالمعنى الصحيح إلا لما هو لغوي، وجميع المجالات المعروفة لا يصبح لها بناء إلا حين تتخذ طابعًا لغويًّا.٣
وفضلًا عن ذلك فإن للغة بالذات ميزات خاصة جعلت النموذج اللغوي يحتل مكانة خاصة في تفكير البنائيين؛ ذلك لأن اللغويين — منذ أيام العالم السويسري المشهور «دي سوسير Ferdinand de Saussure» في أوائل القرن العشرين — درسوا عناصر اللغة والسمات المميزة لعلاقاتها بوصفها أنساقًا لا علاقة لها بالعالم الذي تعبر عنه أو تدل عليه، فكانوا بذلك يطرحون مشكلات بنائية خالصة ويضربون مثلًا يُحْتَذَى للعلوم الإنسانية الأخرى التي لم تكن قد وصلت بعدُ إلى مرحلة الاستقلال عن مضموناتها واكتشاف تركيباتها الخالصة،٤ أي إن نجاح اللغويات — وهي قبل كل شيء علم إنساني — في بلوغ مرتبة العلم المنضبط كان عاملًا مشجعًا للباحثين في الميادين الأخرى للدراسات الإنسانية والاجتماعية على الاقتداء بهذا العلم الناجح في منهجه. وفي الهدف الذي يرمي إلى تحقيقه. ولقد عبر ليفي ستروس عن هذه العلاقة بين اللغويات وسائر العلوم الإنسانية تعبيرًا صريحًا واضحًا: إننا (يقصد علماء الأنثروبولوجيا) نجد أنفسنا — إزاء علماء اللغة — في وضع حرج، فطوال سنوات متعددة كنا نشتغل معهم جنبًا إلى جنب، وفجأة يبدو لنا أن اللغويين لم يعودوا معنا، وإنما انتقلوا إلى الجانب الآخر من ذلك الحاجز الذي يفصل العلوم الطبيعية الدقيقة عن العلوم الإنسانية والاجتماعية، والذي ظل الناس يعتقدون طويلًا باستحالة عبوره. وهكذا أخذ اللغويون، يشتغلون بتلك الطريقة المنضبطة التي تعودنا أن نعترف باستسلام أنها وقف على العلوم الطبيعية وحدها، مما ولَّد في نفوسنا قدرًا من الأسى، وكثيرًا من الحسد؛ إذ أردنا أن نكون صرحاء؛ فنحن نود أن نتعلم من اللغويين سر نجاحهم، فهلا يمكننا أن نطبق بدورنا على المجال المعقد لدراساتنا — كمجال القرابة والتنظيم الاجتماعي والدين والفلكور والأدب — تلك المناهج المنضبطة التي يتحقق عالم اللغة في كل يوم من فعاليتها؟٥

ويهمنا في هذا النص — الذي يذكرنا إلى حد بعيد بما قاله كانْت في معرض المقارنة بين الفلسفة والعلوم الرياضية والطبيعية في مقدمة كتاب «نقد العقل الخالص» — أن البنائيين الذين كان ليفي ستروس رائدهم بغير نزاع، ليسوا من أولئك الذين يبحثون للعلوم الاجتماعية والإنسانية عن منهج خاص بها، مرتبط بطبيعة الظاهرة التي تتناولها هذه العلوم وهي الإنسان، وإنما هم يؤمنون بأن «العلم» — سواء أكان طبيعيًّا أم إنسانيًّا — له منهج واحد، وأن ما يصلح لإحدى الفئتين يصلح — بعد تعديلات بسيطة — للفئة الأخرى، وأن العلوم التي تبحث في الإنسان تستطيع أن تمسك بطوق النجاة الذي ينقذها من عواصف التخبط والتناقض واللامعقولية إذا طبقت نفس المنهج الذي جُرِّبَ بنجاح في العلوم الدقيقة، وإن لديها في علم اللغة نموذجًا رائعًا لعلم إنساني تمكن من اللحاق بركب العلوم المنضبطة، تلك هي وجهة النظر التي ينطلق منها البنائيون، وهي تعبر عن فلسفة خاصة بهم، يمكن أن توجد فلسفة أخرى بديلة لها، هي تلك التي ترفض هدف الدقة والانضباط للعلوم الإنسانية أصلًا، وتؤكد أن هذه العلوم تقدر على أمور ولا تقدر على أمور أخرى، وأن لها سماتها الخاصة التي لا تجعل من محاكاتها لمناهج العلوم الدقيقة أمرًا مرغوبًا فيه. وبعبارة أخرى: فإن البنائية قد اختارت لنفسها طريقًا معينًا تسير فيه نحو هدف الدقة العلمية عند دراستها للإنسان، وهي تستعين أساسًا بالنموذج اللغوي من أجل تحقيق هذا الهدف، وقد لا نجد لدى بعض من يتبعون المنهج البنائي اهتمامًا كبيرًا بالنموذج اللغوي، كما هي الحال عند بياجيه، الذي بنى أبحاثه على نماذج منطقية. ولكن الاتجاه الغالب لديهم هو أن يتخذوا من تلك البناءات الشكلية للتركيب اللغوي في عمومه — بغضِّ النظر عن تركيب أية لغة بعينها وبغض النظر عن كل الدلالات اللغوية الخاصة — نموذجًا يمكن أن يقتدي به الباحثون في مختلف مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية.

ونستطيع أن نختم هذه المقدمة التاريخية بالقول: إن البنائية في أساسها نظرية في العلم (epistémologie)، تؤكد أهمية النموذج أو البناء في كل معرفة علمية، وتجعل للعلاقات الداخلية والنسق الباطن قيمة كبرى في اكتساب أي علم. ولكن الحماسة الفياضة التي أثارتها هذه النظرية في فترة تاريخية معينة — هي فترة الستينيات المتأخرة. وربما أوائل السبعينيات — أدت بالبعض إلى أن يعاملوها كما لو كانت انقلابًا فلسفيًّا شاملًا، وثورة فكرية جديدة تجعل من الذات مجرد حامل للبناءات. ومن التاريخ مجرد تعاقب لصور تظل في أساسها ثابتة، وإن اختلفت مظاهرها التاريخية؛ على أن هذا التوسع في فهم البنائية قد أدى في تلك الفترة بالذات، إلى بعض التشويه في صورتها، وإلى إقحام عناصر داخلية عليها، عندما أصبحت هي «الموضة» الشائعة، وعُوملت على أنها أيديولوجية جديدة كاملة، طُبِّقت على ميادين قد لا يكون المنهج البنائي صالحًا لها أصلًا. وهذا تطرف نجده في كل مذهب يبهر الناس بجدته وخروجه عن المألوف. ولكنه لا يصح أن يتخذ أساسًا للحكم على هذه الحركة الفكرية المثمرة.
١  انظر كتاب «البنائية والماركسية» Stucturalisme et Marixisme وهو كتاب اشترك في تأليفه مجموعة من الكُتَّاب، وأصدرته دار Union Génerale d’Edition عام ١٩٧٠م، ص١٠٢.
٢  Piaget: Structuralism (English trans). Routledge & Kegan pul, p. 136.
٣  Le Structuralisme p. 300..
Franςois châlelet: Histoire de la Philosophie (Hachette) 1973 Chapitre VII.
٤  Structuralusme et Marxisme. p. 104.
٥  Lévy-Strauss: Anthropologie Structurale. p. 80.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤