الباب المرصود لعمر فاخوري

لا أدري، ولست أدري لماذا لا أدري علة إبطائي في درس الكتب! فبعد عامين لا ينقصان ولا يزيدان وجدتني مُسيَّرًا لا مُخيرًا للكتابة عن «الباب المرصود».

طالعته والصفَّ المنتهي بابًا بابًا لم نخرم منه حرفًا، فكان لهؤلاء الفتيان فيه متعة لم أحسها عندهم من قبل. كثيرًا ما كنت ألجأ إلى غطرسة الأستاذية في أثناء قراءة الكتب الأخرى، فأحضُّ هذا وأحثُّ ذاك. أما في هذا المرج الخصيب ففي وسع الراعي أن ينام عن القطيع ولا يتولى رعيه أحد. كانت تخالط الاستفادة لَذَّة ترقص على قسمات الوجه، وهذا أبعد مدى يبغيه الكاتب أو القارئ من مطالعة كتاب.

أسلوب عمر فاخوري طريف قوي، وقلمَّا تجتمع الطرافة والقوة. فالكتاب لَذَّة للقارئين، ولكنها لذة غير مرمية على قارعة الطريق. جمال غير وقح، ملثم ببرقع خفيف يزيد الفتنة نعرة. فعمر كموسى يغطي وجهه حين يكلمه الرب.

لم يسم كتابه الباب المرصود عبثًا. يخيل إليك — إن كنت نحويًّا — أن ذلك من باب تسمية الكل باسم البعض، كما سمى أشياخنا أفعال المقاربة. ولكن لا، فعلى كل شباك ونافذة رصد. يحبس عمر في كل قمقم عفاريت ومردة تعجز عن إحضارهم عرَّافة عين دور، مصعدة صموئيل لشاول. يطمر في الطريق ألغامًا، ويزرع القنابل، ويمد الأسلاك، وهو يعدو عدو الشنفرى، فيحار فيه قراؤه ويجلسون فريقين في الغميصاء يسألون:

فإن يك من جن لأبرح طارقًا
وإن يك إنسًا ما كها الإنس تفعل

هذه مصيبة بعض الأدباء بالكتاب فكيف بالمتأدبين؟! ومنهم الذي قال في المقتطف: «ما هذا كتاب نقد.» كأن كتاب النقد كبطل مكفوفية البديع لا بد له من أجراس وجلاجل وشملة صوف … إذا كنت من ذوي الألباب والراسخين في العلم ففي وسعك أن تدخل هذا الباب الضيق، وتعود من عند الرصدة بالكنوز الثمينة، وإلا فابقَ في عرصات الدار وحسبك رؤية الداخلين والخارجين. ليست كل العيون تصدُق في إدراك الألوان.

قلما تخلو كتابة أديب أصيل من «رَصد» كما لا تخلو قرية من أخباره العجيبة، فإن كنت مِمَّنْ يخشون الأرصاد ولا تطيق الحياة في دنيا السحر والعرافة فما عليك إلا أن تبسمل وتعوِّذ بالآلهة من شياطين الفن.

في باب عمر المرصود حكايات فيها الغريب وفيها الواقعي، وفي قرارتها جميعًا لبٌّ يسيل له لعابك، فكدَّ ذهنك تصل، أو استعن بِمَن يقرئك بالمِدلِّ … وإلا فاعلم أنك لست من قراء هذا الكتاب العبقري. فلنبدأ: في «الشاعر وأبناؤه» حكاية الفتى عمر الفاخوري. ظن عمر الغلام أنه سوف يجدد الشعر العربي يوم نظم أبياتًا معدودة من قصيدته الأولى. أعجب بها إعجاب الأم «بطرفتها» يوم المولد وبعده، ولكن الأيام نكَّرت تلك الملامح وبدلت السيماء، فراح عمر يردد سقيًا لك يا عهد الصبا ورعيا، لقد كنت تسكر بزبيبة.

بطل «الشاعر وأبناؤه» عمر في الظاهر، أما البطل الحقيقي فكل شاعر يشفق على العرج والمخلَّعين والخرس والطرش والعمي والبله من بنيه وبناته … فيبلو بهم دنيا الفن، ويصبح عالم الشعر مأوى عجز وعوه، أو مستشفى مجاذيب. وإن لم يستخفك الطرب بهم مثله أحصاك في زمرة الحساد؛ إذ كيف تنتقده وهو يحسب أن لن يقدر عليه أحد، وأن شعره أُنزل في ليلة القدر؟

هذا أول قسط من المبلغ المرقوم أدَّاه عمر، مع الشكر، بأسلوب تحت زئبره المخملي إبر تلذع كتيار كهربائي خفيف يدغدغ ويؤلم. وفي الكهرباء شفاء الشلل.

وفي المقال الثاني وعنوانه «الباب المرصود» يخبرك عمر أنه شهد السينماء فوقع بين فتًى عربي وعجوز فرنجية بكيا تأثرًا. لم يزعم عمر أنه كان كالجزيرة بين دجلة والفرات حتى خشي الطوفان، ولكنه يشهد أن صاحبيه بكيا، وهمَّ بأن يتمشيخ في زمانه ويتولى عقد قرانهما فمنعته كراهية الدخول فيما لا يعنيه. وحسنًا فعل.

تظن وأنت تقرأ هذا المقال أن عمر يكتب فصلًا لا قرابة بينه وبين السابق واللاحق. والحقيقة أنه ابن عم لحًّا لهذه الأسرة الكريمة. فالمعالم التي ينصبها عمر في مفاوز مقالاته ترشدك فلا تضل «فهذا الفتى الباكي يمسح عينيه خائفًا من سخر الناس الذي سيعلمون أنه صدَّق ووقع في حبائل الفن.» ثم «وهكذا الفن، سواء الموسيقى والشعر وغيرهما يخرج المرء من طوره إلى طور ثانٍ» (ص١٩ و٢٠).

ورجل عمر خفيفة ينقلك من عند كاتب إنكليزي إلى آخر فرنسي، ثم يطير بك إلى دنيا «النرفانا» لتمام كروية الأرض. ويُسيِّرك ولا يُخيِّرك مع قوافل البشرية المنتقلة من أزل الآزال إلى أبد الآباد، فتستريح على مصاطب الصوفيين حيث السعادةُ خلف الباب المرصود … وهنا يتطاول عمر إلى معرفة ما وراء هذا الحائط فيقول: ولكن مَن تراه يفك الرصد؟ ويكون عمر في عداد الضائعين فبدلًا من أن يجد السعادة في أفيون بودلير يُمنِّي نفسه بالنعيم لأنه ممسك إلى صدره كتابًا … وكأن لسان حاله يقول: الكل باطل وقبض الريح.

وفي كنوز «الفقراء» يسرد عمر حكايات كثيرًا ما علل بها اللبنانيون غنى فلان وفلان، ويخبرك بسخر المعري المؤلم كيف أن المرحومة جدة أبيه — السيدة صفية — لم تأخذ نصيبها من البقرة المذهبة، وأن عمر كاد يكون غنيًّا في ظهر الغيب في النصف الأخير من القرن الثاني عشر للهجرة، وإن لم يكنه فلأن جدته المرحومة ما أرادت. وهناك قصص مواقد غير هذه ترافق نقل الشتاء والشاي الذي يشرب على ذكر الحبيب الربيع.

وهذه الأقاصيص التي تخلق على هامش الواقع عوالم غنية بالأحلام والأماني ليست وقفًا على وحي الأنبياء ووحي الشعراء، بل لها ينبوع يفيض ولا يغيض هو الآداب العامية التي لا يتجلى فيها الروح القومي فحسب، بل تترجم من جهة ثانية عن النفس الإنسانية على إطلاقها، فهي كالبقرة المسرجة بالذهب تحمل كنوز الفقراء (ص٣٠).

ففي «الباب المرصود»، كما ترى، سِلْكٌ يُنْظَمُ فيه هذا العقد الفريد، وما عناوينه إلا مسميات تدل على أعيانها. لم يشر عمر إلى الآداب العامية عبثًا، إنه يهيئك تهيئة دبلوماسية بقوة عارضة المدرك البليغ لقبول ما يعرضه عليك. أنت مقبل على باب حنين «شاعر الشعب» فاسمع ما يقول فيه؛ أي في عمر الزعني:

وهذه قصائدك بمبانيها ومعانيها وأغراضها لن تضيرها تلك اللهجة الوسط بين الفصحى والعامية، بل إنها في هذا الثوب المنوع الألوان البهيج الزي لأحسن استيفاء لشروط البلاغة في المعنى، والفصاحة في التركيب، من بدائع أدباء العصر الذين يحيون في منظومهم ومنثورهم على هامش الحياة. فقصاراهم إذن أن ينطرح أدبهم جثة على هامش الأدب الحق الذي لا يصدر، سواء كان فصيحًا أم عاميًّا، إلا عن مورد واحد.

أما الجثة فيبالغون في تنميقها وتزويقها وتأنيقها ولكنها «تواليت» الميت الذي لن يَخدع طويلًا. لن يَخدع في صفوفنا هذه الفئة الفتية التي تطمع فيما هو خير من نسخ الأقدمين وأعسر من تقليدهم، وتطمح إلى ما وراء صب الألفاظ في القوالب الجاهزة (ص٣٥-٣٦).

وفي فصل ثانٍ وعنوانه «حنين والشعر القومي» يتمادى عمر في إطراء عمر. وفي الثالث وعنوانه «العمود الهادي» — والعمود الهادي، أو الصوى بلغة البوادي، هو الذي يرشد أبناء السبيل إلى الجهة التي يجب أن يمشوا فيها — ويرى عمر أن الأعمدة الهوادي كثيرة في مجتمعنا «فإن مجتمعنا غابة من الأعمدة البكنسيفية الترتوفية.»

لا يدعك بكنسيف واحد إلا ليسلمك إلى ترتوف آخر، أما في أدبنا فغير موجودة البتة، فإن أدبنا مشغول بما لا أدري عن تمثيل نواحي الحياة وتصوير أخلاق الأحياء. أدب لفظي لا أدب حي (ص٤٤).

«لا تجد في غير أغاني حنين العامية تمثيلًا صحيحًا لنواحي حياتنا حتى لو أن مؤرخًا بعد خمسين سنة حدثته نفسه باستشهاد أدبنا على زماننا، أو بالتماس صورة لعصرنا في أدبنا لكان أكثر تعويله على ديوان شاعر الشعب حنين. لولا حنين لكان هذا العصر أبكم ليس فيه من يشهد له أو عليه، هو إذن شاعر العصر» (ص٤٥).

وفي الفصل الرابع وعنوانه «حنين والهجو الاجتماعي» يقول: «وليس الذنب ذنبه إذا كشفت له بصيرته عن عورات الاجتماع، فمثَّلها لنا بصورةٍ لطيفة بل «ملطفة». ومَن قال إن الفن رداء يجب أن يطرح على سوأة نوح في غفلته؟» (ص٤٦).

«فلا بد لنا في كلتا الحالتين من أن نحمد إلى حنين هذه النزعة المباركة في أغانيه العامية. هو أولًا الشاعر المجيد فنًّا، وهو أخيرًا المصلح المحسن أخلاقيًّا واجتماعيًّا» (ص٤٧).

ويرفع عمر فاخوري حول رأيه هذا دعائم من الباطون المسلَّح تسنده من الجهات الأربع وكأنه خائف عليه من غابات الأعمدة الهوادي، فأرانا أن في صراحة حنين «الملطفة» كل الحق، وأخيرًا فذلك رأيه «هكذا تريدون أدبًا صحيحًا فلندع الحياء الكاذب، وتريدون إصلاحًا أخلاقيًّا فلندع الرياء الاجتماعي» (ص٤٨).

فلنعد إلى هذه الأقوال كلها، مبتدئين بكلمة بنى عليها الأستاذ رأيه في حنين، وهي حجته القاطعة لجعل حنين شاعر العصر. الكلمة للفيلسوف رنان: «الأدب الحق في زمن ما هو الذي يصور ذلك الزمان ويعرب عنه» (ص٣٥).

أقول: إذا قصرنا الشاعرية والفن على تصوير العصر والإعراب عنه فحنين شاعر العصر بلا منازع كما سماه عمر، ولكن السلف الصالح يفهمنا في علم البلاغة أن التشبيه مثلًا، إذا كانت أداته مثل أو شبه لا يعدُّ تشبيهًا طبقًا «للمرسوم» الذي صدر في ذلك الزمان … فمما لا شك فيه أن أغاني حنين شعر رفيع، وأن أغاني حنين تشريح وبضع للدمامل والبثور الخبيثة المقيحة في جسمنا الاجتماعي، وأن أغاني حنين تدخل الآذان بلا استئذان، وأن أغاني حنين تضحك وتبكي في وقت معًا:

هرج ومرج، وسوق فرنج
وتكسيات بتكرج كرج
غرقانين بين النهرين
نهر إبراهيم ونهر الكلب

أشهد أن أغاني حنين أحب إلى قلبي ونفسي وعقلي من شعر فلان وفلان … وإني لأجاري الأستاذ عمر إلى أبعد مدًى وهو «أن لحنين كرامات في حياته وما هو من الأولياء.» وأنه «ما كاد يصرخ — كما قال ذلك البعض لعمر — في أغنيته من قلب مجروح قائلًا: «حاسب يا فرنك» حتى وقف بمثل كن فيكون» (ص٤٠).

كل ما كتبه عمر في تمجيد شاعرية حنين لا مبالغة فيه، ولا غلو ولا إيغال؛ فهو من ناحية «المطابقة لمقتضى الحال» شاعر فذٌّ. ولكن هناك شيئًا غير مطابقة مقتضى الحال والواقع. هناك مادة يجب أن تظل أولى في عناصر الفن، وهي اللغة. لا أقول الفصحى كما يريدها المتزمتون؛ ففي كلامنا ألفاظ وتعابير فصحى ولا تعد منها. فما ينقص الزعني غير هذا ليكون في أعلى عليين …

إن شعر الزعني كيفما قلبته لخير من قصائد كثيرة تُنعت بالعصماء، وهي منتهكة، وغراء وبوزها أسود … لا قرابة بين أبياتها، ولا «قران» بين ألفاظها، فكأنها بعر الكبش كما قال أبو الأدب العربي في شبيهاتها. إن شعر حنين لخير من هذا الشعر الخرُّوبي الذي لا فائدة فيه إلا أنه يلين المعدة، ويغني عن حبوب الدكتور روس. إن قصائده هذه لأفضل من شعر أصحابنا الذي يطرحونه في غيابة الجب فلا يراوده ذئب عن نفسه، ولا تسومه قوافل الحياة لتشتريه لأنه لا يجاريها: أدب ضفدعي قوته في حنكه ولا يعيش إلا في المستنقعات.

وقبل أن نودع على أمل العود لإكمال سياحتنا في دنيا عمر الباقية فإننا نحتكم إلى «الباب المرصود» فهو الخصم والحكم في قضية شاعر الشعب المحبوب، وما أحلى تلك الآية القائلة: من فمك أدينك.

قال عمر في فصل كنوز الفقراء (ص٣٠): «وإن في الآداب العامية أو «الفلكلور»، كما يسميها الإفرنج، لطرائف شائقة ممتعة غزيرة المعاني، سواء الأقاصيص والأمثال أم الأساطير والعقائد، توفر على العناية بها جمعًا وترتيبًا وتأويلًا كثير من اختصاصيي الغرب، اعتقاد أنها فنون غير الفنانين، وآداب غير المتأدبين، ودواوين غير الشعراء، لا يتجلى فيها الروح القومي فحسب، بل تترجم من جهة ثانية عن النفس الإنسانية على إطلاقها.»

إذن يا صديقي عمر، فليكن شعر صاحبنا الزعني: فن غير الفنانين، وأدب غير المتأدبين، وديوان غير الشعراء — يزاد عليها الرسميون — وهذا لا يسخط التقاليد العالمية ويرضي «العمرين» إن شاء الله.

يكبر في عيني عمر فاخوري كلما انفتح لي بابه المرصود، فكأن الذين بنوا تدمر بالصفاح والعمد كانوا في عون الأستاذ يوم شيد هذا القصر المسحور. أسمعت بكئوس أبي نواس التي في قرارتها كسرى وفي جنباتها المها؟ إنك لواجدها في هذه المأدبة الفنية التي أعدها عمر للجياع والعطاش إلى ملكوت الفن. أما عن الخمرة فلا تسل فهي كما قال ذلك: تؤخذ بالعين فتغفي إغفاءة عالمة.

إن قارئ الباب المرصود اللبيب — لا أعني لبيب المعري الذي ليس يغتر بكون مصيره للفساد، بل الذي يعشق الكون ويجن بجمال الحياة — كالسائح في لبنان تطل عليه المشاهد الغريبة كلما توغل فيه، لا يطوي قمة حتى ترتفع له ذروة، ولا يعلق نظره بشماريخ الجبال فيخاف على طربوشه من التدحرج حتى تنفتح تحته أشداق الأودية فيخشى أن يذهب بجملته. وهكذا يتقلب بين ذراعي الجمال والجلال ما استطاعت ركبتاه حمله. أما إذا كان عقله من صنف الطنك المصفح فحيلتي فيه قليلة. ففي هذا السفر الصغير لذاذات. هو ينبوع حيٌّ يتدفق من فكر فياض فينعش ويحيي، يوجه الأدب المريض في طريق النقاهة، يصف الداء والدواء ويرشد إلى الأجواء الطيبة والماء والغذاء ويفتح الأبواب والنوافذ للهواء والنور، ومن لا تعاوده الصحة والعافية على يد هذا النطاسي فانْفِضْ يدك منه وبشِّره بالموت. خير ما في هذا الطبيب لسانه فهو لا يبئسك إذا أنذر، ولا يطمعك بسواعد شمشون إذا بشرك بالسلامة. يترك شيئًا للقضاء والقدر ولا بد عنده من إذن.

نحن الآن أمام باب «الأحلام» وهو ذو ثلاثة أقسام. أولها البحث فيه غزاليًّا وديكارتيًّا وفرويديًّا، ثم الاستطراد في ختام الباب إلى أن الشعراء هم أهل الحلم. ومنهم السيد شفيق معلوف الذي نشر منذ أيام — سنة ١٩٢٦ — قصيدة عنوانها الأحلام — مجموعة شعرية صغيرة.

شفيق المعلوف هو صاحب عبقر بعد عشر سنين من ذلك التاريخ، وحديثنا مع شاعر عبقر ليس بسر. لا أعرض لهذا الفصل المثلث خوفًا من أن يحمى عليَّ غضب أبيه. إني أتجاوز هذا الفصل لئلا تعاودني ذكرى الماضي، ويزلق القلم زلقة أخرى فأغضب إمام اللغويين عضو المجمع الملكي المصري، وحجة المؤرخين صاحب دواني القطوف، والأسر الشرقية، فلا يلحق نسبي بجدي عبود الذي كان له عرش في الأندلس فخسرناه كما خسر صاحب الباب المرصود تلك الثروة الضخمة في منتصف القرن الثاني عشر للهجرة … أو بذلك العبود الآخر التقي النقي الذي قال الفيروزآبادي إنه أول الناس دخولًا الجنة، وإنه نام سبع سنوات فقط، وهب لا يرى إلا أنه نام ساعة من نهار! أو على الأقل بابن عبود وهو محدث.

هذه نعمة مسرولة من نعم الحسب ليس بالهين خسارتها. ألست كغيري من الذين ألحقهم الأستاذ عيسى المؤرخ المدقق بقريش وغسان، فأكثر المسلمين وبعض النصارى، ومنهم صديقي الشاعر أمين نخلة، أصبحوا بفضل المعارف قرشيين، وكل نصراني أمسى منسوب الجدين من غسَّان. إن لعيسى عجائب في التاريخ لا تقصر عن معجزات بنيه في الشعر! غفر الله لنا ولهم.

أما الآن فلنستيقظ من الأحلام فقد أطل علينا موكب «المرأة المجلوة»، وللمرأة عند عمر اليوم ما كان لها عند عمر الأمس «للمرأة المجلوة والمرآة الصدئة» عنوان عدة فصول يعرض فيها عمر للصوص الأدب، أصحاب الغارات السردابية الذين يسرقون عن سابق تصور وتصميم، والذين لا يسرقون متعمدين «ولكن لا ذاتية لهم واضحة، فشعرهم ونثرهم كالأمواج التي لا تفور حتى تغور زبدًا وتذهب جفاء» (٦٧). وشر هؤلاء جميعًا «حادث الجيل الأدبي الذي يقتل التقليد والصنعة والبيانات روح الصدق والبراعة والطبع فيه» (٦٨). ويلخص عمر ما قرأ عن الأدب الروسي بما نلخصه: تأثر بعض آداب الأمم ببعض كما هي الحال في أوروبا، ولكن التأثر هناك كان حافزًا إلى الخلق ولم يكن تقليدًا محضًا كما هي الحال عندنا. تأثرت آداب أوروبا بأدبي اليونان والرومان، ثم تأثرت روسيا بأوروبا فكان أثر التقليد أبين في الأدبين الفرنسي والإنكليزي؛ لأن عراقتهما في المدنية التالدة أبعدتهما عن الفطرة الخالصة فكانوا خاضعين للعرف والتقاليد أكثر من خضوعهم للطبع، فبانت في أدبهم تلك الكلفة التي تدعو إليها النظم الاجتماعية المتواضع عليها. أما الأدب الروسي فابتعد عن هذا فلم نرَ مسحة التقليد على ثمار قرائح كتَّابه.

يريد عمر أن يكون الأدب صورة كاملة للحياة، كما كان الأدب العربي الأول قبل أن يكافحه شرطي الأخلاق، فلم يبقَ منه إلا أثر ضئيل لم تكشطه تلك الأيدي الطاهرة العفيفة. وهو يرى أن أول أدبنا خير من آخره؛ لأن ذاك صادق وهذا كاذب. الجرأة مفقودة في أدب اليوم؛ لأنه تقليد أدب الأمس، وسير على «الطريق الموطأة الرود التي يتخبط فيها العميان من غير أدلة وعكاكيز.» (٧٣). فأفضل ما في أدبنا العربي نتاج طفولته؛ فهو «كالهرم قاعدته ضخمة، دق حتى صار رأسه كالمسلة، ويضؤل ويضؤل حتى يضمحل» (٧٢). وسبب إصدار هذه البضاعة المتماثلة هو أن «المواضعات الاجتماعية والأخلاقية» تصد الأدباء عن تصوير الحياة صورة صادقة. فأدبنا لا يصور حياتنا إلا كما تصور المرآة الصدئة المرأة المجلوة. أظنك أدركت الآن سر العنوان؛ فأدبنا الحاضر — المرآة الصدئة — لا يصور المرأة إلا مشوهة كالمرآة التي تمسخ الوجوه وتشوهها. فأدباء اليوم لا يخرجون إلا صور القدماء المعلومة «قد كالغصن، وجه كالبدر، ردف كالكثيب» وهلم جرًّا. وقصارى الكلام أن المرأة كما هي غير موجودة في شعرنا لأن الجمال والحب لم يوصفا وصفًا خليقًا بهما، فما هناك إلا عواري ينظمها الشعراء تحت كابوس الحلال والحرام، ولذلك لم يجرؤ شاعر أو كاتب على وضع قصة «دلالة الهوى» وإذاعتها بين الناس.

ويخص عمر امرأ القيس بفصل ممتع فيترحم بقلب مقروح على قائد الشعراء إلى النار، ويرى فيه شاعرًا صادقًا كانت حياته شعرًا، وشعره حياة، ويزعم أن القدماء ظلموا الأدب الجاهلي «فطمست المبالغة في الإشادة بمحاسن الدين الجديد على كثير من محاسن الوثنية؛ إذ صُوِّرَ ذلك العهدُ البائد بأشد الألوان سوادًا ليطلع منها العهد المحدث بأشرق وجه وأصبحه» (ص٧٩).

أجل، كذا كان نصيب الوثنية في كل دورة من دورات الزمان، فالناس على الرائح، فبعد اندحارها في أوروبا أنحى الكثيرون على قفاها بالسياط وشوهوا محاسنها الفنية التي كانت أروع مواد الفن. إن لعمر شركاء في دم يوسف. فهذا أناتول فرانس وغوتيه وغيرهما من كتَّاب فرنسا قد قدسوا الوثنية في معتقدهم — الفن للفن — أما في غير الفن للفن فعمر مسلم، والحمد لله، كما أنا مسيحي بنعمة الله. إنه لا يرى في الوثنية خيرًا أو أقل خير مما يراه في الدين القويم، وحسبك أن تقرأ آراء شرقية في مسائل غربية لتعرف أيُّ شيء هو عمر. ليس هذا عذرًا أنتحله له فهو يقول دفاعًا عن قوله بفضائل الجاهلية ومحاسن الوثنية: «لا يذهب الفكر إلى القيم الدينية والأخلاقية، وليس هنا موضع معارضة ذلك القديم الماثل في الحجارة بهذا الجديد الحي في القلوب، فإني قصرت الكلام على القيم الأدبية والفنية الصرف» (ص٧٩).

ما أجمل انتصار عمر للشعر الجاهلي في زمان يزمُّ قراؤه الجهال بأنوفهم إذ يقابلونه بشعر غوته وهيغو وبيرون وبودلير وغيرهم. إنهم يقيسون البداوة البكر بالحضارة الأرملة، فهل من يُفهم هؤلاء أن الشاعر الجاهليَّ قد صور حياته؟ فليصوروا هم حياتهم مثله بلا كذب ولا نفاق فينتجوا أدبًا يقرأ. أما يترك لهم كل صيف آلاف الأطلال ومئات الدارات؟ فحتامَ يضيعون اللبن؟

ويخشى عمر أن يكون قد أدى بالمسافرين إلى حيث لا يريد أن ينتهي بهم فيعود إلى شرح كلمة «لا أخلاقية» في الأدب فيقول: «لست أعني ما كان منافيًا للأخلاق المصطلح على أنها فاضلة، أو ما كان داعيًا إلى نقيضها حاثًّا عليه. كلا؛ فأنا أعني ما كان خلوًّا من الهموم الأخلاقية مجردًا من نية الوعظ وقصد العبرة، وأعني هذا ليس غير. قد تأتي العبرة الواعظة عفوًا وقد تكون أبلغ كذلك، ولكنها إذا لم تأتِ فيا للقرد! ليس هذا بضارِّ الأدب من جهة أنه أدب صرف.» (ص٨٣).

ما أكبر مصيبتك يا عمر! يريد أن يسوق ويغامر ويشق الطريق، ولكنه يتذكر الأعمدة الهوادي المنتصبة كمردة ألف ليلة وليلة … ويخشى أن يصطدم بها في منعطفات بحثه فيزمر ويدور بمهارة، ولكنه في كل حال يدور … ليس موقفه أقل ارتباكًا من موقف سكست فيلسوف بورجه؛ يريد أن يدافع عن «تلميذه» جرسلو فتعترضه عقبات لا يدري كيف يقطعها.

وينفذ عمر أخيرًا في هذا المضيق بعدما دوخه الطي والنشر فيقول: «كثيرًا ما سمعت إخوانًا لي يتساءلون منكرين: ما المغزى من هذا كله، وماذا يريد المؤلف؟ وأين العظة والعبرة؟»

قلت: إن هؤلاء الذين يستعيرون الأضراس ليطحنوا أكلهم سألوني كذلك حين قرءوا «الباب المرصود» فأجبتهم بكلمة عمر: في الفنون شيء غير القيم وغير الأحكام. وإني لعالم أن أحكام عمر صريحة، ولكن أمثال هؤلاء لا تهضم مِعَدُهم الضعيفة إلا الأعشاب والألبان!

لا أنكر على عمر أن جلَّ أدبنا «مرآة صدئة» كالمرآة التي جليت لبشار بقضاء وقدر، ولو لم يسبق السيف العذَل لما كان شيء من ذلك. أما هؤلاء فمن يجلوهم، لقد ذهبت ماويتهم ولم تبقَ إلا زجاجة لا تنعكس عليها الأشباح.

وينقلنا عمر من دنيا الواقع في الفن وتصوير الحياة بشحمها ولحمها إلى منزل آخر من نظامه الشمسي حتى يبلغ بنا برج الحمل أي دارة الوحي والإلهام. هذا البرج الجديد هو فصل من كتاب الشيطان، في الإلهام الشعري. لا تعجب إذا سمعت بكتاب الشيطان، فللشيطان مهمة لا بأس بها في الوجود، فالتوازن ضروري ليس في السياسة فقط بل في كل شيء. الخالق، عزَّ وجلَّ، خلق له خصمًا لأن الحياة بلا خصوم ناقصة مملة.

قال عمر: الشاعر ليس له شيطان كالرجل لا ظل له. ثم يحدثك عن الوجود وعدم الوجود، حتى يخيل إليك أنه غير موجود. ثم يأسف بتلك الروح الساخرة المسيطرة على كتابه كله كيف صرنا لا نرى الجن والشياطين بعد أن كانوا على اتصال دائم بآبائنا وأجدادنا! ويرينا بظرف يشبه الجد كيف كان لشعراء العرب شياطين تطرقهم حاملة إليهم بدائع الفن وطرائفه، فهم ليسوا مثل صديقنا السيد حليم دموس، مثلًا، الذي لم يطرقه الجن مرة واحدة ولن يطرقوه، لا إذا أوقد نارًا لطعامه، ولا إذا أشعل مصباحًا لنظم قصائده، فإن المسألة مسألة مزاج (٩٣).

وبمناسبة ذكرى أبي النجم القائل:

إني وكل شاعر من البشر
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

يستطرد أيضًا ويعرج على الشاعر بشارة الخوري فيلكمه لكمة عابرة، ولكن بقفاز تمرين محشو قطنًا: «لا ننسَ من شعرائنا من يؤثر أن يكون شيطانه أنثى، بشارة الخوري مثلًا.» ثم يقول: «ما أكثر الذين يسمون بالشعراء وهم في الحقيقة طواحين ألفاظ. ألك أيها الشاعر شيطان؟ إذن قل ثم قل، وإلا فانقلب طاحونًا على ضفاف العاصي» (٩٤).

ويروي طائفة من أخبار شياطين شعراء العرب والمغنين وغيرهم، وينتقل إلى الغرب فيرى أولئك القوم كالعرب في هذا الوهم ويستخلص أخيرًا: «إن كل فاعلية فنية أو شعرية عظيمة — في الفنانين والشعراء العبقريين على الأخص — لها جذور تستشري فيما وراء الإدراك؛ أي في المنطقة اللاوجدانية من النفس الإنسانية، ومن هذا اللاوجداني مادة الإبداع والاختراع.» (١١٠).

إذن الأستاذ عمر الفاخوري بشَّر بنظرية اللاوعي منذ سنة ١٩٢٦ ولكنه لم يُمنح العلامة المسجلة (اقرأ كلام بول بورجه، ص١٠٩).

بارك الله في عمر وأهاب بشياطينه ليأتوا إلى نجدته من كل فج عميق، وسترى أن لهذا الجني ألف شيطان مريد، أن أنجز «حنا الميت».

«الشاعر الشهيد»، «والشاعر السوق» فصلان يطري فيهما صاحبه عمر حمد. قال في هذا الصدد: كنت أدعوه «شاعري» ويدعوني «راويته». ولكن عمر أصمعي اليوم لم يرو لنا بيتًا واحدًا من شعر شاعره. حدثنا فقط أن هذا الشعر كان يثير في نفوس السامعين حماسة لا توصف وإعجابًا ليس له حدٌّ، ولو مدَّ الله في عمر الشاعر لأصبح في فحول شعرائنا (١١٦). إننا لنؤمن على السماع برأي عمر في شاعره ليكون أجرنا أعظم، وتتم فينا كلمة السيد: طوبى لمن لا يراني ويؤمن!

ولم يسلم العاملي من مداعبة الفاخوري فخصه بفصل عنوانه «ساعة من العاملي»، وفي ساعة فقط رأينا عمر أدهى من معاوية، ورأينا العامليَّ فإذا هو «رجل تعبت فيه الطبيعة كثيرًا» حتى أخرجته «ولم ترتجله ارتجالًا كما يرتجل هو الشعر.»

إن صاحبنا العاملي كغيره من الشعراء المدرسيين يهجس بالأولية في الشعر العربي، وإذا كان هنالك شيخ كار وشيخ شباب وشيخ خضرجية فكيف نبخل على الشعراء بأمير؟ العاملي في نظري أنا شاعر مظلوم. فيه غفلة إذا جئته من صوب الحكومة والشعر، فبيته عورة ومدينته مفتوحة، وكل ما ترغب فيه يجوز عليه ويصدقه. وقد يكون مشدوهًا عن نفسه كما قال أناتول فرانس، ومن هنا أتته العبقرية الشعرية. ففي الرجل مزايا عديدة منها ذاكرته العجيبة وقريحته السيالة حتى يكاد يكون قفَلة. وله شعر، وإن متفرقًا في قصائده الطويلة، يضعه حيث يضع هو نفسه. وقد يكون أصح الشعراء المدرسيين المعاصرين لغة، إذا استثنينا الشاعر أمين بك ناصر الدين الذي يضاهي العباسيين ديباجة. فالعاملي يطبع على غرار العرب، كما يريد أصحابنا الذين يرون خير الشعر ما كان كذلك.

أما الحديث عن الزهاوي تحت عنوان «الشعر والداما» فقل في طرافته ما شئت وليس من يؤاخذك، فهو خير فصول الكتاب في النقد الخاص. بلغ فيه عمر القمة في التهكم. نرى النقد في فصول الكتاب السابقة واللاحقة يكاد يكون عامًّا أو شبيهًا بالعام، أما في هذا الفصل الرائع فالنقد خاص يتجلى فيه كل أسلوب عمر الطريف وسخريته التي يمشي فيها الماء تحتك ولا تحس! أطنب عمر ساخرًا مكبرًا اختراع الزهاوي لمئات من أشراك لعبة الداما. ثم استطرد إلى رباعياته فقال: «وإذا كان كثير الاختراع في الداما فهو قليل التوليد في الرباعيات. وإذا كان للداما أن تخلد اسمًا فهي التي ستخلد اسمه: صاحب المائة اختراع بعد الخمسمائة، وسيقال في ترجمته في ذلك الموضع: كان أيضًا ينظم الشعر!»

تذكرني «في ذلك الموضع» كلمة أحمد فارس الفارياق، وهي في محلها مثلها وإن اختلف الغرض! وإذا كان رسول الله نظر إلى زهير بن أبي سلمى كما جاء في «الباب المرصود» وقال: «اللهم أعذني من شيطانه …» فعندي أن يركض الزهاوي إلى من على العرش استوى ويضرع إلى ذي الجلال، فلعل عنده سفيرًا داهية يوفده إلى عمر فتحل المشكلة ويمحى هذا الفصل من الباب المرصود! فهو وحده أشد من عذاب القبر على هذا الشاعر المسكين. إن مقال عمر اجتاح كل دنيا الزهاوي ولم يترك بها شيئًا حتى الأطم المشيَّد بالجندل. فمنجنيق عمر يقذف بالكبيرة والصغيرة، وأشهد أنني عدلت عن الكتابة في موضوع الزهاوي بعد ما قرأت هذا الفصل الخطير.

ثم يُعرِّض بفصلين لقصيدة اقتبسها المرحوم الشاعر إلياس فياض ولم يذكر اسم شاعرها الأصلي سيلي بريدوم. وهذه خطة كثيرٍ من شعرائنا. فالشعر بحر، وما أكثر القرصان!

لعمر في كتابه هذا خطَّا دفاع: أحدهما سلبي والآخر إيجابي. في أحدها دفع عمر شاعرًا معدودًا — الزهاوي — فأقصاه إلى أبعد حدود منطقة الشعر، وحسبه هذه البطولة في زمن — ١٩٢٤ — عدُّوا فيه الزهاوي شاعرًا خطيرًا، وكانت تحتفي بعبقريته العواصم وتطبع بيروت رباعياته. وفي الثاني يكتشف — ومهمة الناقد الأصيل الاكتشاف — شاعرًا جديدًا هو يوسف غصوب في ديوانه «القفص المهجور». يقدم عمر لهذا الديوان فيتحدث عن التجدد مبتدئًا بكلمة لريمي غورمون: «كل تبديل يطرأ على أدب أمة من الأمم فلا بد أن يكون ناشئًا عن علة خارجية أو أجنبية.» ثم يستعرض النزاع القائم بين القديم والجديد لافظًا هذا الحكم النزيه: «وإذا كان التبديل طارئًا على حياتنا في كل مظاهرها، فأين نجعل أدبنا كي لا يناله تبديل؟ هو هذا الطوفان «ولا عاصم اليوم»» (١٦٣).

وتعجبه الوحدة الكاملة عند يوسف غصوب المتأثر بالأدب الغربي «حتى يصح القول: إن مجموع «القفص المهجور» قصيدة واحدة.» ثم «ولهذا نقول: إن لشعر يوسف غصوب دلالة إنسانية بليغة عامة، وهي أولى مزايا الشعر وسائر الفنون» (١٦١) ولكن تأثر غصوب بالآداب والثقافة الغربية «ليس بضائر أسلوبه في شيء؛ فهو أسلوب عربي مبين، لا سمة للعجمة عليه» (١٦٦). «فالقفص المهجور» حادث أدبي ذو شأن، زهرة نضرة في هذه الأيام الجديبة، في بيداء حياتنا الأدبية، وزهرة واحدة — في عالم الشعر — تكفي لأن تملأ البادية أرجًا وطيبًا، وحسنًا فاتنًا، وحياة بهيجة. إن في هذا الديوان الفريد لعزاء لنا عن كثير من رزايانا لا سيما تلك القصائد والدواوين التي نطعن بها في كل حين (١٦٧).

وأخرج الشاعر يوسف غصوب «العوسجة الملتهبة» فضمها إلى القفص المهجور فكان منهما ديوان طريف شعرًا وإخراجًا. فأعد له عارفو قدره مأدبة سنية أكلوا وشربوا فيها على شرف عبقريته وفنه، فكتب عمر فصلًا سماه «المأدبة» مجَّد فيها الشاعر تمجيدًا يستحقه جهاده: «أليس من فضل الله علينا أن يأتينا بيوسف غصوب داعيًا، كرة بعد كرة، إلى إحدى المآدب الملكية التي يأدبها الشعر لأبنائه — صفوة الخلق — أنا أعني بعد «القفص المهجور» هذه العوسجة الملتهبة التي طلت علينا كعروس شقراء كما جلتها يد الماشطة، بل الطابعة» (١٦٨).

وما فرغ الأستاذ من كلمته للشاعر المختار حتى عاد فحلل نفسه هو فعثر فيها على ثالوث — طبعًا غير أقدس فالحقوق محفوظة — وهذه النفوس الثلاث فطست واحدة تلو الواحدة، وكان مدفنها جميعًا في شخصية صاحبها، فإذا هو كالأم المتئم تحمل في أحشائها أجنَّة موتى وإليك قوله: «ويلوح لي أن في نفس كل امرئ ثلاث جثث على الأقل: عنترة عبس، فسندباد ألف ليلة وليلة، فمجنون ليلى، في ثلاثة أضرحة مكتوب على قبرياتها: «هو الحي الباقي» دون تاريخ» (١٧٠).

أمد الله في حياة عمر ليدرك نفسه الأخرى، نفس زهير بن أبي سلمى! فكتابه هذا خير أثر في بابه، إنه إحدى أيادي «دار المكشوف البيضاء» على نهضتنا الفتاة، وهو خير بائنة لهذه العروس. فليت المدارس تجعله في منهاج دراسة الصفوف العليا فيكون للنشء خير دليل لهم في متيهة الأدب.

الخلاصة أن في هذا الكتاب مئونة، وذخيرة وعتادًا. لغة ناصعة نقية حافلة برموز شتى، طورًا قرآنية وأحيانًا شعرية. مادة طريفة مستقاة من ثقافة عميقة واسعة. تسيطر على كل ما في الكتاب شخصية قادرة لها أسلوبها الممتع فتجرف القارئ جرفًا. يستعين عمر على إخراج مقالاته بخيال خصب، ويؤثر الفصل على الوصل حتى تكاد تنفصم العرى أحيانًا. مولع بتعابير معلومة يرددها كثيرًا. ويا سوء حظ العصر إن لم يكن فيه عدة أخوة للباب المرصود.

هلم القلم والدواة يا عمر!

عمر فاخوري

عمر فاخوري أديب حسن السمت. في وجهه حيرة مقعدة، وابتسامة مغلقة لا تدل على صاحبها أكثر من دلالة بعض الأعشاب على ينبوع مكبوت في حشا أمه. حديثه متقطع مفردات وجملًا. لا يكر في حديثه، ولا يكركر في ضحكه، فأخونا في الأمرين مكره لا بطل. ليس بالكهاكه ولا بالجهم، وهو على سلامة البشر من يده ولسانه، عقدة يصعب فكها.

أقوى سلاحه، وأدل ما فيه عليه، تلك الابتسامة التي نوه بها عمر في «أديب في السوق» فقال: «لكني — لحسن الحظ — ابتسمت، فغاظته ابتسامتي الخفيفة كشيء إيجابي.»

أفلا ترى مثلي كم في قوله: «لحسن الحظ» من عرفان لقدر تلك الابتسامة الخرساء؟

وقد ذرَّ قرن هذه الابتسامة في الصبا فكلمت الناس في المهد، إذ «أضاءت عتمة الصف، فكسر الحساب عصا الجغرافيا على ظهر عمر.» كما حدثنا في «لا هوادة».

إن كيد ابتسامته لعظيم، فهي شكته، أديبًا ناقدًا، في «الباب المرصود» و«الفصول الأربعة» وهي عتاده، كاتب نضالٍ في «أديب في السوق» و«الحقيقة اللبنانية» و«لا هوادة». إنها لفي كل مكان، تتحدث بنعمة رب عمر على الأدب. وإن آسف، فما آسف إلا على الحوار الذي جرى بينه وبين منكر ونكير! أترى فعلت ابتسامة عمر فعلها هناك فأضاءت تلك العتمة الضيقة … عتمة القبر؟

من الخير أن نفي هذه الابتسامة الشاحبة حقها من التصوير؛ فقد كانت تشع في العينين والجفون والأنف والفم، حتى تخالها تطل عليك من شرفات الحاجبين. إنها موزعة في جميع قسمات الوجه، ولكنها في كل مكان أبرز منها في مكانها، أي الفم، فقلما كان ينشق انشقاق القمر!

«الباب المرصود» و«الفصول الأربعة» أحلَّا عمر مقامًا رفيعًا في الأدب. بصيرة نقاده تنفذ إلى الأعماق، وعينان كأشعة رنتجن، وأسلوب ملك صاحبه ولا غبار على عروبته، متأثر بلغة الكتاب العزيز والسلف الصالح، وفي جعبته — دائمًا — لقاح جديد، فيغرز إبرته الدقيقة برفق في الشرايين المتصلبة. واسع وعميق في الفصول الأربعة، يشبع الفن تمحيصًا، ويجول مع «آلن» صاحب نظام الفنون الجميلة، كما سماه، جولات جد موفقة.

يمزج أدب العرب بأدب الغرب، فيزاوج ويقارن بين الأدمغة المختلفة. يجسها جميعًا كأنه يقلب رءوس بطيخ لينتقي منها الأنضج والأذكى. فبينما تكون في حضرة المتنبي إذا بك تصدم بأبي نواس والجاحظ والجرجاني والبحتري … إلخ، وهيجل وفرانس ورنان ودوستوفسكي وبلزاك وفلوبير وديكنز. وكذلك شأنه في كتبه الأخرى فينقلك من عند كبلنغ شاعر الإنكليز، إلى مارك توين فكاهي الأميركان، إلى هبنَّقة نابغة العرب في الحمق، ولا ينسى غاليلو.

نعى عمر على الأدباء ترفعهم عن «الواقع» فسماهم أدباء من حبر وورق، لا لحم ودم. ثم هجر البرج العاجي الذي تعود الأدباء أن يكنكنوا فيه مجترين … ونزل إلى الساحة عارضًا رمحه، فأرانا كيف يَسمن الأدبُ على الواقع. وهكذا أصبح عمر كاتب نضال، ورجل عمل، ولكنه ظل أديبًا لم يتخلَّ عن أسلوبه ولا عن خياله، ولا عن الإخراج الفني لمقاله النضالي. فهو في النضال كرخِّ ألف ليلة وليلة، ينهضك من أعماق الأودية ليحط بك على شماريخ الذرى. إن فحص القلب ضروري لقارئ عمر، وإلا فمن يكفل سلامته إذا رافقه صعدًا وقدمًا، وانقضاضًا؟

يبدأ عمر مقاله النضالي فلا تدري إلى أين يذهب بك حتى تصل. تخاله يحدثك عن الأدب المحض، فإذا هو نضالي بكل ما بالنضال من شدة وقوة، قوة يخلقها الأسلوب، وشدة تولدها العاطفة الوثابة وفن تبدعه المخيلة، فتخلق أشياء من لا شيء.

إن عمر في مقالاته النضالية كفحول شعرائنا الأقدمين، كان أولئك يتغزلون ويتخلصون إلى الممدوح، وعمر يبتدئ بغرائب عجائب، تارة من عند ابن خلدون، وطورًا من عند ابن بطوطة. أسهم حادة تمده بها ثقافته الواسعة فيصوبها فكره الثاقب إلى غرضه بزخم رائع، فيهاجم الفاشستية أو يمدح السوفيات والحلفاء. فإذا كان للشعراء المداحين تخلصات غير حسنة، فأشهد أني ما وجدت لعمر تخلصًا غير ساحر.

يعجبني مزجه النضال بالأدب، ونفحة الروح الفنية في هذه المواضيع التي تلوكها الأقلام في كل ساعة. إنها لتخرج من معرض جمال هذا المزين اللبق بأحسن تواليت؛ حلي، وغلائل فتانة تستر العورة ولا تخفي الجمال، ولا تعفي على الفتنة.

لا يفارق عمود الأدب والفن في أحرج ساعات النضال؛ فهو السياسي الأديب، والمدافع عن قضايا «الحمر» بقلب لو عمر بمثل هذا الإيمان لأمسى في الجنة، وهو في حلل خضر! لا يقف عند الحوض، ولا يروعه عبور الصراط.

قالوا: ما دخلت السياسة شيئًا إلا أفسدته. أما أنا فأقول: حاشا أدب عمر. قد وطدت كتبه إيماني بأن الأديب الأصيل لا يتخلى عن خاصياته حتى في قاع جهنم، حيث تسيل النار أنهارًا، وتصطخب أمواجًا. اقرأ فصله «البرج العاجي» في «أديب في السوق»، تعلم أنك من الأدب في نقطة البيكار، وأن هناك درة ثمينة التقطها عمر من السوق. اقرأ كلمته عن لبنان في «الحقيقة اللبنانية» تعلم أن هناك مصورًا وشاعرًا يحدثك عن هذا الميليمتر من خريطة المسكونة.

قال الرسام الفرنسي النابغة دومة: يجب أن نكون من زماننا. فقال عمر: يجب أن نكون من زماننا، وفي زماننا، ولزماننا. ثم كان كما تشاء، وظل أديبًا كبيرًا.

يتكلم عن رسالة الأديب فيقول: «كان للأنبياء، وحدهم، رسالة. فإذا كل من عليها له رسالة: الطبيب، والمعلم، والصحافي، والمحامي، ويتبعهم الأديب، حلة مبهرجة لستر الفاقة. حبذا لو أن هؤلاء يقلون من التبجح برسالتهم أقل كثيرًا، ويكثرون من أداء وظائفهم أكثر قليلًا.»

فيتحدث عن لبناننا فيقول بأسلوبه المعهود: «لقد أتى علينا زمن في لبنان وبين الطائفة والأخرى، أو بين أبناء دين وأبناء الدين الآخر كالحدود التي تفصل وطنًا عن وطن. كدنا نحتاج إلى جوازات سفر بين الطوائف والأديان.»

أجل يا أخي عمر، وبكل أسف أقول لك: قلما نجد — حتى اليوم — من يؤشر على هذه الجوازات، ولأقل نسمة ترفع الطائفية أذنيها، ولأقل بادرة تقفل الحدود … كما كنت ترى بعينيك.

إن أسلوب عمر النضالي يحمل أبدًا سمة الأدب الرفيع. اسمع كلمة من فصلٍ عنوانه: «كل شيء يتغير»:

«كل شيء يتغير حتى النازية التي كان لها لبدة الأسد، تغيرت. ها قد نبت لها في الصقيع الروسي صوف حمل للدفء، وفي القيظ الأفريقي ساقا نعامة للهرب … أما الجيش الإيطالي فقد لبس بادئ بَدء جلد الحمار لعدم الفهم.»

وبعد؛ وما لي والتعجب! إن عبقرية الكاتب الكبير تقوده في جميع الآفاق والدرك. في مصنع يخرج منه كل ما يدخله مطبوعًا بطابع الفن، من ذبان الجاحظ إلى الانتخاب في لبنان عند عمر.

ليهنأ الاتحاد السوفياتي، فله في اللسان الروسي كاتبه العظيم الحي إيليا إهرنبورغ، وله في لسان العرب عمر فاخوري، أديب العرب الذي مات. كلاهما نضالي أديب، والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر، كما قال شاعر بني أمية، النضالي الأسبق.

عمر في يومه الأسود

لا أظنني أمنح عمر فاخوري وسامًا بعد الموت إذ أكتب عنه هذه الكلمة المغمومة. لقد تناولت عمر فيما مضى جملةً وتفاريقَ، والعهد بآخر كلمة غير بعيد. كنت فيها مصوِّرًا ومقارنًا وباحثًا جهد الطاقة.

لست آسف على سنوات عجاف يعيشها عمر ويمشي فيه أدبه مشية السرطان في بدنه. لقد أحسن القضاء صنعًا؛ إذ جذب ثنيي الطَّول المرخى وأراح عمر من بقاء هو فيه:

عليل في مكانين
من الأسقام والدَّين

كما قال الجاحظ عن نفسه في آخر العمر.

عدت عمر في أول مرة فخلتني أمام مومياء تحدثني، فارتعت ثم تجلدت لِئلا أريعه، ولعله قد رأى ذلك في وجهي حتى قال لي: وجهك أصفر!

فأجبته: الدرب طويل، والسلم عالٍ، وأنا ابن ستين، فاصبر عليَّ قليلًا يعد جمالي الهارب!

فابتسم ابتسامة دميمة جدًّا، وقال: تتهكم عليك إذا لم تجد واحدًا غيرك.

فقلت: ما وجدت ترياقًا لسم الحياة أشفى من الهزء بها وبناسها.

•••

رأيت اليرقان قد خلع على عمر كل ما عنده من زعفران، فسألته عما به، فأجاب بعد سكوت لا أجد له نعتًا: قلة العافية، وعناء الحمية. الغمرة انجلت، ولكن …

قلت: دعنا من لكن. السلامة غنيمة يا أخي.

فأطرق ولم يجب، وأطرقتُ مثله ألوم نفسي. وطال السكوت فقلت له: متى تعود إلى عشك؟

فأجاب بهزِّ شفتيه، فعلمت أن لليرقان أحلافًا تشد أزره في حرب عمر. ثم مشى بيننا حديث متقطع، موجع، انصرفت على أثره بأمل قصير الخطى.

وبلغني أن عمر عاد من عند أمه، فهُرعت لأهنئه بالسلامة فقالت لي الخادمة: معلمي في السبيتال.

فقلت: والست؟

فأجابت: معه. فكملت طريقي إلى المستشفى الأميركي فلم أستطع مقابلة عمر. وتَلْفَنْتُ مرارًا أسأل عن صحته، فكان الجواب بردًا وسلامًا.

ثم فصل بيني وبينه الصيف، فما ضيعت اللبن فيه. وعاد عمر إلى بيته فجئته مستكشفًا فرأيته لا حيًّا يرجى ولا ميتًا فيسلى. وتسقطت رأيه في نفسه فوجدته عريض الأمل، كبير الرجاء. وقعدنا حيث اعتدنا أن نجلس فلم يشك عمر الداء بل شكا سوء الحال وقلة الوفاء.

رجونا أن يكون سفيرًا أحمر فإذا به يمسي شهيدًا أخضر … ويتباحثنا الغد، فإذا بصاحبي متبرم ساخط، تعاون عسره ومرضه على هيكله الواهي. عافَ عمله في الإذاعة انتصارًا لوطنه فذاعت القلة في كيسه، وخسر موردين الإذاعة وكلية الآداب، وأثقل دَينُه ظهرَه. لم يبقَ له غير جراية وظيفته الحكومية وهي لا تسد ثغرة العقاقير، فاضطر إلى بيع أعز المقتنى، وكانت مكتبته كبش المحرقة.

قال لي: غدًا — وغدًا بمعناها اللبناني الواسع — أدع كل هذا وأنصرف إلى العمل حرًّا.

فقلت: وما نويت أن تعمل؟

قال: أعود إلى المحاماة، وأُعَلِّمُ معك إذا اقتضت الحال.

وحدقت إليه لعلي أدرك عمق يأسه، ومدى ألمه، فرأيت بريق زجاجتيه قد تضاءل، وزيت قنديله قد شح فقلت له: يا قليل العقل، تعود إلى المحاماة والتعليم بعدما خيمت في الشاطئ يا أبا منذر!

فانفرجت شفتاه زهاء مليمتر ولم يجب. فقلت له: كفاك الله شرهما يا عزيزي، فالذي لم يسهل عليك عمله شابًّا يعتاص عليك كهلًا. أما سمعت قول المثل اللبناني: بعد ما كبر وشاب حطوه في الكتَّاب؟

قال: ولم لا تقول: شيخًا؟

قلت: لكيلا أصير أنا هرمًا.

فضحك ضحكة فزعتني … ليس بينها وبين ضحكة الهيكل العظمي فرق كبير.

كان عمر قليل الكلام معافًى، فكيف به وقد هدَّ حيله اليرقان، وله كبد مقروحة لا يبيعه أحد بها كبدًا ليست بذات قروح. كان يعاني مرضًا كالنعاس يهد ولا يؤلم.

وثنيت عِنان الحديث صوب النوادر والفكاهة فوجدته لا ينشط لها، فعدت إلى دار المكشوف أحدث صديقنا الشيخ فؤاد حبيش عن الخطر العتيد.

•••

وفي خطرة ثانية سألت الشيخ الحبيشي عن حال عمر فقال لي: بخير، كان هنا. فقلت في قلبي: إذن ما أبعد الموت عنك يا مارون، إن صح عمر وسلم.

وذهبت إليه لأهنئه بالسلامة فوجدتني أقول عفوًا: لا تخدع نفسك، توقَّ ما استطعتَ. ما أراك كما أشتهي.

فأجاب: ما كنت يومًا في حياتي كما تروم أنت … أحس أنني أتحسن، ولا أدري إذا كنت أبلغ المرتبة التي أجلس فيها أمام قدح من عرقك المثلَّث، وخمرتك الدهرية.

فقلت: الله كريم!

ونظرت إليه فخلتني أرى ملامح رجل من وراء برقع، وأنني أمام شبح يمثل عمر. وقرأت أن أحدهم حمل إلى عمر وسام الاستحقاق اللبناني فقلت: ولِم هذه العجلة. خامرني ريب فيها فسألت أصحابنا فقالوا: لا، ولكنني رجعت إلى نفسي وقلت: إنه فأل غير مليح!

وعدت من «فرصة الربيع» ومعي لأخي عمر شيء من تلك التي شبه بها سليمان حب الشولمية في نشيد إنشاده. وما وضعت الأثقال لأفعل، كما قال الأخطل عن قطار فلسطين، حتى حمل إليَّ الأثير صوت الأستاذ رئيف خوري يؤبن صديقنا عمر. فضربت المكتب بجمع يدي وهجم الدمع إلى الخدود، ولكنه لم يتجاوزها، كعادته في المصائب الجلى.

إن حصة عمر محفوظة وستبقى مختومة على «السدة» ولا ترى النور إلا حين نشربها في عين كفاع مع إخوان عمر وأصدقائه، صانعين هذا لذكر كاتب عظيم مات.

سنصنع هذا الذكر ركنًا من أركان هذه النهضة، لذكر موظف عاش نظيف اليد والجيب. ما مدَّ يده قط، ولا اشتهى مقتنى غيره. عاش لا يفصل بينه وبين الناس ذاك التعفص الذي يتنكر به بعض الأدباء والمتأدبين لأصحابهم متى وظفوا.

كان لا طائفيًّا، ولكنه لم يتشدق يومًا بذم الطائفية كأصحابنا الأشد تعصبًا من الكهان، ثم يتفانون غيرة على الأوطان. كان عمر لا يصيح ولا يماحك ولا يداهن ولا يصانع، فظل حيث هو؛ لأنه لا يحسن المداجاة والمصانعة والمداهنة، لأنه أبيٌّ ثابت يزدري المنافقين والزنادقة الذين يكرون مع كل خيل مغيرة.

ترك ما ترك من موارد رزق تعصبًا لبلاده، وانتصارًا لها، ولم يشعر أحد بما صنع، ولو فعل ذلك غيره لأقام الدنيا وأقعدها.

عاف موارد رزقه وعاش مكثورًا عليه ليتضامن مع بلاده. فعل كل ذلك صامتًا؛ لأنه ليس من الذين يجعلون من الحبة قبة، ومن القبة جبة … لأنه من غير الذين يجمزون كالقبابيط في حقل المراتب، ويدعسون على جثث أصدقائهم ليرتقوا درجة ويكسبوا ليرة ورق.

إن هذا الاستطراد يجرني إلى الكلام عن شخصيته. لم يكن عمر حسودًا ولا حقودًا، كان على ما فيه من شمم وإباء لا يزهى ولا يتكبر. كان محبًّا وإذا أبغض أعرض وازدرى، وخرج بالصمت عن لا ونعم كصاحبة بشار.

كان فمه نظيفًا لا يتبدل حتى في المجالس الخاصة التي كنا نعطي فيها المرح حقه. فكان يقابل تلك النكات الصارخة بربع ابتسامة، ويشارك بكلمات كان يستعد لتأديتها استعداد طالب غير واثق من ذاكرته.

ولم يكن عمر عدوًّا في ثياب صديق، ولم يكن من الذين يقتلون الرجل ويمشون في جنازته شاقين الجيوب حزنًا على الفقيد الغالي. أما في الأدب فكان مؤمنًا ولكنه غير ممارس الطقوس المنظمة. يصلي لآلهة الفن بما يدور على لسانه … لم يكن أديبًا محترفًا بل كان أديبًا هاويًا. كان كسميه عمر — غفر الله لهما — موكلًا بالجمال يتبعه. كان لعمر بن أبي ربيعة، لذة النظر، كما زعم، وكانت لعمر فاخوري لذة العمل الفني، وما معشوقاته غير الكلمات اللواتي يؤلف بينهن ولا يجعلهن ضرائر … أولع بالجديد ولم يتنكر للقديم فكان من خير من كتبوا بلسان العرب من المحدثين.

وأخيرًا مات هذا النسر وعينه إلى القمة، لم ينظر قط إلى الأوحال التي يتمرغ بها بعض زرازير الأدب.

لا أقول: إن خسارة الأدب العربي لا تقدر أو لا تعوض، فحسب الذرية ما تركه لها عمر من نماذج، وقد لا يصنع أجمل منها لو عمَّر كمتوشالح.

في ذكرى عمر١

لقد أشبعت عمر درسًا في حياته وبعد مماته. أما الآن فسأتحدث إليكم كما يطيب لي أن أتحدث، ولعله يطيب لكم.

أفلا يعنينا من الأديب غير تعبيره وتفكيره؟ فأين نحن من أخلاقه؟ ألسنا أحوج إلى هذا منا إلى غيره من الخصال؟

مساكين أهل «الفن» حتى قبورهم
عليها تراب الذل دون الخلائق

أسرجوا الخيول، واقرعوا الطبول. أي خيول يا سادة؟ خيول الفكر لتجلى في ميادين الورق، وطبول الخطب لتقرع في حفلات التكريم والذكرى، مسكين الأديب! يعيش على الكلام ويموت على الكلام. فكل ما يُعمل للأدباء عندنا هو من بضاعتهم تلك. «حَكْيٌ بِحَكْيٍ» والذي مات بداء الحكي غمًّا نحاول نحن أن نحييه بالحكي، ثم نعد هذا خلودًا.

خلود، نعم خلود. قال جبران: «يقولون: لن تعرف قدرك حتى تموت. لقد أصابوا؛ فمن يا ترى يعرف طبيعة البذور التي تطرح في الأرض قبل أن تنبت؟»

هذي غير تلك يا جبران، وأنا لست على رأيك في هذا القول؛ لا بد أن أموت ليعرف الناس قدري. فيوم حلو جميل، وأمسية أو عشية نتمتع بها بمثل هذا الاجتماع بكم يا سادة، يسوى ألف خلود أدبي بعد الموت. وما هذه الآمال والأمانيُّ إلا تعلَّة البائسين، وجلهم من الأدباء.

هذه علكة كالتي يلهون بها الأولاد عن أكل لباب اللوز حين يستأجرونهم لتكسيره. ما لنا ولهذا الخلود الكاذب! أنعيش فقراء منكوبين بجيوبنا، أينعم سوانا بخيرات الأرض لننعم نحن فيما بعد بحفلة تكريم؟ أليس كل راحلٍ عظيمًا؟ أليس كل ميت عبقريًّا؟

أنا لا أقول ما قاله الحجاج: والله ما أحب أن ما مضى من الدنيا لي بعمامتي هذه. يظهر أن عمامته تلك كانت أرثَّ وأعتق من عمامة نقولا الترك التي سأل الأمير بشيرًا أن يعتقها مع ذلك الشروال!

وبعد؛ فلنفترض أن أديبًا عظيمًا مات، فمن يشعر بموت هذا الأديب غير المصابين مثله بداء الكلام؟ يموت رجل وراء الكيس، منتفخ الصندوق، فتهتز الأرض بالطول والعرض، حكومة وشعبًا. ويموت الأديب الألمعي فلا يشيعه غير جيرانه وإخوانه.

وبعد هذا، ماذا؟ اسمعوا. علينا أن نقيم لنوابغنا آثارًا مشهودة لنحث شبابنا على اقتفاء آثارهم؛ فقد كادت لحية لبنان أن تنصل. علينا أن نعزز الأديب حيًّا ليقتدي به النشء ويكون للوطن غيره، وإلا انقطع النسل الأدبي. فهذا الأديب العظيم الذي اجتمعنا لإحياء ذكراه الليلة، أتعرفون ماذا حل به قبل أن لفظ روحه؟ لقد مات معوزًا وكفى، وما يوم حليمة بسرٍّ. فلننتقل إلى أدبه.

قرأت بعد موته صفحة من إنشائه فكدت أنكرها لو لم يثبت لي ذلك خطه. تسمعون ولا شك بالعملية القيصرية، هكذا كان عمر يضع مواليده. اثنان كانا مقلين مجيدين: جبران وعمر، وكلاهما كان صائغًا متأنقًا، وقد عرفت ذلك بعد اطلاعي على مخلفاتهما التي لم تبع كمخلفات الجيش.

كان عمر صريحًا لا يواري ولا يوارب، وحسبك منه قوله: «فإذا بما يفيض من عبقرية جبران يروي بطاح المستقبل، بينما عبقرية شوقي مسفوحة على هضاب الماضي. شوقي من الشرق وجبران من الغرب، فلا يلتقيان إلى يوم القيامة. ويغلب على الظن أن الشرق سيظل كامرأة لوط، في موكب الزمان، ناظرًا إلى وراء فيمسخه الله صنمًا من ملح؛ أي من دموع جوامد، على حد قول أَنْدِرِهْ جيد الذي يزعم أن لوط ضاجع ابنتيه في إحدى منعطفات التاريخ، وهو ناظر إلى المستقبل!»

أجل، كان لعمر فصول ولكنها روائع حقًّا لأنها ملك صاحبها، وعليها ماركته المسجلة.

أما وقد انتهيت من عمر، فلا بد من كلمة دعت إليها الحال. أما حان للأدباء أن يدعوا الشكوى؟ فأصحاب أرميا كفوا عن البكاء!

الأدباء من المواطنين، ولهم من الدولة ما يطالب به كل مواطن منكوب بزلزال، ولهم أسوة بمن ذهبت الثلوج والعواصف بموزه وليمونه.

الأدباء دعاة الأمة ولهم على الدولة ما له عليها كل رجل من رجالها. فأناشد الله من يعنيهم الأمر أن لا يتركوا الأديب حتى يموت ليتبرعوا بتجهيزه!

إن يومًا هانئًا على وجه الأرض لخير من كل ما يُعمل له وهو في بطنها. إذا ذهبت النفس فلا أسف على الجيفة.

وأنتم أيها المحتفون بذكرى عمر، هلموا بنا نعمل أثرًا يحيي ذكرى عمر في غير هذه القاعة أيضًا. أخرجوا الأديب إلى السوق؛ فينعم بمشاهدة أبطاله. لقد كثرت ضيوف المكتبة الوطنية، وإنني لأخاف أن تضيق صدورهم يومًا فتعلوا صيحتهم، ويتكلم كل منهم على هواه، فما يفهم الحداث إلا التراجم. فهيُّوا بنا نخرج الخالدين إلى الهواء الطلق.

رحم الله مَن سمع ووعى، والسلام عليكم.

١  ألقيت هذه الكلمة في دار المكتبة الوطنية ببيروت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤