الوعي القومي للدكتور زريق

الجامعة الأميركية وقوميتنا

١

كما يرث الفتى عن أسرته غرائز شتى كذلك يرث عن مدرسته أشباه الغرائز، فالمدرسة الرشيدة صيقل يجلو العقول المرهفة، وأم تدرِّب بنيها وتسيرهم في اتجاهات عند غايتها الخير للفرد والمجموع.

يذكرنا الدكتور قسطنطين زريق بالبلد الطيب الذي أخرج نباته بإذن ربه؛ فهو ابن محيط أنبت ديك الجن في القدماء، وكرامه والجندي في فجر نهضتنا. فالدكتور إذن عريق النسب في دنيا العلم، لست أقول دنيا الأدب؛ لأن قسطنطين كما يشتم من كتابه «الوعي القومي» راغب عن هذه الأسرة الثرثارة، وإن كان منها في الصميم أسلوبًا وتعبيرًا … ففي كتابه هذا بروق أدبية ورعود بيانية لا بد لنا في نهاية هذا المقال من أن نضع أصبع الدكتور عليها ليؤمن توما أنه يجري في تيار الأدب الجارف من حيث لا يدري.

قلنا: إن للمدرسة الأثر الثاني بل الثالث في تكوين الشخصية، والجامعة الأميركية بيت العلم العتيق في ربوعنا، يحج إليه المؤمنون بالثقافة ومعجزاتها. كانت هذه المؤسسة ولا تزال منبتًا للرجال، ومزرعة تغرس فيها فسائل العقول الحرة، فتصبح الحبة شجرة إنجيلية تأوي طيور السماء إلى أغصانها. وقد أجاد الدكتور فياض حين أشار إلى هذا المعهد الرفيع العماد بقوله:

هذي منارة رأس بيروت
وذا علم الهدى

يغتبط المرء وتستولي عليه عاطفة الإكبار والإجلال حين تقع عينه على تلك المدينة العلمية المنتثرة بيوتها على رأس بيروت كأنها الجنائن المعلقة. ولا عجب أن رأينا كتاب «الوعي القومي» يطل علينا من بوابتها فهي منذ ست وسبعين سنة تتاجر بهذه الوزنات … فإلى ربيبة فنديك المستعرب أصدق التحيات وأطيب التمنيات، وإلى روح فنديك الذي أحب العرب ولغة العرب أسمى الاحترام وأبلغ التقدير بمناسبة مرور قرن كامل على مجيئه إلينا — ١٨٤٨.

تمشرق الدكتور فنديك قلبًا وقالبًا حتى إذا نظرت إلى رسمه المشهور تخالك بحضرة شيخ من بني تميم، لا أميركي صميم. فالغرسة الأولى في حقل القومية العربية منشؤها الجامعة الأميركية وبستانيُّها فنديك. والجامعة أول معهد شرقي غربي اعتمد التأليف العلمي في لغة العرب، ودرَّس الطب وما يتبعه من فروع علمية باللسان العربي المبين. ولا تزال طبعاتها العلمية القديمة في كل فن تحدث الناس بفضلها. وقد ضمت إلى تليدها ذاك طارفًا مجيدًا أعني «سلسلة العلوم الشرقية» وقد أربت حلقاتها على الاثنتي عشرة، لصاحب الوعي القومي خمس منها: «تاريخ ابن الفرات» ٣ أجزاء، و«امرأة غسان»، و«اليزيدية قديمًا وحديثًا».

فالجامعة، ولا شك، هي أول مدرسة أجنبية عُنيت بشئون العرب وثقفت شبابهم ثقافة حرة متينة أقرب إلى قوميتهم منها إلى جنسيتها. وهؤلاء تلامذتها هم دعائم الثقافة الحرة في جميع الأقطار. وإذا عدنا إلى الماضي رأينا أن من بين حيطانها قد خرج ذلك الديك الفصيح الشاعر إلياس صالح، ومن على منبرها صالح في عهد الظلمة والاستبداد — ١٨٨٨.

لست عبدًا أنا ولا أنت مولى
أيها اللابس الحلى الذهبية

ثم سمعنا بعده الشاعر الآخر سليم عازر يمثل لنا مبادئ أمة وتربيتها بقوله:

لا خير فيمن ليس ذا ثقة
من نفسه أسمعت يا نفسي؟

كل هذه بذور صالحة ألقتها الجامعة الأميركية في حقل قوميتنا فحنت عليها راية النجوم تقيها لفحة الرمضاء. لا أستطيع أن أفتش عنها كلها في هذا المقال، ولكنني أقول: إن خواص هذه الذرية الطيبة تجمعت اليوم وتكتلت في كتاب «الوعي القومي» الذي أخرجه إلى العالم العربي أستاذ — لا نغالي إذا قلنا: إنه نموذج الشباب الراقي.

فكتابه هذا وليد بضع عشرات سنين تناوبت على الجامعة الأميركية في أطوارها العديدة، من مدرسة تبشيرية، إلى كلية إنجيلية، إلى جامعة أميركية، وحسبها بهذا الاسم شرفًا ومجدًا. فهو إذن عصارة فكرة موجات متعددة حبلت بها الأذهان فأنتجها الدكتور زريق سفرًا جليلًا ألقى بها إلى العالم العربي في نهزة موافقة، فاستقبله بالحفاوة التي تليق به كما تستقبل كل رسالة سامية. فنحن اليوم أحوج إلى الوعي القومي من كل شيء؛ لأننا أمة بلا وعي. أو قل: وعينا قليل جدًّا، فاتحادنا نشأ عن فتوحات جبرية ألفت مجموعنا الموقت، فكان سريع الانحلال؛ لأنه لم يكتسب الروح القومية.

قد تظنني استحلت بين ليلة وضحاها عالمًا اجتماعيًّا، لا يا مولاي، فما أنا منهم. هذا رأي لغوستاف ليبون في تكوُّن الجماعات فحذار أن تنسبه لي. واسمح لي بالعود إلى موضوعي لأقول بلا تحفظ: إن الجامعة الأميركية كانت أول موقظ للوعي القومي وما برحت. والوعي القومي لا يكون في ناحية واحدة من نواحي الثقافة، وهذه النواحي كلها أبرزها للعالم تلامذة الجامعة الأميركية من الشميل إلى صروف ونمر وزيدان وغيرهم. فبارك الله في قسطنطين الذي فتح لنا هذه البوابة لنطل منها على مدينة العلم، ونعرف الناس، وهم يعرفون، بأسماء رجالها الذين كانوا قدوة حسنة، والقدوة كبيرة معلمي الوعي القومي.

لا أظن أن مدرسة أخرى من مدارسنا أجنبية ووطنية عنيت بالتاريخ عناية الجامعة الأميركية به. فله فيها أساتذة اختصاصيون لا عمل لهم إلا درس تاريخنا والتأليف فيه، لا نذكر لك إلا واحدًا منهم هو الدكتور رستم الذي يستحق لقب الأستاذ في هذا الفن لتأليفه، بل لاستنباطه كتابه الرائع «مصطلح التاريخ» الذي نحدثك عنه فيما بعد. أما الآن فنحن مع الدكتور زريق زميل رستم اليوم في تعليم التاريخ وتلميذه الأنبه أمس. ما جرني إلى ذكر التاريخ إلا كتاب «الوعي القومي» الذي لا يستطيع أن يصدره على حقه غير أستاذ في التاريخ، وأستاذ مفكر كقسطنطين. فلدرس التاريخ أبعد أثر في تكوين الأمم والشعوب، وفي تعلمه وتعليمه عبر وفوائد وتقويم اعوجاج وسد خلل … هذا إذا كان مدرِّسه كحتي ورستم وزريق فلا يعتمدون على الرواية والنقل: «حيث يلتقي البطلان كأنهما جبلان ويتنازل الفرسان اثنين اثنين ويحوم على رءوسهم غراب البين.»

فمدرس التاريخ النبيه لا بد له من أن ينتهي إلى فلسفة اجتماعية كما انتهى الدكتور زريق في «الوعي القومي».

«الوعي القومي» كتاب أخرجته «دار المكشوف» فيما أخرجت من طرف ونفائس، فرحب به العالم العربي فنفدت طبعته الأولى فور صدوره وأعيد طبعه بعد بضعة أشهر وأظنه نفد أيضًا.

إن للكلمات حياة وموتًا. فكلمة الوعي واللاوعي قلقة مرحة، وهي تسيل اليوم على أقلامنا كوثرًا عذبًا. رحم الله أسقف نجران القائل: أيها الناس اسمعوا «وعوا» … وبعد أجيال تترى تخلع هذه الكلمة أكفانها وتنبعث فنحبها ونعشقها. كثيرًا ما أسمع الناس يقولون: هذا حكي بلا وعي، وكأني بقسطنطين قد رأى هذه الأمة تحكي بلا وعي فانبرى يعلمها كيف يجب أن تعتمد على عقلها الواعي فلا تسقط من على الجدران حيث تمشي بلا وعي.

فلندع هذا إلى الفصل الآتي، أما الآن فلننظر في صيغة الكتاب الفنية: الكتاب كالرجل يستدل بصورته الخارجية على خفايا نفسه ومطاويها، وكتاب «الوعي القومي» إن لم يكن أثرًا فنيًّا بالقصد فهو أثرٌ فني برغم صاحبه الذي لم يرده كذلك. وهذا الأستاذ على ثقافته الغربية العميقة، وعلى تخرجه من جامعات أجنبيه يلوح لي من أسلوبه في «الوعي القومي» أنه ليس من رعايا الأجانب في أدبه وبيانه، ولا يدفع الجزية لأميركا ولا للندن، بل هو عربي تفكيرًا وتعبيرًا؛ أي إنه غير مديون بشيء، تقريبًا، للغة التي توسل بها إلى إحراز درجاته العلمية الرفيعة. ولا خوف عليَّ إن ذهبت إلى أبعد من ذلك وقلت: إنه غير مديون إلا بمقدار للتعابير العربية المعروفة، ولا لتلك القوالب المألوفة، فكثيرًا ما أراه يتخلص منها مع أنها في متناوله إذا شاء، ولكنه يؤثر أن يعبر كما يحكي ونعم العمل عمله، فقد أراحنا من تلك الصور الهرمة الكزة.

يثور قسطنطين إذ يرى محصولنا الأدبي يطغى على أسواقنا، فيواجه التيار ليصده، ولكن عبقريته الأدبية ترفع رأسها عندما يضطرم وجدان صاحبها فيتفجر حديثه تفجيرًا فنيًّا ليس في التعبير فقط، بل في الإخراج أيضًا، وهاك المثل:

«في موقع ممتاز من الكرة الأرضية، وعلى ملتقى الطرق بين الشرق والغرب، وفي وسط مجاري الثقافة والمدنية، تحيا أمة قد تشربت عصارة ماضيها، وتقبلت وحي تاريخها وأدركت كُنْهَ حاضرها، وعرفت جوهر العالم الذي فيها والذي حولها، وتطلعت إلى مستقبلها بنظر ممدود أبدًا إلى الأمام، وقوة مستمدة من هدف منصوب وخطة مرسومة. أمة قد نالت الاستقلال فعرفت معنى الاستقلال وأحرزت الوحدة فأدركت معنى غاية الوحدة. أمة قد اخترقتها أشعة الحرية فلم تقف عند المادة والجد، بل أضاءت العقول وأثارت الأرواح. أمة قد علمت أن السيادة الحقة هي سيادتها على نفسها الصادرة عن فهمها سبب وجودها وماهية كيانها. أمة قد امتلأت قلوب أفرادها بإيمان كل حبة منه تنقل الجبال، وعلى جبين رجالها ونسائها ضياء كل قبسٍ منه يهدي الأجيال. أمة يكفينا في وصفها أن نقول: قد سرى في نفسها الوعي القومي الكامل. هذا ما نريد الأمة العربية أن تكون. بل هذا ما سوف تكون (الوعي القومي، ص٥٩).»

وإليك نموذجًا آخر، وما أكثرها في «الوعي القومي»، فعند كل طغيان وجداني يقف الدكتور هذه المواقف الجياشة، يهيب بأمته لتستيقظ:

«هذا الارتباط الوثيق بمثل أعلى، هذه القوة التي تؤلف مدارك النفس ومشاعرها وتوجهها جميعًا إلى غاية واحدة، وتصهر كل ما ينبعث فيها من أهواء ورغبات في بوتقة الرغبة الوحيدة الكاملة التي لا تتبدل ولا تتزعزع، هذه هي: العقيدة. أرأيت رجلًا يزدري ميوله الشخصية وأهواءه الفردية في سبيل ما يعتقد أنه الحق؟ أسمعت برجل يضحي بماله وراحته — بل بحياته — لنشر لواء الحرية والعدل، أأدهشك شخص يحتقر جميع نعم الدنيا للعمل في خدمة بلاده ونهضة أمته؟ هذا وذاك، وذلك، هم رجال العقيدة. هم قومة الله على أرضه وأوصياؤه على شعبه. هم قبس النور العلوي يشع على الناس لينير الظلمات التي تكتنفهم ويهديهم سواء السبيل (ص٢٣٦).»

هذه شذرة من فصل «أزمة الروح» التي يبلغ فيها قسطنطين ذروة عالية جدًّا من ذرى الإخلاص، وإخال وجدانه فيها وجدان نبي. فرج الله أزمتنا وأزمتك يا قسطنطين.

ومع أن الدكتور هو أخو البيان الرائع الذي رأيته يقول في (ص٤٩) أحد فصول كتابه: «وإن كنت أخشى شيئًا فهو هذا الطغيان الأدبي الذي يسود حياتنا العقلية.»

أما أنا فأقول: كان الوعي القومي عندنا قصائد حماسية نطحن بها العالم طحنًا! فصار مع قسطنطين حكمة رائعة، وفلسفة مطمئنة، وثورة هادئة جارفة كنهر العاصي الذي أثر في ربيبه فطبعه بهذا الطابع الرصين. وكيفما دارت الحال بكتابه «الوعي القومي» فهو أثر أدبي رفيع يبحث في الاجتماع وإن نعى قسطنطين على قومه تفكيرهم المفكك المتقطع؛ فهو في أثره هذا لا يعدو أن يكون أديبًا أصيلًا، ولكن «تفكيره منظم».

فالدكتور زريق أديب رغمًا عنه، كطبيب موليير، وشتان ما بين اليزيدين في الندى …

٢

أديل العرب من الفرس وانطفأت النار من إيوانهم فاستعربوا مكرهين. وأول ما عملوه في عهد عروبتهم تأريخ أيامهم وأمجادهم ليفاخروا بها أسيادهم العرب. ثم انتفض شاعرهم «الجاموس» يخور على شط العرب:

ألا أيها السائلي، جاهدًا
ليعرفني، أنا أنف الكرم
نَمتْ في الكرام بني عامر
فروعي، وأصلي قريش العجم

ثم انتفج في مقام آخر فأسمعنا:

وربَّ ذي تاج كريم الجد
كآل كسرى وكآل برد

هذا أول «وعي قومي» تنبه في ذلك الفرد فسرت العدوى إلى الجماعة. ثم أسمعنا شاعر آخر:

ومن تميم، ومن قيس ولفهما
ليس الأعاريب عند الله من أحد

وهكذا استحال وعي الشعوبية عثًّا يأكل حواشي البساط العربي، ثم ما انفك يقرضه حتى أتى عليه كله. لم ينفعنا الفتك بأبي مسلم، ولا استئصال البرامكة، ولا القضاء على ابن سهل؛ لأن وعي تلك الدول المقهورة استيقظ بعد الكبت، ففكك عرى ملك العرب وتفتق بجادهم.

إن التاريخ معلم الشعوب، ومن هذه الزاوية يطل الدكتور زريق على الوعي القومي؛ فهو أستاذ التاريخ لحقبة في تاريخ الشرق كانت أشد الأزم. فكأن كل ما كتبه وأذاعه هذا الأستاذ من تاريخ ابن الفرات إلى تلك النبذة الطيبة «أمراء غسان» حتى كتاب اليزيدية، رسالة نبيلة هدفها بعث روح القومية فينا، وتوجيهها في الطريق الأسد، وتكوينها تكوينًا علميًّا بحيث تنطبق النتائج على المقدمات.

يرى الدكتور «أننا لا نزال مقصرين في حق الرسالة الفكرية، وأننا لم نتعود بعد أن نغذي عملنا الفكري بدم القلب وعصارة الروح» (ص٨). وبكل اتضاع واتزان يعدُّ كتابه هذا «فصولًا متفرقة لا تستوعب جميع المسائل الأساسية التي تتصل بهذا الموضوع الخطير.» (ص١٠). وككل أمين من أفراد هذه الأمة آلمه ما رأى من تشتت في الآراء والفكر، ومن تصادم في النزعات والأهواء: «فكل منا يسير في وجهة، وكل يتكلم بلسان، وليس لنا موقف ثابت أو رأي موحد إزاء هذا الاضطراب الهائل الذي يثور في العالم» (ص١٢). وعنده: «أن حياتنا كلها تتوقف على ما نصيب من رأي جامع، وفكرة قوية واضحة لا تبقى في أذهاننا فحسب، بل تتعمق إلى صميم نفوسنا» (ص١٣). وآفتنا: «أن حظنا من الثقافة لا يزال في غاية الضآلة (ص١٤) فنحن في أزمتين: اقتصادية وثقافية.» ونحن أشد حاجة إلى «وجوب الإسراع في معالجة مشكلتنا القومية، والانصباب على البحث المنظم في مسائل حياتنا الأساسية لنصل بهما إلى العقيدة الموحدة الواضحة التي عليها — وعليها وحدها — يقام العمل المنظم لبناء الأمة وإنهاض البلاد» (ص١٥).

فكل ما ينشده الدكتور في الوعي القومي هو العقيدة، ويرى في العقيدة، اللهم الصادقة، كل خير وبركة لهذه الأمة.

وما هذه العقيدة يا ترى؟ إني أرى اسم «الهدف» أليق بها فتكون أقرب إلى أفهامنا جميعًا، ثم لا تلتبس بغيرها.

هذا ما يعنيه الدكتور، وآفتنا نحن العرب، أن لكل معشر منها هدفًا، ومتى تعددت الأهداف تفرقت القوى المنصبة عليها فلا يدرك واحد منها، وهذا بلاؤنا الأكبر.

ولخص المؤلف، في مقدمة الطبعة الأولى، أركان كتابه، فإذا هي هذا المثلث: الفلسفة القومية، والعقيدة القومية، والتنظيم. وقد حدده بقوله: «وإنما هي نظرات ألقيتها على حياتنا القومية، ثم لملمتها وجمعتها بين دفتي كتاب» (ص٢٧).

إنها لكذلك، ولكنها نظرات نافذة لا تقصر عن أشعة إكس إلا قليلًا … فمن هذه المقالة وتلك وهاتيك تتألف وحدة تامة، فتداعي المعاني وتسلسلها وترابطها يؤهل مقالاته هذه لتحمل بكل جدارة اسم كتاب، بل قل: «كتاب الأمة» لمن يقرأ ويعي. ففيها «التفكير المنظم» والتناسق اللذان هما ضالة أديبنا المفكر التي ينشدها لأمته، ليستقيم وعيها القومي الذي هو: «فهم صحيح لماضي الأمة التي تحدرت منه شخصيتها، وتقدير متزن لقوى الحاضر وعوامله، وإيمان متين بهدف الغد ورسالة المستقبل» (ص٥٦).

ويصور الدكتور رسالتنا الماضية الكبرى، ثم يعتقد أن ستكون مثلها رسالة العرب المستقبلة؛ أي «أن يتشربوا علم الغرب ويجمعوا إليه العناصر المختلفة التي تنشأ في الغرب والشرق كرد فعل له، ويؤلفوا بينها كلها في وحدة جديدة تكون عنوان الحياة المقبلة ويفيض بها العرب على العالم كما فاضوا عليه بمدنيتهم الباهرة في القرون الماضية» (ص٥٥).

قلت: وبالله نستعين، قد عودنا جلَّ جلاله أن يكون معنا، فلنسأله، كروزفلت، ظهرًا قويًّا. غير أنني أميل إلى كلمة الأستاذ التي تليها، وهي: «فحسبنا أن نعتقد أن لنا رسالة ما» (ص٥٥).

ولا يحصر المؤلف إيقاظ الوعي القومي بفئة دون أخرى، فليس هو من اختصاص قادة السياسة وأرباب الحكم فمجال العمل مفتوح لكل فرد، وبخاصة المرأة. ولكن الدكتور يقف عند باب خدر المرأة العربية ولا يدخله تأدبًا … فيبحث تقصيرها في هذا الحقل بكل تؤدة، كأنه يخاف أن تفلت منه كلمة، فلا يلتام ما جرح اللسان!

ذكرني وقوفي عند فصل «المرأة العربية في الحياة القومية» بصديقي أ. ل. أراد أن يكتب تاريخ الدولة العثمانية. قلت له: وكيف تتخلص يا بك من انكساراتها ومن ومن … فقال: سأجعل عنوان تاريخي: انتصارات الدولة، ثم فعل، ولكن خاتمة الحرب الأولى خنقت ذلك الطفل في المهد.

وعالج الدكتور «التربية القومية» فأبدى آراء طيبة لا تستقيم لنا قومية بدونها وأنحى على التربية الطائفية، ذلك البرص الذي لا برء منه، معتمدًا على قول شارل مريام الذي يرى التربية القومية أجلُّ أعمال القادة والعلماء الذين يبنون أمم المستقبل.

وبحث الدكتور موضوع «القومية والجنس» بحثًا علميًّا يكاد يكون بكتريولوجيًّا، فأظهر أن العرب والفينيقيين هم سلالة واحدة. وقد جعل «على هامش الدعوة الفينيقية في لبنان» عنوانًا صغيرًا لمقاله هذا. فعجبت جدًّا لاهتمام الدكتور بما لا يدرك، ودهشت لخصه لبنان العربي بهذه الدعوة التي حلم بها نفر يزمرون للجالس سعيدًا، ويكسرون الجرة خلف المولِّي … فأين هم دعاة الفينيقية في لبنان؟ وهل للفينيقية عندنا من أثر إلا في شعر من تغزلوا بالزهرة وأدونيس كما فعل شكسبير ولافونتين قبلهم؟ وإذا كان فينا نفر ممن غنوا هذا «الموَّال» أيعني هذا أن لبنان يتخلَّى عن عروبته، وله فيها ذلك المقام المرموق والتراث الذي يفاخر به كل ناطق بالضاد؟ إن نظر بعضنا إلى ماضي فينيقية فكمن ينظر إلى قلعة قديمة في قريته، ولكن داره التي يعيش فيها هي غير تلك. ولماذا اختار الدكتور فينيقية لبنان ولم يذكر فرعونية مصر، مع أن لتلك أنصارًا أعظم خطرًا. إن المتفينقين منا لا يفهمون ما الدم، ولا الجنس، ولا الرأس المستطيل والمدور والمسطح والمقعر. هم فينا كأولئك الذين لا يسمون الرجل عربيًّا إلا إذا استوعب جميع المقومات التي يفرضونها. أما إذا كان قد استعرب منذ ألف سنة ولم تجتمع فيه شروطهم فهو غير عربي. مع أن النبي العظيم الذي هو مجدنا وفخرنا من العرب المستعربة! فهؤلاء وأولئك عندي هم الذين جنوا ويجنون على قوميتنا.

إن مَن يقيم في أميركا خمس سنين يتأمرك ويصير منتخِبًا ومنتخَبًا، أما عندنا فيظل غير عربي إلى ما شاء الله. وهذه جناية كبرى نرتكبها ونحسب أننا لم نأتِ أمرًا فريًّا. وهذا التفريق الذي رافق العقلية منذ عهد بني أمية هو الذي فسخ جسم هذه الأمة. والعرب والمستعربون — لا المتفينقون — يعرفون أن كلمة الشعوبية كانت أول شق في جدار الأمة العربية. فبعض العرب هم الذين دانوا بهذه الفكرة فأثموا وجنوا، في حين أن الدين سوَّى بين الجميع. وهم لو ضحكوا على ذقون المستعمرين لضموهم إليهم راضين. فما كان ضرهم لو خلعوا عليهم العروبة واجتذبوهم إلى صفوفهم؟

إن ما بنته الأجيال لا نستطيع نحن أن نهدمه. فالعربي — وكلنا ذاك الرجل — يعتقد أن دمه صنع خصيصًا له دون سواه من البشر. اسمع كلام الجاحظ: «وأشد سرفًا منه قول أبي بكر الشيباني، قال: كنت أسيرًا مع بني عم لي من بني شيبان — وفينا من موالينا جماعة — في أيدي التغالبة. فضربوا أعناق بني عمي وأعناق الموالي على وهدة من الأرض فكنت، والذي لا إله إلا هو، أرى دم العربي ينماز من دم الموالي حتى أرى بياض الأرض بينهما. فإذا كان هجينًا قام فوقه ولم يعتزل» (كتاب العصا، ص٣٠).

إلى أمثال هذا فلتسد النصائح. فاللبناني يفاخر بلغته وقد حملها إلى هجرته العالمية وأذاعها في جميع بلاد الله. ونحن، بعد، غير مسئولين عن البدع.

ويتمشى الدكتور فيعرج على «العمل القومي والمشاريع الاجتماعية» فيحدثنا عن مشروع إنعاش القرى الذي نهض بأعبائه فريق من شباب الجامعة الأميركية المثقف، فربط بين الشباب والناس على اختلاف الملل والنحل. وينتقل إلى القومية العربية والدين، فإلى التراث الثقافي العربي، وما يجب علينا لحفظه وإحيائه، ويحث الناس على حفظ المخطوطات القديمة، ولكن بعد ذهاب الوقت وتسربها إلى مكاتب العالم هنا وهناك، فكل ما كان في ديورتنا أصبح في غير حوزتنا، حتى حجارة كنائسنا الأثرية وعتبات أبوابها التاريخية سلخت من بنيانها منذ عشرات السنين.

وفي «إحياء ثقافتنا» يحث الأستاذ أدباءنا الملهمين «لينقلوها إلى أبناء العربية بلغة هذا العصر وأسلوبه وطريقة تفكيره» وهذا في نظري تمويت لا إحياء. كما فعلت فئة من أدباء مصر وغيرهم فسلخوا ومسخوا وشوهوا.

وفي فصل «ضآلة ثقافتنا العلمية» يرى الأستاذ، ورأيه حق، أن ثقافتنا العلمية ضئيلة، ويهيب بنا لنقبل عليها. ولكني ألتفت فأرى سلسلة العلوم الشرقية التي أصدرتها الجامعة الأميركية أكثرها أدبي. وعلى الضد كان الأمر في عهد فنديك؛ أي في فجر حياة الجامعة عندنا. وما حدثت تلك الثورة الشهيرة وانتهت بتخلي فنديك عن منصبه إلا لهذا السبب. أما إقبالنا على الأدب وأكلنا منه حتى البشم فكما وصفه الدكتور، وهذا بعض ما قال:

«فلا يكاد يخرج الطالب الأدبي من مدرسته حتى يهرع إلى الصحف والمجلات يتحفها ببنات أفكاره الفجة، فتنشرها له هذه المجلات وتزيد بذلك غروره، وغرور أمثاله من الذين يعتقدون أن الأدب مطية سهلة، وأن مجال البحث متسع لمن شاء، هذا مع أن الأبحاث الأدبية هي في الحق أشد دقة ويجب أن تكون أبعد منالًا من الأبحاث العلمية (راجع الكتاب، ص١٦٧).»

وينتقل بنا الأستاذ إلى فصل «الأدب التوجيهي وحاجتنا إليه» وقد ظن بعض من نظروا في كتاب «الوعي القومي» أن الأدب التوجيهي شيء لم يكن من قبل، مع أن أسلافنا في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن كانت كتاباتهم من هذا النوع — أدب المقالات — ولم يسموها بهذا الاسم.

ألا يشبه هذا ذاك الشامي — بلغة المصريين — الذي قرأ في بيان مطعم بالقاهرة: بطاطا بقميص النوم، فأعجبه الاسم، أما المسمَّى فكان مأكوله اليومي: بطاطا مسلوقة.

غير أن قسطنطين يريد، وهذا شعاره في الوعي القومي، أن تكون جميع أبحاث أدبنا التوجيهي عميقة منظمة، وهذا ما ينقصنا في كل فن ومطلب، وما أجمل قوله: «إن عصرنا عصر أزمة فكرية وضيق عقلي. وكما أنه لا يسمح للناس في زمن الأزمة المالية أن يبذروا أموالهم في سبيل شهواتهم الخاصة، وأمورهم التافهة، كذلك يجب أن لا يسمح لقادة الفكر في عصر الضيق العقلي والأزمة الفكرية أن يبددوا قواهم في المسائل الطفيفة والأبحاث الجزئية» (ص١٧٧).

قلت: وهذه «إعاشة» جديدة يفرضها الدكتور في الفنون، أراحنا الله من التقنين المادي والعقلي.

أما فصل «الثقافة الصحيحة وعناصرها» فجدير بأن نقرأه جميعًا ونتعلم منه درسًا مفيدًا. والدكتور يريد الثقافة للحق والخير والجمال، ويتمثل بقول الغزالي: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله.

وعلى ذكر الغزالي أقول: إنني لمحت في «الوعي القومي» عنصرًا فلسفيًّا عربيًّا في التعبير كالإشراق والفيض وغير ذلك، فلا غرو إن أراد الثقافة للحق والخير، فإخلاصه لما يكتب ويعلم يجيز لنا أن نلقبه برجل العقيدة. وحسبك أن تقرأ «أزمة الروح» لتعلم أنك تجاه رجل العقيدة و«الجهاد الأكبر» المتقد إيمانًا وإخلاصًا وصدقًا حتى يبلغ في «القومية» ما بلغ الصوفيون في حب الله. فيقول: «والرجل الأمثل هو الذي يشمل عالمه الكون بأسره والبشر بكاملهم» (ص٢٢١).

أنا لا أفكر تفكيرًا منظمًا ولا فلسفيًّا، ومع ذلك يجوز لي أن أقول: إن هذا الشمول ينافي الوعي القومي، ويحق لنا أن نسميه وعيًا عالميًّا. والدكتور في «أزمة الروح» طبيب روحاني يبنِّج بالإيحاء فلا تنتهي من قراءة مقاله هذا إلا وأنت بريء من جميع العاهات القومية، والأمراض العارضة، وقد رصعه بكلمة رسول الأمم: إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة ولكن ليس لي محبة فقد صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرن (٢٢٩).

الكلام لبولس ولا أدري لماذا لم ينسبه الدكتور إليه بل قال: وقدمًا قيل في الكتب. ومثل هذا فعل حين أخذ: تعرفون الحق والحق يحرركم.

اسمع قوله في ختام «أزمة الروح»:

«ما أكثر من ستعلو شفاههم ابتسامة الشك والهزء عند قراءتهم هذا الفصل ومتابعتهم حديث «الأزمة الروحية» لاعتقادهم أن معضلة أمتهم الكبرى هي المشكلة السياسية أو الأزمة الاقتصادية، وأن المادة هي أساس الحياة وأن الحديث عن النفس والروح ضرب من العبث أو نوع من الهراء (ص٢٣٠).»

لا والله، ما يقول ذلك إلا السطحيون منا. فالمسيح ومحمد كانا فقيرين، وكل عباقرة العالم كذلك، فقل ما شئت في «أزمة الروح». إنما نحن بلاء أنفسنا لأننا ناس بلا محبة. الويل لكتابك يا أخي من الذين لا يقرءون ما بين السطور، فما «أزمة الروح» فصلًا أو مقالًا إن هي إلا «سفر» بمعناه المعروف في الكتاب المقدس.

وفي فصل «الجهاد الأكبر» تظهر لنا خصائص هذا الأديب الكبير المبنية على علم النفس وهو أيضًا فصل نفيس يبحث الأخلاق بحثًا جليلًا، وإن أراد الأستاذ فيه الرجل العربي كالساعة تؤدة بينا هو مخلوق كالعاصفة.

وبكلمة واحدة إن الدكتور زريق ينشد «التفكير المنظم» والتفكير المنظم قوام كتابه هذا. ولا أسرف إن قلت: إنه خير كتاب ينفع الأمة ولعله الحجر الأول في هذا البنيان، وكيف لا يخرج أثر نفيس كهذا من بين يدي أديب مثقف وكاتب هادئ تجمعت في شخصيته الفذة قوى المنطق وعلم النفس والفلسفة، فانتظم تفكيره واتسق، وتساوت فيه قوى المرء الثلاث: العقل والوجدان والإرادة.

ولئن طلب منا في «مقال أزمة الروح» ما طلبه يسوع فلا بأس عليه. ليت الأمم تعلم، كما قال فولتير: إن هذه الفوارق التي لا تنظر لا يجب أن تكون سبب البغض والجور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤