الحب أقوى لرئيف خوري

١

للأستاذ رئيف الخوري آثار عديدة طيبة، شعرًا ونثرًا، وربما كان رئيف أكثر لداته إنتاجًا، أما الآن فلا يعنينا مما خطه قلمه الخصب إلا رواية «الحب أقوى».

الحكاية من عند الشيخ داود الأنطاكي مؤلف كتاب «تزيين الأسواق بتفصيل أشواق العشاق» وقد صبها الأستاذ رئيف في بوتقة الفن القصصي الحديث فجاءت طرفة نفيسة رغم سرعة سير رئيف، وفبركته لما يكتب. قال في مقدمتها، متكلًا على ذمة الشيخ الأنطاكي، إنها تاريخية «تدور في فلك من العصر الأموي على عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان.» ثم أنذرنا كموسى حين سئل عن عصاه فأضاف: ولي فيها مآرب أخرى …

الحكاية دونما شك صغيرة، ولكن مخيلة القصاص البارع بسطتها وكبرتها فجاءت كتابًا يملأ العين والقلب. فرئيف قصاص موهوب نعمة الإفاضة في الكلام ثم يبقى هذا الكلام، على غزارته، حلوًا عذبًا تلذ للقارئ مطالعته، ولهذا جاءت روايته «الحب أقوى» سهلة التعبير حافلة بالصور والتعابير الشخصية، تمشي الهوينا لا ريث ولا عجل، رغم أنف موضوع الحب المبتذل. وإن سألتني وكيف يستحلى الموضوع المبتذل، أجبتك أن الطاهي الفنان يعطيك من المواد التي يستعملها غيره لونًا جديدًا من الطعام غير ذاك بما يمزجه من أبزاره وبهاره.

نفخ رئيف من روحه المرحة في بطليه نصر وسعاد فتمثلا لنا جبارين عنيدين. فبعد أن كان البطل نصر صعلوكًا بائسًا، خرج من بين فكي القلم مناضلًا عنيفًا يغامر في حب مروم، ولا يقنع بما دون النجوم، حتى بز معاوية وواليه ابن أم الحكم … ليست الرواية تاريخية، ولكنها بنت الواقع أو مما يمكن وقوعه، وإذا فقدت هذه الخاصة فكأنها لم تخسر شيئًا، فالرواية التاريخية حقًّا تصبح كالوطواط، لا هو في الطير ولا هو في الحيوان. إن التاريخ حجر عثرة في طريق الفن القصصي؛ إذ لا يدري القارئ ماذا يصدق وماذا يكذب فيضيع بين البينين.

في رئيف الكاتب القصصي خصلة حلوة وهي تفتيشه دائمًا عن الطريف الظريف وتهافته عليه. شعر، وهو العارف بأصول الفن، أنه لا يحس محيط قصته إلا في الكتب، والكتب وحدها لا تكفي، فلجأ إلى وصف الخوالج وتحليل نفسية شخصياته، وتصوير مظاهرها بتعابير طريفة، فأرانا في أم سعاد تلك المرأة المستكلبة، ومن أبي سعاد رجلًا إمعة، ومن الوالي ابن أم الحكم مخلوقًا كبطل المقامة المكفوفية: حزقة كالقرنبي.

لقد أغنى هذا الوصف والتحليل عن الإطار وما يتطلبه من أسلوب شعري، ولكن الإطار وما يقتضيه من تصوير عنصر متمم للرواية، فأنى لنا هذا ونحن لا نعرف المكان إلا من الكتب وهي لا تغني عن العيان؟ فكتَّاب القصة اليوم يحاولون أن يعيشوا، ولو حينًا، ما يكتبون، أو يروا المحيط على الأقل؛ لأن الكاتب كالنحلة يجني أولًا ثم يمج، وبدون هذا لا يكون العسل المشتهى.

أما الحوار العربي الأصيل فهو عقدة العقد، وهذا لا يستطيعه أحد منا، لا رئيف ولا غيره، فمن أين لنا نحن أن نتكلم بلسان أعرابية منذ ثلاثة عشر قرنًا؟ خذ مثلًا: قالت أم سعاد لبنتها: لئن رأيتك بعد اليوم تخرجين أو تعودين مع هذا الصعلوك المنتوف فلأعاقبنك أقسى عقاب.

إن كلمة «المنتوف» لا بأس بها — مجازًا — إذا جرت على لسان لبنانية، وأما أن تقولها أعرابية فهذا بعيد. وفي الصفحة عينها يستعمل رئيف كلمة «بائخة» بمعناها العامي. إن مثل هذه الألفاظ — وفي الرواية عدد غير قليل منها — تشوه قصة كتبت بلسان عرب أقحاح.

فالحوار واللون المحلي هما أقوى عناصر القصة، فعلى الكاتب، إذا لم يضمنهما، أن يفتش عن موضوع يلائمه. ولكن المؤلف أعاضنا عنهما بشيء آخر هو حلاوة تعابيره الخاصة، ووصفه الطريف، وسرعة جري قصته، وحسن سياقها واتجاهها المستقيم نحو الهدف. وهنا لا بد لي من الإشارة إلى أشياء تتعلق بالأصول؛ إذ لا يسوغ لكاتب مجيد كالأستاذ رئيف أن يجاري «المهملين» منا فيشوه أثرًا فنيًّا كروايته هذه. قال: حدق فيها، والوجه حدق إليها. وأراد أن يخرج على المألوف فاستعمل ألفاظًا كرتيبٍ وغيرها قبل أن يستوثق منها. وسعاد، ألا يعرف الأستاذ أنها ممنوعة من الصرف؟ فلماذا يقول: سعادًا، بينا طبيعة الحوار تقتضي أن يقول: سعادَ.

وبينا أراه يقول «وحل الماء» ولا يبالي إذا بي أقرأ يتقصف مكتوبة بين هلالين. ثم يقول: وقفت تظلل عينيها بكفها من الشمس. إن هذه الجملة الطويلة العريضة تغنيه عنها لفظة واحدة: تستشرف أو تستكشف. ولو شئت التنطس والتقعر لقلت له: لماذا تقول: أبيعًا تبيعانني، ولا تدع الجملة تمشي على الهينة فتصيب عصفورين بحجر واحد: طبيعة الحوار وسلامة التأليف؟ ثم ما الداعي إلى القول: كاد يجن هو الآخر، فأية حاجة إلى هو الآخر. ثم القول: إذا أمسى المساء. الرجل يمسي أما المساء فلا. ومن هذا النوع: بطحا سلمان أرضًا، وتمدد أرضًا، وأتزودها زادًا … إلخ.

والضرف، وهو يعرف فصيحها، فما الداعي إلى استعمالها؟ فلو جاءت على لسان شخص من شخوص قصته لهان الأمر، ولكنها من كلام المؤلف. والأستاذ يكثر جدًّا من وزن فعيل حتى يقول: بصوت خفيض، والمعنى الذي يقصده إنما يجيء من انخفض، ناهيك أن كلمة خفيض قبيحة كيفما دارت بها الحال، وقد أدرك ذلك ابن الأثير منذ أجيال. إني أكاد أقول: إن رغبة المؤلف في هذا الوزن ناشئة عن اسمه ولهذا أكثر منه من حيث لا يدري!

لقد نزلت مني رواية «الحب أقوى» بمنزلة المحب المكرم، فاستقبلتها بهذا النقد. رأيت عند مؤلفها نفسًا طويلًا يمكنه من كتابة الرواية، فدونت ما دونت مرة واحدة لأعينه على الرواية الآتية:

وإن كنت عني ذا غنًى فاغنَ وازدد

أما في الفن فالأستاذ رئيف يمسك الخيط ولا يفلته، وهذه أولى صفات الروائي؛ أنه لا يحول النظر عن أهدافه، بل يسيِّر إليها أبطاله توًّا فلا يتعثرون بشيء. ولكن الأستاذ طماع طماح يحب أن يستأثر بكل حكاية تعجبه، ولهذا علق في ذيل رواية «الحب أقوى» حكاية أخرى استحلاها فاستأثر بها قبل أن يهبشها غيره، فجاء استطراده إليها شنيعًا. سماها خاتمة فكانت كالإعارة والتأجير في لغة الحرب الماضية، فضاعت طائرته في سماء الخاتمة، ولم تعد إلى قواعدها سالمة. فما كان أحلى خاتمة قصتك يا رئيف، لو ظلت بدون خاتمة.

٢

حيتك عزة بعد الحج وانصرفت
فحي، ويحك، من حياك يا جمل

عزيزي الأستاذ …

أظن وسوء الظن، إثم، إن محلك من المقال الذي وجهته إلى مارون عبود محل المدير المسئول من الجريدة، أو محل المذيع بالنيابة، وهذا التشبيه الأخير أقرب إلى حالك. إني أرى على حفافي القفة «أذنين» بل آذانًا تلوح وتختفي كبرق امرئ القيس … نجَّانا الله من الطوفان.

أخشى يا أخي أن تكونوا طلبتم الزيادة فوقعتم في النقصان، كما يقول المثل. يقول زهير:

سألنا وأعطيتم، وعدنا فعدتم
ومن أكثر التسآل يومًا سيحرم

هاكم الجواب على ما فاتكم وإن لم تكن فصول النقد مدرسة نحو وصرف ولغة فالكلام النقدي يفرض كاتبه أنه يوجهه إلى من لا يفوته ما فيه، أما صاحبنا فهو إما غير فاهم، وإما متجاهل مماحك. تمثل صاحب التوقيع بقول المتنبي:

وهاد إليه الجيش أهدى وما هدى

فأحوجني إلى تذكيره بقول المتنبي أيضًا: ومن البلية عذل … إلخ.

فلنبدأ بكلمتي «منتوف وبائخة» وأخواتهما. فهذه الألفاظ العامية المحلية لا تصح أن تكون مادة لرواية أعرابية، فالرواية عمل فني قبل كل شيء وهي ليست دون الشعر شأنًا. ليست الرواية مقالًا في صحيفة يعالج الشئون اليومية، ولا قصيدة تقال في مناسبة ما. إنها لأجلُّ خطرًا، ومتى كانت «تاريخية» ومن العصر الأموي عظمت المسئولية وصار على كاتبها أن يطهرها من رجس الركاكة والرطانة، وإلا فليكتب روايات شعبية يتلهى بها العوام، ولا حرج عليه إذ ذاك، فلو عرفنا أن صديقنا رئيف خوري يكتب لهؤلاء ما كنا أعرنا قصته هذا الاهتمام؛ لأننا لا ننتقد إلا من يرجى منه خير أدبي جزيل كرئيف خوري.

وما وصلت إلى كلمة «التمع» حتى رأيتك تنقض ما قلت أولًا. قلت: إن غاية رئيف «إفهام القراء أيًّا كانوا بأسهل الأساليب والوسائل.» فأيٌّ أسهل يا ترى، أفعل لمع أم فعل التمع؟ فمَن مِن قرائنا يقول: التمع؟ يظهر أنك تنسى حالًا ما نقول، فالتمع ليست بمعنى لمع، وإن تكن مشتقة منها، كما أنك أنت لست أباك وإن تكن مشتقًّا منه. وبما أنك تحب الاستشهاد بقول المتنبي فهو يقول في هذا:

فإن في الخمر معنًى ليس في العنب

إذن، فعلى كاتب كبير كرئيف خوري أن يدقق.

وأراك ذكرت ابن الأثير بمناسبة رتيب وخفيض «والتمع» وغيرها مما عند رئيف من هذه البضاعة. فابن الأثير قال: ألا ترى أنك تقول: قعدت إلى فلان أحدثه، ولا تقول: اقتعدت إليه. وكذلك تقول: اقتعدت غارب الجمل، ولا تقول: قعدت على غارب الجمل، وإن جاز ذلك. ولهذا أقول أنا: إن «رتيب وخفيض» ليس لهما جمال اسم صديقي رئيف وإن كانتا من وزنه. وإذا قلت أنت: ما لنا ولابن الأثير، أجبتك: إن ابن الأثير ختم كلامه بقوله: وهذا لا يحكم فيه غير الذوق السليم.

أما «سعادًا» فجاءت بضع عشرة مرة إن لم يكن عشرين وثلاثين، وما هكذا تكون غلطة الطبع. أما «وحل الماء» فهي مثل قوله: «أمسى المساء»، فكما يقال أمسى الرجل، أي دخل في المساء كذلك يقال: وحل الرجل. أي وقع في الوحل — كما وقعنا نحن في وحل الرد عليك، مثلًا — لا يقال: وحل الماء لأن التراب يصير وحلًا، ومتى خالط الماء شيء من الطين يقال: «عكر الماء» لا «وحل الماء».

أما ما أردت قوله حول «يتقصف»؛ فهو أننا عندما نرى لفظة موضوعة بين هلالين فنفهم أنها غير فصيحة، في حين أن يتقصف فصيحة بنت فصيحة، ولا حاجة إلى جعلها بين قوسين. كان أحرى بالمؤلف أن يعلِّم بائخة وغيرها من الألفاظ بمثل هذه العلامة. أما الغريب فهو أن تذكرني «أن البيانيين أجازوا دخول الواو على استواء في كل منفي مع الجملة المضارعية الواقعة حالًا» فما خطب الواو حتى تذكر ذلك هنا؟

وقد أضحكتني حين حمت حول كلمة «تستشرف» فقلت: إن هذه اللفظة ذات معنيين، ومتى كانت اللفظة ذات معنيين حصل الالتباس والالتواء. أليس هذا عجيبًا غريبًا؟

أما إذا كانت لفظة تستشرف لم تعجبكم فعندكم لفظة «تستكف» وهي مشتقة من الكف، وربما كانت لازمة أكثر في هذا المقام؛ لأن لا التباس فيها ولا التواء …

قلت: سامحك الله، إني «أعود بكم وباللغة إلى عهد الانحطاط، عهد الاهتمام باللفظة دون المعنى.» مع أني لم أرشدكم إلا إلى وضع المعنى في لفظة تؤديه كاملًا غير منقوص، وتريحكم من عفش الكلام ونفشه … فلا يكون البيان خبصًا في خبص. وهنا لا بد لي من أن أسألك: ممن تعلمت هذه الأمانة في البحث حين نقلت عن المعجم هذه العبارة: «استشرف الشيء رفع بصره لينظر إليه.» لماذا أكلت ما بقي من الجملة وهو: «باسطًا كفه فوق حاجبه.» المنجد (ص٣٩٥)، العمود الثالث، السطر ١١ طبعة ١٩٣٧ — أفعلت ذلك لتوهم الناس أني أخطأت؟ فأنا أخطئ دائمًا، ولا أدعي العصمة.

ليس النقد مزحًا يا عزيزي، إنه عين الجد، وإن ألبسناه حينًا ثوب الفكاهة. وسألتني عن «أبيعًا تبيعانني»، ما بالها؟ اسمع يا عزيزي، إنها، أولًا، ليست لغة الحوار الطبيعية، وهي، ثانيًا، خطأ نحوي؛ لأن المصدر المؤكد لعامله بمثابة النعت، والنعت لا يقدم على المنعوت. ولهذا قلتُ: لو قال: أتبيعانني بيعًا لأصاب عصفورين بحجر واحد؛ أي سلامة التعبير وواقع الحوار. إنه لم يخطر ببالي أبدًا أنني محتاج إلى معلقة! اسألني أيضًا: ما معنى قولك هذا! أي لأزقكم كما تزق العصفورة فراخها، أو بلغة العوام: نشرقكم بالملعقة.

أما «كاد يجن هو الآخر» فلا داعي فيها إلى «هو الآخر» وهاك الجملة: «وشاع في الحي أن سعادًا جنت، وانتهى النبأ إلى نصر فكاد يجن هو الآخر، وأسرع إلى خيمة عمه مستفسرًا.» فقوله: هو الآخر. من بضاعة العوام، وهي زيادة لا خير فيها، تخالف ما وضع السلف من قواعد لأفعال المقاربة؛ أي إن خبر هذه الأفعال يكون فعلًا مضارعًا متضمنًا ضميرًا يعود إلى اسمها. وهناك مشكلة ثانية هي مشكلة الإعراب — أقول هذا لئلا تستوضحني ثاني مرة. وأنا، كما لا تعلم، وقتي ضيق جدًّا — فكيف نعرب هو الآخر؟ فإذا قلنا: هو فاعل يجن، أو توكيد الفاعل المستتر، فما يكون محل الآخر من الإعراب؟ فإذا قلت: نعت، فالضمير لا ينعت ولا ينعت به. إنها تعبير عامي وإن جرت على أقلام الكتاب.

أما قولك لي: «وخلاصة القول، أنك يا أستاذ مارون حللت الرواية تحليلًا نفسيًّا واقعيًّا رائعًا، ليتك اكتفيت به …»

إن كلمتك هذه لم تزدني معرفة بالمؤلفين، فمارون عبود ناقد عظيم جدًّا متى أحرق على مذبح أنانيتهم الند والعنبر، وخصوصًا إذا طاف بمجمرته حولهم وحواليهم. أما حين أصوب أنبوب الصائغ لأحرق خبث الحديد، فأنا أكون حينذاك متعنتًا أردُّ البشر إلى عصر الانحطاط.

فأما وأنت تريد أن تتسلَّى، أو أن تعمل بشرعة الإعارة والتأجير في الحرب الأدبية، فخذ بعض ما بقي من رواية أخينا رئيف لترد عليه، ولكن ثق أنك لن تفوز بجواب؛ لأن الحصاد كثير والفعلة قليلون.

وجاء في رواية «الحب أقوى»: «تقاعست أن تخف» (ص٨)، وفعل تقاعس هنا يتعدى بعن. قال الشاعر:

تبهنس إذ تقاعس عنه مهري
محاذرة، فقلت: عقرت مهرا

وقال: تشاجع الزوج عم نصر (ص٢٨) ثم قال: يتقاوى أمام أهل المجلس (ص١٤٢). إن المزيد من الأفعال سماعي لا قياسي، والمدار فيه على كتب اللغة. ونحن لا نزال نقول — عاميًّا — كما كانوا يقولون: تشجع وتقوى، والكلمتان فصيحتان تؤديان الغرض، فأي داعٍ، إذن، للقول: تشاجع وتقاوى، فالأولى منهما لم تُسمع، والثانية لم تقل بالمعنى الذي أراده الأستاذ رئيف.

إن كلمة سماعي لا تبعد كثيرًا عن كلمة استعمال، والاستعمال ينعم الألفاظ ويملسها، فلماذا تعود إلى المقالع؟

وقال: ألفت أن تسير عليها كل يوم، ذهاب وإياب (ص٨)، والصواب: ذهابًا وإيابًا.

وقال: تحت وبر شاربين اسودَّا ولم يكادا (ص١٤) إنني لم أفهم كيف اسودَّا ثم لم يكادا؟ فإما أن يقال: لم يكادا يسودان، وإما اسودَّا أو كادا.

وقال: يولم الناس على لحم شاة (ص٣٠) وهذا تعبير غريب. قال عبد الرحمن بن عوف للنبي: تزوجت أنصارية. فقال عليه السلام: «بارك الله لك. أولم بشاة.» إن «أولم» فعل لازم، فالوليمة لا تكون لغير البشر … وهو يتعدى بالباء لا بعلى، وحسبنا كلام أصح العرب حجة.

وقال: أبينك شيء وهذا الفتى (ص٣٢) والصواب: أبينك وبين هذا الفتى شيء، كما نتكلم اليوم.

وقال: لا شغل لهم إلاه (ص٥٩)، وهذا خطأ. قد عابوا على صاحبنا المتنبي قوله:

ليس إلاك يا علي همام
سيفه دون عرضه مسلول

ومتى امتنع هذا في الشعر فكيف بالنثر؟ وقال: انبطح على أضلاع صدره (ص٦٣). إن معنى انبطح انطرح على وجهه، فأي حاجة، بعد، إلى أضلاع صدره؟ هل فينا من يقول: انبطح على أضلاع ظهره ليميز بين الانبطاحين؟ فقولنا: انبطح واستلقى يعبر عن القصد، ولكن إذا كان الأستاذ يريد أن يفهم من ما لا يفهمون، كما ادعى الأستاذ … فالجرح جبار، كما قال بديع الزمان لأستاذه ابن فارس.

وقال: هل ما زال فاتك على حراسة المخيم (ص٦٣) وفصيحها: أما زال، أو ألا يزال فاتك … فمن يقول: هل ما درس فلان. إن الهمزة تستعمل في كل موضع، أما هل فلا.

وقال أيضًا في هذه الصفحة: أترى يكون هذا الشيخ فاتكًا هو إياه؟ علينا هنا إما أن نحذف هو إياه، أو أن نكرر الاستفهام فنقول: أيكون هو إياه. وما أرى المؤلف إلا متأثرًا بقول العوام «هوِّي ياه»، وهذه من نوع هو الآخر، أي: «هوِّي لَخْر»، وما كل كلام العوام يعرَّب.

وقال: وقد طاف الفرسان بالحي شارعين سيوفهم (ص٦٥). والرماح تشرع لا السيوف.

وقال: لأنها رأت سدًى أن تستشيره (ص٧٣). لا أدري إذا كان أحد القراء يستسيغها، أما أنا فلا. ومن طراز هذه قوله أيضًا: ثم خالت الصباح سيحمل إليها فرجًا (ص٧٥).

وقال: فغص بها حلقه واسترخت حنكه (ص١٠٢). كما قال بعد ذلك: واسترخت حنكا العجوز (ص١١٨). وكأني بالأستاذ قد ترجم هذه أيضًا عن العامة «رخي حنكو. رخي نيعو». فالحنك مذكر، وهما فكان لا حنكان. وإذا كان لا بد من هذا التعبير فاللفظة التي تستعمل هنا هي فكاه أو لحياه. فالحنك هو سقف الفم، وقد جاء في الزبور: ويلتصق لساني بحنكي.

ولست أدري لماذا أحبَّ التأنيث هذا الحب الجارف حتى قال أيضًا: ولحيته ترتقص ارتقاصًا مع سفلى فكيه (ص١١٧).

وقال: وافق أن يجعلها في مطبخه (ص١١٨)، وعليه أن يقول: وافق على أن … ثم عاد إلى «أرضًا» التي أكثر منها في روايته فقال: فوجداها منكبة أرضًا على وجهها (ص٣٧). ترى هل تنكب سماء؟ أهي صاروخ؟ ناهيك أنَّ انكب لا تناسب، والفصيح: معفرة وجهها في التراب. أتجيز هذا التعبير يا ز…؟ أم تراه محتاجًا إلى «قاموس»؟ وقال الأستاذ: قاموس الشتائم (ص٦٦). وكاتب محترم كرئيف لا يعبر بكلمة قاموس عن المعجم. إن القاموس عنوان معجم بعينه وليس من مرادفاته كما نتوهم.

وقال: قهرته على إرادته (ص٤٠). وهذا الفعل يتعدى بنفسه. لعلها قيست على قولهم: غلبه على أمره، ولكن هذه غير تلك، وفي قهرته غنى عن على إرادته. وقال: أن يلقاه رجالك فيركبوا عليه ذنبًا تأخذه به فتسجنه (ص٧١). أن «يركبوا عليه ذنبًا» عامية سوقية، ولكنها من البضاعة التي يريدها ز. ليفهم الناس عن الكاتب دون أن «يهديهم …» — والصواب: يهدي إليهم يا أستاذ ز — مع كل نسخة من روايته قاموسًا مدرسيًّا. وقال: فعلام بقيت ثيابه القديمة هي إياها (ص١٤٨). أهي قضية استحلاء أم هي قضية أصول؟! فالصواب: هي هي.

وقال: لقد مست القدر بأطراف أصابعها ثم مسحت على وجهها (ص٣٧). فلا يقال هنا: مسحت على وجهها ولا مسحت وجهها، فمسحت على وجهها كلام عامي غير فصيح، ومسحت وجهها يراد بها التنظيف، فعليه إذن أن يقول: ثم مسحت بها وجهها، أو ثم مسحت بالحمم وجهها. إن الأستاذ يعرف بيت الأخطل:

بني كل دسماء الثياب كأنما
طلاها بنو العجلان من حمم القدر

وكأني أسمع الأستاذ ز. حين قرأ هذا البيت، يقول: اسمعوا يا بشر! يريد أن نقول كالأخطل! نعم يا ز … إن كاتبًا موهوبًا كرئيف يطلب منه صحيح الكلام كالأخطل. وبعد أسطر من هذه الصفحة يقول: تشد ثيابها تريد تمزيقها (ص٣٧). وهو يريد قول العوام: تشد بثيابها. فيا ليته عبر هنا مثلهم فقولهم أقرب إلى الصحيح.

وقال: وينفق بذخًا وإني أبذخ (ص١٤٣). وفي هذه العبارة ضعف من جهتين: الأولى أن فعل بذخ ليس بمعنى الإسراف، والثانية أنه لا يقال: ينفق إسرافًا ليقول رئيف: ينفق بذخًا. وقال: كأن خنجرًا طعنه في صدره (ص١٠٧). وهذه أيضًا تعريب تعبير العامة: «كأن خنجر طعني في صدري»، الخنجر يا سيدي، يطعن به ولا يطعن هو. أما إذا كان قد استحدث خناجر أوتوماتيكية من هذا النوع ولم أسمع بها … فيكون الكلام صحيحًا!

وقال: فك هذا الوثائق عن يدي ضيفنا (ص٨٣). والصحيح فك وثاق، أما عاميًّا فيقولون: «فك عنو».

وبعد هذا الكر والفر في رواية «الحب أقوى» أقول: إنه بدا لي اليوم ما لم يبد لي من قبل، وهو أن تعبير الصديق رئيف متأثر جدًّا بالتعابير العامية، وهذا لا يفعل إلا بحذر شديد، فعليه أن يتدارك ذلك في قابل. ولعلي أكون في نقدي هذا له، قد أديت خدمة جلى إذ اكتشفت في أدبه شيئًا لم يكن يظهر لولا التمحيص. رحم الله من قال: مذاكرة الرجال لقاح الألباب.

هذا ما حضرني — الآن — يا ز … ولو كنت تعرف، يا أخا الإذاعة، خصائص لغة العرب لما استغربت انتقادي ذلك الاستغراب، بل لو كنت تعرف ما تولده حروف الزيادة من زيادة، ما قلت أني أعود بكم إلى عصر الانحطاط. إن العود إلى عصر الانحطاط حقًّا يكون حين لا نكتب صحيحًا بلغتنا، فيصح فينا قول المتنبي:

قد أفسد القول حتى أحمد الصمم

إن لغتنا لغة إيجاز، بل قل: لغة اختزال، فما علينا إلا أن نتبحر، ونقرأ كلام الفصحاء لتصح عبارتنا. إن من لا يكتب صحيحًا ليس بكاتب، ولو نطق بحكمة سليمان وفلسفة توما وابن رشد.

كنت أردت، أولًا، أن أجعلها «من الجراب» ولما وجدتني محتاجًا إلى عدل وضعتها في محلها هذا. وأعدكم، منذ الآن، بأن أكون أكثر وضوحًا بعد اليوم، فلا أحوج أحدًا منكم إلى الاستفسار والاستيضاح … إن للغة أصولًا وقواعد يجب أن تحترم، وإن أولى الكتب بالنقد الصارم أثر فني كرواية «الحب أقوى». وإني لأعتذر للصديق العزيز الأستاذ رئيف إذا كان يعد عملي هذا إساءة. إن من يعطي كثيرًا يُطلب منه كثير. ورئيف أديبنا المرجَّى فليدقق قليلًا. أما صاحبنا ز … فأشكره جدًّا؛ لأنه أثار هذا الصيد …

حاشية — كتب إليَّ «قارئ» — لا أدري لماذا استحى باسمه — يقول: إذن كيف نعبر إذا أردنا القول: وكاد يجن هو الآخر.

الجواب: وكاد يجن هو أيضًا. إن أيضًا لم تخلق إلا لمثل هذا المحل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤