مذكرات الأستاذ كرد علي

١

موضوعنا كتاب واحد ولكنه في الحقيقة أربعة كتب عدد صفحاتها ١٣٢٠ من القطع الكبير والحرف الدقيق. لقد غلب على كتب المذكرات أن تكون مذكرات فقط، أما مذكرات «الأستاذ الرئيس» فمواضيع شتى لا يربطها هذا العنوان. ففيها تذكارات رجل يحبو إلى الثمانين فدوَّن كل ما مر على رأسه من أحداث، وكل ما عانى من شئون وشجون معلقًا على ذلك كله تعليق مفكر بصير يشارك في كل موضوع حتى الفلسفة، وإن زعم أنه يكرهها. وفيها إلى جانب ذلك مقالات ومحاضرات لغوية وغير لغوية ليس بينها وبين المذكرات أبعد النسب!

صرف الأستاذ كرد علي حياته مناضلًا ومجاهدًا في خدمة الوطن، ولم يكن بينه وبين الشهادة غير خطوات شاء القدر ألا تكون لتظهر إلى الوجود «مذكرات» تدل على نواحي تفكير الإنسان جميعها، وعلى علَّاتها … فمن يقرأ مذكرات الأستاذ الجليل محمد كرد علي لا يعرف رجلًا واحدًا، بل يعرف رجالًا ودولًا وشعوبًا عرف الأستاذ من ميولها الشيء الكثير.

فمحمد كرد علي رئيس المجمع العلمي الدمشقي الدائم، وعضو المجمع العلمي الملكي المصري، قد استوزر مرات، ولعله يحق له أن يقول مع الطغرائي:

تقدمتني أناس كان شوطهمُ
وراء خطوي إذا أمشي على مهل

وقف الرجل حياته كلها على العمل المطرد، طاف العواصم قديمها وجديدها واضعًا قبالة عينيه جميع حاجات أمته. وها هو في قيلولته يكتب «مذكرات» حياة تنضح ألمًا، وقد أفلت صاحبها من خروم شباك أعدائه وحساده.

عايش الأستاذ دولًا عظيمة: نشأ في عهد الأتراك وتعلم في مدارسهم، فأتقن لغتهم كما أتقن الفرنسية والعربية، ثم رأى الدولة التركية تسقط، والدولة الفرنسية تنتدب على سوريا ولبنان، ويلي هو الأحكام. ثم عاين تقلص ظل الانتداب، وأبصر الاستقلال وما تبعه من انقلابات. وها هو يحدثنا في هذه الكتب الأربعة التي سماها «مذكرات» عن جميع من عرف وخالط من رجال أمر ونهي وأصحاب سلطان.

لست أوافق الأستاذ الجليل على عنوان كتابه الضخم؛ فهو جدير باسم أعم من المذكرات؛ لأنه تاريخ حقبة من أغزر الحقب أحداثًا. وإذا صح أن يسمى مذكرات فيكون ذلك كتسمية أفعال القلوب؛ لأن أكثر ما خطه قلم الأستاذ صادر عن القلب. ففي فاتحة كتابه التي سماها «روح المذكرات» يقول لنا: «أصور بهذا التقييد طائفة ممن عشت بينهم صورة صادقة … ليشاركني أبناء هذا الجيل والذي بعده في الإنكار على مَن أضجروني بقصورهم وآلموني بغرورهم.» فهو إذن، لن يرحم في مذكراته من آذوه.

لست أناقشه فيمن وفيما ذم وقدح؛ لأن هاتيك الشخوص التي تناولها قلمه بعيدة عني، لا أعرف عنها ما أعرف إلا بالسماع، والسمع لا يكفي غيبة البصر، إلا عند من كان أعمى كبشار! وإذا جاز لنا الحكم «غيابًا» قلنا: إن ليس عندنا لهؤلاء المذكورين أكثر مما أعطاهم، وما أنبأنا الأستاذ إلا بما شاع وذاع وملأ الأبصار والأسماع.

أما أسلوب هذه المذكرات فطلي رائق، ولعلها خير مما كنت أقرأ للأستاذ يوم كنت أطالع مجلته المقتبس الرصينة (١٩٠٨). ثم لم أقرأ له شيئًا بعدها إلا فصولًا كنت أتناولها من هنا وههنا.

كان الأستاذ في «مقتبسه» كاتبًا موضوعيًّا. أما هنا، في أكثر هذه المذكرات؛ فهو كاتب ذاتي. والكتابة الموضوعية لا تلذ لي كالكتابة الذاتية، وإن كان غيري يبتهر بها ويسميها «أسلوبًا علميًّا» سترًا لعورتها وثقل ظلها وفجاجتها.

إن صاحب المقتبس، أخا الأسلوب العلمي طول الحياة، قد أدخلته مذكراته في عداد الهجائين، وكثيرًا ما يستحلي الناس الهجاء. ولست أتجنى على الأستاذ الجليل — على غير معرفة — بما زعمت؛ فهو في مقدمة كتابه يقول: «ولعلي تعمدت هتك سترهم؛ لأنهم يهتكون بأعمالهم ستر هذه الأمة ولا يبالون.» ثم يختم تلك المقدمة بهذه العبارة: «الجهر بالحق من أول مراتب النهوض، والساكت عن الحق شيطان أخرس.»

لقد انكببت على مطالعة هذا الكتاب، مذ تفضل الأستاذ الجليل بإهدائه إليَّ، وسألني في رسالته لي التي بها شرفت، أن أكون ناقدًا لا مقرظًا. فغير قليل أن يقدر كلامي رئيس مجمع علمي طائر الشهرة، فكأنه بهذا قد جعلني من «خالدي مجمعه الموقر». وأنا بدوري لم أخلع عليه غير لقب الأستاذ، وإن كان «صاحب معالي سابق»، إلا لأنه صرح في فصل — لقب أسرتنا — إن كلمة الأستاذ هي أحب الألقاب إليه. ولست أستغرب هذا منه، أفما سبقه الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى مثله، وحرم كل شاعر مدحه ولم يسمِّه ابن ليلى؟

لقد رأيت الأستاذ في هذه المجلدات الأربعة يتبع الأسلوب المقفعي قصًّا وتعبيرًا، فالإنشاء ساذج عاطل لا تزيين فيه ولا تجميل؛ لأن المؤلف يحب الواقع ويكره الخيال، وقد أشار إلى هذا حين علل جنوحه عن القصة بقوله: «لاعتقادي أنها مختلقة. والاختلاق مما تأباه طباع من اعتاد التدقيق في النصوص.» فهو إذن واقعي في كل شيء حتى في الإنشاء والموضوع. يكره التجمل ولا تطيب نفسه لما يخالف الحقيقة. ولعل هذا كان سببًا أوليًّا في تكثير أعدائه وتقليل أصدقائه؛ فهو، كما بدا لي متبرم، لا متشائم؛ فالمتشائم لا يرضيه شيء، أما الأستاذ فراضٍ عن أشياء كثيرة وإن كره أشياء وثار عليها. إنه عدو التقاليد البالية والخرافات السمجة والآراء الخاطئة — راجع صفحة ٨٦٢ و٨٧٢ و٨٨٣ و١٠١٤ — فهو يهدم ويبني بجرأة حتى إنه عدَّ إيداع مال المسلمين في المصارف الأجنبية بدون ربا من «الحنبليات الضارة» وتمنى لو أخذت الفائدة وأحسن بها على البؤساء والمساكين. وهذا والله عين الصواب، بل هو الزكاة.

والأستاذ يغضب بل يثور على من ولوا الأحكام لتوظيفهم غير ذوي الكفاءة، «وأخذهم من مطرودين من شركة ماكنات وزيرين في عهد الانتداب». ثم يعالج تضخم الموظفين في سوريا ويرى الأقطار العربية كلها في هذا سواء.

وعدنا الأستاذ في مقدمة مذكراته «وقد رأى الدنيا مهزلة، أن ينزع قيودًا قديمة أثقلته مراعاتها فهو يريد أن يهزل وأن يسخر، وأن يضحك وأن يبكي.» أما أنا فقلما رأيت سخرًا وهزلًا، ولم أرَ لا ضحكًا ولا بكاء بل رأيت ألمًا مرًّا، وتهكمًا كأنه الجِدُّ، وهو غير لاذع. أما حين يحمل على من أساء إليه فتخاله بركانًا يقذف الحمم، يسمي الأشياء «أبشع أسمائها» حين ينتقد الناس وعاداتهم، ويرينا صدرًا رحبًا يتسع لكل جديد إذا لاءم المحيط. ولكنه لم يرَ في الشعر الرمزي خيرًا، كما رأى أن ما كتب في مناقب الأولياء والصالحين، هو أبشع النثر. «أما أبشع الشعر فهو مديح الأمراء والكبراء». وأما أنا فقد كنت أتمنى جدًّا أن أعرف رأيه في كتب المناقب والمثالب معًا.

وبعدُ؛ فكتاب الأستاذ الجليل محك رجال وأجيال وبلدان وأحوال، يحمل العبر ويحدثك فيغريك، ويسليك ويفيدك. ولا تمله — إذا كنت غير عالم لغوي — إلا في تلك المحاضرات التي لا محل لها من الإعراب في هذه المذكرات؛ ففي هذا المؤلف الضخم فكاهة ونكات وملح، وفيه دراسة شخوص وتحليل نفسيات بمقدار، ومواضيع تعالج جميع الشئون العالمية، وإننا لنظلمه إذا عددناه مذكرات فحسب. فمن أمثلة نقده للرجال قوله في الجابري: «فإنه خرج من الدنيا ولم يخلف غير ثيابه.» أما الآخرون فيرى أنهم أكلوا الدجاجة بريشها، وابتلعوا الأمة بعفشها ونفشها!

٢

والأستاذ صريح إلى أبعد حد حتى تستطيع لأول وهلة أن ترميه بالتعصب إذا كنت متعصبًا، ولكنك حين تقرأ حكمه العادل على ما لا يعجبه في كل ملة، تقر له بالترفع عن الهوى، وتدرك أن شعاره: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً. وفي الحقل الخاص ترى أن الأستاذ الناشر عيوب الناس، لا يداري عيوبه ولا يحابي نفسه، وخصوصًا عندما يحدثنا عن نشأة تأليفه وندمه على نشر رواية «يتيمة الزمان» التي حال غرور الشباب وحب الظهور دون إلحاقها بكتاب «حرية العرب» الذي وأده … ويناوح هذا الاعتراف إعجابه بأسلوبه، حين يحدثنا عن «ملكة الإنشاء» وحكاية حاله مع ذلك الوزير المرقعان. ثم قوله في موضع آخر: «إني لا أكتب لأتسلى أو أنال شهرة أو مظهرًا، وربما كنت أمتنع عن التأليف لو سمعت أن في المؤلفين اليوم من يعاونون ذا الضرب من الكلام الحر.» أما هذا الضرب من الكلام الحر، فيمثل عليه الأستاذ بمسألتين صرف فيهما جانبًا من اهتمامه، وهما: الاستثمار التركي والاستعمار الفرنسي.١

وقد رأيته متمكنًّا، واثقًا لنفسه بالنصر حين يعارض قول نابغة بنابغة، فيبدي رأيه بلا وجل مخطئًا من تعود الكتَّاب أن يمنحوهم العصمة خوفًا من شهرتهم الطائرة.

قد حسبت حين طفت في مجلداته من الباب إلى المحراب أنه غير راضٍ عن أحد، وأنه لا يعجبه شيء، فكأنه يحاول وضع تصميم جديد لهذا الكون. ومع ذلك أشهد أنني قرأت فيها أشياء كثيرة طالما كنت أتمنى أن أعرفها، وإن كنت قد استغربت جدًّا ما رواه عن ذلك القصر الذي يصعد إلى الطابق الأعلى منه بالسيارة! ولكني تقصيت الخبر فوجدته صحيحًا.

وفي هذه المذكرات حكم شتى، بعضها خطرات أفكار أوحتها الشئون والشجون، وبعضها كلام مأثور تصرف فيه الأستاذ فلم يؤده على حقه كقوله مثلًا: «الأفكار كالجواهر صنها عن إلقائها في معالف الخنازير.» وهو في كل حال يصور لنا أنفسنا عارية ولكن الذين يخجلون ماتوا.

وفي هذه المذكرات أيضًا كر وفر، ورواح ومجيء، ولهذا تراني أسايره وأماشيه. فبينا نراه، مثلًا، يرجو من النهضة الحاضرة خيرًا جزيلًا، إذا به يتأسف لأنه ظل حيًّا. فهو لا يطيق الحياة بيننا وقد ذهب من ذهب من رفاقه العلماء! أما نحن فنتمنى طول بقائه؛ لأن مثلنا يقول: من ليس عنده كبير فليشترِ له كبيرًا. ولعلي بهذا القول أكرم نفسي، إذ لم أعد ابن أربعة عشر …

أما ما كتبه الأستاذ عن لبنان فله رأيه في ذلك. ولست أناقشه فيه، بل لو شاء أن تؤلف جوقة مني ومنه ونغني: بلاد العرب أوطاني، لما أحجمت. أما بعد الاستراحة فأذكره باقتراح الريحاني … وبتأليفه «وزارة تسلية» في ضيعته «جسرين». قد يكون تأليف تلك الوزارة والكتب صورة عن الواقع. أفليست أكثر الوزارات للتسلية، إن لم نقل: ألقاب مملكة؟

والآن قد حان أن نتحدث عن الأستاذ كرئيس مجمع علمي. فأسلوب الأستاذ في مذكراته هذه مقفعي، كما قلت سابقًا ولكنه سهل غير ممتنع. وليس يعني قولي هذا أن الأسلوب الوجداني غير طيع ليراعة أستاذنا العلامة. فإذا كنت تظن هذا فإنني أدلك على مقاله الطيب «في عشر الثمانين» لتقرأ فصلًا من النثر المنمق الرفيع، الحافل بتحليل نفسي يعطيك مآله الصورة الفنية الكاملة للأستاذ كرد علي.

يكتب الأستاذ صفحات لا تقع فيها على كلمة غريبة عنك، حتى إذا تذكر أنه رئيس مجمع علمي، كرَّ على منجرد هيكل فيقيد الأوابد ويأتينا ﺑ «شق الأبلعة، وسجيس الليالي، وأخرة، وزبر» وغيرها. يكتب بتعبير اليوم ثم يقول: «هل ألفت كتابًا قط؟» نعم إن هذا الأسلوب البسيط هو أسلوب المذكرات، والأستاذ يكتب في مجلداته سيرة حياة، أو تعليقًا على هامش الحياة، فحسنًا عمل حين استعمل، ولم يتذكر أنه رئيس مجمع علمي، مثل كلمة «صرماية». فبأي لفظة يمكننا أن نعبر اليوم عن تلك الحمراء التي كانت خير هدية لنا في الأعياد؟ أنقول: الجرموق، أو الحذاء، أو النعل في عصر صار فيه للباس الرجل ألف اسم واسم؟ وإني أحببت منه استعماله لفظة «الطاقية» وكلمة «الجرد» اللتين لا يؤدي معناهما غيرهما. أما كلمة «البائخ» وعندنا ما يؤديها، فلا نقبلها من رئيس مجمع علمي رأيناه ينتقد كلمة مثلها في محاضرة ما مدرجة في مذكراته.

أليس على من يكره الطبع على غرار العباسيين في تعريب الألفاظ، ويطلب منا أن نقول: الطزر للبيت الصيفي، والشقب للسيفون، والمشن للدوش، وغيرها وغيرها … ثم يصف لنا ما قاساه «المجمعيون» حتى وضعوا هذه الألفاظ، فاستعمل الكتاب بعضها وتركوا أكثرها. أليس عليه أن يدقق أكثر؟ فلا يتألمنَّ الأستاذ الرئيس لإهمال الكتاب أكثر مسميات المجامع، فعلى «المجمعي» حين يريد وضع لفظة لمسمًى أن يفعل كالمهندس الذي يخطط الطرق العامة. فهو يسأل أولًا عن طريق القدَم والحافر، ثم يشرع في عمله. هذا ما أزعم أن على عضو المجمع العلمي أن يفعله، عليه أن يسترشد بمسميات العوام قبل أن يستشير كتب اللغة. سمَّى عوامنا «الكريب» أبو الركب. وسألت يومًا بدويًّا من عرب اللقلوق عن سبب غيابه الطويل فقال: مرضت ﺑ «الهدَّة». وسمى الفصحاء هذا العارض الضنك، وأخذها الفرنج عنا بلفظها، فماذا يمنع المجامع أن تفعل مثل هذا؟

ومن هذا الباب قول الأستاذ الرئيس المِفنِّين بدلًا من الفنانين، فكأنه يعارض التيار على غير جدوى، ومن يحاول هذه المحاولة وينعى على الكتَّاب عدم التحقيق أفلا يحق لنا أن نطالبه بجمعه مفتي على مفاتي. وبقوله: رهبنات من رهبانيات، وبكتابة جرؤ جرأ، وباستعمال ينعي والمضارع ينعى، وبقوله: «ورب قائل يقول»، مع أن جواب رب يجب أن يكون ماضيًا؟

وألا يحق لنا أيضًا أن نسأله ألَّا يقول: مهما بلغ الرجل من مراتب التهذيب «لا يخلو من نقص» فالواجب هنا إدخال الفاء على جواب مهما. وإن جوزوا هذا في الشعر؛ فهو لا يجوز في الكلام المنثور؛ لأن المجال واسع لإدخال أكثر من فاء. وهذا التعبير الذي يرد كثيرًا على أقلام بعض الكتاب لا أراه خليقًا بالرئيس: «يهتكون بأعمالهم ستر هذه الأمة لا يبالون.»

وقال الأستاذ: وكان أحد سادة القرية أبا سعيد درويش عند أبي يجلسان في دهليز بيتنا هناك. فأبا سعيد درويش ليست خبر كان لتنصب، ولكنها عطف بيان ورفعها واجب. ولا أعد ذلك غير سهو وخطأ مطبعي، وجل من لا يسهو. وقوله: إن هذه الملاحظة إذا صدرت منك يكن لها، والصواب يكون، لأن إذا لا تجزم إلا اضطرارًا أي في الشعر فقط نحو: وإذا تصبك خصاصة فتجمل. أما حدق بمعنى كرر النظر فتعدى بإلى لا بفي، وأخيرًا هذا التعبير «منذ وعيت على نفسي» فهو ليس من العامي الفصيح ليقبل من الرئيس الجليل.

أما التعريب فلي عليه ملاحظة أيضًا. عرب الأستاذ عنوان كتاب إنكليزي «جريدة سياسية» والأصوب هنا أن يقال: يوميات سياسية. أما في تعريب الأعلام فما أعجبني قوله: سان توما داكين، وقد عرب أسلافنا هذه اللفظة منذ أجيال وقالوا: القديس توما الإكويني، وهي أقرب إلى العروبة من سان توما داكين.

وأخيرًا أقف هنا مكبرًا جهود الأستاذ الأجل، ومقدرًا فضله أعظم تقدير، ولئن جحده شانئوه فالتاريخ لا يبغض ولا يحب وهو ينصف الأديب. أما انتقادي بعض هفوات فما كان إلا استجابة للرئيس المجاهد، واعتمادًا على الكلمة التي سبق ذكرها له: مهما بلغ الرجل من مراتب التهذيب لا يخلو من نقص.

ذكرى الأجداد — له أيضًا

صدقني إذا قلت لك: إنني وقفت إجلالًا لهدية المجمع العلمي الدمشقي، إنها حمل ثقيل لم ينقله إليَّ موزع البريد إلا بالكد. سبعة ثمانية مجلدات ضخمة، مطبوعة أحسن طبع، ومضبوطة أدق ضبط، فحيَّا الله رئيس المجمع ورفاقه أبطال الجهاد الأدبي، وليهنئ ابن الجهم، وابن حيوس، وابن عنين، والوأواء، وعبد القادر النعيمي، بل فليهنئ للأجداد جميعًا هذا البعث الجميل. فلو أثق أن البعث سيكون لي كما كان لهؤلاء لتمنيت أن تبقى جميع مخطوطاتي قرونًا، غطاؤها العنكبوت وسميرها العثُّ. ولكن من يضمن لنا أن سيقوم في المستقبل رجالٌ ككرد علي ومردم وجبري والحسيني والدهان من رجال البعث والإحياء؟

حقًّا إن هذا المجمع، وله مجلته الرصينة، ومنشوراته النفيسة، ليستحق أسمى الاحترام وأرفع التقدير، ولو كان هؤلاء الباعثون مجد دمشق الأدبي في عهد عبد الملك بن مروان لوسَّع لرئيسهم الأجل، وأجلسه حده على السرير، وأقر رفاقه حوله في السماطين. حقًّا إنهم كالبنفسجة التي ترسل عبيرها بتواضع عميق.

وبعدُ؛ فكنت قد تصفحت مذكرات الأستاذ الرئيس محمد كرد علي، وبُثَّ ما كتبت من محطة الشرق الأدنى مصدرًا بهذه الكلمة: تعودت أن أتحدث، كما هو المفروض، عن عدة كتب في ربع ساعة، أما اليوم فلست أتحدث إلا عن كتاب واحد، ولكنه كتاب كعشرين من كتب اليوم؛ فهو أربعة أجزاء في ثلاث عشرة مائة من الصفحات الكبيرة، وإني لأظن أن شيخًا علامة جليلًا أنفق الثمانين في خدمة الأدب واللغة أصدق خدمة ليستحق ساعة لا ربع ساعة.

أما اليوم، وقد أصدر حضرته — لا معاليه — كتاب «كنوز الأجداد»، الذي هو بحق كتاب العام، فأرى أن من حق الأدب علينا أن نستقبله الاستقبال الذي يستحقه.

فكتاب «كنوز الأجداد» ألَّفه لنا كنز حي، أمد لنا الله في أسباب حياته، ليخرج لنا دائمًا من ذخائره جددًا وقدماء، كما يقول الإنجيل. نعم إن الأستاذ الرئيس لم يكتب كتابًا لم يكتب أحد مثله بعد، ولا عالج موضوعًا لم يعالج، فلهذا الكتاب أخ من قبل، ولكن الجديد فيه هو أن مؤلفه يكتب لنا في موضوع مبتذل فنقرؤه كأنه جديد طريف. يصدر الأستاذ في موضوعه عن شيئين: عن شخصية ريَّا أولًا، وعن المصادر ثانيًا، فإذا تكلم عن معلمه الشيخ طاهر الجزائري صوره لنا تصويرًا ناتئ الخطوط. إن سفينة الأستاذ الجليل ذات شعارين، الحب والبغض، ولكن هذا الحب وذاك البغض لا يطوِّحان بالسفينة. نعم إنها تجري حينًا على حكم الهوى، مقصورًا وممدودًا، ولكنها ما ارتطمت قط بصخور الجور. يظل دائمًا حكة الحق، فلا يجور طورًا ويهتدي كملَّاح طرفة.

تقرأ سيرة الشيخ طاهر، بل قل: دراسة تلك الشخصية الفذة النبيلة فتجد التلميذ قد كشف كل ستر مغطًى وأراك أستاذه في مباذله وآلته البحترية … إن التلميذ يجل أستاذه الطاهر ولكنه لا يستر عليه، حين يعدو طوره — مثلًا — ويسأل الطبيب دواء يميته حالًا ليرتاح من آلام لا تطاق، ثم يقول للطبيب: إن في الشرع ما يبيح ذلك.

هنا يستيقظ الإسلام الصحيح في صدر التلميذ فيقول في معلمه: «وهذا من أغرب ما سمع عن عاقل. فركن الطبيب إلى الفرار وحلف ألا يعود إلى تمريض الشيخ.»٢
وبعدما أملى الوفاء على الأستاذ الرئيس ستًّا وأربعين صفحة من القطع الكبير والحرف الدقيق كتبها في التعريف بمعلمه الجزائري، راح يتحدث عن ابن المقفع تحدث مَن يعرف ما في زوايا صدور النوابغ من خبايا، فختم الفصل بقوله: «وبعد، فإن ابن المقفع في كل حالاته، مجموعة من الكمال المطلق، لا تدري من أي شيء تعجب فيه. وكل ما خص به ابن المقفع من بيان، كان مما يستغرب حقيقة لو لم يطبق على نفسه ما دعا إليه من الأخلاق؛ فهو في علمه وعمله سواء وغاية، لا يخدع ولا يكذب … يعمل الصالحات من دون غرض يتوقعه، ويدعو إلى الإصلاح ولا غاية له إلا رفع شأن جماعة الإسلام. هو روح ندر ظهور مثله في القرون الطويلة.»٣
لا تتعجب إن رأيت الأستاذ كرد علي يخالف الجماعة في ابن المقفع؛ فهو يقدس شيئين: العقل والخلق العظيم، ولذلك تراه في «كنوز الأجداد» وفي «مذكراته» عدوَّ كل خرافة. إنه في كتابيه هذين ناقد أدبي اجتماعي، انتقد ابن خلدون الذي أجمع الناس على كبر عقله فقال فيه حين رآه يثبت «الكشف» لأهل المجاهدة: «وبهذا التخريف قد أثبت — ابن خلدون — أنه من المحافظين … وكان يسعه لو لم يعتقد في هذه الخرافات أن يطرح هذا المبحث، فينقِّي «المقدمة» من العوسج والبلَّان.» وأخيرًا يرى أن المقدمة درة تاج أعمال صاحبها، وأن هذه الهنات فيها كانت لها بمثابة عوذ لها من العين.٤ أما في تاريخه الكبير فيراه من المؤرخين المحافظين، وكالذين تقدموه.
ويمشي أستاذنا في هذا الكتاب على سننه فتراه طورًا مهاجمًا وتارة مدافعًا. يهاجم الخوارزمي، لتحامله على الأمويين والعباسيين حتى يقول فيه: وخير الأدب ما صدق قائله، ومن دوَّن الكذب وقال: إنه أدب؛ فهو مغبون الصفقة.٥ ثم يؤيد رأيه هذا بالكثير من أقوال الخوارزمي. وهذا يدلنا على تأييد الرئيس للحق أين وجده، وإن كان يحلو له دائمًا أن يجد مجال القول ذا سعة.
أما الجاحظ فبعدما عظم الأستاذ من قدره ووجد فيه رجل العقل الفذ رأى أن لا بد من أن يقعد للمظالم فيقضي بين الجاحظ وعدوه ابن قتيبة، فيرى الدينوري رجل جمع لا رجل وضع كالجاحظ، فيقول في أحد كتبه: «وكتابه هذا كأكثر كتبه منقول عن غيره، وليس له فيه غير سطور معدودة.»٦ ولكنه في مكان آخر يعترف له بالتحقيق والتنسيق والترتيب حتى أبرز تآليفه منقحة محررة.٧
أما في دفاعه عن الجاحظ فكانت عدته من كتاب ابن قتيبة «مختلف تأويل الحديث»، فكأنه بهذا يقول له: من فمك أدينك. قال: وما أخذ به الجاحظ بسبب قول الشيء وضده يعدُّ من حسنات الجاحظ. وكيف لعمري قضى ابن قتيبة على خصمه في مذهبه هذا القضاء، وهو القائل في «عيون الأخبار»: «وليس الطريق إلى الله واحدًا، بل الطرق إليه كثيرة، وأبواب الخير واسعة.» ثم قال: هجن ابن قتيبة الجاحظ وكفره ورماه بأعظم كبيرة وهي الكذب، وسجل عليه أنه أكذب واحد في الأمة؛ لأنه كتب أشياء تنفع في تربية العقول، كما كتب كل ما ينفع الدين، وابتدع أدبًا يُسلِّي ويعلم.٨

إن مثل هذا النقاش الرائع الحكيم هو الذي يحيي وينعش كتاب «كنوز الأجداد»، وأشهد أني أعرف أكثر ما تضمنه هذا المجلد، ومع ذلك وجدتني أقرؤه بلذة ورغبة؛ لأن مؤلفه يستعمل عقله، ولا يؤمن أبدًا بكلمة ما ترك الأول للآخر. نعم إنه لم يتجرد من عاطفته كل التجرد، وأي ناقدٍ استطاع هذا قبله ليستطيع هو.

وللأستاذ بصر ثاقب بأساليب الكتَّاب؛ ولذلك نسب كتاب «المحاسن والأضداد» لأبي الأدب العربي، غير عابئ بما حام حوله من شك، ولا عجب في ذلك فكل بصير كالأستاذ يرى أذني الجاحظ تظهران من بين سطوره.

وكما أعترف للجاحظ بالمحاسن والأضداد كذلك أنكر أن يكون «نقد النثر» لقدامة. وبناء على هذا القياس أثبت أن في «معجم الأدباء» ما هو منحول، ولا بدع أن صدقت أحكامه فالإنشاء هو الرجل، كما قالوا.

ودافع الأستاذ أيضًا عن ابن تيمية رجل العقل الآخر فقال: «لو عمَّت دعوة ابن تيمية لسلم هذا الدين من تخريف المخرفين على الدهر، ولا سمعنا أحدًا في الديار الإسلامية يدعو لغير الله.»٩ إلخ.
وقد أعجبني رفض الأستاذ الكبير ما نسب إلى الصاحب من رد كتاب «العقد الفريد» كما أعجبتني جدًّا تسميته المقامة بالقصة المخنوقة. وأعجبني هذا الحكم الصادق: ولو ادعى مدعٍ أن الكتابة ما ختمت بابن العميد، كما قالوا، بل بالهمذاني لكان حقًّا ومذهبًا. فمثل ابن العميد كثار غير قلائل. وبعضهم أكتب وأشعر. أخملَهم تخلُّفُ الدنيا عنهم، وللشهرة أسباب قد تخطئ أعظم مستحق لها.١٠ والأستاذ في كل حال يكره السجع عمومًا وسجع الحريري خصوصًا، ويرى السجع غير صالح ومنافيًا للطبع.
وكأني أراه في «كنوز الأجداد» يحمل بيمينه مصباحًا ويفتش عن رجال العقل فيقع على الراغب الأصفهاني وابن حزم فيدافع عن الأخير بقوله: «وعابوا عليه أنه خالف أرسطو في بعض آرائه، كأن نقد صاحب الرأي من الكبائر.»١١ ولما أقبل على الذهبي رأى فيه رجلًا ساير العقل فتفرَّد في تآليفه.

وقصارى الكلام أن هذا العلامة لا يمر بشيء دون أن يعلق عليه. يتساءل أبدًا ويجيب، وتلك سمة المهتدين بنور العقل، ولهذا كان الأستاذ الرئيس في هذا المصنف من تصانيفه النفيسة مثال العالم المفكر والأديب الأريب. كان واقفًا على سلاحه دائمًا فهو إما مهاجم مبادر، أو مدافع مناصر. جمع فيه الموضوعية والذاتية. تعاون مع من درسهم تعاونًا كليًّا، فأبرز شخصياتهم كالمصور البارع. وقد أوضح لنا هذا في أول سطر من كتابه، فقال بعد البسملة:

«يحمل هذا التصنيف سيرة بعض من طالت عشرتي لهم، واغترافي من معين أسفارهم من رجال الإسلام.»

وتلك سجية الأدباء الكبار؛ فإنهم يدرسون من هم على شاكلتهم، فتتجاوب الأنغام وتتآلف. ومثلنا على هذا ما قاله الأستاذ في سيرة أبي عبيد البكري: «هذا غاية ما عرف من سيرة فريد قطره ووحيد فنه، ابن الأندلس العظيم في عهد ترديها السياسي، وقد وقاه الله شر السياسة فلم ينغمس فيها كما انغمس أجداده، وإذا لم تكتب له الشهرة في السياسة وفيها ما فيها من إضاعة العمر على الأكثر؛ فقد كتبت له الشهرة بتآليفه.»١٢

أفلا تظن معي أن المؤلف يتحدث عن نفسه من حيث لا يدري، أو يدري؟ ألا يعبر بهذا عن أسفه على أيام ضيعها في ميادين السياسة؟ وأما قوله: «رتب أبو عبيدة معجمه على حروف أبي جاد»، فليته ماشى الزمان وقال: «أبجد»، فكلمة أبي جاد مهجورة ولا يفهمها واحد من ألف ممن سيستنيرون بآراء الأستاذ الرئيس في «كنوز الأجداد».

وهناك أيضًا غير هذه كلمات كانت إضافتها إلى جدول التصويب واجبة، مثل: «إلا إذا كان ثمة شيئًا لا يعرفه»١٣ فهي شيء لا شيئًا.
وفي ترجمة الخوارزمي عبارة لست أراها صالحة وإن كتبها الثعالبي: وكانت حاله مع صاحبها كهي مع طاهر بن شاد١٤ لأننا نحن اليوم لا نقول: كهي.
وقد وقع أيضًا خطأ في هذه العبارة: «والسلطان لا يأمر ولا يَنهِي»، والصواب: لا يَنهَى.١٥ ثم يجب حذف الياء من ابتغي في هذه العبارة: «ابتغي زوجي قراطيس وقطعها رقاعًا صغيرة.»١٦

أقول هذا؛ لأني قرأت في آخر الكتاب تصحيح هنات كهذه، فما هذا خطأ إن هذا إلا سهو، وجلَّ مَن لا يسهو. وقد تكون خطيئته في رقبة المطبعة.

وختامًا: إننا لنسأل لشيخنا الأجل الذي لم يسأم تكاليف الحياة كزهير، أن يعمر كلبيد؛ لأنه ما زال يفوت القرح المجتمع أشدُّهم في إنتاجه الغزير السمين.

١  ص١٠١٠.
٢  ص١٤.
٣  ص٦٦.
٤  ص٣٩٤ و٣٩٥.
٥  ص١٩٣.
٦  ص٨٩.
٧  ص٩٥.
٨  ص٨٩.
٩  ص٣٦٧.
١٠  ص٣٦٧.
١١  ص٢٤٧.
١٢  ص٢٦٧.
١٣  ص٢٧.
١٤  ص١٩٠.
١٥  ص٣١٦.
١٦  ص٣٣٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤