مجمع اللغة العربية الملكي

دَعَسْتُ عَلى غَطْشٍ وبَغْشٍ وصُحْبَتِي
سُعارٌ وإِرْزِيرٌ ووَجْرٌ وأَفْكُلُ

كم كنا نقلب شفتنا السفلى، وكم كنا نمطهما كلتيهما عندما نقرأ هذا البيت، وكم كان يتمطق به أستاذنا الجليل، رحمه الله، عند شرحه له إجمالًا وتفصيلًا، بعد تغنيه وإعجابه بأخٍ له من قبل، وهو:

ولي، دونكم، أهلونَ: سِيدٌ عَمَلَّسٌ
وأرقطُ زُهلول وعَرفاءُ جيألُ

فيقف عندهما وقوف امرئ القيس بسقط اللوى بين الدخول وحومل، فيرى في الشنفرى بطلًا صنديدًا وشاعرًا فحلًا خنذيذًا.

كان أستاذنا — دفَّأ الله ضريحه؛ فهو مقبور في صرود لبنان — مفتونًا بالغريب متيمًا بالألفاظ الضخمة القعقاعة، لا يرضى الكلمة إذا كانت أقل من رطل وزنًا، وكان يعجب حتى الجنون بقول الشاعر:

وأدكن عاتك جحلٍ ربحلٍ
… … … إلخ

حتى كنا نرى كل شعرة من لحيته ترقص، وتقطر لذاذة. ويكاد يريل كمن ينظر إلى أكلة يشتهيها. ولا أزال كلما أذكرته إخال كأنني في حضرته أسمعه يقول لنا: انظروا معي يا أولادي وتأملوا ما أدق هذا البيت!

سبحان محيي العظام وهي رميم، جاء مَن يعرفك يا خرُّوب، فهذا المجمع العلمي المصري قد انسل اليوم إلى سراديب المعاجم وأقبية اللغة وفتَّش بين الخرثي وسقط المتاع حتى إذا وقعت عينه على «الإرزيز» أخذها بيدها قائلًا لها بلهفة: قومي يا حبيبتي، حمدًا لِمَن أراني محياك الوسيم، أنت «التلفون». وهكذا انتقى لأحدث اختراع أعتق لفظة.

هكذا تحيا الألفاظ، وهكذا تكون «الرجعة» يا مَن يدينون بها، من جبران إلى نعيمة فصاعدًا، ومن فلامريون إلى هيغو ولبنز وفرجيل وأفلاطون فنازلًا، وهكذا يُبعث من مدافنه الكلام، متى نفخ في صور التجديد، ولماذا لا؟ أما معنى الإرزيز الطويل الصوت؟ وهل أطول من صوت تسمعه من لندن ونيويورك؟ ثم أليس شريط التلفون طويلًا وطويلًا وطويلًا؟! وإن توفِّ الطول حقه من التعبير الطهحسيني الطريف، يجب أن تردد كلمة طويل مليون مرة. عفوًا سادتي أعضاء المجمع قلت: «مليون» وقد تكونون قررتم «ملائكة وربوات» فأنا لم أطلع بعد على المجلة التي أخرجتموها للناس، أما الإرزيز وأخواتها الجميلات فقد بشَّرني بهن سلامة موسى في مجلته الجديدة.

وعلى قياس الإرزيز يجب أن نسمي الكهرباء «الأفكل» فكلتاهما في بيت واحد، ومعنى الأفكل: الرعدة، والكهرباء ترعد، وبهذا يقر الشاعر الصعلوك عينًا ونحصيه مع المعري، ويكون قد تنبأ على التلفون والكهرباء، كما تنبأ المعري على مذهب النشوء والارتقاء، قبل أن قال به داروين، أما قال المعري:

والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد؟

فعلى خطة «الشميِّل» في تفسيره وتأويله يكون المعري عرف الطيارات والغواصات أيضًا قبل اختراعها، أَوَلم يقل:

أقلقتم السابح في لجة
ورعتم في الجو ذات الجناح؟

لله نحن، تهزَّأ المعري منافقًا بقصة الخلق فقلنا أدرك سر التطور! وأغرب من هذا قول أحدهم: إن شكسبير عربي أصله، وتعريب اسمه «الشيخ زبير». وفي «الرسالة» مَن يحاولون أن يجعلوا لامرتين عربيًّا. فكيف رأيت؟!

أظن أن المجمع العربيَّ المصريَّ يسير على ضوء هذا المصباح في تعريبه الأسماء، حتى يرى في اللغة العربية أسماء «ما يرى وما لا يرى». فإن كانت كل أعماله كهذه الخربشة فبشِّر لغة الكتاب الكريم بنصر من الله وفتح قريب.

كنا نعلم أن فينا عقولًا متحجرة، وأن فينا مَن لا يقلعون ثيابهم العتيقة لئلا يبردوا، أما ما رأيناه فما ظننا قط أنه سيكون.

إذا كان التلفون إرزيزًا والراديو واحيًا والديركسيون دوطيرة، والمتر ذراعًا إفرنسية، والموتوسيكل زفزافة «وهذه الزفزافة خير أخواتها البشعات»، فوا خجلنا من العباسيين إذا بُعثوا ورأوا أحفادهم يعرِّبون هكذا!

ماذا يقول أولئك الذين عربوا: الأستاذ والساذج والبرهان والبرواز والدينار والسراج والمنجنيق والحرباء والدست والدستور والدرفس والبيرق والبند والدف والدكان والدولاب والدفتر والدلو والدهليز والرطل والخز والطيلسان وألوفًا غيرها؟ وهي تكاد تكون بلفظها الأعجمي، لقد عربوها ولم يستنكفوا عن عجمتها بل صبُّوها في قالبٍ عربيٍّ ولم يبالوا.

ما هذا يا سادتي العلماء؟

أيرضى بالإرزيز مَن لم يعجبه الهاتف؟ رحماكم بهذا اللسان، فالذي لا يتطور لا يكون من الأحياء. أما أخذ الفرنجة: البرنس والمسكين والدرويش والديوان والصفة ومئات غيرها بلفظها، وأدخلوها في معجمهم، فأي عار لحق لغتهم؟! أمَّا أن نظن أن لغتنا كما وصفها حافظ إبرهيم تمامًا، فهذا لا أدري ما أسميه!

فعلى قياس تعريبكم المتر بالذراع الإفرنسية واليرد بالذراع الإنكليزية ماذا كان يجب أن يعرِّب العرب كلمة رطل؟ بل ماذا كان يجب أن يقول الفرنجة بدلًا من درويش وديوان وصفة … إلخ؟ هذا سؤال نطرحه عليكم حتى إذا أفتيتم — مأجورين — تدارك المجمع العلمي الإفرنسي خطأه وأصلح معجمه.

فحنانيكم سادتي، وعرِّبوا الألفاظ تعريبًا لا يقطع الصلة بينها وبين المسميات، اتركوا فيها رمقًا من الحياة. أيكون العباسيون أحذق منكم وأنتم من خير رجال العلم؟

أما عرَّب العرب الدولاب وعندهم المنجنون، والدكان وعندهم الحانوت، والطيلسان وعندهم أسماء كثيرة عربية؟ أما عربوا المهر وعندهم ما يضاهيها، واشتقوا منها فعلًا «مهر»، أما عربوا السراج وعندهم المصباح، أما عربوا الدرفس والبيرق والبند وعندهم العلم والراية والغاية «الغاية بمعنى العلم، للألثغ»، أما عربوا الخلخال وغيرها حرفيًّا، أما عربوا الرطل من «رتل» الفارسية؟ فلماذا تأنفون أنتم من المتر والتلفون واليرد والراديو؟

هذه بليَّة والله ما توقعناها، فيسِّروا سادتي ولا تعسِّروا، قرأنا في الأهرام وصف جلستكم الأولى، وطالعنا خطبكم وقصائدكم ومقاييسكم فسررنا وتفاءلنا، ولكن إرزيزكم ودوطيرتكم وذراعكم الإفرنسية والإنكليزية وما إليها خنقت في الصدر كل أمل.

أتكأكأتم يا قداميس اللغى، لتأتوا بالحديدبى؟!

أليس بهذه الألفاظ الرشيقة يجب أن نخاطب مَن يسمون التلفون إرزيزًا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤