البئر

قالت أمي: إياك أن تمر أمام هذا البيت!

قلت مستنكرًا: ولكني أفوت عليه كل يوم!

قالت بسرعة كأنها تريد أن تتخلص من الموضوع كله: إذن فلا تقترب منه ولا تنظر إليه، امشِ في حالك والسلام.

سكت، وأدركت أنها لم تقنعني كما كانت تريد، فتركت الثوب الذي كانت ترفعه وقالت: هل تريد أن يطلع لك شحاتة بك؟ هي كلمة وبس، إياك أن تُعتِّب هذا البيت.

أخذت حقيبة كتبي ومضيت إلى حجرتي، أخرجت كراسة الواجب ووضعتها أمامي، لكني لم أجد لي نفسًا في شيء، ما الذي يخيف أمي من هذا البيت؟ لا أمي وحدها، بل أبي أيضًا، وأخي الأكبر، والتلاميذ في المدرسة، كل إنسان يتجنَّب سيرته، وإذا جاء على لسان أحد غمغم بكلماتٍ غامضة، وسرعان ما يسكت أو يستعيذ بالله من الشياطين، مع أنه بيت مثل كل البيوت، قديم، عالٍ، سلالمه متآكلة، جدرانه سقط من عليها الطلاء، وعلى واجهته الرزينة المتجهمة آثار عز زائل، كان يبدو من منظره كأنه مهجور، ولولا أنني كنت أرى بنفسي في بعض الأحيان شباكًا مفتوحًا فيه، أو أشاهد بعض الناس يدخلون أو يخرجون منه، لاعتقدت — أنه — كما يقول البلد كله: مسكون، صحيح أنني لا أراه إلا بالنهار.

في طريقي إلى المدرسة أو عند عودتي منها، ولم يحدث أبدًا أن رأيته بالليل، في تلك الساعة التي تخرج فيها الأرواح من سجونها تحت الأرض، وتهرول في البيت أو تصرخ في النوافذ أو تلقي على الناس الأحجار من الشرفة، لكن لو حدث لي هذا، فهل أرى حقًّا شحاتة بك، هل سيجري ورائي كما قالت لي أمي بعصاه الطويلة وقامته النحيلة، ويلعنني بلغته المشهورة وهو يصيح: ابعدوا يا شحاتين يا غجر؟

وهل سأستطيع أن أرى وجهه النحيل الصغير كوجه الفأر، وعينيه الضيقتين اللتين تطقان بالشرر وقد وضع فوقها — كما أكدت أمي — نظارة بسلك مثل نظارات الصرافين؟

بقي السر مكتومًا عني، وبقيت أسمع عنه همسًا في البيت وفي المدرسة، كنت أمر عليه كل يوم فتتحرك شفتي — على الرغم مني وبحكم العادة — بقراءة الفاتحة أو بما أحفظه من سورة ياسين، لكنني لم أكن أنسى في الوقت نفسه أن أتأمله في عناد، وألاحظ نوافذه وبابه والخرابة محيطة به بدقة، ويقال: إنها مقبرةٌ قديمة، تضم فيما تضمه رفات شحاتة بك وربما أيضًا نظارته وعصاه، وأقول لنفسي بين الشك والسخرية والاستياء، إنه بيتٌ مظلوم بكل تأكيد، وأن حقيقته مثل كل المساكين في هذه الدنيا، أفضل بكثيرٍ من سمعته، إلى أن جاء اليوم الذي رأيتها فيه، كنت أطوح حقيبتي إلى الأمام والخلف وأتعمَّد أن أمشي مشية من لا يكترث بالأرواح على اختلاف أنواعها، وحين أبصرتها في الشرفة، توقفت يدي عن حركتها، ونسيت قدمي الحجر الذي كانت تحرص على أن تدفعه من باب المدرسة إلى عتبة البيت، وتسمرت في مكاني أراقب الوجه الذابل العجوز، والشعر الفاحم المنثور في فوضى على العينين والصدر والكتفين، والجسد القصير النحيل المائل على حافة الشرفة يكاد أن يسقط منها، لا أدري حتى الآن ما الذي جذبني إليها، ولا ما الذي منعني من أن ألوذ بالفرار، لم يكن ما اعتراني خوفًا، بل ربما كان خليطًا من الحزن والدهشة والإشفاق والرغبة في حب الاستطلاع، ولا أدري لماذا نسيت كل ما قيل لي عن الأرواح والأشباح والبيت المسكون، فقد كان هناك جسد لا أستطيع أن أشك فيه، جسد تستطيع عيناي أن تحيطا بكل أبعاده وقسماته، وكان هناك الوجه، الوجه الأبيض المعفَّر بالألم والتراب، والتجاعيد التي بدأت تهزم الشباب، أحسست أن المرأة تنظر إليَّ، لا بل تثبت عينيها فيَّ، عينيها الواسعتين الجامدتين اللتين كنت أبحث عن لونهما، وربما أتوقع في كل لحظة أن تسقط منهما الدموع فوق رأسي، وفجأة رأيت ذراعها اليمنى تتحرك وتشير إشارة خاطفة نحوي، اقتربت قليلًا فوجدت اليد تشير بإلحاح، والصوت الخافت ينطلق — ربما من كيانها كله — ويهمس: تعالَ، تعالَ يا حبيبي!

لم أدرِ ماذا أفعل؟!

كان يمكن أن أقول: ماذا تريدين مني؟ أو من أنت؟ أو ما اسمك؟ أو أجري هاربًا لأتخلص من الموقف كله، ولكن يدًا لمست كتفي وهزته بقوة جعلتني أنزل عيني عن الشرفة لأرفعها إلى فلاحٍ طويل، رأيت قدمَيه الحافيَّتين ولاحظت الحبل الذي يشد به بقرة نحيفة، تقف غير بعيد مني وتنظر هي الأخرى إليَّ بغير اهتمام: امشِ يا بني على داركم، دي مجنونة الله يشفيها ويشفي المسلمين، روح يا ابني على طول.

جررت ساقي بصعوبةٍ، تطلعت إلى المرأة فوجدتها ما تزال تنظر إليَّ، كانت ذراعها قد توقفت عن الحركة، ويدها التي كانت تشير إليَّ تسند رأسها وتغيب في طيات الشعر الفاحم المنقوش، لم أدرِ إن كانت في الحقيقة تنظر إليَّ أو إلى الفلاح أو إلى البقرة، لكنني شعرت من بعيد أنها تمد لي حبلًا من الحنان والدفء، يتابعني في كل خطوة، ويكاد يتلوَّى يائسًا حولي دون أن يتمكن من تطويقي.

لم أنسَ في اليوم التالي أن أرفع عيني إلى الشرفة الخشبية القديمة باحثًا عنها، ولا نسيت عند عودتي من المدرسة أن أفتش عنها في كل النوافذ المقفلة، كان يخيل إليَّ أنها تختبئ في مكانٍ ما، وراء نافذة أو ستارة أو باب، وأنها تمد إليَّ الحبل الخفي باستمرار، وتعودت أن أتلكأ أمام البيت، مختلِقًا الأعذار التي تخفي حقيقتي عن المارة أو تلهيهم عني، كنت أفتح حقيبتي لغير سببٍ واضح، أو أخرج كتابًا أطالع فيه بغير مناسبة، أو أقذف حجرًا على السلالم المتآكلة دون كلل، أو ألعب بالنحلة الخشبية التي تنتهي بخيطٍ في يدي، وأنا ساخطٌ على نفسي لهذه الحيل السخيفة، كل هذا وعيني لا تغادر الشرفة التي أنتظر أن تفتح بين لحظةٍ وأخرى، ليطل منها الوجه الذابل العجوز، ومرت أيام طويلة دون أن ألاحظ شيئًا، اللهم إلا رجلًا نحيلًا شديد النحول، رأيته مرةً يدخل البيت ثم يتوقَّف قليلًا ويلتفت نحوي ليقول بسرعةٍ ويأس شديد: امشِ يا شاطر.

إلى أن كان يوم سمعت نوافذ الشرفة تفتح فجأة، كانت هي بعينها، بالوجه الذابل العجوز والشعر الفاحم المنتشر في فوضى على العينين والصدر والكتفين، لم تكد تراني حتى أقبلت على السور الخشبي في لهفةٍ، وأشارت إليَّ هاتفة: تعالَ، تعالَ يا حبيبي!

تشجَّعت وألقيت السؤال الذي أعددته منذ وقت طويل: ماذا تريدين؟!

قالت وهي تضع يدها على رقبتها كالمختنقة: أشرب، عطشانة يا حبيبي.

لم أصدق أن مثل هذا البيت خالٍ من الماء، ونظرت حولي لم أجد زيرًا ولا قلة، فسألت: تشربين؟ من أين؟

قالت مؤكدة: من البير!

تلفت مرة أخرى فلم أجد البئر الذي تتحدث عنه.

ثم سمعتها تقول: لا لا، البئر هناك.

ورأيت يدها تشير إلى بعيد، ربما إلى الجسر القائم على الترعة، أو إلى المدرسة، أو ما وراء البلد كله، ولم أستطع أن أتذكر وجود بئر في أي مكان، وسكت فعادت تقول في هدوء: عاوزين يسموني، هات لي أشرب يا حبيبي، عطشانة.

وظلت تكرر كلمة عطشانة وأنا أتطلع إليها في حيرة، وفجأة فُتح باب الشرفة وأطل وجه الرجل النحيل الذي رأيته يدخل البيت منذ أيام، وذراعه تمتد إليها وتجذبها بشدة وهي تهتف عطشانة، عطشانة، وباب الشرفة يغلق في عنف، ومرت لحظات قبل أن يفتح باب الشرفة من جديد، ويطل منه وجه الرجل النحيل الصامت، مال بجسمه على السور وتلفت في كل اتجاه، ثم أشار إليَّ يائسًا وقال: روح يا شاطر، روح!

فلما وجدني لا أزال واقفًا في مكاني وبدا عليه الاطمئنان؛ لأنه لم يصادف أحدًا يمر في الشارع قال: روح يا ابني، روح سيبوا الناس في حالها!

لم أخبر أحدًا بما حدث، طويت صدري على السر الذي ظننت أنه ملكي وحدي، بالطبع لم يغب عني أن كثيرين من أهل بلدتنا قد سمعوا عن هذه المرأة، وربما رآها بعضهم في الشرفة كما رأيتها، أو سمعها تناديه أو تكلم نفسها أو تشير إليه، لكنني كنت على يقينٍ بيني وبين نفسي بأنها لم تطلب من أحد سواي أن يسقيها، وحتى لو كانت قد طلبت هذا من أحد غيري، لما كان في الأمر شيء، فلم يكن السر كله في أنها عطشانة، فهذا شيء قد يعرفه معظم الناس، وقد تعرفه أمي وأبي وأخي الأكبر أيضًا، وإن لم يحدثوني عنه أبدًا، ولكن مصدر افتخاري وسعادتي — أجل كانت سعادة لا أدري كيف لم أخجل منها — هو يقيني بأنها لم تكلم أحدًا غيري عن البئر الذي أرادت أن تشرب منه، ولم تكلف أحدًا غيري بأن يسقيها منه.

أحسست من ذلك اليوم بأنني مكلفة بمهمةٍ حقيقية، لا أدري حتى الآن ما الذي جعلني أشعر بعبئها الثقيل فوق كتفي، ولا أدري إن كنت قد تصورت أنني سأجد ذلك البئر البعيد في أي مكان، بل ولا فكرت إن وجدته كيف أوصل إليها الماء الذي آتي لها به، كل ما أذكره أنني قبلت أن أقوم بهذه المهمة، لا بل تحمست لها وشعرت بضرورتها وجدواها، هل غاب عني أن المرأة مجنونة؟ هل كنت أجهل أن ما تقوله مجنونة عن بئر مجهولة لا يزيد عن كونه جنونًا في جنون؟ بالطبع لم يغب هذا كله عني، لكنني كنت أعتقد لسببٍ لا أدريه أنني مكلف بالبحث عن هذه البئر، كما كنت متأكدًا أنني لا بد أن أجده بمعجزةٍ من المعجزات، ومضيت أبحث عن البئر في كل مكان، في البداية لم أكن أسأل أحدًا بل رحت أفتش في الاتجاه الذي أشارت إليه، وراء المدرسة وعند الجسر، في داخل العزبة الصغيرة التي كانت تقع بالقرب من مدرستنا، وتسكنها جماعات من عمال التراحيل والمداحين والشحاذين، ومن ليست لهم حرفة محددة، وكنت في بعض الأحيان أتعلل بأي سببٍ لأخرج من بيتنا عند الغروب، وأمضي إلى ما وراء الجسر الذي تعبره مواكب الفلاحين والجاموس والحمير والأطفال والنساء العائدين من الحقول، كنت أحتمل نظرات الجميع المتطفلة إليَّ، وأداري نفسي إذا لمحت فلَّاحًا يعرف أبي، وأقول لمن يسألني إنني أشم الهواء أو أنتظر أحد أصحابي أو أذاكر في الخلاء، وكان أغلبهم يصدقني وينصحني ألا أتمشى في الخلاء، أو يحذرني من الكلاب والذئاب وأولاد الحرام، وبعضهم يشدني غصبًا ويركبني على حماره ويعود بي إلى البلد، صحيح أنني كنت في بعض الأحيان أسأل أحدهم عن البئر، فإن سألني عن مكانه لم أجد ما أرد به سوى ما قالته لي المرأة: البئر اللي هناك!

فيضحك مني أو يقسم بأنه لم يرَه في حياته، أو ينكر وجود آبار في بلدنا على الإطلاق، لكنني كنت على العموم أكتم سره في نفسي، وأواصل البحث عنه حتى تحت قدمي، ويكاد يخالجني إلهامٌ بأن الأرض ستنشق عنه ذات يوم، وأنني سأملأ أقرب وعاء تصل إليه يدي، أو حتى أملأ به كفي وأجري إلى المرأة المسكينة، وأصرخ ولو في عز الليل: يا عطشانة اشربي من البئر!

وكنت في كل مرة أمر أمام بيتها أو أراها تطل من الشرفة أو من نافذة، أو أشاهدها تشير إليَّ في الحقيقة أو في الخيال، أجري مسرعًا كأنني أخاف أن تطالبني بالماء، أو كأنني أثبت لها أنني ما زلت أبحث عن البئر، وأنني قد عهدت لها بذلك ولن أخون هذا العهد، لم يكن في مقدوري أن أقف أمام البيت وأصرخ مؤكدًا أنني سأجده في يومٍ من الأيام، ولا بأنها ستشرب من مائه وتشرب حتى يزول العطش إلى الأبد، ويختفي الحزن من العينين والتجاعيد من الوجه العجوز، واليأس من الصوت الهاتف المتحشرج بالدموع، لم يكن هذا ممكنًا لأنني كنت أعرف أنها لن تسمعني، وإذا سمعتني فلن تصدقني أو تفهمني، وحتى إذا صدقتني وفهمتني فإن الرجل الصامت النحيل والمارة الذين يعبرون الطريق لن يتركوني أتكلم معها، ولن يسمحوا لها بالوقوف طويلًا في الشرفة لتستمع إليَّ.

وفي يومٍ من الأيام وأنا أمر من أمام البيت — كان وقت الغروب ولا أذكر في أي مشوار أرسلتني أمي، ولا إن كنت عائدًا من جولاتي السرية في أرجاء البلد وضواحيه — سمعت صراخًا ينبعث من البيت، لا بل من الشرفة التي رأيتها فيها وسمعتها تتكلم منها، كانت تقف هناك، لا بل تتعلق بكل قوتها بالسور، وتتخلص من قبضة الرجل الصامت النحيل، الذي كان يحاول هو أيضًا بكل قوته أن يشدها إلى الداخل، جلجل صوتها المشروخ في فضاء البلدة التي كانت نائمة أو تتهيأ للنوم، صوت يستغيث ويبكي ويرن كأجراس معلقة في حبلٍ مشدود فوق هاوية: عاوزين يسموني، الحقوني يا ناس، عطشانة، عطشانة!

تجمَّع بعض الناس تحت الشرفة، فلاحون عائدون لتوهم من الحقول، أو صبية استطاعوا أن يغالبوا النوم، ونسوة خرجن من بيوتهن على الصوت المألوف، أو مشايخ في طريقهم إلى الخاتمة أو صلاة العشاء، ولاحظت أن الجميع يكادون يتفقون في شيءٍ واحد هو أنهم لم يندهشوا لما يحدث أمامهم بل توقعوه دائمًا.

وربما عرفوه قبل ذلك مرات، وكان هناك شبه إجماع آخر في الدعاء الذي يخرج منهم: اللهم اشفها واشفِ المسلمين.

أو في الاستغاثة بالله والنبي والأولياء: لا حول ولا قوة إلا بالله، نجنا يا منجي!

وكنت لدهشتي أراهم يقتربون من البيت خطوة ليتراجعوا خطوات، والرجال فيهم يبعدون النسوة والأطفال، ويجمعون بعضهم ويسيرون وهم يهزون رءوسهم.

كنت أشعر أنهم يعملون خاطرًا لصاحب البيت، الذي يحاول محاولاته اليائسة مع المجنونة، لا بل يعذرونه ويتمنون أن يقويه الله ويعينه على بخته، وكنت — في سعادةٍ وتشف لا حد لهما — أقف هناك وأحس أنها تشير إليَّ أنا وحدي دون الجميع، وتسألني ولا تسأل أحدًا سواي: فين الميه يا حبيبي، فين الميه اللي جبتها لي؟!

ولما لم يكن أحد يعرف لمن تتحدث ولا أي شيء تعني، فقد كانت تهتف بعد ذلك يائسة، ويدها ورأسها وشعرها وكل نبضة حزن وحياة فيها تستغيث بي: عطشانة، عطشانة يا حبيبي، هايسموني، أولاد الحرام عاوزين يسموني، روح هات الميه من البير، البير اللي هناك، عطشانة، عطشانة!

في هذه المرة أيضًا شعرت بيد تلمس كتفي، لا بل تهزه هزةً عنيفة، وقبل أن أفيق إلى صاحبها وجدتها تنتزعني من مكاني وتدفعني بعيدًا وصاحبها يقول: حرام عليكم يا ناس، ما فيش في قلوبكم رحمة؟!

وأسمع وأنا أبتعد خجلًا، صوت الشرفة يغلق أخيرًا.

وصاحب البيت الصامت النحيل يطل منها ويقول كأنه يحدث نفسه؛ لأن الناس تكون في العادة قد تفرقت: روحوا يا ناس، سيبونا في حالنا!

لم أعد أرى المرأة من ذلك اليوم أبدًا، ولا عدت أسمع صوتها الذي ظل يدوي في أذني منذ تلك الليلة العصيبة، ولاحظت أن سيرتها بدأت تخف على ألسنة الناس، حتى أوشكت أن تُنسَى أو تختفي، وكلما تجرأت على سؤال أحد عنها أُجبت بالصمت أو بكلامٍ لا فائدة منه، أو بتحذيرٍ صريح من البعد عن سيرتها، كانت أمي تقول في حزنٍ: الله يعينها هي وأخوها!

وأكد أبي مرةً وهو يتكلم مع أحد الضيوف من الصعيد أنهم ألبسوها القميص الأبيض، ولم يسمع أحد عنها شيئًا منذ أخذوها على المركز، وسمعت بعض الفلاحين — حين تجرأت مرة وسألت أحد جيران بيتها عندما كان ينزل من على حماره — سمعته يقول: إنها ماتت في مصر في المورستان عند جبل المقطم.

كما خُيِّل إليَّ مرة وبعد سنين طويلة أنني ألمح في عيني أبي سخطًا على أخيها وأهلها؛ لأنهم لم يزوروها مرةً واحدة في المورستان، وأن المسكينة ستموت غريبة يا ولداه كما عاشت غريبة، وكان يدهشني أن القليلين الذين يذكرونها أو تأتي سيرتها على ألسنتهم مصادفةً لم يقولوا شيئًا عن عطشها، ولم يعرفوا شيئًا عن البئر التي كانت تشير إليها، ولا الماء الذي كانت تطلبه وهي تبكي وتولول وتستغيث، وكان هذا التجاهل والنسيان مصدر إحساس خفي في نفسي بالانتصار أو الفخر، ظل يتحول مع مرور الأيام والسنين إلى شعورٍ ممزوج بالخجل والندم والشقاء.

والآن بعد أن مرت الأعوام، وظهرت الشعرات البيض في رأسي، واختفت النحلة وحقيبة المدرسة من يدي، ومات الرجل الصامت النحيل، ونسي الناس سيرة شحاتة بك ونظارته وعصاه، أقول لنفسي كلَّما مررت بالخرابة التي لا تزال قائمة وبالبيت الجديد الذي بُني على أنقاض القديم: أيتها المجنونة المسكينة!

أيتها المجنونة العزيزة!

متى تظهرين في الشرفة مرةً أخرى وتنادين عليَّ؟!

متى تجدين البئر النقية البريئة، فأشرب منها وتشربين؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤