لا …

لأن الحادثة التي وقعت في البلدة الريفية القريبة من البحر قبل أكثر من ثلاثين سنة كانت غريبة وفظيعة، ولأن الحادثة التي جرت وقائعها في نفس البلدة قبل شهور قليلة لا تقل عنها غرابة وفظاعة، فقد آثر الراوي أن يخفي شخصه وعقله ولسانه وراء الأطراف الثلاثة الذين كان لهم الدور الأكبر فيها؛ لذلك يترك لهم الحديث مكتفيًا بتدوين ما قالوه:

١

قالت لطيفة هانم زوجة العالم الفلكي الدكتور محمود نجم — المشهور في الدوائر العلمية في مصر والخارج — وأم أبنائه الثلاثة:

لم يكد محمود يعبر مرحلة الخطر بعد أيام وليالٍ، لم يغمض لي فيها جفن حتى صممت على البحث عنه وإحضاره بأي وسيلة، كان زوجي قد تلفَّظ باسمه مرتين أثناء غيبوبته وهذيانه بعد إسعافه وإجراء غسيل المعدة له: تعالَ يا أستاذ علام، يا مرصد حلوان ثبت منظارك القديم عليَّ، تعالَ، تعالَ، تعالَ!

وضعت يدي على جبهته واطمأننت على انخفاض درجة الحرارة على الرغم من استمرار الحمى والهذيان والغيبوبة، وتذكَّرت الاسم الذي التقطته أذني قبل ذلك، وإن لم أهتم به أو أسأل عنه، لعله حكى لي عن تعلقه به في المدرسة، وربما حدثني، وهو يطلق ضحكته الظافرة المجلجلة التي كان يعلم كم تضايقني؛ لأنها لا تناسب وقاره ومكانته العلمية، عن المنظار الكبير الذي كان يجذبه لزيارته في بيته وملازمته ساعات يتأمل فيها النجوم في قبة السماء كلما دعاه وسمح له بذلك، لم أكترث بمعرفة شيءٍ آخر عن معلمه وعلاقته به، فقد أحس قلب الزوجة والأم أن هذا المعلم العجوز — إن كان لا يزال حيًّا — هو الوحيد الذي سيرد الحياة لزوجي وينتشله من محنته ومحنتنا المباغتة، سألت وسألت حتى عرفت من الأستاذ محمد — شقيق زوجي الأصغر الذي نزلنا عنده والمدرس في المعهد التجاري — أنه لا يزال حيًّا، وإن كان لكبر سنه وثقل سمعه في حكم الميت الحي أو الحي الميت.

وخرجت من باب البيت وأغلقته خلفي دون أن يشعر أحد بي ولا بتصميمي على العثور عليه مهما كان الثمن.

•••

مشيت مسرعة حتى وصلت إلى أول الشارع الرئيسي على أطراف المزارع، ووقفت على الصف الذي يوجد فيه مبنى المحكمة والمعهد الديني القريب منها، وأشرت إلى حنطورٍ عابر فتوقف السائق الشاب، وسألني في أدب عن وجهتي.

قلت له إنني أبحث عن عنوان الأستاذ محمد علام مدرس العلوم والرياضة العجوز، قطب حاجبيه وفرك تجاعيد جبهته بأصابعه بحثًا عن علامة مميزة، حتى ذكرت له المرصد فخرجت منه صيحة أشبه بصيحة ديك منتصر على جحافل الليل المنهزم:

آه، مرصد حلوان! لماذا لم تقولي هذا من الصبح؟ حالًا يا هانم، دقائق ونكون أمام بيته، إنه على المعاش من سنين ولكن لا يشبع! قلت ضاحكة: تقصد لا يسمع؟! قال: وهذا أيضًا، لكنه رجلٌ طيب ولا يتأخَّر عن فعل الخير، قلت في نفسي وأنا أدعو الله أن يستجيب لي: ولهذا قصدته في أمر ضروري.

مرت العربة بشوارع وحواري متربة تراصت فيها البيوت الطينية، كما تراص الذباب والأطفال والنساء في ثيابهن السود على أبوابها، وأكوام السباخ والقش والقمامة على جانبيها، حتى وقف فجأة أمام بيت ذي شرفة واسعة وسور من الطوب الأحمر لم يتم طلاؤه، وكأنه فيلا ناصعة البياض وسط العشش والأكواخ والجدران الرمادية الكالحة، شكرت السائق ونقدته أجرته وطلبت منه أن ينتظر، دعا لي بالستر، وطلب مني أن أبلغ سلام مغاوري للمرصد فوعدته خيرًا، وفتحت الباب الحديدي الذي لم يبدِ مقاومة وأسرعت بارتقاء درجات السلم والطرق على الباب الخشبي العريض.

أطلت من ورائه امرأة سبقها صوتها الرفيع الحاد، لم تكد تفتح الشراعة حتى استفسرت عن طلبي، ولم تكد توارب ضلفة الباب حتى بادرتها في لهفة، وأنا أحاول أن أستجمع أنفاسي اللاهثة: أرجوك، أريد الأستاذ علَّام، أقصد المرصد، أقصد مرصد حلوان، أرجوك أسرعي، ولم يطل ارتباك «سيدة» التي تجمعت أمامي من الذهول، إذ سرعان ما فتح باب جانبي في القاعة الواسعة المتواضعة الأثاث، وخرج المرصد نفسه بجلبابه الأبيض الطويل والطاقية الحريرية المحبوكة على رأسه، وهو يسند جسده الطويل السمين على عصا، ويطرقع بالقباب في قدميه ويقول بصوت ممدود: مَن يا سيدة …

•••

قبل أن يحجل بساقه التي يبسَّها الروماتيزم، ويستقر في داخل الحنطور كالصيد العجوز الذي سقط في حفرةٍ وطوقته الشبكة كنت قد استطعت أن أذكره بتلميذه القديم وأبين له مقدار حاجته إلى مساعدته. انهمرت كلماتي الملهوفة كزخات المطر المتساقط في حفرة غائرة منسية، وكان عليَّ أن أسرج ألف شمعة في ظلام الزمن والذاكرة التي كادت أن تنطفئ، راحت كلماتي وتنهداتي ودموعي تتدافع بغير ترتيب وهي تتصادم كالعصافير المذعورة على أبواب أذنيه ورأسه العجوز الخرب، لم أنتظر منه ردًّا ولا استفسارًا، ولم أبالِ إن كان قد سمع أو لم يسمع وفهم أو لم يفهم، فقد اتضح لي بما لا يقبل الشك أن سمعه ثقيل كما قال لي شقيق زوجي وكما أكد سائق الحنطور، ولكن لهفتي على سرد وقائع المحنة بكل تفاصيلها كانت أقوى من كل رغبة في الانتظار أو الإشفاق عليه:

•••

تلميذك العزيز يا سيدي اشتاق للعودة إلى البلد، بعد أن صعد إلى النجوم ولمع اسمه في سماء الشهرة وكرمته الجهات العلمية في كندا والولايات المتحدة بالأوسمة والنياشين والجوائز صمَّم أن يلمس تراب البلد، حذرته من الوحل والذباب والناموس فلم يكترث، قلت له: ماذا تنتظر هناك ومَن تنتظر؟ قال: هناك تراب أبي وأمي وزهرة — وكذلك أخي الأكبر الذي لم أره من سنين — لم أفطن لاسم زهرة ولم أعلق عليه، ظننته نوعًا من الخلط الذي كان يهذي به أحيانًا كالطفل أو المراهق الشقي الذي أعرفه وأحبه ولا أتوقف كثيرًا عند كل كلمة يقولها، وذكر اسمك أيضًا يا سيدي، ألست أنت المرصد، مرصد حلوان؟ ألم ترعه وتشجعه وتفتح أبواب السماء أمام عينه وعقله القلق؟ نعم، أنت الأستاذ علَّام مدرس العلوم والرياضة الذي احتضنه، وأخذ بيده ربما أكثر من أبيه العجوز المشغول بالعبادة والتجارة، قال لي مرة إنك كنت تسميه الولد «لا»، ولكنني لم أسأله عن سر هذه التسمية، وعندما كان يتذكرك وهو يتنهد معبرًا عن حيرته وشوقه إلى لقائك، كنت أكتفي بأن أقول له: لا يا دكتور لا! عندك الآن ما هو أهم، لكنك بقيت دائمًا في باله، في حبة قلبه وعينه، هل هو الوفاء أم الحنين المرضي أم الارتباط بالجذور كما يقال؟ أهناك داعٍ أن أحكي لك عن إنجازاته العلمية وكشوفه الفلكية؟ سمعت عن هذا؟! قرأت عنه أيضًا في الصحف والمجلات؟! كان مشغولًا بإحدى مهامه العلمية عندما صرح برغبته الأثيرة التي ظلت تتحرك في صدره كالشوكة في الجرح القديم. غضبت وقلت له: إننا تركنا كندا التي تعلمت فيها وتفوقت ورزقت باثنين من أولادك، ولم نكد نصل إليها وتنال التكريم من الجمعية الفلكية حتى عادت ريمة إلى عادتها القديمة، ماذا بك؟ هل تحولت إلى ندابة لا يحلو لها العديد إلا في العُرس؟ أكلما استقر بنا المقام في بلدٍ وقلنا سنمد فيه الجذور تحن إلى جذورك في وحل بلدك؟ المهم رجعنا إلى مصر برغم الإلحاح والعروض والإغراءات السخية التي انهالت عليه، وفي مصر انهالت عليه عروض أخرى من الكلية والجمعية الفلكية والمرصد الجديد، وغرق في العمل وسبح في بحار التكريم، وعندما رجعنا إلى شقتنا في المعادي بعد تسلم الجائزة من الوزير ومعها وسام العلوم الذهبي، تحركت الشوكة كما قلت في الجرح القديم، ورجعنا يا سيدي للوحل والتراب والذباب والناموس وللنكبة التي كانت تنتظرنا.

•••

ماذا أقول لك يا عم علام؟ كيف أفهم ما حدث له وكيف أفسِّره؟ لست طبيبة نفسية حتى أحلله وأعرف مشاكله وعقده المكبوتة، كما يقولون. إنني زوجته وأم أولاده، مجرد ربة أسرة عاجزة أمام رياح الماضي والحاضر والمستقبل.

وأنت الذي عرفته في صباه وكنت أحن عليه من أبيه، ربما تكون أقدر على معرفة الداء ولمس جذوره، آه! لعنة الله على الجذور الدفينة التي لا تترك فروع الشجرة في حالها!

هل تعلم ماذا فعلنا في أول يوم وصلنا فيه إلى البلد؟ أخذنا حنطورًا قبل الغروب وذهبنا إلى المدرسة المهجورة، أجل أجل، نفس المدرسة التي علمته فيها ورعيته وضربته أيضًا علقة ساخنة على قدميه! هل تذكر الآن؟! لم يقل لي سبب ضربه، اكتفى بالضحكة التي أعرفها من الولد الشقي، وقال: من يومها وهم يسمونني الولد «لا»، ألست كذلك حتى اليوم يا لطيفة؟! وجلجلت ضحكته وهو يطوف بحوش المدرسة الخالية، ويريني المكان الذي شدت فيه قدمه في الفلقة أمام التلاميذ والناظر والمدرسين، بينما أخذ يعلو صياحه كجروٍ صغير ينتزعون أسنانه أو هدهد ينتفون ريشه: لا! لا! لا!

أجل يا سيدي المرصد، شيءٌ مضحك بلا أدنى شك، والمضحك أيضًا أنك لم تنسَ اﻟ «لا» أبدًا، بدليل أنك سمعتها تمامًا وضحكت حتى دمعت عيناك الصغيرتان الضيقتان، وتركنا المدرسة بعد أن مررنا على الفصول البائسة التي كان يجلس فيها، والسبورات المتآكلة التي كان يكتب عليها، والسور الحجري المتهدم الذي كان يقفز أحيانًا من عليه، وحيينا البواب الصعيدي العجوز الذي لم يتذكره أبدًا، وركبنا الحنطور في طريقنا إلى بيت شقيقه الذي ينتظرنا على العشاء هو وأولاده. كانت سحب المساء قد تجمعت في صفحة الأفق، وراحت تلف البلدة في عباءتها السوداء، واخترقت العربة والحصان الهزيل صفوف المارة والفلاحين العائدين من حقولهم بصعوبة. لا أخفي عليك أنني لم أستطع أن أكتم ضيقي وتأففي من المشوار كله، لكن أي ألم لا تكتمه الزوجة المحبة لأجل خاطر زوجها وأب عيالها، خصوصًا إذا كان موهوبًا ومشهورًا مثل زوجي ومشاكسًا وشقيًّا لم ينضج مثله؟ عبرنا الجسر الخشبي الذي يتوسط البلد، وتتراكم على جانبيه أعدادٌ غفيرة من باعة الفاكهة والخضروات، الذين كانوا يلمون قففهم ومقاطفهم ويستعدون للرجوع إلى بيوتهم، وسرحت قليلًا فلم أتابع شيئًا ولا أحدًا ممن حولي، ولم أنتبه للشوارع والحواري التي اجتازتها العربة الحنطور، حتى أفقت على صوت محمود يقول لي: اذهبي أنت الآن. سأرجع بعد قليل، لا لن أتأخر، مغاوري وحصانه يعرفان الطريق خيرًا مني ومنك.

•••

وقفز من العربة وغاب عن بصري، رأيته وهو ينعطف يمينًا ثم يسارًا بالقرب من كنيسة عتيقة، بدت في الظلام كنافورة أثرية ضخمة، وتابعت قامته النحيلة المستقيمة العود، وهو يسير مسرعًا بجانب السور الأبيض الذي زرعت فوقه قوائم وقضبان حديدية مدببة الأطراف حتى اختفى من دائرة الرؤية، ربما تساءلت ماذا يجعله يسرع هكذا، وكأنه على موعد سابق، ومَن يا ترى الذي ينتظره؟ لكنني انصرفت عن التفكير في شيءٍ لن أفوز منه بشيء، وبدأت أعاين الطريق المتجه إلى الطرف الجنوبي للبلدة، وأتسلى بالتفرج على البيوت الجميلة والفيلل المطلية الجدران والأسوار بألوان فاقعة، واستمعت وأنا صامتة إلى تعليقات مغاوري الذي تقمص دور المرشد السياحي، وأخذ يحدثني عن أصحابها الذين رجعوا من السعودية والخليج ومعهم زكائب الذهب وفتحوا التوكيلات والسوبر ماركات، وكانوا قبلها لا يجدون اللقمة والهدمة.

ها نحن نمر بنفس الشارع ونرى نفس الفيلل والعمارات والمحلات المضاءة بأنوار النيون، ولا بد أن أحكي لك باختصار ما حدث. كنا جالسين أمام مسلسل في التلفزيون عندما دخل من الباب، لم يدرك أحدٌ غيري مدى ذهوله وغيابه، عينان تائهتان، شعر مهوش، ملامح منطفئة كملامح عجوز يطارده شبح النهاية، واليأس والكمد الفظيع يطل من نظراته وإشاراته وصمته الذي لم يخرج منه، كنت متعودة على نوبات الاكتئاب التي تفاجئه وتفاجئني من حين إلى حين، ولا تتعجب إذا قلت إنها تفاجئنا في مناسبات الفرح والابتهاج أكثر من أي وقت آخر، ولكن ما وجدته أمامي كان شيئًا مختلفًا، كان الموت نفسه قد ألقى ظلاله السوداء عليه وأخذه في قبضته، سألته ضاحكة عن نزهته الليلية بين الأطلال، نظر إليَّ في غضب هائل حتى خُيِّل إليَّ أنه يضمر لي كراهية قاتلة، لم يفصح عنها وجهه الطيب قبل ذلك أبدًا، وعندما اقتربت منه وعاتبته، اعتذر بأنه متعب وليس له نفس للعشاء. أردت أن أغلق الباب لأنفرد به فردني بإشارة عصبية من يده، وقال إنه يحس بمغص شديد ويريد أن ينام، تركته يفعل ما يريد وأكملت المسلسل وسط العائلة الصغيرة، التي لم تبخل علينا بكرم ضيافتها، وعندما استبد بي القلق ونظرت إلى شقيقه حامد ولمحت على وجهه نفس القلق قمت أبحث عنه، لم يكن في غرفة النوم، طرقت باب الحمام فلم يرد إلا الصدى، أقبل حامد وزوجته وأخذا يضربان الباب بقوة حتى خفت أن ينكسر. وسمعنا من الداخل أصواتًا مرتبكة ورنين علب صفيحية وصوت انكسار زجاج على الأرض، وفتح الباب أخيرًا وأطل علينا الوجه الممتقع وعليه ابتسامة مغتصبة شاحبة. لا شيء، لا شيء. ألم تسمعوا عن أحد مصاب بالمغص؟ فتشت نظرتي المكان الضيق بسرعة، كل شيء في مكانه، أدوات الحلاقة وزجاجات الشامبو وعلب الدهان والمراهم مضطربة قليلًا، لكن لا شيء يثير الريبة، والبشكير الأبيض الكبير ملوي وملقى في البانيو، هل يمكن أن يخطر على باله؟ لا لا، ما هذا يا دكتور، هل يمكن أن يؤثر مغص بسيط على بطل مثلك؟ نحن متنا من الجوع، تعالَ إكرامًا لخاطر الناس إن لم يكن لخاطري.

أخذت أثرثر فصرخ في وجهي: أرجوك، أرجوك يا لطيفة!

ولم يكمل صيحته التي رنت في سمعي أغرب من أي صيحة سمعتها منه طوال عشرتنا، شد يده على بطنه ودخل حجرة النوم، واستلقى على السرير دون أن يخلع ملابسه، لن أطيل عليك، كان من الممكن أن يضيع من أيدينا، لولا أن أسرع شقيقه مع ابنه الأكبر بإحضار الطبيب، ماذا أقول عن ارتباكي وذهولي؟ وكيف أصوِّر يأسي وفزعي وخيبة أملي؟ والحيرة التي انقضت عليَّ قبضتها الحديدية كيف أعبر لك عنها؟ لا تنزعجوا، حالة اكتئاب شديد ستزول بإذن الله، مصحوبة بحالة إحساس فظيع بالذنب، هل هذه أول مرة؟ لا لا، إن شاء الله يصبح على خير. المهم لا تتركوه وحده، ثم همس لي: أبعدي عنه علب الأسبرين في الحال، فتشي جيوبه وتخلصي منها، لاحظي عدم وجود حبال أو فوط حمام كبيرة في متناول يده، أرجوك، كل شيء ممكن، لا تبعدوا عيونكم عنه، النوبة يمكن أن تعاوده. أنا تحت تصرفكم في أي وقت، افتحوا عيونكم جيدًا، كلها ساعات ويرجع لوعيه. البكاء الشديد وربما الهيجان محتمل، تصبحون على خير، ولم نصبح على خير عشرة أيام.

ظل غائبًا عن الوعي حتى بعد أن تقيأ كل ما في بطنه، ومع أني لم أغفل عنه لحظة واحدة إلا أنه عاود الكرة بعد ذلك، لا أدري من أين حصل على الأقراص ولا أي شيء ابتلعه حتى رجعت إليه الغيبوبة مرةً أخرى، وأخذ يهذي ويبكي بكاءً لا ينقطع، سبعة أيام بلياليها أشد علينا من السنين العجاف، ذاهلٌ ومصمم على الموت كما لم أرَه من قبل، لسانه يهذي بكلام لا أعرفه، ترددت فيه كلمة زهرة أكثر من مرة، أرجوك يا مرصد حلوان، أرجوك يا أستاذ علَّام أن تساعدني، ساعدني أرجوك وأنقذ زوجي وتلميذك المحبوب، لماذا ربطت يداه وساقاه بالسرير؟ لأنه يمكن أن يرمي نفسه في أي لحظة، يمكن أن يغافلنا في أي لحظة، أنت الدواء للجرح الذي لا أعرفه، أسرع يا أستاذ قبل أن يضيع! هل تعلم مدى حجم المسئوليات التي تنتظره؟ هل تعرف أن ثلاثة اجتماعات في الجامعة والأكاديمية ومع الوزير نفسه يمكن أن يتغيب عنها؟ وأولاده الذين ينتظرون في القاهرة؟ هل يمكن أن يصدقوا؟ وأنا؟ ماذا أفعل وكيف أتصرف؟ أرجوك يا أستاذ ادخل عليه بأقصى سرعة، أنقذه أتوسل إليك، أنقذ زوجي وأب أولادي، ماذا أقول وماذا أفعل يا ربي؟ أرجوك، أرجوك.

٢

وقال مدرس العلوم والرياضة العجوز، وهو يمسح بشدة على جبهته ليتذكر: دفعتني دفعًا في الحنطور فلم أعرف ماذا أقول ولم أفهم شيئًا مما يجري. لم أكن قد أفقت تمامًا من نوم القيلولة، ولا فرغت من التهام طبق الفطائر والفواكه الذي اعتدت أن أتسلى به مع الشاي، وكوب الشاي ظل دافئًا يتصاعد منه البخار، ولم تمسه يدي المرتشعة بحكم السن والتخمة، وانحشرت بجسدي السمين وكرشي المتورم في الحنطور بجوارها، وملت بأذني ورأسي وكياني كله نحو فمها الذي يتفجر منه شلال الكلمات التي لا أسمع ولا أعي معظمها. حالة اكتئاب فظيعة، ورجل طريح الفراش تستنجد بي زوجته، ولا يرِد على خاطري إلا كالطيف الشاحب، الذي يعبر في الحلم في صمتٍ وهدوء. ماذا تنتظرين يا سيدتي ولست طبيبًا ولا ساحرًا ولا صاحب سلطة من أي نوع، والذاكرة — لو تعلمين — مدينة مهجورة تتصادم الأشباح في خرائبها.

آه؟ ما أثقل عبء الشيخوخة بعد أن تعديت الستين وكدت أن أتم السبعين! وما أحوج الشيخ لراحة البال والجلوس على الكنبة الطرية، في انتظار الزائر المحتوم دون طرق مزعج على الأبواب!

التقطت أذني الثقيلة اسمه فلم تستطع الحروف أن تحوله إلى صورة في ذهني، تمهلي يا سيدتي! فالأسماء التي ناديتها في حياتي مع التعليم مئات ومئات، ونفذت في سمعي كلمات العلقة الساخنة على القدمين في حوش المدرسة، فعجزت كذلك عن تحديد شكل التلميذ أو صفته، وكيف أستطيع والأقدام التي كانت تشد إلى الفلقة أكثر من أن تحصى؟ وبدأت الغيوم تنزاح قليلًا من سماء ذهني الراكد عندما التقطت كلمة المرصد والمنظار المكبر. تذكرت السطوح في بيتنا القديم، والطموح الذي تخليت عنه وتخلى عني من زمن أقدم، ومع تدفق سيل الكلمات والدموع والنشيج من الشلال المتفجر، لمعت صورة الولد الشقي الذي ضربته بالسوط ثم احتضنته ورعيته، واتضحت الصورة الضئيلة الباهتة وحركت مشاعري، التي بدأت تهتز وتبرز من طبقات الأعماق المظلمة كالمياه الجوفية التي يحركها زلزال مفاجئ، وأحسست بنغزةٍ في قلبي فقلت لنفسي: هي شكة قلب الأب الذي تعاوده ذكرى الابن الضائع، الذي خرج من سنين طويلة من الباب ولم يرجع، فما بالي الآن أسمع أن النجم الصغير كما كنت أسميه قد رجع إلى بلده، بعد أن سطع كوكبه في سماء الشهرة والعلم العالمي؟

أجل! أجل! ها هو ينفض تراب النسيان وأيام العمر الميتة، ويخرج للنور كالخلد النشيط الذي أطل برأسه من الجحر، واستقبل شمس الوطن ودفئه وصدر معلمه وأبيه الروحي! أجل هو محمود نجم الذي بدأت صرخاته يوم العلقة المشهود تنداح في بحيرتي الآسنة. لكم تألمت يا ولدي من اللسعات التي حفرت خيوطها الغائرة الدامية على قدميك الصغيرتين وساقيك وفخذك أيضًا، ولكم تعبت حتى عالجت التقرحات وطهرتها من آثار الدم والقيح والصديد كما عالجت عقلك الطائش بالنصائح والمواعظ المكررة.

وعرفتك عن قرب وحاولت أن أكون المرفأ الذي يرسو قاربك على شاطئه لينجو من عنف الأمواج التي تعصف بهيكله، والحق أنها كانت عواصف عاتية، وأن قاربك قد تحداها في طيش لا يتوقع من يافع مثلك، لم يكن فيما أذكر قد تجاوز الثالثة عشرة من عمره على كوكبنا الأرضي الصغير، لماذا فعلت ما فعلته يا ولدي؟ وإذا كنا لا نستطيع أن نفهم حمقك وطيشك، فكيف نبرره للناظر الثائر ومأمور المركز المصمم على العقاب الرادع، ورئيس المجلس البلدي الذي طالب بإدخالك الإصلاحية في عاصمة الإقليم، وعشرات التجار وأصحاب الورش والحرف والدكاكين الصغيرة، بل وشيخ الكُتَّاب الكفيف الذي قرأ له الأولاد الحروف التي نقشتها على كُتَّابه العتيق، فملأ البلد بصياحه عن الكافر الفاجر العربيد؟ حتى أبوك الطيب التقي الذي يسلم المارة عليه ويتبركون بلثم يده وطلب الدعاء منه ضرب كفًّا بكف، وقال ابني وأنا بريء منه إلى يوم الدين؟ نعم تذكرت الواقعة، ذكرني بها الحرفان الملعونان اللذان لطخت بهما الجدران في كل مكان، ولم ترحم جدارًا واحدًا في البلدة الآمنة المغمضة العيون على بؤسها وحزنها الثقيل، حتى القبور الهاجعة في المدافن كاد الناس يشكون في أنك بصمت عليها الحرفين الشريرين بفرشاتك الشريرة ومدادها الأسود الشرير.

أجل يا بني الطائش المسكين، كانت الشكوى منك قد صعدت إلى السماء نفسها، وأوشك الصوت أن يتنزل علينا مطالبًا بالقصاص الرادع، وكنت أنت — كما اعترفت لي بعد ذلك تحت قبة السماء المرصعة بآلاف النجوم، وأمام المنظار الذي دعوتك لمراقبتها منه — كنت أنت المسئول عن الإزعاج الذي سببته للمدرسة والبلد وربما للأموات أيضًا، وإن لم أتأكد من هذا بنفسي لخوفي المزمن من زيارة القبور، كنت أنت الذي غافل الجميع أيامًا وأسابيع طويلة، وراح يطبع اللا على كل الحوائط والجدران، مبتدئًا بالمدرسة التي تصطف فيها كل يوم في طابور الصباح، وتدخل الفصول وتخرج منها كالحمل البريء، كل المدرسين اشتكوا من هذه اللا التي يجدونها في الصباح مرسومة بالطباشير على السبورة، كأنها سيقان عقرب متربص باللدغة القاتلة لليد التي تمحوها، وتحيرنا في مجلس المدرسة وفسرنا الأمر بمختلف التفسيرات، وعللنا الجريمة بآلاف الحجج والتعلات، ونسبناها لشقاوة الأولاد وقسوة بعض الآباء والمدرسين، والتراخي في الحفاظ على النظام والانضباط داخل أسوار المدرسة وخارجها وغير ذلك مما هو مألوف ومعتاد، لكن الأمر تجاوز المألوف والمعتاد عندما جاءت الإشارة من المركز، وفيها اسمك الواضح واسم عائلتك وسنك ورقم فصلك. كان فلاح راجع من السهرة في الغرزة مع صديقه النجار قد لمحاك وأنت تجري من حائط إلى حائط، وفي يدك دلو صغير وفرشاة يتساقط منها الحبر الأسود، واشترك معهما حلاق الصحة الحاج مبروك، رحمة الله عليه، الذي لم أنسَ اسمه حتى الآن لكثرة ما غرز في جلدي من الإبر، وكثرة ما فتح ونظف من الجروح، وطاهر من أولادي وأولاد الأقارب والجيران. ونادوني على عجلٍ فأسرعت إلى المركز مع العسكري الذي دق على بابي في عز الليل، كنت أنت الذي ذكر اسمي، وطلب أن لا يحضر أحد غيري ولا تبلغ الحادثة لأبيك. وذهبت ورأيتك وتشفعت لك عند البيك المأمور.

علمت بما ارتكبت يداك ووعدت بأن تجد جزاءك من المدرسة، وتوسلت أن لا تكبر المسألة، وكانت العلقة أمام المدرسة كلها ثم كان ما كان بعد ذلك، قربتك مني وحاولت أن أكون لك الأب والراعي والمعلم، ودعوتك للتطلع من المنظار على سطح بيتي، وكنت أيامها العزب الطموح الذي لا يزال يحلم الأحلام السخيفة ويلهث لارتقاء سلم المجد.

آه! لم يكن الواقع قد حاصرني بعد! لم تكن مسئوليات تربية الأخوة الصغار وتزويج الأخوات، قد أُلقيت على كتفي بعد الوفاة المفاجئة للأب الفقير المطحون، ولم تكن جذوة الأمل في متابعة الدراسات في العاصمة، والحصول على الماجستير والدكتوراه في الفلك قد انطفأت في صدري، حتى الأمل في القناعة بالعمل في مرصد حلوان اختفى من حياتي تحت وقع الضربات التي انهالت عليَّ، والتبعات التي لم يكن منها مفر، وقنعت من أحلام الطموح القديم بالمنظار الصغير، الذي أطل منه على النجوم كلما صفت السماء في ليالي الصيف، وشراء بعض كتب الفلك التي أتوصل إليها من زميل أو صديق قادم من العاصمة، قبل أن ألقي بالمنظار وسط كراكيب السندرة مع كراتين الكتب والأوراق والأنابيب والدوارق والأدوات والأجهزة، التي ترقد الآن منذ أكثر من ربع قرن في سباتها الطويل.

نعم يا ولدي نجم، يا مَن لم تنطفئ كما انطفأتُ ولم تخمد فيك شرارة المجد والطموح، ها أنا ذا أرى وجهك الصغير المستدير الذي كنت أصفه بملاكي الصغير، لماذا يشتعل بالألم والعذاب كنجم مرتعش في السماء يتقلب في دمه؟ ألا تعلم خيرًا مني ألف مرة أن ضوءه لم يصلنا إلا بعد ملايين أو بلايين السنوات الضوئية، وأنه يمكن — مثل كل النجوم — أن يُحتضَر ويموت؟ أشفق على نفسك يا ولدي الحبيب الذي رجع لبلده ولصدر معلمه بعد غياب السنين، وأشفق على السيدة التي تحبك، وأولادك الذين ينتظرونك، واسمك وسمعتك وشهرتك.

كنت قد دخلت الحجرة التي يرقد فيها على سرير سفري صغير، كأنه مصنوعٌ من عظام حيوان بحري منقرض، وكنا قد نزلنا من الحنطور على عجل، وسلمنا على شقيقه الأكبر حامد الذي يعرفني وأعرفه، ونلتقي دائمًا في صلاة الجمعة أو في الأعياد والمواسم والمناسبات والجنازات. رأيته ممددًا على الفراش وتمليته قليلًا، قبل أن أفاجأ به يرمي رأسه على صدري ويحتضنني ويجهش بالبكاء، التفت لزوجته التي بقيت خارج الحجرة، وهي تطل علينا جزعة متلهفة فأغلقت الباب، واحتضنته وبللت خده دموعي كما بلل خدي، منعتني المفاجأة من تأمل وجهه على مهل.

وكدت أتحاشى النظر في عينيه الباكيتين حتى أتمكن من القيام بدور الراعي القديم، كان الوجه صغيرًا كما عهدته من قبل ربع قرن أو يزيد، لم يكبر إلا كما يكبر وجه الأرنب الوليد، الذي يحتفظ بخطوطه وملامحه في وجه الأرنب العجوز. أما اليدان المعروقتان والجسد النحيل الطويل، فما زالا عصبيين متوترين وما زالا مصرَّين على رفض التحنيط القديم أو الحديث!

قلت له: أنت بخير يا نجم، أنت بخير، لم أنسَك يا ولدي أبدًا، لكنها الأيام والأعمال وتحولات السنين، اطمئن يا ولدي فالدنيا بخير، ولا تتغير كثيرًا كما تظن أنت وأمثالك، هل يخفى هذا على عالم الفلك الكبير؟ وهل غيَّرتَ شيئًا من مسار الكون وقوانينه، أم اقتصر جهدك وجهد العلماء على معرفتها وفهم أسرارها؟ لا تقلق يا بني، لا تظلم نفسك بالحزن ولا تعذبها بالرعشة والبكاء، هذا شيء لا يليق بنجم متألق، يخضع ككل الكواكب والنجوم للسنن الأزلية.

ماذا؟ بالطبع سمعت قبل سنوات عن كشوفك الرائعة، وإن كنت بصراحة قد عجزت عن فهم أسرارها؛ لأني تركت العلم وتركني منذ أن غادرت البلد وهاجرت، وقرأت أخيرًا عن تكريمك في بلدك فسعدت، وإن لم تسعفني الذاكرة ولا قصر النظر على التحقق من النجم المحتفى به، أو التثبت من صوره المنشورة في الجرائد، نعم يا ولدي! ضعف البصر وكلت الصحة وزال حتى طموح قراءة الأخبار في الصحف والمجلات. لا أكتمك أن اليأس تسرَّب إلى دمي وخلايا مخي البليد، منذ أن يئست وترهلت وأصبحت كما ترى، ولكن حدثني أنت عن نفسك! نعم نعم، هكذا أنتظر من نجم العزيز الحبيب. اعتدل وضَعْ هذه المخدة خلف ظهرك، فضفض عن نفسك وتكلم يا بني، أنا أيضًا لم أكن أحلم بهذا اللقاء، لم أكن أتصوره ولا في الأحلام.

•••

انهمرت نافورة الأحزان القديمة فأخرجت كل ما فيها، تلقيتها في حنان كما يتلقى الوادي الرحب المنبسط سيول الحمم المتفجرة، التي تتساقط من فوهة البركان العالية المتأججة بالخطر والرعب، رجع بي إلى الأيام الأولى التي كنت قد رميتها خلف ظهري وردمت عليها التراب، وأخذ يحدثني عن كل شيء في حياته منذ أن أكل العلقة الساخنة على قدميه؛ أمسياتنا فوق السطوح وأحاديثنا الطويلة عن الفلك والتنجيم والجاذبية والتصوف والعلماء القدامى والمحدثين، فتح لي الأبواب والنوافذ التي أقفلتها إلى غير رجعة بعد أن سلمت رأسي وطموحي لقبضة لقمة العيش، حتى صرت زكيبة لحم متورمة يهددها التعفن والدفن! وعرفت كل شيء عن هجرته إلى كندا ودراسته الطويلة وتفوقه وتكريم العلماء والجمعيات العلمية له، وفرحت لأن بلده تذكرته وأرادت أن تشارك في الحفاوة والتكريم وكلمته عن أهمية العودة للجذور، وبعد أن توهج نجمه فجأة وراح يتكلم عن جولته في حواري البلد وشوارعها، أدركت أن الجذور كانت لا تزال تئز وتغلي باللهب الراقد فيها منذ صباه، خفت أن ترجع النوبة وتنفجر أفظع مما فعلت، فجعلت أصرفه عن ذكرياته الدفينة، وأصب فوقها مياه الدعابة والمرح، وأسرد له القصص والحكايات عن تبلدي واستسلامي للظروف، ونشاطي العظيم في جمع المال والفدادين والعقار من تربية الخيول والعجول والأغنام والمواشي والدجاج والحمام واليمام، وبدأت الضحكة تغزو سحب الغم المتبلدة على وجهه، وهو يرى كرشي المتورم ويتفرس في كتل اللحم والشحم المتدلية من وجهي، حتى أوشكت أن تمنعني من التنفس.

•••

هوِّن عليك يا ولدي، هوِّن عليك، تعلَّم من أستاذك القديم الذي أصبح حجرًا صامتًا أخرس، حتى لا تحترق بنيران ذكائك وثورتك وطموحك، اطمئن يا ولدي في حضن الكون الذي جبت أبعاده، وغصت في أعماق ثقوبه ودروبه ومجراته، ضع روحك بين يدي الخالق واطمئن. ها هو الإمام في مسجد أبو السعود يقول آمين، والمصلون من أهلك يرددون وراءه بصوت واحد: آمين.

اطمئن يا ولدي واهدأ! عُد لزوجك وبنيك وعلمك وكشوفك وردد ورائي: آمين، آمين.

٣

وقال عالم الفلك محمود نجم بعد أن ودَّعه معلمه العجوز محمد علام: لا أدري كيف حدث ما حدث ولا متى ولا كم استغرق من الوقت، كل ما أذكره أنني بكيت كما لم أبكِ في حياتي، واحترقت كالنيزك الذي يَهْوِي في غيبوبة الخلاء قبل أن يرتطم بالأرض ويتفحم، لا أدري أيضًا كيف أمكن أن يظهر أمامي وجهك الأبيض المستدير، كأنه وجه بدر أطل على بئري المظلم، ومد إليَّ من ضوئه الناعم العذب حبل النجاة، فطفوت على السطح وفتحت عيني وتنفست وتكلمت وضحكت أيضًا معك، ربما هتفت باسمك المطور في أغوار الشعور وما تحت الشعور، فسمعته زوجتي الوفية وسألت عنك حتى وجدتك، وربما تذكرت في ساعات محنتي أنني نطقت باسمك كثيرًا، ورويت لها أحاديثنا الطويلة ونحن نجرب حظنا مع المنظار العتيق، ونطل منه على حقول السماء المتلألئة بآلاف الزهور، ونحلم بالعمل في مرصد حلوان، وبالتحليق أيضًا مع سفن الفضاء، لقد وقعت المفاجأة ورأيتك أمامي، بل تمت المعجزة وألقيت رأسي المدوي كخلية النحل على صدرك، وأطلقت الدموع من محبسها كما أطلقت النكات والصيحات!

من كان يصدق أنني سألقاك أو أنك ستنتشلني من الغرق بعد هذه السنين؟ هل كان من الممكن أن أتصورك حيًّا ترزق، بعد أن علمت بهجرك للتعليم وانشغالك بلقمة العيش وضياعك وسط الزحام وإحباط أحلامك وسقوطها في وحل الركود واليأس والاستسلام؟ وها أنت تنتزع الضحكة من فمي الفاغر من الدهشة، وأنا أتخيلك تراقب وجوه العجول والثيران والأبقار والأغنام بدلًا من رصد الكواكب والنجوم والأفلاك، وتتحدث عن ثروتك وأملاكك ومأدبتك العامرة في الإفطار والغداء والعشاء. وأحدثك عن ليالينا مع المنظار العتيق وحكايتك عن إيكاروس وعباس بن فرناس وموسيقى الأفلاك التي سمعها فيثاغورس وأشعار شكسبير عن غناء الكواكب، كأنها جوقة الملائكة التي تصدح بألحان التناغم الكوني، وتتغنى بها أرواح النجوم في السماء، ويمنعنا من سماعها الثوب الترابي الذي يطوق نفوسنا حتى تغيب في التراب.

•••

وضحكت ضحكت كثيرًا، حتى دقت زوجتي الباب وأطلت برأسها الصغير وشعرها القصير، ورأتني وسمعتني فاختلجت قسمات وجهها بالفرح الغامر، وأغلقت الباب بسرعة وهي تعتذر!

أقول ضحكت كثيرًا عندما ذكرتني بالعلقة الساخنة أمام زملائي التلاميذ، وتحت بصر الناظر السمين القصير العابس الوجه على الدوام. ضحكت على بكاء الصبي النحيل وصراخه من لسعات السوط الذي ضربته به لتوقظه من سباته وعبثه الشيطاني، وكنت محقًّا في غضبك؛ لأنهم جرجروك إلى المركز في عز الليل وصدعوا دماغك بالتحقيق في واقعةٍ تافهة، على الرغم من غرابتها وذهول الناس منها في البلد الصغير، لكن هل تصورت يا معلمي مدى الألم الذي كان يكمن وراءها؟ هل شعرت به من بعيد أو من قريب، فأقبلت على رعايتي وتهذيبي وتدليلي أيضًا كالأب الحنون؟ أجل كان ألمًا لا يطاق ولا يوصف، فالصبي الطائش الذي لطخ جدران البلد بالحرفين اللعينين، كما تصفهما كان يحمل كما يقال عبئًا تنوء به الجبال، ويحس أنه منبوذ ومرفوض من العالم والناس والأرض والسماء والماضي والحاضر والمستقبل، وكان يرى أمه كل يوم وهي تذبل وتنكمش على نفسها، وتنزوي واضعة يدها على قلبها في ركنٍ قصي من البيت أو في حجرة مظلمة، وبدأ يدرك قسوة أبيه عليها وتجهمه وعبوسه، كلما أبصرها أمامه وكلما حاولت أن ترضيه، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يمر بباب حجرتهما فيسمعه وهو يسبها ويلعنها ويتوعدها بنار جهنم، وأمي تبكي وتدعو الله ليل نهار أن يريحها من وجهه، وتحتضنني أحيانًا وتهتف دامعة: ماذا ستفعل بعدي يا مسكين؟

وحضرت من المدرسة عصر يوم ممطر، فسمعت صراخ أختي الكبيرة وبكاء أخي الأزهري، الذي وصل قبل أيام من عاصمة المركز، بعد أن اشتد عليها المرض وطلبتُ من أختي أن تكتب له ليكون بجانبها ويتلو الآيات الكريمة على رأسها، ويغمض عينيها بيديه ويوسدها المقر الأخير. لم أكن قد رأيت ميتًا قبل ذلك، ولا جربت التغيير الذي يطرأ على البيت وأهله وأثاثه ورائحته، عندما يموت فيه إنسان ويُجهَّز للسفر الطويل، ويتوافد المعزون وتنوح النساء ويتعالى صوت المقرئ ليلًا في الصوان. وكان أبي وأخي حريصين على إبعادي عن البيت فسلماني للجيران، ولما شعرت بخروج النعش للصلاة عليها في الجامع تسللت وراء المعزين، وبقيت وحيدًا كالقط المحتضر مستندًا إلى جدارٍ بعيد، وأنا أفكر في معنى الموت ومعنى أن تذهب أمي ولا تعود، لا أذكر إن كنت قد فهمت شيئًا أو لم أفهم.

كل ما يحضرني الآن أنني بكيت وأخفيت بكائي عن الجميع، واستطعت أن أختصر الطريق وأسبق موكب الجنازة إلى المقبرة، وأزحف خفية كالكلب الضال حتى وصلت إلى المكان الذي تجمعوا فيه، كان أصدقاء أخي يسندونه عن يمينٍ ويسار، وأبي في الخلف تتمتم شفتاه وتتحرك باستمرار، وأيدي الرجال تشد على يده في طابورٍ طويل، وحانت لحظة الدفن والتفت الأجساد حول القبر، وعلت الأصوات بالتكبير والدعاء، ووجدوني وسطهم كأنما خرجت من فجوةٍ تحت أقدامهم، رحت أزاحم وأزيح الكتل المتراصة لأجد منفذًا منها، وسددت فوهة التربة بجسدي المرتجف الضئيل وأنا أصرخ: لا، لا، لا، جذبني القارئ والتربي مع أحد المعزين الذين لا أعرفهم بعيدًا عن الفم الأسود المفتوح، وأسرع أخي يحتضنني ويمسح رأسي المشتعل بالغضب والهياج وهو يردد: استغفر الله العظيم، قل إنا لله وإنا إليه راجعون، قل، قل! صرخت فيه: لا، لا، صحت بالوجوه التي التفت حولي: لا، لا، رفعت رأسي للسماء وأنا أتشنج مرتجفًا: لا، لا، انحنيت على الأرض وجرفت حفنةً من التراب، نثرتها على وجهي وعلى الوجوه التي كانت تحدق بي وتحملق فيَّ بعيونٍ مسترخية كابية كعيون الغربان، وأخذت أصيح: لا يا أبي لا، لا يا أمي لا، لم أدرِ ماذا جرى لي بعد ذلك؟ إلا عندما أفقت على سريري وأخي بجانبي يمسك بيدي ويربت على صدري وهو يقول: وحِّد الله، أنت عاقل وهذا أمر الله، عاودتني نوبة البكاء والصراخ، فصحت في غضب: لا، لا، وأطل وجه أبي المتجهم وهو يردد: وحِّد الله، فعلا صياحي كأنه إصبع اتهام غارق في الدم: لا، لا، لا.

•••

لم تكد تمر الأربعون على وفاة أمي حتى سمعت أن أبي يستعد للزواج، لم أصدق أبدًا حتى فوجئت ذات صباح بسيارةٍ تقف أمام باب البيت وتنزل منها امرأة ضخمة بيضاء الجبهة والذراعين، تلف جسدها في ملاءةٍ سوداء، وتغطي عينيها وأسفل وجهها بحجابٍ أسود. أخذني أخي من يدي وهمس في أذني: هذه زوجة أبيك على سنة الله ورسوله، هي في مقام أمك، صرخت فيه: لا، وجريت خارجًا إلى الشارع وأنا أصيح: لا، لا، لا.

ومرت أيام وأنا أهذي بصراخي في كل مكان، كان العالم هو السجن الذي يضيق عليَّ، والبلد هو قبري الكبير الذي أعيش فيه وحيدًا، كما ترقد أمي وحيدة في قبرها الصغير، ومع أن زوجة أبي كانت امرأة طيبة ولم تقصِّر لحظةً في إرضائي، إلا أنني كنت أشعر مع الأيام بأن أنفاسي تختنق في القبر الواسع الكبير، ولزمت الصمت في البيت والمدرسة حتى تصور الجميع أنني فقدت القدرة على الكلام، لكنني كنت قد فكرت في طريقةٍ أخرى للصراخ، وهكذا اهتديت إلى تلطيخ الجدران بالحرفين اللعينين، وتمنيت لو أستطيع أن أكتبهما على جدران الكون الشاسع الرهيب، وهكذا عثر النجار والحلاق والفلاح ذات ليلة عليَّ وسلموني للمركز، وتدخلت أنت لإخراجي منه وتعهَّدت بأن تضمنني وتوقع عليَّ العقاب.

•••

هل تعلم أن سكين الألم غارت في قلبي منذ ذلك الحين، على الرغم من عطفك عليَّ، ومن أمسياتنا التي قضيناها أمام المنظار؟ لقد حفرت اﻟ «لا» على جدران قلبي وراحت خطوطها تكبر وتمتد وتتعاظم حتى انطبعت على كل شيء، خُيِّل إليَّ أنني أكبر أيضًا وأتعاظم وأتضخم كماردٍ أو شيطان يتلفع في عباءة كبيرة سوداء، ويُحرِّك ذراعيه ويديه الهائلتين وهو يختم الحرفين بالسواد على كل شيء في الأرض والسماء. ولم يستطع كلامك عن أنغام الكوكب وتناغم الأكوان أن يغير من موقف النفي المطلق لكل شيء على الإطلاق، كنت أستمع إليك باهتمامٍ، وأتطلع من فتحة المنظار إلى كواكب ونجوم وطريق لبني متعرج ومختنق بالضباب في سماء رفضتها كما رفضت الأرض بما فيها بلدتي، التي تحولت كما قلت لك إلى قبرٍ صغير داخل القبر الكبير.

لا أدري كم سنة لبثت على هذه الحال ولا إلى متى بقيت سجين الفكرة المتسلطة. فلا بد من الاعتراف بأن زهرة، التي لم أذكر لك اسمها أبدًا، هي التي أخرجتني من السجن الكبير.

زهرة! زهرة! لماذا ظهرت لي بعد كل هذه السنين؟ لماذا خرجت من تربتك المجهولة في مقابر الصدقات، وعبرت أمام عيني وأنت مشتعلة بالنار وشعرك وثيابك ولحمك يحترق؟ ألم نتفق أن تصبحي زهرةً متوهجة في السماء تضيء لي طريق العالم المظلم حتى ألقاك وأتوهج بجوارك إلى الأبد؟ لماذا اخترت هذا الوقت وهذا المكان بالذات؟ أكنت يا حبيبتي تنتظرين عودتي لترمي عليَّ نظرتك المندَّاة بالحنان والوعود برغم النار التي تلتهمك شيئًا فشيئًا؟ آه! لماذا ظهرت لي بعد كل هذه السنين؟ اعذرني يا معلمي العزيز، تقول رجعت النوبة القاتلة؟ لا لا، فقد ظهر وجهك الطيب الحبيب ومسح الدموع ومرَّ كالبلسم على الجرح القديم، لكن الجرح الغائر في طبقات الماضي يمكن أن يتحرك فتنز منه الدماء، فاسمح له أن ينزف قليلًا، ولا تخف عليَّ من الجنون أو الانتحار.

•••

كنا قد تربينا في شارعٍ واحد وبيتين متجاورين. وكم لعبنا لعبة العروس والعريس وتقاذفنا الحصا والرمل ونتف القطن وحفنات القمح، قبل أن ينبض قلبانا بالوجيب الغامض الوليد، وتكثر لقاءاتنا ومناجياتنا من النوافذ، وكان أبوها النحيل الصامت على الدوام عاملًا بسيطًا عند صاحب مخزن الفراشة القريب من محطة السكة الحديد، يحيِّي أبي عندما يراه خارجًا من باب البيت أو من باب الجامع القريب، ويقبِّل يده في خشوع ويسأله البركة والدعاء، وأمها كانت تزورنا خلسةً وتشكو لأمي من عناء الحياة مع رجل خائب مذهول كما تقول، وتخرج من عندنا وهي تحمل صرة منتفخة تخفيها تحت ملاءتها، مع الأمل في مئونة الزكاة التي تصلها خفية عن الأعين حين يحل العيد الكبير، وكنت أجري إليها وأحمِّلها السلام إلى زهرة التي أشم عطرها في أمها، فتقف أمامي ساكنة رافعة يديها إلى السماء كأنها تؤدي الصلاة: ربنا يا ابني يكتب لها ابن الحلال.

وأشير بأصبعي إلى السماء وأنا أقول: سيحصل يا أم زهرة، سيحصل، انظري بالليل إلى السماء تريني أنا وزهرة كالكوكبات! وتضحك المرأة المتعبة القسمات وهي تحكم ملاءتها السوداء حول وجهها وجسدها، وتغلق الباب وراءها في هدوء: ربنا يا ابني ينور لكم طريقكم على الأرض قبل السما!

ونوَّر ربنا طريقنا على الأرض وملأه بالزهور والعطور والوعود، كنت قد كبرت واخشوشن صوتي ونبت زغب شعرات دقيقة في ذقني وشاربي، كما كبرت زهرة وبدأ وجهها يحمر وتبرز في صدرها تفاحتان صغيرتان، وكان رأسي قد امتلأ بحكايات العلماء وعجائب الأفلاك، وأشعار التناغم الأزلي التي ظللت أسمعها منك ونحن على السطوح في الليالي الصافية، نطل من مرصد حلوان الصغير، ونلتقي أنا وزهرة بعيدًا عن الأعين المتطفلة عند الطاحونة المهجورة على أطراف المزارع، أو في الساحة الموحشة القريبة من المقابر، وأحيانًا نجازف بالتجول في المقابر ونزرع ممراتها الضيقة الغنية بشجر الصبار، كشبحين هائمين في بستان الأموات، لا، لا، كنا في الواقع نتجول في بستان السماء، ولا نشعر بأقدامنا تسير على الأرض، ولا بالأرض التي نقف عليها أو نسير. وتنطلق الأفكار التي اختزنتها كالحمام الزاجل من برج الرأس الحالمة، فترفرف فوقنا قبل أن تحلق وتختفي في السماء، وتموت على نفسها من الضحك وهي تسمع مني أسماء العلماء، وتفتش عبثًا عن مدارات الأفلاك وقوانين الجاذبية والفجوات والثقوب السوداء والأشعة القادمة إلينا من بلايين السنين، فأحذرها من غضب الأموات، وأنذرها بأنني سأسبح في السماء وأصبح واحدًا من أولئك العلماء اللامعين، وتضحك في طيش: أنت وحدك؟ فأقول وأنا أزم شفتي: هل ترين هذه الزهرة فينوس؟ سنكون مثلها زهرتين مشتعلتين في السماء! وتميل في صمتٍ على زهرتين صفراوين نبتتا على فرع شجرة شوكي وهي تقول: أنا أفضل أن نكون هنا أولًا على الأرض، متجاورين ولو على فرع شجيرة صبار! وأضع يدي على كتفها وأضمها إلى صدري، وأطبع على فمها أول زهرة في بستاننا الذي ازدهرت فيه بعد ذلك عشرات الزهور.

ومرت الأيام والشهور والسنوات فندرت لقاءاتنا حتى انعدمت، وأصبح عزاؤنا الوحيد بالتناجي من النوافذ المتجاورة أمرًا مستحيلًا، بعد أن أغلق أبوها الصامت الشرس كل الشبابيك بالخشب والمسامير، وحرَّم عليها فتح الأبواب والإطلال على الشارع، وذهبت إلى المدرسة في عاصمة الإقليم لأعيش مع شقيقي الأكبر حامد، وبقي شعاع الأمل الوحيد في الأوراق الصغيرة التي كانت توصلها شقيقتي إليها أو إليَّ. كانت تذكرني في كل ورقة بالزهرتين من شجيرة الصبار، فأرد عليها مذكرًا بالزهرتين المشتعلتين في السماء، وقلَّت الرسائل بعد زواج أختي وانتقالها إلى بيتها الجديد، واصطدمت محاولاتي رؤيتها — ولو مرة واحدة للحظة خاطفة، وعند حضوري في الإجازة الصيفية — بأبواب المستحيل وجدرانه وسدوده، على الرغم من التصاق الحائط بالحائط، واستماع القلب إلى دقات ساعة القلب التي تنفذ من الجدران، واستقر بي المقام في القاهرة عند أحد أخوالي بعد التحاقي بكلية العلوم، وغرقت في بحور الفلك والرياضيات، وسبحت على أجنحة الطموح لمنافسة كبلر وجاليليو ومشرفة وآينشتين نفسه الذي عارضت بعد ذلك نظريته عن تمدد الكون بنظرية مضادة عن انكماشه وانطفائه، برغم المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية الذي افترضت معادلات أخرى تخالفه.

عندما رجعت في ثاني أو ثالث إجازة صيفية وأنا على أبواب التخرج فاجأتني شقيقتي التي حضرت للسلام عليَّ بقولها: البقية في حياتك، فهمت أنها تقصد زوجة أبي التي توفيت فجأة قبل شهور وتركت أبي مستندًا على عكازين أو قانعًا بالجلوس وأداء الصلاة على الكرسي المتحرك. قلت لها وأنا أكسو وجهي بعلامات الرضا والصبر: هذه حال الدنيا، الحمد لله على كل ما يأمر به الله. قالت: تعالَ. وانفردت بي في الحجرة الصغيرة التي كانت تنزوي فيها أمي، وقالت وهي تخرج ورقة من جيب تنورتها الطويلة: فكَّرت كثيرًا أن أبلغك ولكن حسن نصحني بأن أتركك لعلومك. قلت وأنا أتوجس شيئًا مباغتًا: لقد اكتفيت بالبرقية كما أخبرني أخونا حامد. قالت: أف من الفلك وسنينه! هذه الورقة من زهرة، تركتها لك قبل … سألت ملهوفًا: قبل ماذا؟ أرجوكِ تكلمي. قالت وهي تخفض رأسها إلى الأرض لكي تتحاشى النظر في وجهي: تركت لك طول العمر، ادعُ لها بالرحمة.

اشتعلت كل زهور البساتين في رأسي: ماذا تقولين؟ ماذا حدث وكيف ومتى؟

ولماذا لم … قاطعتني وهي تربت بيدها الصغيرة الدافئة على وجهي وصدري: قلت لك ادعُ لها بالرحمة، واخفض صوتك حتى لا تزعج أباك، لقد احترقت زهرة، صبت الغاز على رأسها وصدرها فاشتعلت فيها النار، وخرجت تجري إلى الشارع قبل أن يهرع الناس إليها، ويلفوها بالبطاطين ويحملوها إلى بيتها، ثلاثة أيام وليالٍ ثم خرج السر الإلهي، قلت لك ادعُ لها بالرحمة. انتابتني حالة من الجنون أو التحجر، شعرت بأنني بركان تغلي صخوره الباطنة بسيول الحمم، ولكن وقت انفجاره في علم الغيب. وخرجت صامتًا إلى القاعة التي استسلم فيها أبي للنوم فوق عربته المتحركة، وجلست على الكنبة في مواجهته وأنا أتمتم لنفسي: أنا المشلول لا أبي، وسأبقى مشلولًا مثله ما بقيت في هذا البلد، هذا البلد الذي لن يتغير حتى يمنع احتراق الزهور.

•••

لا تسألني ماذا فعلت بعد ذلك، فأنت تعرف كل ما يمكنني قوله، صممت في تلك الليلة على الهجرة، وتحددت أمام عيني مسيرة حياتي وهدفها، كما تتحدد مدارات الكواكب والنجوم وقوانينها، لا تضحك إذا قلت لك إنني صممت منذ تلك اللحظة، والورقة لا تزال مطوية في يدي، على مواصلة دراستي للفلك وبحثي عن زهرتي المشتعلة في السماء، وفي كل المجرات التي نعرفها والنظم التي يأتينا رنين إشعاعاتها وأطيافها، شيءٌ مخبول اختلط فيه العلم بالتنجيم بالتصوف بالسحر، أعلم هذا تمامًا، لكنني مضيت فيه وجعلته صراط حياتي المنصوب كما تعلم بين النار والأعراف، يحدوني اعتقاد ربما لا يقل تخليطًا وخبالًا: أن حياتنا لا تعرف الموت أبدًا، قد تتحلل وتفسد وتتحول إلى أشكالٍ أخرى من الطاقة، لكن الموت نفسه كذبة وخرافة، رحت باختصار أعلل نفسي بأن النفس كذلك طاقة، وأنها طاقةٌ خالدة وإن كنا لم نكشف بعد عن أسرارها، ولازمني اليقين منذ ذلك الحين بأن نفوسنا التي نتعهدها بالمعرفة والوعي لا يمكن أيضًا أن يجوز عليها الفناء، كما لازمني اليقين الذي لم تخمد شرارته أبدًا بأن نفس زهرة خالدة، وأنها قد تكون هناك في مكانٍ ما فوق رأسي، في نفس أحد النجوم التي أحسب حساباتها وأتابع دورات ميلادها وحياتها وموتها، وأكرر بيني وبين نفسي ما تصوره كهنة الإغريق وفلاسفتهم عن أرواحها المقدسة، وما تصورته وآمنت به من وجود زهرة واشتعالها في نقطةٍ بعيدة من الكون، وانتظارها أن ألحق بها وأشتعل بجوارها، كما اشتعلت زهرتا الصبار الضئيلتان في مقبرة البلدة أثناء نزهتنا العجيبة.

•••

آه يا معلمي الحبيب! ماذا بقي أن أقوله أو أسكت عنه بعد أن عرفت ما عرفته من زوجتي عن نوبة البكاء والجنون والانتحار التي هاجمتني في الأيام الأخيرة؟ أأكرر عليك أنني نزلت من الحنطور بعد زيارة المدرسة، وجست في شوارع البلدة وحاراتها، حتى وصلت إلى الشارع الضيق الصغير، الذي احترقت زهرة عليه؟ أأقول إنني وجدت الجامع القديم والكنيسة ذات السور الحجري التي تشبه النافورة البيضاء المستديرة، ولم أجد لا بيتنا ولا بيت زهرة؟

ومع ذلك جلست هناك على حجرٍ أجرد وظللت ساعات أحدق في الأرض، وأنتظر كأن زهرة ستخرج إلى الشارع مشتعلة بالنيران، أو تتوهج فوق رأسي في السماء الصافية، التي تسبح فيها الغمامات البيضاء على مهلٍ كأجنحة الحمام.

كان المارة القليلون يتفرَّسون في وجهي، ثم يعبرون صامتين أو محركين رءوسهم أسفًا، واقترب مني رجلٌ يرتدي بدلة داكنة حائلة اللون، وفي يده حقيبة سوداء، ظننته حلاق الصحة القديم وتبيَّن أنه شخصٌ آخر ككل من أراهم، وقال: أي خدمة يا سيدنا البيه؟ اعتذرت له شاكرًا، وقلت: إنني أستريح قليلًا وأريح مفاصلي من التعب. كان كل شيء قد تغير في الشارع والشوارع المجاورة، ومع ذلك لم يتغير شيء، ما زال الوحل والبرك الصغيرة والبؤس وأكوام القمامة والذباب كما هي، ما زال الركود والهمود والجمود واليأس والتسليم يطوق كل شيء وكل حي، وشعرت بالنوبة تتحرك في أغوار البئر القديمة وحجارة ثقيلة تسقط فيها تباعًا وتلطم أمواجها، وتدافعت الأمواج ولكن البكاء امتنع، وعصفت الأعاصير ولكن الصرخات اصطدمت بالسدود من كل نوع وحجم وشكل، ونهضت ذاهلًا زائغ العينين من مجلسي بعد وقتٍ لا أستطيع تحديده، وحضرت إلى البيت فكان ما كان وتفجَّر البركان.

•••

هل كلمتك عن الورقة المطوية التي تركتها زهرة وسلمتها لي أختي؟ ها هي ذي، احتفظت بها مع بطاقتي وأوراقي الشخصية طوال ربع قرن أو يزيد. اقرأ بنفسك ما كتبته بخطها الذي يشبه النبش في التراب بأقدام الدجاج أو العصافير، أبلغوها بالزواج من التربي الذي كان يعرفه أبوها، ورحَّب به طلبًا للستر؛ لأنه ميسور الرزق وسيكون زيتنا في دقيقنا، واستنجدت زهرة بالعالم السابح مع الأفلاك، فلم يعلم بشيء إلا بعد أن دفنت بقايا لحمها المتفحم هناك في المقبرة القديمة، وربما بالقرب من شجيرة الصبار، أقول المقبرة القديمة؛ لأنني ذهبت أبحث عنها، فقالوا إنها سويت بالأرض ونقلت العظام بأمر المجلس البلدي إلى المقبرة الجديدة، وحلَّت محلها محطة بنزين ومجزر آلي وسوق كبير لبيع المواشي والأغنام. هل تغير شيء يا معلمي العزيز؟ أنت سلمت بأن شيئًا لن يتغير فصرت إلى ما صرت إليه، وأنا سلمت بأن شيئًا لم يتغير وصممت على الرجوع إلى المهجر، واستئناف حياتي مع البحث في السماء، نعم، نعم.

لا تخشَ شيئًا عليَّ، تلميذك «الولد لا» تعلَّم أن يقول نعم، وسيرجع حتمًا إلى الجذور ويوصي بدفن عظامه مع عظام أهله في التراب نفسه، الذي انغرست فيه الجذور، طبعًا … طبعًا.

انصرف أنت الآن مطمئنًا وطمئنهم عليَّ، وأرجوك أن توصيهم بفك قيودي، فلا داعي الآن لهذه القيود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤