نقل دم

  • (١)

    كيف يمكنه أن ينسى تلك الليلة عندما كان يتمشَّى على شاطئ النيل؟ لم تكن كغيرها من الليالي التي شهدت مسيرته المعتادة على الجسر التاريخي العتيق بحثًا عن الراحة من تعب النهار وضوضائه، وتلهفًا على شيء من السكون الذي أصبح في حكم المستحيلات، وتهيؤًا للنوم الذي يعز عليه دائمًا ويسرق منه، وتطلعًا لشعاع من الأمل يستقبل به مهام اليوم التالي وواجباته. لم يكن الشيء الذي ميز الليلة وحفر ذكراها في صدره كالجرح الغائر هو الضباب الخانق الذي لف خيمته الداكنة الكثيفة على السماء والأرض، وغشي الأطياف القليلة التي كانت تعبر به، وربما تأخذها الدهشة من رؤيتها له، وهو يتنزه في الجو الخانق المنذر بالمطر.

    لا لم تكن ليلة عادية بل تحولًا في المصير، نقلة مباغتة من خارج قطر الدائرة إلى مركزها، ثقبًا في الضمير ظل يتسع منذ تأكد له أن الإلهات الثلاث المكلفات بنسج خيوط أقدار البشر على مَغازلهن لن يستطعن أن يرتقنه مهما حاولن.

    كان قد عبر الجسر في اتجاه الجزيرة الهادئة، التي يقع فيها مسكنه عندما سمع صرخة، دوت في أذنيه كاستغاثة غريق، تصلب في مكانه وفقد القدرة على الحركة، وأحس أن قوةً طاغية قد تسلطت على أعضائه، وشلت ساقيه وقدميه، تلفت حوله في كل الاتجاهات فلم يشعر بشيءٍ غير عادي، وخطر له أنه مر أثناء عبوره للجسر بأكثر من شبح يميل على سوره ولم يكلف نفسه حتى بالنظر إليها، وهو لا يذكر الآن هل كانت أشباح نساء أو رجال، شبان أو عجائز، ودوت الصرخة مرة أخرى ثلاث مرات في اتجاه الجنوب، وكأن صاحبها يرفع رأسه في كل مرة فوق الماء؛ بحثًا عن اليد التي تنقذ الغريق، الأرض رمال ساخت فيها قدماه، جسده ينتفض ويرتج من داخله وخارجه العرق يتصبب من جبينه، بالرغم من زخات المطر المتلاحقة، توغلت الرعشة كالحمى في كيانه، وأخذت تحرك رأسه وأطرافه يمينًا ويسارًا، فتصوَّر أنه ساعة مسمرة فوق حائط ولها أكثر من بندول يترنح كالمجنون، وماذا يفعل وهو لا يعرف العوم؟ هل هناك وقت للنداء والاستغاثة والصياح؟ وأين شرطة النجدة المخصصة للمساحات المائية، والمفروض أنها لا تتوقف عن التجول بقواربها في النهر، وفي هذا الوقت الذي تكثر فيه حوادث الانتحار أو الغرق أو الإغراق؟ توقف مكانه كالجثة المدلاة من حبل مشنقة، وتوقفت ساعته الجسدية وخرس كالحائط الذي التصقت به.

    لم يدرِ هل يتقدم أو يتأخر، هل يصرخ أو يصمت، هل يجري إلى اليمين أم اليسار، وإلى الشمال أم الجنوب، شعر أنه جذع شجرة يابسة يغوص بقوة قاهرة في كومة طين بلا حدود ولا أعماق، فاتت لحظات لم يسمع فيها أي صوت، خُيِّل إليه أن ساعته بدأت تدق من جديد، وتحركت قدماه نحو بيته وهو من الخجل والعجز واليأس في غاية. إنه لم يرَ أحدًا، وربما لم يره كذلك أحد، صحيح أنه سمع صوت الاستغاثة يخرق أذنيه ويخترق لحمه كالسكين الحادة، لكن من يضمن له أن هذا الصوت لم يكن وهمًا؟ وما الذي يؤكد أنه كان صوت استغاثة غريق أو غريقة، ولم يكن من عبث الصبية الفقراء الذين كثيرًا ما رآهم يتجردون من ملابسهم البائسة، ويتنافسون على السباق ضد التيار في عرض النيل؟ مَن يضمن له أي شيء أو يؤكد له أي شيء؟ إنه لا يدري ولا يستطيع بعقله أن يحكم أو يثبت أو ينفي، لكن لماذا نفذت الصرخة إلى قلبه؟ ولماذا اتسع الخرق في ضميره يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة؟

    وإذا برأه العالم كله من ذنبه، فمن الذي يعفيه من محاسبة نفسه، واتهامها مع طلعة كل شمس وغروبها؟ مَن الذي يملك القدرة على إسكات تلك الاستغاثة الحادة، التي لا تتوقف عن التردد في سمعه، والطرق بوحشية على كل بوابات وجوده؟

  • (٢)

    لم يتبقَّ أمامه سوى ساعات معدودة قبل أن يستقل الطائرة عائدًا إلى البلد النفطي الذي يعمل فيه، فإجازته لا تتعدى اثنين وسبعين ساعة يسلم نفسه بعدها في الموعد المحدد ويوقع في دفتر العائدين، وقد قضى معظمها مع زوجته في مشاوير لا تنتهي لتجهيز الشقة الجديدة التي كادت تبتلع كل مدخراته للزمن العصيب. استأذن في قضاء ليلة الخميس مع أصدقاء العمر الذين تعوَّدوا على اللقاء منذ أول الشباب، بشرط أن يستأذن مبكرًا للقيام بالمشاوير المتبقية في صباح اليوم التالي قبل رجوعه إلى مقر عمله، وعندما عبر الممر الشاحب الضوء ووقف أمام باب الكهف — كما سمَّاه الأصدقاء — وضغط على جرس الباب، تساءل عمَّن تُراه يكون بالداخل من الأصحاب، الذين تفرق معظمهم في البلاد، وغاص بعضهم تحت الماء، أو استطاع أن يطفو على سطحه ويتحدى ويصنع الأمجاد، هل سيجدهم يتحدثون كما هي العادة عن محنة الأدب وأزمة الثقافة والحرب الأهلية الخفية أو المعلنة بين الكُتَّاب والشعراء؟ أم سيجرفهم التيار إلى فضائح الفساد والانفتاح وسماسرة العصر الذين لم تنجُ منهم سوق الأدب والفن التي ترتفع فيها أصوات الشطار، ويغطي الصوت المرتفع على الأصوات الهامسة، التي آثر أصحابها أن يلزموا كهوفهم ويعملوا في صمت، أو يستسلموا للصمت اليائس المترفع عن فتح فمه بكلمة أو آهة واحدة؟ لا بد أنهم يجلسون الآن في البار أو في سجن المرايا، كما كان يحب ضاحكًا أن يسميه.

    بعضهم أمامه زجاجة كوكا كولا والبعض يرتشف من الكأس المشعة والمشتعلة في الزجاج وفي الأحشاء على مهل، والأنا المتضخمة أو المنسحقة تنظر إلى نفسها في بقية المرايا، فتنتشي أو تتحسر على حسب الأحوال.

    هلل الصديق وأخذه بالأحضان، ومن الباب أعلن للجميع مفاجأة حضوره، وخطا إلى الداخل على مهل وألقى نفسه على صدور الحاضرين، قبَّله البعض في شوق وسلم عليه البعض دون أن يعرفوه أو يسمعوا عنه.

    ولم يلبث الجميع أن انصرفوا عنه إلى الصديق الجليل، الذي توسط الحلقة وبدأ يستأنف حديثه، الذي يبدو أنه أسر الجميع داخل دائرته السحرية، وأزال المرايا المعهودة من الوجود: تصوروا الدوخة والهم الأزلي، كل يوم ومن صبيحة ربنا عليه أن يدبر مائتين وخمسين جنيهًا، مائتين وخمسين على أقل تقدير، وأين؟ في القصر العيني لا في المستشفيات الاستثمارية.

    قال الروائي الذي بدأ يلمع نجمه: الاستثمار هو الغول الذي يقبض الآن على كل شيء.

    قال الصديق الجليل وهو يمسح رأسه الثلجي بيده القوية: حتى الدم، تصوروا! يدوخ الرجل طول النهار بحثًا عن أكياس البلازما المطلوبة، يقف في الطوابير أمام أبواب المؤسسة فيقولون له: نفدت الحصة الموجودة وعليك بالسوق.

    وفي السوق إذا ساعده الحظ يشتري الكيس الواحد ﺑ…

    قاطعه زميل طويل القامة أبيض الوجه، لم يكن قد رآه من قبل، وتكهَّن أنه طبيب: الكيس لا يقل ثمنه عن خمسين جنيهًا، وهو غير مضمون.

    سأل صديقٌ قديم وهو يتفرسه بعينين أرهقهما تحقيق المخطوطات: ألا يحصل عليها من بنوك الدم؟ قهقه الذي تصور أنه طبيب وقال: يجب أن تضيف: بنوك الدم الخاصة، السمسرة هنا أيضًا على أشدها، والأهم أن الدم في الغالب ملوث، أو على الأقل لم يخضع للرقابة الواجبة والتحليلات الضرورية للتأكد من صلاحيته.

    قال صديق شاعر معروف بسخريته اللاذعة وطفولته الرعناء التي لا يرحم لسانها: البركة في الخصخصة وفي الثراء الفاجر والفقر الأشد فجرًا الذي جلبته علينا.

    تساءل بصوته الهادئ الذي ألفوا وداعته وغباءه معًا: هل تقصد أن الفقراء هم الذين يتطوَّعون اليوم بدمائهم؟!

    ضحك الشاعر قائلًا: وليتهم كانوا أصحاء، لكنهم مضطرون لبيع دمائهم لكي يعيشوا، الدكتور معه حق.

    وتدخَّل الصديق الجليل الذي حفر الألم والسخط على وجهه علامات بارزة: تجارةٌ حقيرة، حتى الدم يتاجرون فيه، والضحية من؟ رجل لا يزيد معاشه على المائتين وخمسين جنيهًا، أي ثمن الدم الذي يحتاجه ابنه الوحيد في اليوم الواحد.

    تكلم زميل يعمل أستاذًا على المعاش في جامعة إقليمية: لو كان مثقفًا عصريًّا ما وجد مشكلة، كان من الممكن وكان من الممكن.

    ضرب الصديق الجليل منصة البار بيده، فمال كأسه على جنبه، وكان لحسن الحظ قد أفرغه قبل ذلك في جرعة واحدة: ملعون أبو الثقافة والمثقفين، ونحن وأنا أولكم، والله هذا كفر، كفر وجنون وجحيم. تساءل محقق المخطوطات أملًا في تهدئته: الظاهر يا دكتور أنه صديق أو قريب عزيز. قال الصديق الجليل محاولًا أن يخرج عن الصمت الذي خيَّم عليه وعلى الجميع لحظات طويلة، ولم يجد بدًّا من اللجوء إليه بعد أن لم يبقَ أمامه غيره: بل زميل من أيام الابتدائي والثانوي، باع كل ما يملك وضحَّى بكل شيء، أي والله بكل شيء في سبيل البلد الذي يقتله هو وابنه الوحيد، الثقافة، لعنة الله عليها إذا لم يكن وراءها إلا الموت والجوع.

    رنت ضحكة الشاعر الخفيف الدم: وأحيانًا يكون وراءها الكراسي والمناصب والنجومية والرقصات الجديدة على البطون والرءوس في الزفات الميري التي تنصب خيامها في كل مكان.

    تدخَّل رب الدار ووجَّه دفة الحديث إلى موضوعات أخرى، وبدأ بسؤالي عن أحوال الإعارة، فلم تلبث سيول الشكوى أن تدفقت من شفاه صديقين آخرين، وشعرت أن الكهف قد رجع إلى طبيعته، وأن المرايا بدأت تملأ الحوائط أمامي ووراء ظهري ومن حولي، وانطلق أكثر من واحد يتكلم عن عمله الأدبي الجديد، فيثني عليه واحد وينتقده آخر، ويعتذر ثالث عن عدم الاطلاع عليه، مع وعد أكيد وحازم كالقسم بقراءته في أول فرصة تسنح له.

    وقبل أن ننسى أنفسنا في السباحة فوق بحور الإبداع والغرق في هموم النشر وتياراته السفلية، والتحليق بأجنحة الخيال السعيد أو الخيال المحبط إلى سماوات الأحلام الخاصة والعامة، يضع الصديق الجليل يده على كتفي وهو يقول: أنت في سكتي، تعالَ أوصلك.

  • (٣)

    وهما في الطريق إلى حيهما البعيد في الشمال الأقصى من العاصمة، راح يتطلع للوجه الصارم النبيل، الذي ذكره فجأة بوجه أغريقي أو مصارع روماني قديم، التف حول جسده ثعبان ضخم، جعله يتلوى من الألم الفظيع، ولكنه يتحمله بقوة خارقة، ولا تند عنه إلا آهة مكتومة خرجت من بين شفتيه، ولم يستطع الحجر نفسه أن يمنعها من الانطلاق في الفضاء كصيحة نسر عظيم، وتأمل الشعر الأبيض الذي يتوج الرأس الجليل، وهو يتعجب كيف تستقر القمة الثلجية فوق بركان يغلي ويفور، وسرعان ما يتفجَّر بالحمم النارية: هذا البلد لا يقتل إلا أبناءه المخلصين.

    قال محاولًا تهدئته: يبدو أن الإخلاص أصبح ذنبًا يستحق أشد العقاب.

    انفجر في غيظٍ ملتهب: المصيبة أنه مثقفٌ ثوري، لو كان من إياهم.

    قال ليخفي رعشة الخجل التي غمرته بقشعريرة برد مفاجئة: وربما كان السجن هو أهون عقاب. أمَّن على كلامه وهو يلعن زحام المرور في آخر الليل: منذ أن عرفه وهو لا يخرج من السجن إلا ليرجع إليه، وكلما سمعت الشرطة عن مؤامرة على نظام الحكم أو قبضت على تنظيم جديد، كان في طليعة المقبوض عليهم، كم حذرته بغير فائدة، سأل في حذرٍ: حتى بعد السقوط والانهيار الفظيع؟

    رد بضحكة مترجرجة في صدره كالنشيج: حتى صورة ماركس لم يرفعها من مكانها في صالة بيته، وفي آخر زيارة له قبل أن يحدث ما حدث لابنه قلت له: يا أخي ماذا يعجبك في هذه اللحية الفظيعة، والعيون المخيفة التي يطق منها شرار الغضب والاستبداد؟ أتريد أن نتركها هنا حتى يسقط البيت على رأسك أنت وابنك؟ ألا تصدق أنه سقط إلى الأبد هو ومذهبه اللعين؟ ضحك كطفل عجوز عنيد: وهل سمعت عن نبي سقط تحت الأنقاض؟ ما بقيت الأرض وبقي الفقراء فلن يسقط نبي الأرض والفقراء.

    قال في أسف يخالطه رنة الإعجاب والإشفاق: أراهن على أنه لم يرفعها حتى بعد العقاب الذي حلَّ به.

    قال الصديق بعد أن اجتاز إشارة المرور التي طالت وقفته أمامها: وأي عقاب؟ لقد باع كل ما وراءه وقدامه، حتى الأثاث والكتب والفرش الذي ينام عليه، والسجاد الذي تبقى من أيام الزواج، والذهب الذي تركته زوجته بعد وفاتها، باعه قبل ذلك للإنفاق على تعليم ابنه الوحيد، حتى البيت القديم الذي ورثه عن أبيه لم يتردد عن بيعه لمواجهة المحنة الأخيرة. وبالطبع بأبخس الأسعار لأخس التجار، حاول أن يستبدل المعاش، فقالوا: المعاش هزيل ومدة الخدمة لا تسمح، وحاول أن يقترض سلفة من البنك الذي يقبضه منه فطالبوه بضمانات مستحيلة، لم يجد أمامه إلا الأصدقاء الذين جاع وعُذِّب معهم في السجن، ولكن أين هم الأصدقاء؟

    هل تظن أن كلمة الصداقة تحتفظ اليوم بأي معنى؟

    قال وهو يتأمل وجهه ويبتسم: أظن طبعًا ما دمت موجودًا بحمد الله!

    قال بغير أن تنقشع سحابة الغضب التي تظلل ملامحه القوية: وماذا أفعل أنا وعشرات مثلي أمام هذه المصيبة؟ يعلم الله أنني لم أبخل بأي شيء، حتى آخر قرش جاءني من المحصول أعطيته له، وهو كل ما أملكه من الدنيا غير المعاش الذي تعلم مدى تفاهته.

    قال له وهو يغتصب ضحكة تهشمت على فمه: وهل كنت أبقى في الإعارة لولا علمي بحقارته؟

    قال وهو يقترب من الشارع الذي تعوَّد أن يوقف السيارة على ناصيته: معذرة لإزعاجك بمأساة إنسان لا تعرفه.

    رد عليه وهو يبحث عن مقبض الباب: وكيف لا أعرفه وهو صديقك؟ لست حجرًا على كل حال.

    قال مواصلًا اعتذاره: وماذا نفعل أنا وأنت لإيقاف نزيف الدم؟

    أليس هذا هو معنى المرض اللعين الذي يسمونه، حتى الاسم نسيته، المهم، متى تسافر بإذن الله؟

    قال وهو يفتح الباب وينظر من الزجاج ليخفي ارتباكه: غدًا في مثل هذا الوقت أكون هناك في فراشي، لكنني سأتصل في أقرب وقت.

    مد له يده مودعًا، وهو يقول بصوته القوي الحنون: لا تشغل بالك، تسافر وترجع بالسلامة.

  • (٤)

    بعد منتصف الليل بساعات انتبهت فجأة على وجوده بجانبها، أحست أنه قد أسند ظهره إلى جدار السرير وراح كعادته يحملق في الظلام، قالت شبه مذعورة: خير كفى الله الشر، لماذا لا تنام؟

    أجاب بسرعة خاطفة: خير بإذن الله، استريحي أنت.

    قالت وهي لا تزال تتوجس شرًّا: ألا تستريح قليلًا قبل السفر.

    قال في محاولة فاشلة للدعابة: الهدوء الشامل هناك سيساعدني على النوم الذي يحسدني عليه أهل الكهف.

    قالت ضاحكة: وهنا أيضًا، هل نسيت أن وراءنا؟

    قال بحزم ليصد الأبواب: وهل النسيان ممكن؟ قلت لك استريحي أنت من تعب النهار.

    لم ينسَ بطبيعة الحال أن غده سيكون من أشق الأيام، سيدور معها في معارض النجف والسجاد الصغير لغرفتي الأولاد وحجرتي المعيشة والمكتب، وسوف يضطر كذلك للمرور على المعلم المراوغ في ورشة النجارة لاستعجال غرفة السفرة التي احتاجت منهما لأكثر من مشوار، سيكون يومًا مرهقًا. ولكن متى خلت حياته من المتاعب؟

    رجع يلف مع الدوامة التي جرفته دوائرها السوداء، أحس أن جسده ما زال ينتفض من البرد، وأن العرق ما يزال يتصبب من كل خلية في جسده، تساءل هل يمكن اللجوء إلى الاستعارة والقول بأن العرق هو دموع الجسد المنهك أو المنتهك على الدوام؟ وكيف يصف دموع النفس المضناة والمحبطة في سجن البدن أو قبره؟ أين الاستعارة أو الكناية أو التشبيه أو الرمز الذي يعبر عن بكائها الأخرس في قاع البئر المصابة بالجفاف؟ لو أنه، لو استطاع، لو تجرأ وفعلها، وألف لو لا توقفت زخات العرق البارد ولا دفقات الدمع الكظيم، لماذا شلت يده فلم تمتد إلى الجيب المكدس بآلاف الدولارات والجنيهات؟ أيكون الوقت قد فات كما فعل معه أو بسببه آلاف المرات؟

    أخذ يهدئ نفسه بالعزاء المعتاد، قال لها: أبدًا لا يفوت الوقت إلا لمن يتركه يفوت.

    وبدأ يستعيد كلام صديقه الجليل معه في السيارة وهناك مع الأصدقاء. حاول أن يجمع الكلمات المتناثرة في لوحة واحدة تكون صورة الوجه الذي لا يعرفه ولم يرَه أبدًا وربما لن يراه، أليست إعادة التركيب والبناء شيئًا مألوفًا في العلم كما في الحياة؟ ألا يثرثر الجميع وهو واحدٌ منهم عن قدراته وأسراره ومعجزاته في كل مجال؟ فليقف على شاطئ المجهول ويركب البيت أو القصر أو حتى الكوخ من نثار الحصى والقواقع والأصداف والرمال، فليحاول أن يتخيله طويلًا نحيلًا محني الظهر والعينين أو متوسط القامة مهددًا على الدوام والانهيار والسقوط، وليحاول أن ينظر في عينيه طويلًا ويتشرب الكلمات التي تنهمر كالدموع السوداء من بين شفتيه.

  • (٥)

    آه يا ولدي المسكين، بعد تعب العمر يخذلني فيك المرض والحياة والناس والأصدقاء والأعداء، كدت أقول يخذلني القدر لولا أنني عشت مؤمنًا بالثورة الدائمة، وبأن الإنسان هو صانع التاريخ، وما يسميه الجهلاء المهزمون بالقدر أو النصيب.

    أي انتقامٌ هذا يا ولدي؟ أأسلم — وأنا الصخر العنيد — في النهاية بتلك القوى الغيبية السخيفة التي أنكرتها طول العمر؟ أأركع وأسجد على أقدامها في خشوع وأنا أقول: ها أنا قد سلمت ورجعت إليك رجعة الابن الضال، الذي يعود تائبًا إلى حظيرة أبيه وراعيه؟ وكيف أفعل وأنا لم أتعوَّد الركوع ولا السجود؟ أجل يا ولدي، ها أنت تراني أقع فيما هو أسوأ من الركوع والسجود، وأي شيء أسوأ من مد اليد المرتجفة الخالية لمن يساوي ولا يساوي؟ أبوك الذي لم يكن يصحو أو ينام إلا على وجه الثورة والمستقبل، والحلم الحتمي بالعدل المطلق والفجر الباهر الجديد، صار الآن يدق أبواب أصدقاء الشباب ورفاق السجون والمعتقلات والزنزانات، وزملاء الكفاح والجوع والحرمان والجلد والتعذيب، لكن الأبواب لا تفتح يا ولدي، كل الأبواب موصدة، كل العناوين قد تغيرت بقدرة ساحر أو حاوٍ عربيد. الذين كانوا مثلي لا يجدون قوت يومهم ولا يفكرون فيه لفرط انشغالهم بالغد الثوري، أصبحوا رؤساء وأعضاء مجالس إدارات، لمعت نجومهم في سماء المجتمع وبقدرة قادر غيَّروا الجلد والقلب والعقل والضمير، مع تغير الأحوال وألوان الرمال التي يزحفون عليها، النادر منهم هو الذي اكترث بمقابلتي ومد لي يده ببضع جنيهات، وعيناه تنطقان بفصاحة تُغْني عن كلام وبيان: حظ طيب، أرجوك ألا تشبهني مرةً أخرى، لقد تركت كل شيء وأريد أن أعيش في هدوء، وأربي أولادي في الأيام الباقية.

    وبعت كل شيء يمكن يا ولدي أن يُباع، حتى صورة أمك الحبيبة أخرجتها من الإطار المذهب؛ لأبتاع بثمنه كيس دم جديد، والبيت القديم الذي تربيت فيه على الستر والمبادئ التي لم تشاركني دائمًا فيها، البيت الذي بقي لي من الدنيا ومن تراث أبي الفقير بعته للجار، والجار هو العطار الجشع الذي طالما أبديت إعجابك بنجاحه وحسه العملي والتجاري الذي فطر عليه. قلت لك: الفطرة لا تكفي، ولا بد من أن نؤمن بالعلم ليكون هو الفطرة الثانية، وصدقتني في هذا الأمر وحده، وتابعت طريق العلم حتى أوشكت على الوصول، فلماذا تتوقف يا ولدي فجأة؟ ومن أين جاءك هذا النزيف اللعين؟

    أين هو وجه العدو الذي يمكن أن أفضح قناعه وأحرق جلده، وأشوهه بكل الغيظ والغبن والغدر الذي ترسب في كياني أو ما تبقى من كياني من أنقاض وأطلال؟

    ها أنا ذا أهيم في الشوارع وأضيع فوق الجسور، وأظل الليل بطوله بحثًا عن المعنى وصراخًا في وجه اللامعنى الوقح الجبار، لكن ماذا يفيدني هذا أو يفيدك؟ ودمي يتسرب في دهاليز اليأس كما يتسرب دمك من كل فتحاتك، وأحاول أن أوقفه مع بقية الطيبين.

    آه يا سندي في الكهولة والشيخوخة، يا نبتتي الوحيدة التي تبقت من حقل حياتي الجرداء، يا عكازتي التي تتكسر يومًا بعد يوم ولحظة بعد لحظة، وتتحول في يد البؤس والحاجة إلى أفعى مسمومة تلتهمك يا وحيدي وتلتهمني؟ هل يجدي الآن أن أهتف معك أيها الطيب العميق الإيمان، وأدعو إلهك الذي لم أتوجه إليه أبدًا بالدعاء: ساعدني يا ربي؟ استجب لوحيدي إن كنت ترفض أن تستجيب لي. ارحمه يا رحمن يا رحيم من المرض المعلون.

    وعاقبني إذا أرادت مشيئتك أشد عقاب.

  • (٦)

    في الخامسة من مساء الجمعة يجلس في مقعده بجوف الحوت الحديدي العملاق، الذي يشق كالحربة الخرافية جبال السحب المتراكمة، كأمواج الزبد على ارتفاع يزيد على العشرين ألف متر أو كيلومتر، لا يدري، فقد أعلنت المذيعة الرقم من داخل غرفة القيادة، بينما كان رأسه يميل على صدره للإغفاء لحظات، وصحا على لكزة خفيفة من جاره السمين المتشح الرأس بالغطرة والعقال ليجيب على سؤال المضيفة الآسيوية الوديعة الوجه والعيون والابتسامة عن نوع العشاء الذي يحبه، أجابها بالإنجليزية باختصار وتناول من يدها كوب الليمون وهو يكرر الشكر والاعتذار، ثم مال رأسه على صدره بعد أن شرب العصير ليحمي عينيه المحمرتين من المشاهد المضحكة المبكية على شاشة التلفاز، ويحمي رأسه الثقيل من مطارق الثرثرة مع الجيران. أخذت صورة الراقد على فراش المرض الملعون تتركب في رأسه وتجمع خطوطها وظلالها وألوانها الداكنة، وتكلمه أيضًا وهو يهبط بين اليقظة والنوم إلى عالمه السفلي: أكلمك يا أبي فاسمعني وإن عجزت عن النطق بعبارة واحدة، ومَن غيرك يفهم لغة الوجه المصفر الشاحب والعيون التي انطفأ فيها سراج الأمل الذي كان يتوهج بالوعود قبل أيام معدودة؟ من غيرك يلمس أيضًا جرح القلب وعثرة الساقين والقدمين على أول خطوات الطريق؟ آه يا أبي، يا أبي الحبيب، أتعلم الآن أنك أقرب إليَّ مما كنت في أي يوم مضى من حياتنا البائسة، التي كانت مستورة ثم كشفت يد مجهولة عن وجهها التعس، وحجبت عنه إلى الأبد نور الشمس والأمل المؤجل في شيء من الراحة والأمان؟ في كل يوم أراك فوق فراشي ولا أنخدع بابتسامتك التي تمر على وجهي وصدري وشعر رأسي، وهي ترتعش من الخوف والخجل والذل والهوان، وما زلت تحمل معك أكياس الدم وتخفي عني الحقيقة التي لم تغب عني لحظة واحدة، هل شعرت أنني أشفق عليك أكثر مما أشفق على نفسي؟ وما قيمة حياتي أو موتي وأنا أرى شجرتك العجوز المصفرة الأوراق تطقطق في الريح ويتماسك في داخلها الخواء أمام ضربات المطر والسوس والظلام المطبق الذي يتردد فيه عواء كلاب الموت المتوثبة؟ أعرف ما تتعرض له كل يوم وكل ساعة، أتساءل عن قيمة بقائي أو ذهابي مع ما تلقاه من جحود الأصدقاء وتنكر الأقرباء وانغلاق الأبواب وقلة الحيلة، أود أن أقول وأنا ألمح أمارات الذل والقنوط على ملامحك: الحالة ميئوس منها يا أبي، أنا وأنت ونحن وهم، أليس هذا هو الحصاد الحتمي للزمن الرديء؟ لقد عشت تتحدى كل الأخطار وتواجه كل الذئاب والكلاب المسعورة، حتى النسور التي تنهش كبدك كل يوم، كما حدثتني عن ذلك البطل الأسطوري الذي نسيت اسمه، لكن أسراب النسور التي انهالت عليك كانت أبشع من كل ما قدرت، وحتى التحدي الذي جربته مني وتحملته لم يكن أقل قسوةً عليك، كنا نتصادم ونتلاطم ويرتطم كل منا بالآخر، ثم لا نلبث أن نتصالح ونتلاقى في منتصف الطريق، أؤدي الصلوات في أوقاتها، وأزدري السياسة وأسخر من ساس يسوس؛ لأتوج العلم على رأس الزمن القادم، فتبتسم في النهاية وتقول: المهم يا ولدي هو أن تؤمن بصدق وبعمق، حتى الإيمان بالخرافات والأحلام، وبما كان يبدو كالأوهام قد ولد العجائب والمعجزات، آمن بما تشاء، ولكن آمن، وآمنت بالله وبالعلم وجعلتهما سيدي مصيري وقائدي عربتي الضعيفة المرتعشة الأطراف، تابعت معي طريق الأمل وأعنتني على عبور حفره المفاجئة، وشجعتني حين حكيت عن زاد العمر الذي أعطيته حبيبة القلب وزميلة الدراسة، لم تخفِ تذمرك واستنكارك عندما عرفت أنها ابنة برجوازي ورجعي عريق، وطمأنتك أن قنديل حبها الساطع كسف شموع ظنوني وهواجسي، بل إن أباها الذي عرفتني به قد ذكرك باحترام شديد، وأبدى رغبته في لقاء لم يتم، ولم يكن غضبك لكرامتك ليسمح بأن يتم أبدًا، لكنك لم تقف عقبة في الطريق، وكررت عليَّ خطبتك المعتادة عن الحرية والكرامة والضمير واحترام النفس، وسائر الكلمات التي داست عليها أقدام العصر الغليظة. آه يا أبي. وهي تزورني كل يوم وتحاول أن تضع البكاوي في يدي أو تحت مخدتي، فأصرخ في وجهها الحنون الذي أطفأ اليأس المتزايد أضواء مرآته الشفافة، وأنا الحائر بين أبٍ يهيم على وجهه بحثًا عن كيس واحد من الدم وبين الآلاف التي تقدمها لؤلؤة القلب فأفضل عليها الغرق في قاع القاع، وبينكما أتساءل كل يوم بل كل لحظة بينما يجثم فوق صدري الكابوس الزاحف على ذبالة العمر المرتجفة: متى يا رب أغرق في القاع؟ متى يا أرحم الراحمين ترتفع بالسيف ذراع الكابوس، فتطيح برأس المهندس الموعود وتضع نهاية لشقاء الأب المنكود؟

  • (٧)

    حمدًا لله أن يدًّا طرقت باب كهفه بقوة، فانتشلته من الموت الأصغر قبل أن ينتصف النهار ويفوت أوان التوقيع. نفض صوت زوجته النوم من عينيه وجلجل كأجراس الخطر في وديان ذاكرته الضعيفة: هيه. حمدًا لله على السلامة، حذار أن ترجع للنوم ويفوتك.

    – لا تخافي، سأذهب في الحال.

    – في الحال، وإلا خصموا اليوم من الراتب والمكافأة النهائية، لا تنسَ …

    – وماذا أيضًا؟

    – قسط غرفة النوم يحل أول الشهر، وشهادات الأولاد، والقسط الأخير للسيارة، أنا نفسي كنت نسيت.

    – العدوى أصابتك مني، كيف حال الأولاد؟!

    – بخير بخير، المهم ترسل المبلغ في أول فرصة ممكنة، خذ بالك أيضًا.

    – إنني متزوج وعندي أولاد وعليَّ مسئوليات.

    – نسيتني كالعادة، أردت أن أقول خذ بالك من نفسك.

    – حاضر حاضر، بوسي الأولاد حتى أراكم في أقرب وقت.

    – ولماذا المصاريف؟ هل نسيت أننا …

    – ربك يقدم ما فيه الخير، مع السلامة، مع السلامة.

  • (٨)

    شرب كوب الشاي على عجل وأسرع إلى الكلية، سلم على الزملاء والطلاب الذين وجدهم في طريقه، وفوجئ بالساعي البنجلاديشي القصير يجري نحوه ويأخذه بين أحضانه، ووقَّع عند السكرتير على دفتر الحضور، وسأل كل من رآه عن الصحة والأحوال، وبينما كان يشرب القهوة التي حملها إليه الساعي الطيب القلب، أخذ يستمع إلى مسلسل المهام التي تنتظره في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة: محاضرة الموسم الثقافي، الندوة التي سيرأسها والندوة التي سيعلق عليها عن أزمة المنهج في نفس الموسم، اللجان الخمس أو السبع التي سيخطره السكرتير بمواعيدها المحددة، ورقة العمل التي شارك بها في ندوة مجلة الكلية عن غياب بعد المستقبل عن الفكر العربي، ثم هناك التحضير المتواصل للمادتين الجديدتين اللتين كلف بهما في هذا الفصل الدراسي، تذكر العبيد المقيدين بالسلاسل في قاع السفينة المظلم في مسلسل الجذور، الذي كان يحرص على متابعته، وتساءل وهو يرتشف آخر جرعة من قهوته: ما المخرج من هذا الملل الأزلي؟ هل ثمة شيء أو شخص ينقذه منه، وهو الذي لا يفتأ يحلم بالمنقذ والإنقاذ؟ ومتى تأتي لحظة التجلي وتكشف عن وجهها الذي احتجب خلف ستائر الأيام والأعمال، وفر هاربًا من ضجيج عجلة التعذيب العقيم؟

    ودارت عجلة التعذيب وهو لا يملك أن يدافع عن نفسه، وأخذ يقاوم في صمت حتى لا يغوص في دوامة الرمال، التي تسحب قدميه وتهدد بأن تغمر رأسه ببعض الأعمال الجانبية، التي كان يكلف بها بين الحين والحين، وفكر أن يسارع بإرسال مبلغ لا بأس به إلى صديقه الجليل، ولكنه تذكر أن الذاكرة قد خذلته كعادتها، وأنه نسي حتى أن يحصل منه على رقم الهاتف ورقم حسابه في البنك، أو أن يتأكد من اسم الشارع الذي طالما سارت فيه قدماه بحكم الفطرة والشوق، دون أن يخطر على باله أن يتحقق منه: هل هو شارع ابن حنبل أم ابن مالك، أم ابن باجة أم ابن … وابتسم حين طافت بذهنه صورة الحمار الأبيض النشيط الذي كان أبوه يرسله من الحقل أو من المحل إلى البيت، فيجده واقفًا أمام البوابة الكبيرة في ثقة وأمان.

    غير أن هذه الابتسامة وأمثالها كانت تتوارى خجلًا وراء وجهي الابن والأب اللذين لم يرهما أبدًا، وصمَّم بينه وبين نفسه أن ينتظر أول الشهر ويستأذن في زيارة خاطفة، ولو أدى الأمر ألا تزيد عن ثمانٍ وأربعين ساعة لسبب طارئ لا يحتمل التأجيل.

  • (٩)

    هاتف الصديق فور وصوله بعد أن تأكد من الرقم المنسي واستأذنه في زيارة عاجلة، رحب به الرجل النبيل واعتذر بسبب مشوار إلى البلد لا يحتمل التأجيل.

    – خير إن شاء الله، هل أراك بعد رجوعي مساء غد؟

    – سأكون في الطائرة التي تقلني في رحلة العودة، خطفت خروجية لمدة ثمانٍ وأربعين ساعة وليتني أراك.

    – وأنا أيضًا، خسارة، إن شاء الله.

    – لا أدري كيف أعتذر عن التقصير، لعنة الله على الظروف والتطلعات، المهم أنني جمعت مبلغًا لا بأس به ويسعدني أن أساهم.

    – لا أفهم شيئًا!

    – يعز عليَّ أن تكون وحدك، أقصد صديقك وابنه شفاه الله.

    – «خلي فلوسك في جيبك.»

    – ماذا تقصد؟!

    – الابن رحمه الله من عذابه بعد سفرك بيومين، والأب لحق به بعد أيام.

    – لا إله إلا الله، بهذه السرعة!

    الدنيا لله، كنت في البلد ولم أتمكن حتى من المشي في الجنازة، توالت الأحداث أسرع من الخيال، ربما لم تسمح الظروف حتى بإقامة الجنازة.

    – كل هذا النحس يا ربي! هل تأكدت بنفسك من المستشفى؟!

    – طبعًا طبعًا، ذهبت بمجرد حضوري من البلد ومعي مبلغ كبير، قالوا البقية في حياتك، الأب أيضًا أحضرته عربة إسعاف ومات في نفس الليلة، قلت لهم: مَن الذي جهزه وليس له أحد؟! ضحكوا وقالوا: هذه شغلتنا، ليس هو أو ابنه أول ولا آخر من تحملهم عربة المستشفى إلى مقابر الصدقات، أتعرف ماذا تمنيت على الله في هذه اللحظة؟!

    – وهل بقي شيء تتمناه؟!

    – أن يكونوا دفنوه بجوار ابنه.

    كانت هذه هي أمنيته الوحيدة.

  • (١٠)

    غادر مسكنه بسرعة دون أن ينظر في عيون طفليه، التي أطلت منها الدهشة والتعجب الشديد من حاله، لم يجب كذلك على أسئلة زوجته التي انهمرت فوق رأسه كقطرات المطر، وراحت تتسرب إلى مقبرة الذاكرة وتنبش فيها، واستقل عربة أجرة حملته إلى نفس المكان الذي وقف فيه قبل أسابيع على كورنيش النيل، كان وجوم المساء الشتوي يجلل المكان وما فيه، ويغطيه بغشاوة داكنة من السأم والاكتئاب والغيبوبة، وخُيِّل إليه أن الغياب قد ابتلع كل ما هو حاضر أمام عينيه. حتى العابرين على الجسر والعشاق القليلين على السور الحجري المنخفض، وبائعي الترمس والذرة المشوية، والمصابيح المتوهجة وأكوام القمامة المتراكمة بروائحها الكريهة، لم تشعره إلا بالتوغل مع كل خطوة في نفق الغياب. أخذ يذرع الكورنيش جيئةً وذهابًا، ويمد بصره إلى البواخر السياحية العابرة ومراكب الصيادين الفقراء، في الهلاهيل التي تكشف عن عري أجسادهم النحيلة ولا تسترها، تمنى أن يجد مقهًى يجلس فيه ويسكت مطارق الصداع الوحشي بفنجان من الشاي أو القهوة، وأذن الليل بالانتصاف ففكر في الرجوع حتى لا يتعرض للشبهات أو للأسئلة الخرساء التي تهدد بالانقضاض عليه، وخُيِّل إليه لحظة ابتعاده عن الشاطئ أنه يسمع صوت الاستغاثة التي تشق صفحة الماء، تتلوها صرخات استغاثات مكتومة تخرج من جوف الأرض، وتنفذ من فتحات النوافذ في العمائر المطلة على الشاطئ، وتتصاعد من الأشجار الهامدة في الظلام، وألقى نظرة أخيرة على جسد النيل الراكد كبطن حوت أبدي يحتضر، فهالته حشود الأيدي التي تشق المياه الآسنة وهي تزحف وتتلوى وتتكاثر، كأيدي الغرقى أو الجنود المهزومين.

    توقف في مكانه وعاودته الرعشة التي ترج جسده كالزلزال، وتساءل في همس تشوبه رنة السخرية: بمَن يستغيثون وقد مات الضمير؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤