مقدمة

العلم في الأصل مصدر من عَلِمَ … وعلم الشيء أي عرفه … وبذا يكون علمًا كل ما دخل في علم البشر، إلا أن هذا المعنى الواسع للفظ قد حدده وضيق دائرته الاصطلاح في عصرنا الحالي.

فالعلم كما أصبح مصطلحًا عليه — مجموعة من الدراسات لها غرض ثابت ومنهاج واضح ودائرة محددة.

فأما عن الغرض فهو الوصول إلى المعرفة، وأما عن المنهاج فإن العلم يُستخدم في بحثه نتائج الخبرة المباشرة عن طريق الحواس كما يستخدم التفكير المنطقي المنظم، وأما عن دائرة العلم فهذه هي الطبيعة أو هي كل ما يمكن أن يشاهَد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، هذه الأمور الثلاثة على بساطتها كثيرًا ما تغرب عن بال من يتعرضون للكلام عن العلم والعلماء.

وتنقسم العلوم أقسامًا مختلفة تبعًا لموضوعاتها؛ فعلم الفلك مثلًا موضوعه الأجرام السماوية وحركاتها في الفضاء وصفاتها الطبيعية، وعلم الكيمياء موضوعه المركبات والعناصر وطرائق تألفها وتفرقها، وعلم النبات موضوعه النبات، وعلم الحيوان موضوعه الحيوان … وهكذا، على أن تقسيم العلوم إنما هو أمر اعتباري؛ فالطبيعة متصلة الأجزاء ولذلك فالعلم متصل الأجزاء.

والعلم بالمعنى الذي وضحته يسمى في بعض الأحايين بالعلم البحت تمييزًا له عن العلم التطبيقي أو التكنولوچيا، والعلاقة بين العلم البحت والعلم التطبيقي تشبه العلاقة بين العلم والعمل؛ فالكيمياء مثلًا أحد العلوم البحتة وهي دراسات يُقصد بها معرفة تفاعلات العناصر والمركبات معرفة موضوعية، والعالِم الكيميائي إنما يعني بالوصول إلى هذه المعرفة. والكشوف الكيميائية إنما هي الزيادة في هذه المعرفة، أما الكيمياء الصناعية فعلم تطبيقي يُقصد به تطبيق الكيمياء على الصناعة واستخدام نتائج العلم البحت في خدمة الصناعات البشرية، فالعلوم التطبيقية إذًا ليست علومًا بالمعنى الصحيح وإنما هي صناعات أو فنون، أو هي كما يسميها الإفرنج تكنولوچيا.

ونحن إذا رجعنا إلى تاريخ العلوم وجدنا أن اشتغال الناس بالعلوم البحتة وطلب المعرفة لذاتها قديم كقِدم المدنية البشرية، فالمصريون والبابليون والإغريق والعرب بحثوا عن الحقيقة الموضوعية شغفًا بها ورغبة فيها، وليس هذا بغريب إذ إن الطفل في حداثته شغوف بطلب المعرفة وَلُوع بمعرفة ما لم يكن يَعرف. هذا التعطش إلى إدراك الحقيقة جزء لا يتجزأ من النفس البشرية يلازم الإنسان من مهده إلى لحده، وهو قوة يستخدمها المربون في تعليم النشء وتثقيفه كما أنه عامل أساسي في تطور العمران. على أنه إذا كان حب المعرفة متأصلًا في نفوس الناس جميعًا فإن التفرغ للعلم والعناية به وتقديره حق قدره من مميزات الخاصة دون العامة من الناس، فمن لم يتذوق حلاوة العلم في صغره شبَّ جاهلًا، بل إن الكثيرين ممن تعلموا ووصلوا إلى درجة لا بأس بها من المعرفة قلما يجدون في العلم متعة أو لذة فكرية. ومن أصعب الأمور على العالِم أن يقنع الجاهل بقيمة العلم، كما أن من أصعب الأمور على قواد الفكر في أمة جاهلة أن يقودوا الرأي العام فيها إلى الاهتمام بالعلم، وهم يلجأون في الغالب إلى نوع من التحايل البريء ليصلوا إلى أهدافهم، فالجاهل لكي يقتنع يطلب شيئًا ماديًّا يقتنع به، وإذن وجب لإقناعه بمزايا العلم أن تترجَم هذه المزايا إلى أشياء مادية ملموسة يفهمها أصحاب المتخيلات الضيقة.

وفي العصور الماضية من تاريخنا، وعلى وجه الخصوص في العصر الإسلامي، كان الحكام والأمراء يقربون العلماء ويعترفون بفضلهم وييسرون لهم عيشهم لكي يتمكنوا من القيام بواجبهم السامي في خدمة العلم، ولولا ذلك لما ازدهرت العلوم في العصر الأموي ولما كانت الحياة العلمية في الأمة ناضجة قوية، ولو أنها كانت محصورة في دائرة من خاصة الناس يغشون مجالس العلماء ويختلفون إليها.

ولما انتقلت معارف العرب إلى الإفرنج في أوربا نهجوا نهج العرب وقام أمراؤهم وملوكهم باحتضان الحركة العلمية وتشجيعها، فأُسست الجامعات في القرون الوسطى وخاصة في القرنين الثاني عشر والثالث … ثم تلا ذلك النهضة الفكرية في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر فأُنشئت المجامع العلمية في القرن السابع عشر وازدادت الحياة العلمية والفكرية نشاطًا وحركة بين الأوربيين حتى وصلت إلى ما هي عليه في عصرنا الحالي.

ولقد امتد ميدان العلم في عصرنا الحالي واتسعت أرجاؤه حتى صار من الصعب أن نجد مبحثًا من المباحث لم يتناوله أو شأنًا من الشئون لم يعالجه، وليس في ذلك غرابة فالعلم إن هو إلا التفكير البشري المنظم، وكما أن الفكر لا يُعرف له حد يقف عنده أو طرف ينتهي فيه، كذلك العلم شأنه شأن الفكر في ذلك سواء بسواء.

إذا ذكرت التفكير البشري وأبنت أن لا حدود له فإنما أقصد التفكير الحر المطلق من قيود الجهالات وأغلال الأساطير والخرافات، فطالما رزح الفكر تحت هذه السلاسل مكبلًا بها، ولطالما عانت البشرية من جزاء ذلك وبالًا ونكالًا، ففي القرون الوسطى كانت درجة حرية الفكر ضئيلة، ولذا كانت دائرة البحث العلمي ضيقة، ولم يكن يجسر أحد على إعلان رأيه حتى في أبعد الأمور عن نظم المجتمع وعاداته وأقلها اتصالًا بها مخافة أن يُسَفَّهَ قولُه باسم هذه النظم والعادات وأن يُرمى بأشنع الطعون والاتهامات، وأي شيء أبعد عن المجتمع البشري وأقل اتصالًا بماداته من حركات الكواكب في أفلاكها؟ ومع ذلك فإن كوبرنيك لما قام يدلل على حقيقة هذه الحركات في المجموعة الشمسية ويبين أن الشمس هي المركز الذي تدور حوله الأرض والكواكب جميعًا حُورب حربًا شديدة واتُّهم بالكفر والزندقة وأحلت به صنوف التعذيب وألوان العسف والتنكيل. ولست أريد أن أخوض في أمر هذه الاضطهادات التي مُني بها العلم والعلماء في القرون الوسطى فإن خبرها شائع معروف، وإنما سقتها للتدليل على أهمية حركة الفكر كشرط من شروط انتشار العلم، بدونه لا يرجى للعلم تقدُّم أو نمو، وبه يُمكن من تأدية رسالته ومواصلة جهوده في ميدانه الفسيح لا تحده إلا قوانين المنطق السليم، ولا يعترف بسلطان غير سلطان الحقائق الواقعة والتفكير الصحيح؛ لهذا نما العلم واتسعت دائرته في عصرنا الحديث.

وهناك صفة أخرى يتميز بها كل قول يقول به العلم وكل رأي يصدر عن عالِم ألا وهي صفة تقرير الواقع؛ فالعلم إذ يتحدث إنما يتحدث عن الحقائق التي تقع تحت سمعنا وبصرنا وسائر حواسنا، وهو لا يتحدث عما يقع تحت بصر زيد أو عمرو من الناس بل عما يستطيع كل إنسان أن يتحقق منه بنفسه وعن طريق حواسه، وفي كل هذا يصوغ العلم عباراته في صورة خبرية بعيدة عن ميول النفوس وأهوائها؛ فهو لا يحب شيئًا ولا يكره شيئًا، ولا يعجب بشيء ولا يسخر من شيء، ولا ينادي بشيء، ولا يحط من قدر شيء، وإنما هو يقدر الحقيقة الواقعة من حيث هي وبصرف النظر عن أثرها في النفس البشرية.

هذه المعاني مجتمعةً هي ما يعبر عنه العلماء بقولهم: إن العلم إنما يتعرض للحقائق ولا يُعنى بالقيم، والقيم هنا لفظ اصطلح عليه الفلاسفة وأرادوا به كل ما ارتبط بأغراض البشر من معانٍ تقوم بالذهن ولا تدل على حقيقة واقعة في الخارج، فالعلم إذا نظر إلى ظاهرة من ظواهر الطبيعة كغروب الشمس مثلًا، حاول أن يصفها كما يجدها كحقيقة واقعة في الخارج، فنظر إلى الحركة النسبية بين الأرض والسماء التي ينشأ عنها اختفاء الشمس تحت الأفق ونظر إلى قوانين هذه الحركة وأنظمتها، كما نظر إلى الإشعاع الصادر عن الشمس وولوجه في جوف الأرض، وتأثر هذا الإشعاع بجزئيات الهواء وبالجسيمات الأخرى التي تعترض سبيله، وما ينشأ عن هذا من احمرار يُقاس بطول موجة الضوء … وهكذا. أما ما يُحدثه غروب الشمس في نفس الناظر من شعور بالجمال أو إعجاب بالطبيعة أو رهبة من اقتراب الليل، فكل هذه أمور لا تدخل في حساب علم الطبيعة ولا يَنصبُ نفسَه لتحصيلها، وليس معنى هذا أن العلماء قوم قد ماتت مشاعرهم وانعدم إحساسهم وغفلت ضمائرهم، بل بالعكس قد دلت التجربة على أن الاشتغال بالدراسات العلمية يرهف الإحساس ويبعث في النفوس حب الخير والصدق والجمال، وإنما المقصود أن العلم يرسم لنفسه دائرة لا يخرج عنها هي الدائرة التي يستطيع أن يعمل فيها معتمدًا على المشاهدة المباشرة والمنطق الصحيح. فكل ما وقع تحت الحس يقع في دائرة العلم ولا يخرج عن هذه الدائرة إذن إلا ما استحال التحقق من وجوده، ومعنى هذا في الواقع إنما هو أن دائرة العلم تتسع لكل ما له وجود حقيقي في الخارج.

هذه المناقشة الفلسفية ضرورية إلى حد ما في تفهُّم مهمة العلم وأغراضه، إلا أننا في غير حاجة إلى فلسفة كلامية لكي ندرك ما صار للعلوم من أهمية في المجتمع البشري، فكل شيء يحيط بنا اليوم في حياتنا الحديثة يكاد ينطق بفضل العلوم، وكل تقدُّم في فنون المجتمع البشري ووسائله ومرافقه إنما هو ثمرة من ثمرات العلم والبحث العلمي. ولم يعد النظر في أمر العلم مسألة كلامية أو مبحثًا نظريًّا، بل ضرورة تقتضيها حياة الأمم كما تقتضيها حياة الأفراد. ومن العبث أن نضيع الوقت في محاسبة العلم على ما صنعه من أجل المجتمع وهل كان هذا الصنيع صنيعًا حسنًا أو كان بالعكس عملًا ضارًّا، فكل هذا لا يجدي شيئًا في الوقت الذي تتسابق فيه أمم العالم بأسره في الأخذ بنتائج العلوم وفي استخدام الوسائل العلمية لإصلاح أمورها الداخلية وفي الدفاع عن حياتها وسلامتها.

أجل وإننا إذا فكرنا مليًّا واستعرضنا الأمم المتحضرة على تفاوت حظوظها من الحضارة، وتبايُن أقساطها من التقدم الإنساني؛ ألفينا أعظمها نصيبًا من المدنية أكثرها اهتمامًا بالعلوم، وأدناها حظًّا من التقدم والسُّؤدد البشري أقلها اكتراثًا بشأن العلم والعلماء، وذلك بأن الحياة الحديثة والحضارة الحديثة والتقدم الحديث هي جميعًا وليدة العلم لا تحيا إلا به ولا تقوم إلا عليه؛ فلا غرابة إذن في أن تكون العناية به معيارًا لها ودليلًا عليها.

ونحن في مصر، أين مكاننا بين هذه الأمم؟ وما مبلغ ما وصلنا إليه من العناية بأمر العلم؟ وإلى أي حد يمكن أن نزعم أن حياتنا الحديثة مدعمة على أسس علمية صحيحة؟ لست أبغي من وراء إثارة هذا السؤال أن أزج بنفسي وبالقارئ في مناقشات جدلية، ولكن شيئًا واحدًا محقق، وشيئًا واحد لا يتقبل الجدل أو النقاش، ألا وهو: أننا إذا أردنا أن يكون لنا مكان معلوم بين أمم الأرض المتحضرة وأن نتبوأ البيئة اللائقة بما بين الممالك والشعوب، وَجَب علينا أن نضاعف اهتمامنا بالعلوم الحديثة وأن نجعل منها أسسًا ثابتة نبني عليها صرح حياتنا القومية.

إن في إمكان كل أمة مهما بلغ الجهل بأمرها أن تبتاع بالمال نتائج الصناعة الحديثة من عربات متحركة بنفسها وآلات مُحرِّكة لغيرها، بل ومن سفن ودبابات وذخائر وأسلحة، ولكن ما قيمة هذه الآلات في أيدي قوم لم تصل بهم المقدرة إلى درجة يستطيعون بها أن يستخدموها؟ وإن هم أحسنوا استخدامها فكيف السبيل إلى صيانتها وإصلاح ما فسد منها إذا لم يكن منهم الفنيون وإذا لم يكن لديهم الدور المجهَّزة لهذا الغرض؟ وهَبْهم تمكنوا من القيام بعملية الإصلاح، فكيف يتيسر لهم تحسين هذه الآلات والصناعة في تقدُّم مستمر والأممُ في تنافس شديد لإتقان ما يصنعون بحيث لا يكاد يمضي حولٌ أو بعض حول على آلة إلا ظَهَر ما هو أحسن وأتم منها صنعًا وأوفى بالغرض الذي صُنعت من أجله؟ كيف يتيسر لهم ذلك إذا لم تكن لديهم دُور لصناعة هذه الآلات وإخصائيون لصُنعها، وإخصائيون لوضع رسومها، وعلماء بَحَّاثون لدراسة المبادئ العلمية التي ينبني عليها قيامها بوظائفها والمسائل العلمية التي ترتبط باستخدامها وتحسين صنعها؟ إن هؤلاء القوم إذا ظنوا أنهم يستطيعون مجاراة غيرهم من الأمم في ميدان الحياة العلمية إنما يخدعون أنفسهم! فالعلم والخبرة الفنية ليسَا شيئًا يباع ويُشترى، بل هما نتيجة التحصيل والدرس والمران، وليس هناك طريق مُعبَّد يوصل إلى القوة دون اجتياز صعاب الكدِّ والعمل، والأمةُ التي يقعدها الكسل أو التواكل عن المساهمة في مجهود البشر العلمي والصناعي وتظن أنها تستطيع أن تعيش عالةً على ما تُنتجه قرائحُ غيرها من الأمم، هذه الأمة إنما تعيش في حلم سرعان ما تتنبه منه لتجد نفسها حقيرةَ الشأن مهدورة الكرامة.

ومن أفظع الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون مما يَعتبرون أنفسهم قادرين على التفكير في أمور المجتمع أنْ يظن أنه يكفي الاهتمام بالناحية الصناعية العلمية وحدها، هؤلاء القوم يفخرون عادة بأنهم قوم «عمليُّون»؛ فهم لا يُعنون بالمباحث النظرية والآراء الفلسفية التي تَصِمُها عقولهم القاصرة بوصمة العبث.

فالتقدم الصناعي في نظرهم بل الحياة كلها مسألة عملية على حد تعبيرهم، وإذن فالواجب في نظرهم أن تحصر الأمة همَّها في الناحية العملية؛ فمثلًا إذا كان المطلوب صنع طائرات فإنه يكفي أن ننشئ مصنعًا للطائرات على نمط المصانع الأوربية أو الأمريكية، وأن نعدَّ له مهندسين عمليين يقومون بإداراته، وعمَّالًا ميكانيكيين يتولون العمل في المصنع. وأصحابُ هذا الرأي يسلمون معنا بأن إعداد المهندسين والعمال يقتضي تعليمهم بعض العلوم النظرية كالرياضة البحتة والرياضة التطبيقية وعلم الطبيعة، ولكنهم ينظرون إلى هذا الاقتضاء كضرورة لا مفر منها، أما التبحر في دراسة المعادلات الرياضية وفلسفة العلوم الطبيعية فإنه في نظرهم نوع من الترف أو هو على الأقل غير متصل اتصالًا وثيقًا بصناعة الطائرات.

ولكي أدلل على عِظم الخطلِ الذي ينطوي عليه هذا الرأي وفظاعته، سأفترض جدلًا أننا أنشأنا مصنعًا في مصر على الطريقة التي يريدونها، هذا المصنع بأدواته وعُدده التي سنشتريها من الخارج سيتكلف الشيءَ الكثير من المال طبعًا، إلا أن هذا المال سيكون قد صُرف في الحصول على أشياء مادية ملموسة ترتاح إليها نفوس أصدقائنا العمليين، أُقيمَ هذا المصنع إذن وبدأ في عمله فأَخرجَ الطائرات من طراز الطائرات التي يُخرجها أمثالُه من المصانع في البلاد التي نقلناه عنها أو على الأصح من الطراز الذي كانت تُخرجه هذه المصانع يوم أن نقلناه عنها، وبعد مرور خمسة أعوام سيكون عندنا عدد من الطائرات من طراز الطائرات التي كان يصنعها غيرنا منذ خمسة أعوام، وبعد مرور عشرة أعوام سيكون عندنا عدد أكثر من الطائرات من طراز مضى عليه عشرة أعوام … وهكذا إلى أن يتجمع عندنا متحف كبير من الطائرات قديمة الطراز، ونكون قد صَرفنا الأموال الطائلة في إعداد هذه الآثار التاريخية التي لا تصلح لشيء إلا أن تكون عبرةً لنا ولغيرنا ممن تحدثهم نفوسهم باتباع هذه الطريقة، ذلك أن صناعة الطائرات في تطور مستمر، وفي الطائرات الحربية على وجه الخصوص تتوقف نتائج العمليات الحربية على السبق في مضمار هذا التطور، ثم إن هذا التطور إنما ينبني على نتائج البحوث في علم الأيروديناميكا وهو علم حركة الهواء، فكل مصنع من مصانع الطائرات في البلاد الصناعية متصل اتصالًا وثيقًا مستمرًّا بطائفة من العلماء والبحَّاثين نصَّبوا أنفسهم لحل المسائل التي تنشأ عن دراسة حركات الطائرات في الهواء، وجهزوا بمعامل وأجهزة علمية يستعينون بهذا على هذه الدراسة، وأتوا من المقدرة على تفهُّم العلوم الرياضية والطبيعية ما يمكنهم من متابعة أبحاثهم ودراساتهم، وليس في وسع مهندس يُشرف على عملية صنع الطائرات أن يتفرغ للبحث العلمي في علم الأيروديناميكا، كما أننا لا نستطيع أن نجعل من كل مهندس عالِمًا بالعلوم الرياضية والطبيعية.

ومن الحمق أن يُظن أننا نستطيع أن نعتمد على الذين باعوا لنا أجهزة المصنع أو على غيرهم من المشتغِلين بصنع الطائرات أو بتحسين نوعها في تحسين طائراتنا، فنحن ننافسهم في ميدان الصناعة، والمنافسُ لا يعمل على ترجيح كفة منافسه؛ ألا ترى إذن أننا حين حصرنا همَّنا في تشييد المصنع بحجة أننا قوم عمليون وأهملنا دراسة العلوم الرياضية والطبيعية، إنما كان مَثَلُنا كمثل من عُني بالصرح ولم يُعن بالأساس الذي يقوم عليه، فأقامه على شفا جُرُفٍ هاوٍ.

وألا ترى أن أصدقاءنا العمليين إنما هم في الواقع ونفس الأمر قوم قصيرو النظر لا يكادون يرون إلى أبعد من أنوفهم، قاصرو العقل لا يأخذون من الأمور إلا بظاهرها، وأن الأموال الطائلة التي تُصرف في تشييد مثل هذا المصنع وفي صنع طائراته إنما تضيع هباءً منثورًا.

وشأنُ مصنع الطائرات هذا شأن غيره من المصانع، بل هو شأن كل عمل يتصل بمرافقنا أو تنظيم أمورنا الحية.

فالعلم هو الأساس الذي يُبنى عليه تقدُّم فني وصناعي منذ القرون الوسطى، وإهمال شأنه إنما يعوق سيرَ مصر في سبيلها نحو النور والقوة ونحو الرفاهية والمجد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤