مقدمة
ظاهريًّا، تختلف الأعمال الفنيَّة عن بعضها البعض، يبدو أنَّ السِّيمفونيَّة تختلف بجوهرها ووجودها الفيزيائي عن القصيدة أو المسرحيَّة أو التِّمثال أو العمارة أو الفيلم السِّينمائي أو الحديقة، ويبدو أنَّ جميع هذه الأشكال والأعمال التي تتضمَّنها تختلف عن بعضها البعض بجوهرها ووجودها الفيزيائي، ولكنَّنا على الرَّغم من هذا الاختلاف نُشير إليها جميعًا بكلمة «فن» ونُميِّزها عن الأشياء الطَّبيعيَّة، والأدوات العادية التي نصنعها ونستعملها في تأمين حاجاتنا الإنسانية، فهل تُوجد صفة عامة مُشتركة بين جميع هذه الأشكال والأعمال تُشكِّل منها حقلًا أو عالمًا يُمكن تسميته «عالم الفن»؟ يرى «بِل» أنَّه لو لم تكن هناك صفة مشتركة تشمل الأعمال الفنية جميعًا لكان حديثنا عن «الأعمال الفنية» نوعًا من الثَّرثرة. لا يُمكن القول بأن هذه القطعة الموسيقيَّة أو هذا التمثال … إلخ هو فنٌّ ما لم توجد صفةٌ مشتركة بين هذه الأعمال تُرادف كلمة «فن»، وإن وجود هذه الصِّفة في العمل هو أساس الحكم: «هذا العمل عملٌ فني»، ولكن إذا كانت هناك صفة مشتركة، صفة تُميِّز الأعمال الفنية عن الأعمال اللافنيَّة، فما هي هذه الصفات؟ للإجابة عن هذا السؤال يأخذ «بِل» الفن التشكيلي كنموذجٍ في تحليل طبيعة الفن، ويرى أنَّ هذا التَّحليل ينطبق مبدئيًّا إلى حدٍّ كبير على جميع الفنون الأخرى.
أولًا: كيف تُكتشف هذه الصفة؟ أو بأيَّة طريقة أو منهج نستطيع اكتشاف هذه الصفة؟ يرى بِل أن منهج اكتشاف هذه الصفة هو التجربة، وبالتحديد «التجربة الجمالية»، فليس بإمكاني أن أقول أو أُحدِّد ما إذا كان عملٌ ما عملًا فنيًّا إذا لم أختبره؛ أي إذا لم أدرك فيه حسيًّا تلك الصفة التي تُميِّزه كعملٍ فني. هذه الخبرة هي مصدر معرفة الصفة الفنية، وهي أيضًا أساس التنظير في طبيعة الفن عامةً، ولا يُمكن الحديث عن الفن؛ أي عن الصفة الجمالية أو الخبرة الجمالية أو الحكم الجمالي إن لم نتفاعل حسيًّا وخياليًّا مع الأعمال الفنية، ولكن الخبرة الجمالية هي دائمًا خبرة ذاتية؛ خبرة هذا المتذوق أو ذاك الناقد، أيعني ذلك أنه لا يمكن بناء نظرية تفسر وجود الصفة الجمالية وطبيعتها؟ في الحقيقة لا يُمكن بناء نظرية جمالية إذا لم نفترض أنَّ لهذه الصفة وجودًا موضوعيًّا؛ أي إذا لم نفترض أنها توجد واقعيًّا في جميع الأعمال التي تشكِّل عالم الفن، يؤكد بِل أن ذاتية الخبرة الجمالية ليست عائقًا في بناء نظرية تفسر طبيعة الفن، ذلك أننا يُمكن أن نختلف حول قيمة أو فقر بعض الأعمال الفنية، أو معظمها، روحيًّا واجتماعيًّا ونتَّفق رغم ذلك على كونها، أو عدم كونها، فنًّا، يُمكن لشخصَين مثلًا أن يَختلفا حول جمال أو بشاعة عملٍ ما ويتَّفقا رغم ذلك على كونه فنًّا، كون العمل فنًّا شيءٌ، وكونه جميلًا أو قبيحًا، أو سيئًا أو مُضرًّا، شيءٌ آخر، المهم بالنسبة للفيلسوف هو وجود (أو عدم وجود) الصفة الفنية في العمل وكيف نعرف بهذا الوجود.
ومن ناحية أخرى، يرى بِل أن العمل الفني موجود مستقلٌّ بذاته، عناصره متكاملة، ودلالته الشكلية تنجم عن هذا التكامل؛ ولهذا فعندما نركز انتباهنا على التمثيل فإن هذا التركيز يصرفنا عن البعد الجمالي للعمل، قد يكون سبب الاستمتاع بالموناليزا سببًا معرفيًّا أو أخلاقيًّا أو نفسيًّا أو اجتماعيًّا أو تاريخيًّا أو تقنيًّا، ويعتقد بِل أنه يمكن للعم الفني أن يرضينا في أي من هذه المجالات التجريبية، ولكن ها النوع من الرضا ليس جماليًّا.
تقودُنا هذه النقطة الأخيرة إلى ناحية هامة في نظرية بِل؛ فلقد قال: إنَّ موضوع الانفعال الجمالي هو الشكل الدال، لا التمثيل الذي قد يكون مضمون هذا الشكل، هذه المقولة تستلزم تمييزًا بين إدراك التمثيل كموضوع له أبعاد نفسية أو معرفية أو أخلاقية أو سياسية أو ثقافية من ناحية، وإدراك الشكل الدال من ناحية أخرى، إن إدراك التمثيل يقترح انفعالًا معيَّنًا فينا أثناء الخبرة الجمالية، ويعتمد هذا الاقتراح على مدى ونوعية المضمون، قد يكون المضمون معرفيًّا أو أخلاقيًّا وقد يُهمني، وفي هذه الحالة أتفاعل معه بصورة شخصية خاصة تتناسب مع شخصيتي الثقافية وقدراتها العقلية والشعورية، والنقطة المهمة هنا هي أن إدراك التمثيل يصرفني عن البُعد الفني للعمل ويجرني إلى ذاتي الشخصية … إلى اهتماماتي الذاتية، يصبح العمل مصدر خبرة ذاتية، يُصبح وسيلةً إلى غاية لا غايةً بذاته، أما إدراك الشكل الدال فلا يقترح انفعالًا ذاتيًّا؛ لأنَّ موضوعه هو الشكل الدال بذاته، ومعنى الشكل الدال كامنٌ في الشكل ذاته.
يبدو واضحًا مما سبق أن هناك علاقة سببية بين الشكل الدال والانفعال الجمالي، وعندما نسأل بِل: ما هو الانفعال الجمالي؟ يقول إنه الانفعال الذي يُثيره الشكل الدال. وعندما نسأله: ما هو الشكل الدال؟ يقول إنه الشكل الذي يثير الانفعال الجمالي! وبذلك يَقترف بِل في تعريف هذين المصطلحين «مصادرة على المطلوب الأول»؛ لأننا لا نعرف إن كان الشكل الدال هو في الواقع سبب الانفعال الجمالي، ولكي نعرف إن كان هو السبب فلا بد من أن نؤكِّد سببيَّته بدون الإشارة إلى الانفعال الجمالي؛ أي يجب أن نُبرهن على أن الشكل الدال هو فعلًا سبب الانفعال الجمالي من غير إحالة (إشارة) إلى هذا الانفعال؛ ولهذا السبب ذهب بعض النقاد إلى أن بِل لم يعطنا معيارًا للتمييز بين الشكل والشكل الدال؛ لأنَّ بإمكاننا أن نسأل: كيف نميز بين الشكل والشكل الدال؟ فمن المؤكد أن ليس كل شكل هو شكل دال. نعم؛ كل شكل دال هو شكل ولكن ليس كل شكل هو شكل دال، وعندما نقول: إنَّ الشكل الدالَّ هو الشكل الذي يُثير الانفعال الجمالي فإننا لا نستطيع أن نُكذِّب أو نُصدِّق هذا القول؛ لأن بِل لم يعطنا معيارًا للتمييز بين الشكل العادي والشكل الدال.
- أولًا: لا يُمكن فصل الشكل الدال للعمل الفني عن مضمونه أو عن التمثيل، ولا يُمكن إدراك الواحد بدون الآخر؛ لأنني أُدرك دلالة الشكل من خلال التمثيل، وبمعنى أدق، الشكل الدال هو التمثيل، ولنُلقِ نظرةً أخرى على الموناليزا، ما هو الشكل الدال في هذه اللوحة؟ إنه نمط تشكيل الألوان والخطوط، والشيء الناجم عن هذا التشكيل هو التمثيل، وهذا التمثيل هو صورة المرأة المسماة «موناليزا»، فهل بإمكاني أن أُشير إلى الشكل الدال هنا بدون الإشارة إلى التمثيل؟ إن هذا التمثيل هو الذي يُعبِّر عن الصفات الجمالية والإنسانية التي تحدثت عنها سابقًا، فهل يُمكن لهذه اللوحة أن تكون شكلًا دلاليًّا بدون هذه القدرة التعبيرية؟
- ثانيًا: من الصعب جدًّا إن لم يكن من المستحيل إبعاد الذات الشخصية عن الإدراك
الجمالي؛ أي لا يُمكن الكلام بطريقة محدَّدة عن إدراك جمالي خالص يحدث بين
ذات جمالية خالصة وصفة جمالية خالصة، وحتى لو افترضنا أنه يمكن الكلام عن
ذات جمالية خالصة وإدراك جمالي خالص، فإن ذلك أمرٌ غير مرغوب فيه؛ لأن
العمل الذي لا يُثيرني ولا يُساعدني على النمو كإنسانٍ هو عملٌ يمكن
الاستغناء عنه، ومن ناحية أخرى، لا تَستلزم النزاهة الجمالية بحكم الضرورة
افتراضَ وجود ذات جمالية خالصة تقوم بإدراكٍ جمالي خالص، كلا، إن ما تطلبه
النزاهة الجمالية هو استعداد الفرد لأن يدرك أو يستوعب المضمون الجماليَّ
الكامن في العمل الفني كما هو موجود في العمل، بدون أي نوع من
التشويه.
تُرى هل يمكن للفنان، بغضِّ النظر عن نوعية وكمية ولائه أو التزامه بالتجريد، أن يتخلى عن تمثيل الواقع؟ كلا! الفنان ابن ثقافته، إنه يرى ويفهم ويُؤوِّل الواقع حوله كفرد، كإنسانٍ عينيٍّ موجود في ثقافة معينة وفي زمان ومكان معين، إن روح هذه الثقافة تنبض في عروقه؛ ولذا فإن طريقة انتقائه لمادته الفنية وطريقة تشكيلها تُعبِّران دائمًا عن هذه الروح الثقافية.
- ثالثًا: إن نظرية بِل الصورية Formalism التي تعتبر الشكل أو الصورة form الصفة المميزة للعمل الفني بوصفه عملًا فنيًّا، ترتكز على افتراضٍ ميتافيزيقي، وهذا الافتراض هو وجود ماهية essence مشتركة بين جميع الأعمال الفنية، وتفترض أن هذه الماهية هي الشكل الدال، وهذا الافتراض قد ساعد بِل على تمييز الأعمال الفنية كصنفٍ class بذاته وعلى عزل هذا الصنف عن الأعمال والأشياء الأخرى، وبهذه الطريقة أسَّس بِل استقلالية الفن عامةً والعمل الفني خاصة، ولكن السؤال الذي يجب طرحه هو: هل يُمكن رسم خط دقيق يعزل أو يفصل الأعمال الفنية كصنفٍ من الأعمال مستقلة عن ميدان الحياة الإنسانية الاجتماعية الواقعية؟ تاريخيًّا كان الفن مرتبطًا بحياة الإنسان الدينية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية والتربوية والثقافية عامة، لقد كان العمل الفني وما زال قوةً تأنيسية humanizing تُخاطب مختلف حاجيات الإنسان كإنسان؛ ولذا فإن النظرية التي تَعتبر الشكل مبدأ التفسير الفني تقترف مغالطة الردِّيَّة reductionism؛ لأنها تَردُّ فنية العمل الفني إلى الشكل فقط وتُعمل أبعاده ووظائفه الأخرى التي هي ضرورية جدًّا لتفهم هذه الصفة الفنية. إن ما أريد أن أؤكده هنا هو أننا لا نستطيع شرح أو تفسير البُعد الفني إن لم نأخذ بعين الاعتبار مختلف الوظائف التي يقوم بها هذا العمل في حياة الإنسان.
ولا يسعني أن أختتم هذه المقدمة بدون أن أُعبِّر عن مزيد شكري وإعجابي للجهد العلمي الذي بذله د. عادل مصطفى في ترجمة هذا الكتاب. يُعد هذا الكتاب من أهم الأعمال الفلسفية التي كُتبت في فلسفة الفن، ولا يمكن لأي مفكر، الآن أو في المستقبل، التنظير في طبيعة الفن بدون استيعابٍ سليمٍ لنظرية بِل، وحتى النظرية التعبيرية التي تلتْها انطلقت من الحدس الأساسي لصورية بِل وأخذتْه بعين الاعتبار. لقد نجح د. عادل، حسب اعتقادي، في ترجمة هذا الكتاب بصورةٍ دقيقة وبلغةٍ سلسة، ونقل المعنى بصدقٍ وإخلاصٍ للنص الأصلي.