مقدمة

السؤال الأساسي الذي يُعالجه بل Bell في هذا الكتاب هو: ما الصفة quality التي تُميِّز العمل الفَنِّي عن الأعمال العادية والأشياء الطَّبيعيَّة؟ إننا نُشير إلى قطعة موسيقيَّة لبيتهوفن، أو لوحة لسيزان، أو قصيدة لابن الرومي، أو رواية لنجيب محفوظ، أو تمثال لبرانكوزي، أو مسرحية لبرنارد شو، وأعمال أخرى مثل هذه — نشير إليها كأعمالٍ فنيَّة works of art. ومِن ناحية أخرى نحن نستخدم أو نتعامَل مع الكثير من الأدوات التي تُحيط بنا؛ كالبِنايات، والسيارات، والأدوات المنزلية والصناعية والزراعية، بوصفها أعمالًا «عملية». وفي العادة يتمُّ «تذوق» الأعمال الفنية «جماليًّا» بينما يتم «استخدام» الأعمال العملية. إنَّ كليهما يُعتبر «عملًا»؛ العمل الفني عمل، ولكن ليس كل عملٍ عملًا فنيًّا، إنَّ صورة والدي على الطاولة بقربي هي عمل، ولوحة «موناليزا» لليوناردو دافنشي هي أيضًا عمل، الأولى عملٌ عادي، والثَّانية عملٌ فني، إذن ما «الصفة» التي تُميِّز موناليزا كعملٍ فني؟

ظاهريًّا، تختلف الأعمال الفنيَّة عن بعضها البعض، يبدو أنَّ السِّيمفونيَّة تختلف بجوهرها ووجودها الفيزيائي عن القصيدة أو المسرحيَّة أو التِّمثال أو العمارة أو الفيلم السِّينمائي أو الحديقة، ويبدو أنَّ جميع هذه الأشكال والأعمال التي تتضمَّنها تختلف عن بعضها البعض بجوهرها ووجودها الفيزيائي، ولكنَّنا على الرَّغم من هذا الاختلاف نُشير إليها جميعًا بكلمة «فن» ونُميِّزها عن الأشياء الطَّبيعيَّة، والأدوات العادية التي نصنعها ونستعملها في تأمين حاجاتنا الإنسانية، فهل تُوجد صفة عامة مُشتركة بين جميع هذه الأشكال والأعمال تُشكِّل منها حقلًا أو عالمًا يُمكن تسميته «عالم الفن»؟ يرى «بِل» أنَّه لو لم تكن هناك صفة مشتركة تشمل الأعمال الفنية جميعًا لكان حديثنا عن «الأعمال الفنية» نوعًا من الثَّرثرة. لا يُمكن القول بأن هذه القطعة الموسيقيَّة أو هذا التمثال … إلخ هو فنٌّ ما لم توجد صفةٌ مشتركة بين هذه الأعمال تُرادف كلمة «فن»، وإن وجود هذه الصِّفة في العمل هو أساس الحكم: «هذا العمل عملٌ فني»، ولكن إذا كانت هناك صفة مشتركة، صفة تُميِّز الأعمال الفنية عن الأعمال اللافنيَّة، فما هي هذه الصفات؟ للإجابة عن هذا السؤال يأخذ «بِل» الفن التشكيلي كنموذجٍ في تحليل طبيعة الفن، ويرى أنَّ هذا التَّحليل ينطبق مبدئيًّا إلى حدٍّ كبير على جميع الفنون الأخرى.

أولًا: كيف تُكتشف هذه الصفة؟ أو بأيَّة طريقة أو منهج نستطيع اكتشاف هذه الصفة؟ يرى بِل أن منهج اكتشاف هذه الصفة هو التجربة، وبالتحديد «التجربة الجمالية»، فليس بإمكاني أن أقول أو أُحدِّد ما إذا كان عملٌ ما عملًا فنيًّا إذا لم أختبره؛ أي إذا لم أدرك فيه حسيًّا تلك الصفة التي تُميِّزه كعملٍ فني. هذه الخبرة هي مصدر معرفة الصفة الفنية، وهي أيضًا أساس التنظير في طبيعة الفن عامةً، ولا يُمكن الحديث عن الفن؛ أي عن الصفة الجمالية أو الخبرة الجمالية أو الحكم الجمالي إن لم نتفاعل حسيًّا وخياليًّا مع الأعمال الفنية، ولكن الخبرة الجمالية هي دائمًا خبرة ذاتية؛ خبرة هذا المتذوق أو ذاك الناقد، أيعني ذلك أنه لا يمكن بناء نظرية تفسر وجود الصفة الجمالية وطبيعتها؟ في الحقيقة لا يُمكن بناء نظرية جمالية إذا لم نفترض أنَّ لهذه الصفة وجودًا موضوعيًّا؛ أي إذا لم نفترض أنها توجد واقعيًّا في جميع الأعمال التي تشكِّل عالم الفن، يؤكد بِل أن ذاتية الخبرة الجمالية ليست عائقًا في بناء نظرية تفسر طبيعة الفن، ذلك أننا يُمكن أن نختلف حول قيمة أو فقر بعض الأعمال الفنية، أو معظمها، روحيًّا واجتماعيًّا ونتَّفق رغم ذلك على كونها، أو عدم كونها، فنًّا، يُمكن لشخصَين مثلًا أن يَختلفا حول جمال أو بشاعة عملٍ ما ويتَّفقا رغم ذلك على كونه فنًّا، كون العمل فنًّا شيءٌ، وكونه جميلًا أو قبيحًا، أو سيئًا أو مُضرًّا، شيءٌ آخر، المهم بالنسبة للفيلسوف هو وجود (أو عدم وجود) الصفة الفنية في العمل وكيف نعرف بهذا الوجود.

نعرف أن عملًا ما هو عملٌ فني إذا أثار فينا انفعالًا خاصًّا يُسميه بِل «الانفعال الجمالي» aesthetic emotion، هذا الانفعال هو نوعٌ من العاطفة نشعر به عندما ندرك أو نتذوق العمل الفني جماليًّا، أقول: «جماليًّا»؛١ لأنَّه يمكن لي أن أدرك العمل الفني وأصف جميع نواحيه أو عناصره الحسية عاديًّا، كما أن العالِم يصف الأشياء المادية لا جماليًّا، مثلًا، عندما أقرأ «أنا كارنينا» Anna Karenina لتولستوي كحكايةٍ فإنني لا أدركها جماليًّا، بل أختبرها في هذه الحالة كقصة، كتاريخ، لا كعملٍ فني. يُشدد بِل على أن الانفعال الجمالي ليس انفعالًا جاهزًا أو معطًى أشعر به كلما اختبرت عملًا فنيًّا، أو أن جميع الأعمال الفنية تُثير فينا نفس الانفعال الجمالي عندما نختبر هذه الأعمال. كلا، إن الانفعال الجمالي هو نوعٌ خاص من الانفعال؛ هو ذلك الانفعال الذي تُثيره الأعمال الفنية بوصفها فنًّا؛ فالعمل الفني يُمكن أن يُثير فينا مشاعر وانفعالات مختلفة؛ أخلاقية، دينية، اجتماعية، سياسية، رومانسية، جنسية … إلخ، ولكن الخاصة التي تُميز العمل الفني كفنٍّ هي أنه يثير فينا انفعالًا جماليًّا، يتميز هذا الانفعال عادة بالمتعة والانفتاح الخيالي والحدس المعرفي والنشوة، وبنفحة من الدفء الإنساني والأمل والعزة، وبمشاعر إنسانية أخرى يصعب علينا تسميتها، ويعتمد عمق وقوة وغنى الانفعال الجمالي على عمق وقوة وغنى الصفة الجمالية الكامنة في العمل الفني.
والآن ما هي هذه الصفة التي تُثير الانفعال الجمالي؟ يقول: بِل إنها «الشكل الدال» significant form، الشكل الدال هو الكيف الذي يُميِّز الأعمال الفنية عن الأعمال العادية أو اللافنيَّة، وهذا يعني أنَّ العنصر المشترك بين جميع الأعمال الفنية التي تَختلف عن بعضها البعض بالشكل والمادة هو امتلاك الشكل الدال. ماذا يعني بِل ﺑ «الشكل الدال»؟ إن ما يعنيه هو نمط، طريقة، أسلوب تنظيم العناصر الحسية للعمل الفني. كل عمل فني يمثل تشكيلًا «فريدًا» unique، إنَّ طريقة هذا التشكيل الخاصة — وبإمكاننا القول المبدعة — هي التي تثير فينا الانفعال الجمالي، وعندما نتكلم عن الشكل الدال نعني جميع العناصر الحسية التي تدخل في تنظيم الشكل؛ الألوان والخطوط وعناصر اللمس والصوت والسمع والحركة، لا يُمكن فصل هذه العناصر عن طريقة تشكيلها؛ فالعناصر الحسية جزء من الشكل كشكل؛ ولهذا يجوز لنا القول بأن الكيفيات الجمالية الكامنة في العمل الفني كالرقة والأناقة والمأساة والنعومة والجلالة والرعب والهيبة … إلخ، توجد في العمل على مستوى الكمون وتنبثق من العلاقات الدينامية التي تكوِّن الشكل الدالَّ أثناء التجربة الجمالية.
كما نرى، يَفصل بِل بين الشكل الدال و«التمثيل» representation، ويُشير التمثيل عادةً إلى موضوع أو مضمون العمل الفني، الموناليزا، مثلًا، تشكيلٌ من الألوان والخطوط، ولكنَّها بالإضافة إلى ذلك موضوع، وهذا الموضوع يُمثِّل وجه امرأة، والعنصر الذي يُميِّز هذا العمل كفن ليس التمثيل بل الصورة الدالة أو الشكل الدال؛ أي نمط حَبْك الألوان والخطوط مع بعضها البعض، وهذا يعني أنني أختبر هذه اللوحة جماليًّا عندما أركِّز انتباهي الجمالي على الشكل، على طريقة الألوان والخطوط وتشابُكها مع بعضها البعض، لا على التمثيل؛ أي على وجه المرأة وعما إذا كان رزينًا أو تأمليًّا أو استهزائيًّا أو تهكميًّا أو لطيفًا أو متواضعًا أو واقعيًّا، وحتى الإشارة إليه تحبط إمكانية الخبرة الجمالية أو تصرف النظر عن البُعد الجمالي للوحة. ليست اللوحة الفنية صورة تحاكي جانبًا من الواقع الطبيعي أو الإنساني، ولو أن هدف الفنان محاكاة الواقع لكان من الأفضل له أن يَستعمل آلة التصوير؛ فهي تعطي صورة أصدق للواقع من لوحة الفنان، الغاية من اللوحة الفنية إذن ليست محاكاة الواقع أو نقل رسالة سياسية أو دينية أو معرفية أو أخلاقية أو ثقافية معينة، ولكن كما يقول: بِل في «الفرضية الميتافيزيقية» التعبير عن معنًى إنساني معيَّن؛ فالشكل الدال يُعبِّر عن هذا المعنى، ومقدرته التعبيرية على هذا النحو هي التي تثير فينا أنواعًا مُعينة من الانفعالات الجمالية، والفنان هو العقل الخبير في اكتشاف هذه الأنماط.

ومن ناحية أخرى، يرى بِل أن العمل الفني موجود مستقلٌّ بذاته، عناصره متكاملة، ودلالته الشكلية تنجم عن هذا التكامل؛ ولهذا فعندما نركز انتباهنا على التمثيل فإن هذا التركيز يصرفنا عن البعد الجمالي للعمل، قد يكون سبب الاستمتاع بالموناليزا سببًا معرفيًّا أو أخلاقيًّا أو نفسيًّا أو اجتماعيًّا أو تاريخيًّا أو تقنيًّا، ويعتقد بِل أنه يمكن للعم الفني أن يرضينا في أي من هذه المجالات التجريبية، ولكن ها النوع من الرضا ليس جماليًّا.

ليس يعني ذلك أنَّ الموضوع، بغضِّ النَّظر عن عناصره، لا يمكن أن يكون جزءًا من الشكل الدال؛ فهذا جائز ومُمكن وفي هذه الحالة عليَّ كمُدركٍ أن أختبر هذا العنصر أو هذه العناصر كجزء من الشكل لا كشيء مُستقل عنه؛ ولهذا يُشدِّد بِل على أننا يجب ألا نجلب معنا إلى العمل الفني عندما نحاول إدراكه جماليًّا أي شيء من حياتنا أو اهتماماتنا العملية، أي يجب ألا نتذوق أو نُقيِّم العمل الفني من وجهة نظر اهتماماتنا الشخصية أو اعتقاداتنا أو عواطفنا أو تحيُّزاتنا الثقافية، بل من وجهة نظر العمل نفسه وبناءً على الصفات أو الكيفيات الكامنة في الشكل الدال؛ فالشكل الدال وحده هو أساس الخبرة الجمالية ومصدرها، وبعبارة أخرى، علينا أن نتذوَّق العمل الفني موضوعيًّا، من ذاته ولأجل ذاته، هذه المقولة هي أساس ما يسمى عادة «النزاهة الجمالية» aesthetic disinterestedness.

تقودُنا هذه النقطة الأخيرة إلى ناحية هامة في نظرية بِل؛ فلقد قال: إنَّ موضوع الانفعال الجمالي هو الشكل الدال، لا التمثيل الذي قد يكون مضمون هذا الشكل، هذه المقولة تستلزم تمييزًا بين إدراك التمثيل كموضوع له أبعاد نفسية أو معرفية أو أخلاقية أو سياسية أو ثقافية من ناحية، وإدراك الشكل الدال من ناحية أخرى، إن إدراك التمثيل يقترح انفعالًا معيَّنًا فينا أثناء الخبرة الجمالية، ويعتمد هذا الاقتراح على مدى ونوعية المضمون، قد يكون المضمون معرفيًّا أو أخلاقيًّا وقد يُهمني، وفي هذه الحالة أتفاعل معه بصورة شخصية خاصة تتناسب مع شخصيتي الثقافية وقدراتها العقلية والشعورية، والنقطة المهمة هنا هي أن إدراك التمثيل يصرفني عن البُعد الفني للعمل ويجرني إلى ذاتي الشخصية … إلى اهتماماتي الذاتية، يصبح العمل مصدر خبرة ذاتية، يُصبح وسيلةً إلى غاية لا غايةً بذاته، أما إدراك الشكل الدال فلا يقترح انفعالًا ذاتيًّا؛ لأنَّ موضوعه هو الشكل الدال بذاته، ومعنى الشكل الدال كامنٌ في الشكل ذاته.

وعندما نقول: إنَّ الشَّكل الدَّال هو موضوع الانفعال الجمالي فنحن نعني أن هذا الموضوع يُشكِّل بنية الانفعال عامةً؛ إذ لا يُمكن للانفعال أن يوجد بدون موضوع، وطبيعة هذا الانفعال تعتمد على طبيعة الموضوع، في هذه الحالة يكون موضوع الانفعال الجمالي هو الشكل الدال، أي الصفة الجمالية الكامنة في الشكل، ولا يُمكن لهذه الصفة أن ترد إلى شعور باللذة أو إلى أيَّة حالة نفسية أخرى أيًّا كان نوعها أو أهميتها؛ لأنَّ هذا الرد يصرفنا عن العمل الفني ذاته، وبهذه الحالة تفقد التجربة صفتها الجمالية وتُصبح تجربة نفسية أو عقلية، ومثلما قال جورج إدوارد مور G. E. Moore في «مبادئ الأخلاق» بخصوص «الخير» فإن الصفة الجمالية بسيطة ونحن ندركها بصورة مباشرة أثناء التجربة الجمالية؛ ولهذا السبب أكَّد بِل على ضرورة تنمية «الذوق الجمالي» كشرطٍ ضروري ليس فقط للتجربة الجمالية، ولكن أيضًا للتنظير الجمالي في طبيعة الفن.

يبدو واضحًا مما سبق أن هناك علاقة سببية بين الشكل الدال والانفعال الجمالي، وعندما نسأل بِل: ما هو الانفعال الجمالي؟ يقول إنه الانفعال الذي يُثيره الشكل الدال. وعندما نسأله: ما هو الشكل الدال؟ يقول إنه الشكل الذي يثير الانفعال الجمالي! وبذلك يَقترف بِل في تعريف هذين المصطلحين «مصادرة على المطلوب الأول»؛ لأننا لا نعرف إن كان الشكل الدال هو في الواقع سبب الانفعال الجمالي، ولكي نعرف إن كان هو السبب فلا بد من أن نؤكِّد سببيَّته بدون الإشارة إلى الانفعال الجمالي؛ أي يجب أن نُبرهن على أن الشكل الدال هو فعلًا سبب الانفعال الجمالي من غير إحالة (إشارة) إلى هذا الانفعال؛ ولهذا السبب ذهب بعض النقاد إلى أن بِل لم يعطنا معيارًا للتمييز بين الشكل والشكل الدال؛ لأنَّ بإمكاننا أن نسأل: كيف نميز بين الشكل والشكل الدال؟ فمن المؤكد أن ليس كل شكل هو شكل دال. نعم؛ كل شكل دال هو شكل ولكن ليس كل شكل هو شكل دال، وعندما نقول: إنَّ الشكل الدالَّ هو الشكل الذي يُثير الانفعال الجمالي فإننا لا نستطيع أن نُكذِّب أو نُصدِّق هذا القول؛ لأن بِل لم يعطنا معيارًا للتمييز بين الشكل العادي والشكل الدال.

ومن جهة ثانية، يؤكد بِل أنه ينبغي للخبرة الجمالية أن تكون نزيهة؛ فالإدراك الجمالي هو إدراك للقيمة الجمالية الكامنة في الشكل الدال للعمل الفني وتذوق هذه القيمة من أجل ذاتها دون مزج هذا الإدراك بأي عنصر ذاتي أو شخصي، وكما رأينا فإن موضوع الخبرة الجمالية هو الشكل الدال فقط، وعندما ينحرف الإدراك الجمالي نحو التمثيل فإنه يفقد صفته الجمالية. من الواضح أن هذه المقولة تفصل بين الذات الشخصية وملكة الذوق الجمالي؛ فالذات الشخصية هنا تتراجع والذات الجمالية تَفعل، ولكن هل هذا الانفصال مُمكن؟ تُرى هل يمكن لأي إنسان أن يُقصي ذاته الشخصية أو العملية، أو يحجبها، أثناء الخبرة الجمالية؟ وبالتالي، هل يُمكن للشكل الدال أن يحمل أي معنًى إذا لم يُمثل شرحه ولو بصورة غير مباشرة من الواقع الطبيعي أو الإنساني؟ ليس بوسعي الآن أن أَمكُث طويلًا عند هذه الأسئلة الصعبة، ولكني سأَكتفي ببضع ملاحظات:
  • أولًا: لا يُمكن فصل الشكل الدال للعمل الفني عن مضمونه أو عن التمثيل، ولا يُمكن إدراك الواحد بدون الآخر؛ لأنني أُدرك دلالة الشكل من خلال التمثيل، وبمعنى أدق، الشكل الدال هو التمثيل، ولنُلقِ نظرةً أخرى على الموناليزا، ما هو الشكل الدال في هذه اللوحة؟ إنه نمط تشكيل الألوان والخطوط، والشيء الناجم عن هذا التشكيل هو التمثيل، وهذا التمثيل هو صورة المرأة المسماة «موناليزا»، فهل بإمكاني أن أُشير إلى الشكل الدال هنا بدون الإشارة إلى التمثيل؟ إن هذا التمثيل هو الذي يُعبِّر عن الصفات الجمالية والإنسانية التي تحدثت عنها سابقًا، فهل يُمكن لهذه اللوحة أن تكون شكلًا دلاليًّا بدون هذه القدرة التعبيرية؟
  • ثانيًا: من الصعب جدًّا إن لم يكن من المستحيل إبعاد الذات الشخصية عن الإدراك الجمالي؛ أي لا يُمكن الكلام بطريقة محدَّدة عن إدراك جمالي خالص يحدث بين ذات جمالية خالصة وصفة جمالية خالصة، وحتى لو افترضنا أنه يمكن الكلام عن ذات جمالية خالصة وإدراك جمالي خالص، فإن ذلك أمرٌ غير مرغوب فيه؛ لأن العمل الذي لا يُثيرني ولا يُساعدني على النمو كإنسانٍ هو عملٌ يمكن الاستغناء عنه، ومن ناحية أخرى، لا تَستلزم النزاهة الجمالية بحكم الضرورة افتراضَ وجود ذات جمالية خالصة تقوم بإدراكٍ جمالي خالص، كلا، إن ما تطلبه النزاهة الجمالية هو استعداد الفرد لأن يدرك أو يستوعب المضمون الجماليَّ الكامن في العمل الفني كما هو موجود في العمل، بدون أي نوع من التشويه.

    تُرى هل يمكن للفنان، بغضِّ النظر عن نوعية وكمية ولائه أو التزامه بالتجريد، أن يتخلى عن تمثيل الواقع؟ كلا! الفنان ابن ثقافته، إنه يرى ويفهم ويُؤوِّل الواقع حوله كفرد، كإنسانٍ عينيٍّ موجود في ثقافة معينة وفي زمان ومكان معين، إن روح هذه الثقافة تنبض في عروقه؛ ولذا فإن طريقة انتقائه لمادته الفنية وطريقة تشكيلها تُعبِّران دائمًا عن هذه الروح الثقافية.

  • ثالثًا: إن نظرية بِل الصورية Formalism التي تعتبر الشكل أو الصورة form الصفة المميزة للعمل الفني بوصفه عملًا فنيًّا، ترتكز على افتراضٍ ميتافيزيقي، وهذا الافتراض هو وجود ماهية essence مشتركة بين جميع الأعمال الفنية، وتفترض أن هذه الماهية هي الشكل الدال، وهذا الافتراض قد ساعد بِل على تمييز الأعمال الفنية كصنفٍ class بذاته وعلى عزل هذا الصنف عن الأعمال والأشياء الأخرى، وبهذه الطريقة أسَّس بِل استقلالية الفن عامةً والعمل الفني خاصة، ولكن السؤال الذي يجب طرحه هو: هل يُمكن رسم خط دقيق يعزل أو يفصل الأعمال الفنية كصنفٍ من الأعمال مستقلة عن ميدان الحياة الإنسانية الاجتماعية الواقعية؟ تاريخيًّا كان الفن مرتبطًا بحياة الإنسان الدينية والسياسية والأخلاقية والاجتماعية والتربوية والثقافية عامة، لقد كان العمل الفني وما زال قوةً تأنيسية humanizing تُخاطب مختلف حاجيات الإنسان كإنسان؛ ولذا فإن النظرية التي تَعتبر الشكل مبدأ التفسير الفني تقترف مغالطة الردِّيَّة reductionism؛ لأنها تَردُّ فنية العمل الفني إلى الشكل فقط وتُعمل أبعاده ووظائفه الأخرى التي هي ضرورية جدًّا لتفهم هذه الصفة الفنية. إن ما أريد أن أؤكده هنا هو أننا لا نستطيع شرح أو تفسير البُعد الفني إن لم نأخذ بعين الاعتبار مختلف الوظائف التي يقوم بها هذا العمل في حياة الإنسان.
ومن ناحية أخرى، عندما نقول إن الشكل الدال هو الذي يحدد الطبيعة الفنية فإننا بذلك نُحبط أي إمكانيةٍ لتقييم جودة العمل الفني؛ ذلك أن كل عمل يَمتلك شكلًا دالًّا هو، بحسب نظرية بِل، عملٌ فني، ولا تُقر هذه النظرية بوجود أي جانب آخر في العمل الفني يمكن الارتكاز عليه في تقييم جودة العمل. إن هذا النقص في نظرية بِل، والصورية بعامة، أدى إلى حدٍّ كبيرٍ إلى تطوير التعبيرية Expressionism في الربع الثاني من القرن العشرين.

ولا يسعني أن أختتم هذه المقدمة بدون أن أُعبِّر عن مزيد شكري وإعجابي للجهد العلمي الذي بذله د. عادل مصطفى في ترجمة هذا الكتاب. يُعد هذا الكتاب من أهم الأعمال الفلسفية التي كُتبت في فلسفة الفن، ولا يمكن لأي مفكر، الآن أو في المستقبل، التنظير في طبيعة الفن بدون استيعابٍ سليمٍ لنظرية بِل، وحتى النظرية التعبيرية التي تلتْها انطلقت من الحدس الأساسي لصورية بِل وأخذتْه بعين الاعتبار. لقد نجح د. عادل، حسب اعتقادي، في ترجمة هذا الكتاب بصورةٍ دقيقة وبلغةٍ سلسة، ونقل المعنى بصدقٍ وإخلاصٍ للنص الأصلي.

د. ميشيل متياس
١  آثرت في هذا العمل تعريب كلمة aesthetics (إستطيقا) واستخدامها، كما هي بدلًا من كلمة «جمال» حتى أتجنَّب المعاني الضمنية السوقية لهذه اللفظة الأخيرة، والتي تخرج بها عن المعنى التقني المقصود. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤