هذا الكتاب

«ثمة لحظاتٌ في الحياة هي غاياتٌ ليس بالكثير عليها أن يكون تاريخ البشرية بأسره وسيلةً إليها.»

«لم يكن همُّ سيزان الحقيقيُّ في حياته هو أن يصنع لوحاتٍ، بل أن يصنع خَلَاصَه.»

«أعرف رجلًا واسع الاطلاع ذكيًّا؛ رجلًا لم تكن حياته الجافة أفضل من نزلة بردٍ طويلةٍ بالرأس، رجلًا لم يدَّخر ذلك الممسوس فان جوخ جهدًا لإنقاذه.»

كلايف بل

***

هذا الكتاب أنشودةٌ في الفن صدَح بها في أوائل القرن العشرين صوتٌ من أعذب الأصوات الفلسفية وأعمقها، فوجد فيها أهلُ زمانه ترجمةً صادقةً لتلك الروح التي كانت آنذاك تدأب لكي تعيَ ذاتها، وتلوب لكي تقبض على هويتها، ووجدَت فيها الأجيال التالية معنًى لا يغيب صداه، وهَديًا لا تضلُّ بعده في فهم طبيعة الفن وكُنهه وحقيقته النهائية.

هذا كتابٌ كلاسيكيٌّ نقل النظرية النقدية في الفن من جاهلية القرن التاسع عشر إلى بصائر القرن العشرين، ولولا ما لحقَ بتعبير «ثورة كوبرنيقية» من ابتذالٍ منذ وصَف بها إمانويل كانت، بحقٍّ، ثورته الإبستمولوجية، لقلنا: إنَّ هذا الكتاب يُمثل ثورةً كوبرنيقيةً في مجال الإستطيقا aesthetics١ بنقله محور الارتكاز في الفن من الترديد الأمين إلى الشكل الدال، ومِن المحاكاة إلى الخلق.
كان كلايف بِل Clive Bell، مؤلف هذا الكتاب، نجمًا متفرِّدًا بين جماعية «بلومزبري» Bloomsbury التي نَبَهَ شأنها في العشرينيات، ويعدُّ، بجانب هربرت ريد وروجر فراي، عضوًا في أوسع الجماعات تأثيرًا في نظرية النقد الفني بالمملكة المتحدة، وكان «بِل» فوق ذلك من «الأسلوبيين» stylists الرفيعي المستوى في النثر الإنجليزي، يعالج بكياسةٍ وسخريةٍ ماكرةٍ مناقب ومثالب مُعاصِريه من الفنانين، ومناقب ومثالب جميع الفنانين منذ العصر الحجري إلى اليوم.
لعلَّ أهم إسهامٍ لكلايف بِل في نظريات الجمال والأسلوب الحديثة هو مفهومه عن «الشكل الدال» Significant Form الذي دفع به لأول مرة عام ١٩١٣م في هذا الكتاب الذي بين يديك، والذي تولَّت الفيلسوفة الأمريكية سوزان لانجر Susanne Langer إعادة تقييمه والتوسُّع فيه، فتخطى تأثيره مجال النظريات الفنية وصار حجر الأساس لقدرٍ كبيرٍ من العمل الفلسفي، لقد نجح مفهوم «الشكل الدال» على سبيل المثال في تثوير دراسة الشكل والبناء الرمزيَّين في جميع الفنون، ولعب دورًا هامًّا في تطوير المنطق والإبستمولوجيا المعاصرَين.

يقدم هذا الكتاب خلاصة النظرية الشكلية في الفن، والتي أرى أنَّها أعمق النظريات الفنية وأقربها إلى الصواب وأشدها إمساكًا بجوهر الفن لو أنها أُخذت بمعناها الحقيقي وفُهمت على وجهها الصحيح، وأرى تطرُّفها الظاهري تطرُّفًا في الحق، وترياقًا ناجعًا يَعدِل ويعادل تطرفنا في الباطل وتخلُّفنا الفاجع في فهم معنى الفن ومقصده وجدواه.

الفرضية الإستطيقية: الشكل الدال

تبدأ الإستطيقا الشكلية من «واقعةٍ» fact محدَّدة، يَقينيةٍ لا شكَّ فيها، هي أننا (أو أن أصحاب الحساسية sensibility منا) نَنفعِل بإزاء أشياء معيَّنةٍ نُطلق عليها «الأعمال الفنية» works of art انفعالًا شديد الخصوصية والتميز نطلق عليه «الانفعال الإستطيقي» aesthetic emotion، ورغم أن هذا الانفعال هو خبرةٌ ذاتية شخصية، إلا أن ارتباطه بموضوعاتٍ عينيةٍ من جهة، واتفاقنا الوثيق في حدوثه من جهةٍ أخرى، يجعل منه شأنًا واقعيًّا صلبًا ويَصبغه بصبغةٍ موضوعية٢ صارمة.
إننا نَنفعل حقًّا تجاه أشياء مُتباينة نُطلق عليها أعمال «الفن» Art انفعالًا غامرًا عميقًا «فريدًا في نوعه» sui generis نعرفه جميعًا ونَعرف «ماذا يُشبه أن يكون» what it is like، وكلنا إذ يتحدث عن «الفن» فهو يعكس بذلك تصنيفًا ضمنيًّا مدمجًا بذهنه يُفرق به بين فئة «الأعمال الفنية» وجميع الفئات الأخرى، فما هو المبرر العقلي لهذا التصنيف؟ ما هي الصفة التي تجمع بين اللوحات والسيمفونيات والأواني والقصائد والمنحوتات والرقصات والتراجيديات والكاتدرائيات والمنسوجات، وتحملنا على أن ندرجها جميعًا تحت مقولة «الفن»؟ ما هي «الخاصية الجوهرية» essential property التي بها يكون الشيء عملًا فنيًّا وبدونها يكون أي شيءٍ آخر؟ يقول كلايف بِل بجسارةٍ وحسم: إنها «الشكل الدال» Significant Form، ويعني به في الفنون البصرية تلك التجمُّعات والتضافُرات من الخطوط والألوان، أو حبكة الخطوط والألوان، التي من شأنها أن تُثير في المُشاهد انفعالًا إستطيقيًّا، وبوسعنا أن نُعمِّم مفهوم «الشكل الدال» ليشمل جميع الفنون، فنقول إن الشكلَ الدالَّ لعملٍ من أعمال الفن هو ذلك التنظيم الخاص الذي يتخذه «الوسيط» medium الحسي لذلك العمل، والذي من شأنه أن يُثير في المتلقِّي (الذي يتمتع بالحساسية الفنية ويتخذ الموقف الإستطيقي) انفعالًا إستطيقيًّا.
والحق أنَّ الفنان في نهاية المطاف، وآخر الجدل: ليس هو الشخص العميق الفكر، ولا هو الشخص المشبوب الانفعال، ولا الثري التجارب، فكل هذه صفاتٌ توجد في أناسٍ بعدد الحصى دون أن تتخايل في أحدهم بارقة فنٍّ واحدة، إنما الفنان هو ذلك الشخص الذي يفكر ويحس من خلال وسيطٍ فني معين، وأيًّا ما كانت انفعالاته وأفكاره، مُلتهبة أو باردة، عميقة أو سطحية، فإنها تتمثَّل لذهنه مُتجسِّدةً في وسيطه الخاص، ويعلم كل مزاولٍ للفن أن العملية الفنية في عامة الأحوال ليست حالةً أو فكرةً مجرَّدة يبلغ إليها في مرحلةٍ منفصلة ثم يُحاول الاهتداء إلى ثوبٍ فني يَكسوها به في مرحلةٍ ثانية، إنها ملتحمةٌ بالوسيط منذ البداية، وكثيرًا ما تكون العملية الفنية هي عملية تنمية لحنٍ أو التوسع في تصميمٍ بصري أو تعقُّب تركيبةٍ لفظية ورؤية ما تُسفر عنه.٣

الشكل الدال في مقابل المحاكاة والتمثيل

في كتابه البعيد الأثر «الشعر» Poetica، عرَّف أرسطو التراجيديا بأنها «محاكاة» mimesis لشخصياتٍ معيَّنة أو أفعالٍ بشرية معيَّنة، فقد لاحظ أرسطو أن الناس يُمتِّعها أن تقلد أو تُشاهد تقليدات ناجحة، ومن الإنصاف للمعلم الأول أن نقول إن المحاكاة التي نادى بها هي محاكاة انتقائية خلاقة تُعبِّر عن «الكلي» بحقٍّ في التجربة البشرية ولا تكتفي بالترديد الحرفي للمَجرى المألوف للتجربة، غير أنه منذ دفَع بنظريته أصبح عامة الجمهور يعتقدون أن مهمة الفن هي محاكاة الواقع وصنع نسخٍ طبق الأصل لما يجري بالحياة، ولا يزال العامة في كل مكان يُثنون على الأعمال الفنية لأنها شبيهةٌ بالحياة أو «واقعية» ولا يزالون يعتبرون الفن مرآةً للطبيعة، ويرون أن اللوحات الفنية وسيلة «إيهامٍ» illusion تُخيِّل للناظر أنه يرى الطبيعة نفسها، وتبلغ ذروة الفن إذا عجز المُشاهد عن أن يفرق بينها وبين الواقع.
ولكن إذا كان الفنُّ تمثيلًا أو نسخًا للواقع، فأي نفعٍ نناله من تمثيل ما هو ماثل؟ وأي جدوى تعود علينا من الحصول على «نُسَخ» ولدينا «الأصل» طوع يدنا؟ يقول أرسطو إن الناس تجد متعةً في رؤية الشبيه؛ لأن في الاستدلال والتعرف على الأنموذج model متعة، غير أن بِل والشكليين يرون أن متعة التعرف ليست متعةً إستطيقية؛ فحين يكون اهتمام المتلقي منصرفًا إلى التعلم أو الاستدلال أو التعرف، فإن إدراكه لا يقع على العمل الفني ككل، وإنَّما يقع على «موضوعه» فقط؛ أي على الشيء الذي يُمثِّله العمل، حينئذٍ تكون صورةٌ فوتوغرافيةٌ تافهةٌ أوفى بالغرض من أي لوحة عظيمة، وبنفس القياس تكون الأعمال الوصفية التي لا هم لها إلا التمثيل الدقيق عبثًا لا طائل منه و«إهدارًا لساعات رجالٍ ذوي اقتدار من الأجدى أن يُستخدموا في أعمالٍ أوسع نفعًا»، إنما الفن عالمٌ آخر مُستقلٌّ نوعيًّا عن العالم الخارجي، ولا سبيل إلى رده إلى عالم الواقع، إنه عالمٌ إنسانيٌّ منبثقٌ عن ذهن الإنسان ونشاطه الخالق، إنه إبداعٌ بشري خالص غير ملزمٍ بترديد الحقيقة الموضوعية أو نسخ الوجود الخارجي، وما كان لتمييز التشابه بين أشكال العمل الفني والأشكال المألوفة في الحياة أن يخلق انفعالًا إستطيقيًّا، فليس غير «الشكل الدال» ما يقوى على ذلك، وليس هناك ما يمنع بطبيعة الحال أن تكون الأشكال الواقعية دالةً إستطيقيًّا وأن يخلق منها الفنان عملًا رائعًا، غير أن ما يعنينا منها عندئذٍ هو قيمتها الإستطيقية لا قيمتها المعرفية، فبإمكان العنصر المعرفي أو التمثيلي في العمل الفني أن يكون مفيدًا كوسيلةٍ إلى إدراك العلاقات الشكلية وليس بأي طريقةٍ أخرى.

لذا يؤكد بِل على أن التذوق الفني الصحيح ينبغي أن يقع على الشكل، وهنا يكون العنصر التمثيلي عبئًا على الإدراك الفني وحائلًا بينه وبين دلالة الشكل، ولا يُصبح العنصر التمثيلي مفيدًا إلا إذا اقتصَر دوره على أن يكون مفتاحًا متروكًا في العمل نفتح به — حين تُعوزنا الخبرة الذوقية الكاملة — بابًا خلفيًّا إلى عالم الشكل الدال، ولا يكون مفيدًا ما لم يكن مدمجًا ومُستوعَبًا في الشكل، أما أن تَستلفتنا «المشابهة» وتصرف انتباهنا عن العلاقات الشكلية، فنحن بنفس الدرجة نكون قد أدَرنا ظهرنا لعالم الفن وطفقنا راجعين إلى عالم الحياة.

الفرضية الميتافيزيقية

لماذا تتأثَّر مشاعرنا كل هذا التأثر حيال الأشكال الدالة؟

لماذا نَطرب كل هذا الطرب؟ ونَجِدُ كل هذا الوجد؟

يبدو ممكنًا في رأي بِل أن الشكل المبدع يهزنا بهذا العمق لأنه يُعبر عن انفعال مُبدعه ويوصل إلينا هذا الانفعال، فتجاه أيِّ شيء إذن يشعر الفنان بذلك الانفعال الذي يُفترض أنه يُعبِّر عنه؟ يبدو من وجهة نظر بِل أن الفنان في لحظات إلهامه يحس انفعالًا تجاه الأشياء بوصفها «أشكالًا خالصة»؛ أي بوصفها غاياتٍ في ذاتها، لا بوصفها وسائل ملفعةً بالارتباطات؛ أي إن الفنان في لحظة الرؤية الإستطيقية يرى الأشياء مبرأةً من كل ضروب الاهتمام السبَبي والطارئ، ومن كل ما يُمكن أن تكون قد اكتسبته من طيلة صحبتها لبني البشر، ومن كل دلالةٍ لها كوسيلة؛ ومن ثم يحسُّ دلالتها كغايةٍ في ذاتها.

وحين يَتحدث بِل عن دلالة الشيء بوصفه غايةً في ذاته، فإنه يقترب كثيرًا من مفهوم المثاليين عن «الشيء في ذاته» أو عن «الواقع النهائي»، ويكون جوابه عن سؤاله الميتافيزيقي «لماذا نطرب كل هذا الطرب لتجمعات معينة من الخطوط والألوان؟» هو: «لأن بقدرة الفنانين أن يُعبروا بتجمُّعات الخطوط والألوان عن انفعالٍ نحو الواقع يكشف عن نفسه من خلال الخط واللون.» ويترتب على ذلك أن «الشكل الدال» هو الشكل الذي نظفر من ورائه بحسٍّ بالواقع النهائي.

الشكل – المضمون

يظن بعض الناس ممن يُلقون الكلام على عواهنه أن الشكلية تعني صدارة الشكل، أيِّ شكل، على المضمون، ويتوهَّمون أن الشكلية هي التركيز على الزخرف والزينة والقوالب الخارجية دون اكتراثٍ كبير بالمعنى والوظيفة، وهو تعسُّف لم يقل به أحد، وقلبٌ للقضايا لا يرتكبه إلا مأفون، وليتَ النقاد وفلاسفة الفن قد تعارَفوا على تسمية نظرية بِل «الشكلية الدالة» بدلًا من «الشكلية» فأراحوا واستراحوا؛ ذلك أن الشكل الذي ألحَّ عليه بِل هو الشكل الدال، و«الدلالة» significance مفهومٌ «قصدي» intentional بامتياز؛ فالشكل لا بد أن يدلَّ على شيءٍ ويُشير إلى شيءٍ ويقول شيئًا، على أن يقول ويُشير ويدلَّ بالشكل وفي الشكل، ونقول بالشكل وفي الشكل لأنَّ الشكل الدال، ببساطة، هو وحده ما يقوى على إحداث الانفعال الإستطيقي وغيره لا يُحدث إلا انفعالات الحياة.

فليحمل العمل الفني من الحقائق ما وسعه أن يحمل، ويَنقل من المعارف ما شاء أن ينقل؛ فالمعرفة والحقيقة، ككلِّ شيءٍ آخر يُعبِّر عن الفن، لا بد أن ترتبطا ارتباطًا وثيقًا بالقوام الحسِّي والعرض الشكلي للعمل. إن الفن لن ينافس العلم في مضماره، إنما تلح الشكلية على أن يكون الفن فنًّا — أي شكلًا دالًّا — كيما يتسنى له أن يقبض على الحقيقة التي يعجز العلم عن القبض عليها.

هل الاهتمام بالشكل يأتي على حساب المضمون؟ كلا بل يأتي لحسابه، باعتبار نوعية المضمون الذي أوكلنا إلى الفن أن يحمله، الشكل هو كل شيء في العمل الفني، الشكل هو المضمون في حضوره الإستطيقي، والشكل الدال هو الشكل الصائب الذي تطابَق مع انفعال مُبدِعه تجاه الواقع النهائي، والذي وجد فيه هذا المضمون الانفعالي جسدًا للمثول الموضوعي ومنفذًا إلى الذوات الأخرى، وآيته في ذلك أنه يُثير في المتلقِّين انفعالًا إستطيقيًّا مضاهيًا لانفعال مُبدعه، وهذا الانفعال الناجم هو معرفةٌ ونشوةٌ معًا، هو كشفٌ كبير ومتعةٌ عالية في آن.

الشكل الدالُّ حقٌّ متى جاء، ونحن نعرفه متى صادفناه ونعرف أنه حق، إنه هو … يحمل آية صدقه (الوجد الإستطيقي) ويُومئ إلى رصيده الأنطولوجي (الواقع النهائي)؛ ومن ثم فهو نقيض اللعب والتبَطُّل، فأنت في كل الأحوال لكي تأتي بشكلٍ دالٍّ فلا بد أن يكون لديك ما تقوله، الشكل الدال ليس زينةً بل نقيض الزينة، وهو بالتأكيد تقشُّفٌ وتبسيطٌ وكفافٌ من التمثيل والتفصيل، وطرحٌ للزائد ونبذٌ لكل ما ليس له دلالة، الشكل الدال ليس لهوًا أو فراغًا أو «عجةً بلا بيض».

لقد تعرَّض مفهوم الشكل حقًّا لابتذالٍ كثيرٍ وسوء فهم فادح، والتصقت به دلالاتٌ سلبية ليست منه وليس منها، وتقَوَّل عليه المُتقوِّلون وكأنه نقيض المضمون لا جسده، أو كأنه ضد التجديد لا شرطُه وحاديه وروحه الحارس، ليس لمفهوم الشكل الدالِّ علاقةٌ بالصراع الأزلي بين الجموح والعقل، بين التلقائية والنظام، بين الجانب الديونيزي والجانب الأبولوني في الفن؛ ففي ذلك خلطٌ بين الشكل الخارجي الآلي والشكل الداخلي العضوي، فليتمرَّد من شاء على القوالب القديمة المستهلكة، وليُجدِّد ما شاء له تدفُّقه واندفاعه؛ فكل تجديد يحمل في ثناياه شكله الخاص، ولن يتسنى لأحد أن يتمرد على الأشكال القديمة إلا بأشكالٍ جديدة، ولن يكون له أن يُجدِّد في الشكل إلا بالشكل.

الفن خير

يقدم كلايف بِل في فصل «الفن والأخلاق» تحليلًا لمفهوم «الخير» يسترشد فيه بحدسية جورج مور G. Moore في كتابه الذائع الصيت «مبادئ علم الأخلاق» Principia Ethica، ويَخلُص منه إلى نتيجةٍ مفادها أن الحالات الذهنية الخيِّرة هي وحدها خيرٌ كغاية في ذاتها، ويترتب على ذلك أن علينا لكي نبرِّر أي نشاط إنساني تبريرًا أخلاقيًّا أن نتساءل: هل هذا النشاط هو وسيلة إلى حالات ذهنية خيِّرة؟ أما في حالة الفن فإن جوابنا سيكون فوريًّا وقائمًا على خبرة وجدانية حقيقية؛ فالفن ليس فقط وسيلة إلى حالات ذهنية خيِّرة، بل ربما يكون أقوى الوسائل التي في حوزتنا وأكثرها مباشرة، إنه أكثرها مباشرةً؛ لأنه لا شيء أسرع منه تأثيرًا في الذهن، وأكثرها قوةً لأنه لا توجد حالة ذهنية أكثر امتيازًا وشدةً من حالة التأمل الإستطيقي، وأنت حين تُعدُّ أي شيء عملًا فنيًّا فإنك تُقيم حكمًا أخلاقيًّا خطيرًا؛ لأنك بذلك تعدُّه وسيلة مباشرة وفعالة إلى الخير بحيث لا يُعوزنا أن نُكرث أنفسنا بأي شيء من نتائجه المحتملة.

الفن والمجتمع

للفن آثارٌ اجتماعيةٌ هائلة، فهو يُغيِّر شخصيتنا وتجربتنا في المجالات غير الإستطيقية للحياة، ويجعلنا أكثر حكمةً وسموًّا، ويُعمِّق رؤيتنا لذواتنا وذات الآخرين، إن للفن وجهًا موضوعيًّا أساسيًّا وبُعدًا «بينذاتيًّا» intersubjective يدخل في صميم ماهيَّته؛ فالمبدع والمتلقي «متضايفان» correlatives يأخذ كلٌّ منهما من الآخر حقيقته ومعناه، بل إن البشر جميعًا في اللحظة الإستطيقية يَغدون ذوبًا من تضايفٍ عام وامتزاجٍ كلي.
إن الفن يُطلعنا على دينامياتنا النفسية وديناميات الآخرين، ويعتقنا من مركزية الذات egocentrism ويؤهلنا للمواجدة empathy؛ أي القدرة على اتخاذ الإطار المرجعي للآخرين بسهولة ويُسر، ومشاركتهم وجداناتهم مشاركة حقيقية مبرأةً من إسقاطاتنا الخاصة، الفن هو أقدر صنوف النشاط البشري تعبيرًا عن التواصل بين الأفراد وبين الأجيال وبين الأمم؛ لأن الوجد الإستطيقي لا يُحده الزمان ولا ترده التخوم الجغرافية، إنه انعتاقٌ من كل صنوف المركزية وانطلاق من كهوف التحيز والتعصُّب والتحزُّب، وأذان للأرواح بأن تَنعطِف وتأتلف وتتقاسَم رحابة الوجود.

والفن بوظيفته المعرفية التي أشار إليها بِل وسوزان لانجر وهربرت ريد وغيرهم يَفتح لنا مغاليق العالم الوجداني، فإلى جانب العلم الذي يزيد من تمكُّننا الفكري والتصوري للعالم، فإن الفن يزيد من تمكُّننا الإدراكي والانفعالي؛ فبفضل كُتاب من طراز شكسبير وبروست أمكننا أن نفطن إلى دقائق سيكولوجية ما كان لنا أن نراها، وبالتالي نحسها، لولا قدرتهم على اقتناصها والتعبير عنها، وبفضل مُصوِّرين من طراز سيزان ومانيه تعلَّمنا كيف ننظر إلى الأشياء ونُلاحظ العالم، وكيف ننتشي بالتحامنا بالوجود والتقائنا بماهية الأشياء.

ولا يفوتنا في هذا المقام أن نُنبه إلى أن التماس أي منفعة للفن من طريقٍ آخر غير الدلالة الإستطيقية هو إبطالٌ للفن ونفي لماهيته ذاتها؛ فالفن الدعاوي والإرشادي والتزييني ليس فنًّا، بل تناقضٌ ذاتيٌّ، شأنه شأن «النقطة الممتدَّة» أو «المربع المستدير»، والإصرار على توظيف الفن لخدمة أغراض حياتية مباشرة هو خسران لوظيفة الفن الحقيقية التي لا يقدر على الاضطلاع بها أي نشاطٍ آخر، وتحميله في الوقت نفسه دورًا تستطيع مرافق أخرى — كالإعلام والفكر والسياسة والجامعة ومراكز البحث — أن تقوم به على نحوٍ أفضل.

قيمة القيم

يقولون ما فائدة نظريةٍ علميةٍ بلا تطبيقٍ عملي فهي تئود الذهن ولا تريح الكاهل؟ وما فائدة نغمةٍ لا تغمس لقمة … وكلمةٍ لا تدفع نقمة؟

وأزيدهم: وما فائدة تمسيدة حنانٍ، في ميناء الحياة، على جبينٍ مكدودٍ لن أراه مرةً ثانية؟

وأقول إن السؤال الصحيح لم يُسأل: ما فائدة عملٍ طاحونيٍّ يبدأ من حيث ينتهي؟

وما فائدة لقمةٍ لا يَزال يجادلها الجوع؟

وسلامةٍ هي حسبك من داءٍ دفين، ما دمنا في الحياة زائرين غير مُقيمين.

لا فائدة في العمل واللقمة والسلامة، ما لم تنتهِ بنا سلاسلها إلى نهاياتٍ من معدنٍ آخر … نهاياتٍ تقوم في ذاتها قيمة.

الحق والجمال والخير ليست سلاسل بل نهايات.

ليست وسائل بل غايات.

إنها قيم.

إنها مُطلَقات.

بعد الوجد

يقول كلايف بِل: «إن من قدر له أن يعرف الوجد ويتبدَّد في «أوه … ألتيتودو» O Altitudo واحدة، لن يكون له أن يؤخذ بإثارات العمل الفارغة ويُغالي في تقديرها، ومن وُهب القدرة على أن يأوي إلى عالم الوجد سيَعرف كيف يتعامل مع الوقائع الخارجية بحَجمها، جديرٌ ذلك الذي يختلف كل يوم إلى عالم الوجد أن يعود إلى عالم الشئون البشرية مسلَّحًا لمواجهتها بشجاعة، وربما بشيء من الازدراء.»

وبعد فإن دخول العمل الفني ليس مثل خروجه.

ربما يكون دخولك تزجيةً للوقت.

أو دفعًا للسأم أو محض صدفة.

غير أنك تخرج دائمًا من الرائعة الفنية بكيمياء مختلفة.

وخطوةٍ مختلفة.

وطريقٍ مختلف.

د. عادل مصطفى
١  الإستطيقا: هي علم الجمال الذي يتناول المفاهيم المتصلة، سواء بالموضوعات الجميلة بطبيعتها مثل: الجبال، ومشاهد الغروب، أو بالأعمال الفنية مثل اللوحات التشكيلية والسيمفونيات؛ وهي من ثم أشمل من فلسفة الفن التي تقتصر على الأشياء التي هي من صنع الإنسان، غير أن «كلايف بل» في كتابه هذا يقصر معنى الإستطيقا على فلسفة الفن.
٢  أو «بينذاتية» intersubjective إن شئت الدقة، وهي قُصارى البشر من «الموضوعية» حتى في الأمور الفيزيائية الخالصة.
٣  جيروم ستولينيتز: النقد الفني؛ دراسة جمالية وفلسفية، ترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، ١٩٨١م، ص١٤٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤