تصدير المؤلف

في هذا الكتاب الصغير حاولت أن أُنشئ نظريةً مكتملةً في الفن البصري، لقد قدمت فرضية يمكن بالإحالة إليها أن تُختبَر وجاهةُ (وإن لم يكن صواب) الأحكام الإستطيقية جميعًا، وفي ضوئها يغدو تاريخ الفن من العصر الحجري إلى اليوم مفهومًا، وبتبنِّيها نقدم دعمًا فكريًّا لقناعةٍ عالمية، تقريبًا، وموغلةٍ في القدم، يطوي كلٌّ منا جوانحه على اعتقادٍ بأن هناك فرقًا حقيقيًّا بين الأعمال الفنية وجميع الأشياء الأخرى، هذا الاعتقاد تُبرِّره فرضيتي. إننا جميعًا نشعر بأن الفن هامٌّ غاية الأهمية، وفرضيتي تُقدم السبب في اعتباره كذلك، والحق أن الميزة الكبرى لفرضيتي هذه أنها تبدو مُفسِّرةً لما نعرف أنه حق، ومَن يُهمه اكتشاف السبب الذي يجعلنا نُطلق على سجادة فارسية أو جدارية لبييرو دلا فرانشيسكا عملًا فنيًّا، ونُطلق على تمثالٍ نصفيٍّ أو لوحة شعبية تعالج مشكلةً عملًا ساقطًا؛ من يُهمُّه اكتشاف ذلك فسوف يجد هنا ضالَّته، وسيجد أيضًا أن الرواسم المألوفة في النقد، من مثل «رسم جيد»، «تصميم رائعٌ»، «آلي»، «غير محسوس»، «غير منظم»، «حساس»، سيجد هذه المصطلحات قد أخذت ما تفتقر إليه أحيانًا: معنى محدَّدًا، وباختصار فإن فرضيتي تعمل بنجاح، ذلك شيء غير معتاد، وبدت للبعض لا ناجعةً فحسب بل صحيحة، تلك شبه أعجوبة.

ربما يؤسِّس المرء نظريةً في خمسين أو ستين ألف كلمة تأسيسًا كافيًا، ولكنه لا يمكن أن يدعي أنه تأسيسٌ مُكتملٌ، إن كتابي تبسيط؛ فقد حاولت أن أجترح تعميمًا عن طبيعة الفن يتكشف أنه صحيح ومتَّسق وشامل في آنٍ معًا، لقد التمست نظريةً يتعين أن تفسر خبرتي الإستطيقية كلها وتومئ إلى حلٍّ لكل مشكلة، ولكني لم أُحاول أن أجيب بالتفصيل عن جميع الأسئلة التي طرَحت نفسها، أو أن أقتفي أي واحدٍ منها إلى أدق تفريعاته، إن علم الإستطيقا شأنٌ معقَّد، وكذلك هو تاريخ الفن، وقد أملتُ أن أكتب فيهما شيئًا بسيطًا وصائبًا، فرغم أني، مثلًا، قد أشرت بوضوحٍ شديد، بل بتكرارٍ كثير، إلى ما أعتبره جوهريًّا في العمل الفني، فأنا لم أتناول العلاقة بين الجوهري وغير الجوهري بالإفاضة التي كان يسعني تناولها؛ فقد بقي الكثير الذي لم يقل عن عقل الفنان وطبيعة المشكلة الفنية، وبقيَ لمن هو فنان وسيكولوجي وخبير بالعجز الإنساني أن يُنبئنا إلى أي مدًى يكون غير الجوهري وسيلةً ضرورية إلى الجوهري؛ أن يُنبئنا ما إذا كان من السهل أو الصعب أو المستحيل على الفنان أن يُدمِّر كل درجة في السلم الذي يرتقي عليه إلى النجوم.

الفصل الأول من كتابي يوجز مناقَشات ومداولات وخيوطًا طويلة من التأمل الغامض تظلُّ جديرة، حين تتكثَّف إلى حِجاجٍ صلب، أن تملأ مجلدَين ضخمين أو ثلاثة، ولعلي أكتب واحدًا منها ذات يوم إذا كان نُقادي مندفعين اندفاعًا كافيًا لاستفزازي، أما عن فصلي الثالث — مخطط تاريخ أربعة عشر قرنًا — فمن نوافل القول: إنه تبسيط، وفيه استخدمت سلسلةً من التعميمات التاريخية لكي أوضح نظريتي، وفيه، مرةً أخرى، أعتقد في صحة نظريتي، وأقتنع بأن كل من سيتأمل تاريخ الفن في ضوئها سيجد ذلك التاريخ أكثر وضوحًا من ذي قبلُ، وأنا أعترف في الوقت نفسه أن الفروق في الحقيقة أقل عنفًا، أن التلال أقل تحدرًا مما تبدو عليه في خريطةٍ من هذا الصنف، وسيكون جميلًا بدون شك لو أن هذا الفصل أيضًا قد توسع إلى نصف دستة من المجلدات الممتعة، إلا أن هذا لن يتسنى حتى يتعلَّم السدنة المثقفون أن يكتبوا أو يتحلى كاتبٌ ما بالصبر.

تلك المداولات والمناقشات التي هذَّبَت وصقَلت النظريات المطروحة في الفصل الأول جرى معظمها مع السيد روجر فراي Roger Fry الذي أَدين له، من أجل ذلك، دينًا يعجزني أن أحصيه، وأنا أشكره في المقام الأول كمُحرِّر مُشارك في البرلنجتون ماجازين لسماحه بإعادة طبع جزء من مقالٍ أسهمت به في هذه الدورية، وبعد إذ أؤدي هذا الواجب آتي إلى حسابٍ أكثر تعقيدًا، في المرة الأولى التي التقيت فيها بالسيد فراي، في عربة سكة حديد تصل بين كمبردج ولندن تجاذبنا أطراف الحديث حول الفن المعاصر وعلاقته بكل فنٍّ آخر، ويبدو لي أحيانًا أننا ظللنا منذ ذلك الوقت نتحدث عن نفسي الشيء، ولكن أصدقائي أكدوا لي أن الأمر ليس بهذا السوء، أذكر أن السيد فراي كان حديث عهدٍ بالأساتذة الفرنسيين المحدثين — سيزان وجوجان وماتيس، وأني كنتُ أتمتَّع بمعرفةٍ أطول بهم، غير أن السيد فراي كان قد أصدر لتوِّه كتابه «مقال في الإستطيقا» الذي يعدُّ، من وجهة نظري، أرشد إسهام تمَّ في هذا العلم منذ زمن كانت Kant، لقد تحدَّثنا كثيرًا عن هذا المقال، ثمَّ تناقشنا في احتمال إقامة معرض «بعد انطباعي» Post-Impressionist في صلات عرض جرافتون، نحن لم نُسمِّه آنذاك «بعد انطباعي»، فقد ابتكَر السيد فراي هذه اللفظة بعد ذلك، الأمر الذي يجعلني أرى شيئًا من الإجحاف من جانب النقاد الأكثر تقدُّمية إذ يُكثرون من توبيخه لجهله بما تَعنيه «بعد الانطباعية»!
وقد جعلتُ أُجادل السيد فراي بعض السنوات، جدالًا سلميًّا إلى حدٍّ ما، حول مبادئ الإستطيقا، غير أننا نَختلف اختلافًا جسيمًا، وإنني لأودُّ أن أرى أنني لم أتزحزح عن موقفي الأصلي قيد أنملة، إلا أن عليَّ أن أعترف أن الشكوك والتحفظات الحذرة التي دست نفسها في هذا التصدير كلها نتائج غير مباشرة لنقد صديقي فراي، لم يكن حديثُنا مقصورًا على أفكارٍ عامةٍ وأشياء أساسية، فقد تنازَعنا أنا والسيد فراي ساعاتٍ حول أعمالٍ فنيةٍ بعينها، في مثل هذه الحالات يتعذر تقدير مدى تأثير الواحد منا على حكم الآخر، ولا نحن يَلزمنا هذا التقدير؛ فلا أحد مِنا، في اعتقادي، يشتهي المراسم الظنية للاهتداء، من المؤكَّد أن من يُقدِّر عملًا فنيًّا رفيعًا تتاح له تلك المتعة الشديدة — متعة افتراض أنه قد اجترَح اكتشافًا، ورغم ذلك، فحيث إن كل النظريات الفنية تقوم على أحكامٍ إستطيقية؛ فمن الواضح أنه إذا أثَّر أحدٌ في أحكام آخر فإنه قد يؤثر، بطريق غير مباشر، في بعض نظرياته، ومِن المؤكَّد أن السيد فراي قد عدل بعض تعميماتي التاريخية بل قوَّضَها، لم تكن مهمته شاقة، فلم يكن عليه إلا أن يواجهني بعملٍ فنِّي معيَّن هو على يقين من أنه سيبلغ بي النشوة، ثم يبرهن بأشد الأدلة كراهة وإفحامًا أن هذا العمل يَنتمي إلى فترة كنت قد خلصت، على أسس «قَبْلية» a priori للغاية، إلى أنها فترة قاحلة تمامًا، ولا يسعني إلا أن آمل أن أستاذية السيد فراي كانت مربحةً لي بقدر ما كانت مؤلمة: لقد ترحَّلت معه عبر فرنسا وإيطاليا والشرق الأدنى، متألمًا بشدة، ليس دائمًا في صمت (يطيب لي أن أتذكَّر ذلك)؛ فالرجل الذي يطعن تعميمًا ما بحقيقةٍ واقعة إنما يُصادر كل ادِّعاء على الزمالة الطيبة وعلى تلطُّف المهذَّبين.
ولا يفوتني أن أتوجه بالشكر إلى صديقي السيد فيرنون رندال لسماحِه لي بالإفادة كيف أشاء من مقالاتي التي أسهمتُ بها من وقتٍ لآخر في The Athenaeum: فإذا كنتُ قد أفدتُ مما ينتمي بحكم القانون إلى أصحاب ملكية أبحاثٍ أخرى فها أنا ذا أقدم استحقاقاتها العُرفية، كذلك سيكون قرائي شاكرين، مثلي، جميل M. Vignier، وM. Druet، وMr. Kevorkian، من الجاليري الفني الفارسي؛ إذ إنهم مَن ضمنوا للقارئ أن يَقتني شيئًا يروقه مُقابل نقوده، وإنني لأَدين دينًا أخصُّ وأقرب للسيد إريك مكلاجان من سوث كنسينجتون، والسيد جويس من المتحف البريطاني، وقد تفضَّلَت زوجتي بقراءة كل من مخطوطة هذا الكتاب وبروفته الطباعية، وقد صوَّبَت بعض الأخطاء، وأيقظَت انتباهي إلى الإساءات الفاضحة ضدَّ المحبة المسيحية؛ لذا فليس لك أن تلتمس العذر للمؤلف على أي إهمال أو تسرُّع.
كلايف بل
نوفمبر ١٩١٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤