الفصل الثاني

الفن والحياة

(١) الفن والدين Art and Religion

إذا كنتُ في الفصل الأول قد تجشمت عناءً كبيرًا لكي أبين أن الفن لا يَدين للحياة بشيء، فإن عنوان الفصل الثاني «الفن والحياة» قد يُثير شبهة التناقض، غير أن الأمر أبسط من ذلك؛ فرغم أن الفن لا يدين بشيء للحياة فإن الحياة قد تدين حقًّا بشيءٍ ما للفن. إن الطقس مثلًا مستقلٌّ بدرجة فائقة عن آمال البشر ومَخاوفهم، إلا أنه يندر من بيننا من يعلو شأنه عن الاكتراث بالطقس. إنَّ الفن ليؤثِّر في حيوات الناس، إنه يثير النشوة، وهو بذلك يُضفي لونًا وأهميةً على ما مِن شأنه أن يكون بدون الفن أمرًا كئيبًا وتافهًا نوعًا ما. إن الفن عند البعض يجعل الحياة جديرةً بأن نَحياها، والفن أيضًا يتأثر بالحياة؛ لأن إبداع الفن يتطلب أناسًا ذوي أيدي وحسٍّ بالشكل واللون والمكان الثلاثي الأبعاد، والقدرة على الشعور والتوق إلى الإبداع؛ ومن ثم فإن للفن صلةً كبيرة بالحياة؛ بالحياة الوجدانية. أما أنه وسيلةٌ إلى حالة من النشوة العالية فهو أمرٌ متَّفقٌ عليه، وأما أنا يجيء من الأعماق الروحية للطبيعة الإنسانية فهو أمرٌ يعز أن نختلف فيه. إن تذوق الفن هو بالتأكيد سبيلٌ إلى النشوة، وإبداعه ربما يكون هو التعبير عن حالة نشوة ذهنية، الفن في حقيقة الأمر ضرورةٌ للحياة الروحية ونتاجٌ لها.

إنَّ من يوافقونني تمامًا فيما قلته حتى آخر شوط من رحلتي الميتافيزيقية، سيُسلمون بأن الانفعال المُعبَّر عنه في العمل الفني هو انفعال يَنبع من أعماق الطبيعة الروحية للإنسان، وحتى من لا يَجدون لكلامي أي معنًى سيوافقون على أن الجانب الروحي من الإنسان يتأثر تأثُّرًا هائلًا بالأعمال الفنية؛ الفن إذن مرتبط بالحياة الروحية التي إليها يُعطي ومنها بالتأكيد يأخذ. والفن، بطريقة غير مباشرة، يرتبط ارتباطًا ما بالحياة العملية؛ فالفن يفعل فعله في شخصياتنا، وإلا فما أهونها وأحقرها تلك الخبرات الوجدانية التي تغادر شخصياتنا دون أن تمسها من قريب أو بعيد؛ فمن خلال تأثيره على الشخصية ووجهة الرأي، يمكن للفن أن يؤثر في الحياة العملية، غير أن الحياة العملية والعاطفة الإنسانية لا يمكن أن تؤثِّرا في الفن إلا بقدر ما يُمكن أن تؤثِّرا في الأحوال التي يعمل الفنانون في ظلها، وبهذه الطريقة قد تؤثِّران بعض التأثير في إنتاج الأعمال الفنية، فإلى أيِّ حدٍّ يمتد هذا التأثير؟ هذا ما سوف أتناوله في موضع آخر.

كذلك يعنى كثيرٌ جدًّا من أعمال الفن البصري بالحياة، أو بالأحرى بالعالم الفيزيائي الذي تشكل الحياة جزءًا منه؛ ذلك أن الأشخاص الذين يبدعون هذه الأعمال إنما قذفت بهم في الحالة الإبداعية بيئتُهم المحيطة. لقد لاحظنا، وما كان بوسعنا أن نغفل، أنه أيًّا ما كان الانفعال الذي يعبر عنه الفنانون فإنه يأتي إلى الكثير منهم خلال تأمُّل الأشياء المألوفة للحياة، ويبدو أن موضوع انفعال الفنان هو في أغلب الأحوال إما مشهد أو شيء أو مركَّب من خبرته البصرية الكلية. قد يُعنى الفن بالعالَم الفيزيائي، أو بأي جزء أو أجزاء منه، كوسيلة إلى انفعال، وسيلة إلى تلك الحالة الروحية المتميزة والخاصة التي نسميها الإلهام، ولكن الفن يتجاهل قيمة هذه الأجزاء بوصفها وسيلة إلى أي شيء عدا الانفعال — أي أنه يتجاهل منفعتها العملية، وكثيرًا ما يهتم الفنانون بالأشياء، ولكنهم لا يهتمون أبدًا ببطاقات الأشياء. لقد اخترع هذه البطاقات المفيدة أناسٌ عمليُّون من أجل أغراض عملية، والبلية هي أن العمليِّين من الناس بعد أن يكتسبوا عادة تمييز البطاقات يميلون إلى أن يفقدوا القدرة على الانفعال، وبما أن الطريقة الوحيدة لبلوغ الشيء في ذاته هي الإحساس بدلالته الانفعالية، فإنهم سرعان ما يبدءون في فقد حسِّهم بالواقع. لقد بيَّن الأستاذ روجر فراي Roger Fry أنه من المحال على أغلب البشر أن يَنظروا إلى ثورٍ مُغير (هاجِم) كغايةٍ في ذاته ويسلموا أنفسهم للدلالة الانفعالية لأشكال الثور، فنحن ما نكاد نميز بطاقة «ثور مُغير» حتى نُهيِّئ أنفسنا للفرار لا للتأمل،١ ها هنا تكون عادةُ تمييز البطاقات مفيدةً لنا، إلا أنها تضرُّنا عندما تحول بين الأشياء وبين استجابتنا الانفعالية لها رغم غياب أي داع للفعل أو العجلة، ليست البطاقة أكثر من رمز يوجز للجنس البشري المشغول دلالة الأشياء باعتبارها «وسائل»، يدلف الشخص العملي إلى غرفةٍ حيث توجد كَراسٍ وطاولاتٌ وأرائكُ وسجادةٌ ورفُّ مصطلى. إنه يلحظ كلًّا منها فكريًّا، وإذا شاء أن يجلس أو يضع كأسًا فسيعرف كل ما تلزم معرفته لتحقيق غرضِه. إن البطاقة لا تُبلغه إلا بالحقائق التي تخدم أغراضه العملية. أما الشيء ذاته الذي يقبع وراء البطاقة فلا يرد ذكره، أما الفنانون، من حيث هم فنانون qua artist، فلا يلقون بالًا إلى البطاقات؛ فهم لا تعنيهم الأشياء إلا بوصفها وسائل إلى صنفٍ معيَّن من الانفعال، وهو مساوٍ لقولنا إنهم يأبهون للأشياء إذ تُدرَك كغاياتٍ في ذاتها فحسب؛ فعندما «تُدرَك» الأشياء كغايات، هنالك فقط «تصير» وسائل إلى هذا الانفعال، وعندما نكفُّ عن النظر إلى الأشياء في منظر طبيعي كوسائل إلى أي شيء، هنالك فقط يمكننا أن نشعر بالمنظر الطبيعي شعورًا فنيُّا، ولكن عندما ننجح بالفعل في اعتبار أجزاء منظر طبيعي كغايات في ذاتها، كأشكال خالصة، فإن هذا يعني أن المنظر الطبيعي يصير، «بحكم طبيعته ذاتها» ipso facto، وسيلةً إلى حالة ذهنية إستطيقية خاصة، ليس يُعنى الفنانون إلا بهذه الدلالة الانفعالية الخاصة للعالم الفيزيائي؛ إنهم «يدركون» الأشياء بوصفها «غايات»؛ ولذا فإن الأشياء «تصير» بالنسبة لهم «وسائل» إلى النشوة.
إنَّ عادة تمييز البطاقة وإغفال الشيء، والرؤية الفكرية بدلًا من الرؤية الانفعالية، هي علة ذلك العمى المذهل، أو بالأحرى تلك الضحالة البصرية، لمعظم الراشدين المتحضرين؛ فنحن لا ننسى ما حرك شعورنا، ولكن ما اجتزأنا بتمييزه ولم نزد، فهو لا يخلف في ذهننا أثرًا عميقًا. لي صديقٌ صاحب ذوق حدت به الرغبة يومًا إلى أن يجري بعض الإزالة في حدائقه؛ إذ كانت تعجُّ بعدد وافر من الأشجار، ولسوء حظه أبدى معظم أصدقائه وكل أسرته اعتراضهم، على أساسٍ عاطفي أو إستطيقي، مؤكِّدين أن المكان لن يعود كعهدهم به لو أنه أعمل الفأس في شجرةٍ واحدة، وقد ظلَّ صديقي يائسًا إلى أن اقترحت عليه يومًا أن عليه كلما سنحت فرصةٌ يكون فيها أهله جميعًا بمنأى عن المكان في زيارات أو أسفار كما اعتادوا كثيرًا، أن يجتث ما يمكنه اجتثاثه بشكلٍ تامٍّ ونظيف أثناء غيابهم، ومذَّاك شحنت عدة مئات من الأشجار بالكارة٢ من متنزَّهِه الصغير وساحات متعته، وإنني على ثقة مفعمة بالمرح أنه لو أفشى السر للأسرة فلن يُصدِّقه أحد، وبإمكاني أن أسرد ما لا يُحصى من أمثلة هذه البلادة الحسية تجاه الشكل. وكم ذا أسمرُ مع جماعةٍ في غرفة كل ما فيها مألوف لنا فيما عدا الديكور الذي تغير مؤخرًا، فإذا بي الوحيد الذي يلحظ ذلك، لقد بقيت الغرفة من جهة الأغراض العملية كما هي، وحدها الدلالة الانفعالية للغرفة كانت جديدة. سل صديقك عن ترتيب الأثاث في غرفة استقبال زوجته، سله أن يرسم مخططًا للشارع الذي يذرعه يوميًّا: بنسبة عشرة إلى واحد سوف يتخبَّط بلا طائل، ليس غير الفنانين والدارسين ذوي الحساسية الفائقة وبعض البدائيين والأطفال، مَن يشعرون بدلالة الشكل شعورًا حادًّا؛ بحيث يعرفون كيف تبدو الأشياء، هؤلاء يرون؛ لأنهم يرون انفعاليًّا، وما كان لأحدٍ أن ينسى الأشياء التي حرَّكت مشاعره. أما أولئك الذين لم يشعروا يومًا بالدلالة الانفعالية للشكل الخالص فينسون. إنهم ليسوا أغبياء، ولا هم في مجملهم فاقدو الإحساس، ولكنهم يستخدمون أعينهم لجمع معلومات فحسب لا لقنص انفعال، هذه العادة في جعل وظيفة الأعين وقفًا على التقاط الوقائع هي الحاجز الذي يقف بين معظم الناس وبين فهم الفن البصري، إنه ليس بالحاجز الذي لم يخترقه مخلوقٌ قط، ولا هو من اللازم أن يبقى حائلًا إلى أبد الدهر.

في عصور الوجد الروحي العظيم يتفتَّت الحاجز في بعض البقاع ويغدو أقل منَعة، يُقال لمثل هذه العصور بعامة العصور الدينية العظيمة، وما جانب الصواب مَن أطلق عليها هذا الاسم؛ فالدين في أغلب الأحيان هو حجر الشحذ الذي يُرهِف عليه الناس حسهم الروحي؛ فالدين، شأنه شأن الفن، موكلٌ بعالم الواقع الانفعالي، ولا تعنيه الأشياء المادية إلا بقدر ما تكون ذات دلالةٍ انفعالية؛ فالعالم الفيزيائي بالنسبة للمتصوف، كما بالنسبة للفنان، هو وسيلةٌ إلى النشوة؛ فالمتصوف يشعر بالأشياء كغايات بدلًا من أن يراها كوسائل، إنه يتلمَّس داخل كل الأشياء ذلك الواقع النهائي الذي يُثير الوجد الانفعالي، وهو إن كان لا يَبلغه من خلال الشكل الخالص فثمَّ كما قلنا أكثر من طريق لبلوغ هذا البلد. إن الدين، كما أفهمه، هو تعبيرٌ عن الحسِّ الفردي بالدلالة الانفعالية للعالم، ويجب ألا أندهش حين أجد أن الفن كان تعبيرًا عن الشيء نفسه. وعلى كل حالٍ فكلاهما يبدو أنه يُعبِّر عن انفعالاتٍ مختلفة عن انفعالات الحياة ومُتجاوزة لها، وكلاهما بالتأكيد له القدرة على أن ينقل الناس إلى مواجيد فوق بشرية، كلاهما سبيلٌ إلى حالاتٍ ذهنية غير أرضية، ينتمي الفن والدين لعالمٍ واحد؛ فهما هيئتان يُحاول البشر فيهما أن يَحصروا أخفى تصوراتهم وأكثرها شفافيةً ويوفِّروا لها أسباب البقاء، ليست مملكة الفن ولا مملكة الدين من هذا العالم؛ ومن الحق لذلك أن نَعتبر الفن والدين توءمين متلازمَين من مظاهر الروح، ومن الخطأ أن يتحدث البعض عن الفن كمظهر من مظاهر الدين.

إذا زعم أحدٌ أن الفن والدين مظهران توءمان لشيءٍ ما قد يُسمى «الرُّوح الدينية» على سبيل التيسير؛ فإنَّ عليَّ ألا أبتئس، غير أني أصرُّ على التمييز بين «الدين» بالمعنى السائد للكلمة، و«الرُّوح الدينية» التي نوردها، تمييزًا يَنفي كل احتمالٍ لإثارة مماحكاتٍ تافهة، وعليَّ أن أصرَّ على أنه إذا كان لنا أن نقول بأن الفن هو مظهرٌ للرُّوح الدينية فلا بد أن نقول الشيء نفسه عن كل دينٍ موقَّرٍ وجد يومًا أو يمكن أن يوجد على الإطلاق، ويجب أن أصرَّ فوق كل شيء على أنه أيًّا مَن كان القائل فيجب أن يقر بالذهن كلما قالها إن كلمة «مظهر» مختلفة عن كلمة «تعبير» اختلاف «مونموث» عن «مقدونيا» على أقل تقدير.

تتولَّد الرُّوح الدينية عن اقتناعٍ بأن بعض الأشياء أكثر أهمية من الأخرى؛ فبالنسبة لأولئك الذين تتملَّكهم هذه الروح ثمة تمييزٌ قاطع بين ما هو كوني وغير مشروط من ناحية، وما هو محليٌّ ومحدودٌ من ناحيةٍ أخرى. إن الوعي بالكوني وغير المشروط هو ما يجعل الناس دينيِّين، وإن هذا الوعي، أو على الأقل تلك القناعة بأن بعض الأشياء غير مشروطة، وكونية، هو ما يجعل موقف الناس أحيانًا تجاه المشروط والمحلي موقفًا جافيًا بعض الشيء، هذا الوعي هو ما يجعلهم يضعون العدل فوق القانون، والعاطفة فوق المبدأ، والحساسية فوق الثقافة، والذكاء فوق المعرفة، والحدس فوق الخبرة، والمثالي فوق المستطاع، وهذا الوعي هو ما يجعلهم أعداء العرف والتوفيق والحسُّ المشترك. الحق أن جوهر الدين هو قناعةُ بأنه ما دامت بعض الأشياء لا متناهية القيمة؛ فمعظم الأشياء غاية في التفاهة، وما دامت لدينا كعكة الزنجبيل فلا علينا من طلائها الذهبي.٣
ومن غير المجدي للاهوتيِّين التحرُّريِّين أن يزعموا أن لا تنافر بين الطبيعة الدينية والطبيعة العلمية، صحيحٌ أن ليس هناك تنافر بين الدين والعلم، ولكن هذا أمر مختلف تمامًا؛ فالحق أن فرضيات العلم لا تبدأ إلا حيث ينتهي الدين، ولكن كلًّا من الدين والعلم يولد متعديًا يدخل أراضي الآخر دخولًا غير مشروع. إنَّ لكل من الشخص الديني والشخص العلمي تحيُّزاته، ولكن تحيُّزاتهما ليست من صنف واحد؛ فالذهن العلمي لا يستطيع أن يتخلَّص من تحيُّز ضد فكرة أنه قد توجد معلولات لا يدري (أي الذهن العلمي) عن عِلَلها شيئًا. أما الأذهان الدينية فليس بوسعها فقط أن تَعتقد بمعلولات لا تعرف علتها وربما لن تعرفها أبدًا، بل إنها لا ترى ضرورةً مُطلقة لافتراض أن لكل شيء علة، ويَميل العِلميون من الناس إلى أن يثقوا بحواسِّهم ويُكذِّبوا عواطفهم عندما تناقضها، بينما يميل الدينيون إلى تصديق العاطفة حتى لو كانت الخبرة الحسية مناقضة لها، والدينيون بصفة عامة هم الأكثر انفتاحًا عقليًّا؛ فافتراضهم بأن الحواس قد تخدع هو أقل غطرسةً من افتراض أنه ليس من غير طريق الحواس قد يُمكن لنا أن نبلغ الواقع؛ ذلك أنه كما قال دكتور مكتاجارت McTaggart ببراعة: «إذا كان إنسانٌ حبيسًا في منزل تكون شفافية النوافذ شرطًا ضروريًّا لأن يرى السماء، غير أنَّ من الحماقة أن نستنتج من ذلك أنه إذا مشى خارج المنزل فلن يمكنه أن يرى السماء لأنه لم يعد هناك أي زجاج يمكنه من خلاله أن يراها!»٤
إنَّ أمثلة التعصب العلمي شائعةً كالعليق، والمثال الكلاسيكي على ذلك هو موقف مِهنة الطب تجاه الطب غير التقليدي. أذكر أنني في خريف عام ١٩١٢ كنت أمشي خلال Grafton Galleries مع رجلٌ هو بالقطع واحدٌ من أقدر رجال العلم المعاصرين ويعدُّ واحدًا من أكثرهم استنارة، عندما نظر هذا الرجل إلى لوحة لهنري ماتيس تُمثل فتاةً صغيرة مع قطة، تعجب قائلًا: «ها أنا أكشف الأمر: إن صاحبنا مصابٌ بالاستجماتيزم.» ولقد كان ينبغي عليَّ أن أدع هذه اللمحة التهكُّمية تمضي دون تعليق باعتبارها من القفشات الرشيقة التي اشتهر بها أمراء العلم عن حقٍّ، والتي كثيرًا ما ينفحوننا بها حتى عندما لا يكونون بحضرة أعمالٍ فنية، لولا أن الأستاذَ تابَعَ كشفَه بجدية بالغة، مؤكدًا لي أخيرًا أنه لا توجد بالمعرض لوحةٌ واحدة تمتنع على تشخيص الرمد، ولما كنتُ لا أزال أتوسم فيه حسن النية؛ فقد أوعزت إليه، بتردد، أنه ربما يكون التفاوت بين رُؤى الإنسان السوي وبين اللوحات على الجدار راجعًا إلى تحريفٍ مقصودٍ من جانب الفنانين، وهنا ثارت ثائرة الأستاذ وقال بجدية: «أتُريد أن تقول لي إن هناك فنانًا واحدًا على ظهر الأرض لم يُرد أن يجعل موضوعاته أشبه ما يمكن بالحياة؟ اطرد من رأسك مثل هذا الهراء السخيف.» إنها الحكاية القديمة: «طهِّر عقلك من الزيغ» أي من أي شيء يبدو غير محتمل أو غير سائغ للدكتور جونسون.٥
والدينيون من الجهة الأخرى عرضةٌ لأن يشوبهم شيءٌ من التعصب ضد الحس المشترك common sense، ومِن جهتي فأنا أعترف أنني كثيرًا ما أنجرف إلى الاعتقاد بأن الرأي القائم على الحسِّ المشترك هو رأي خاطئ بالضرورة. لقد كان حسًّا مشتركًا أن حسبَ الناس قديمًا أن العالم لا بد أن يكون مسطَّحًا ولا بد أن الشمس تدور حوله، وما زال هذا ظنهم حتى انبرى أولئك النفر الخياليون الذين رأوا أن النظام الشمسي قد لا يكون بالبساطة التي ارتآها الحسُّ المشترك وأكَّدها، وليس قبل أن يفرض أولئك القوم أصواتهم أن تلقت هذه الآراء ضربةً شجت رأسها. لقد أعلن الدكتور جونسون، الممثل الأكبر للحسِّ المشترك البريطاني، إذ لحظ أسراب السنَونو تسفُّ فوق البحيرات والأنهار، أن من المؤكد أن هذه الطيور تنام طوال الشتاء، «إن عددًا منها يتكور معًا، بأن يطير ويطير في حلقة، ثم تَقذف هذه الطيور نفسها في كومةٍ إلى تحت الماء وترقد في قاع أحد الأنهار.» وكم كان حساسًا أيضًا حين تخلَّص من مثالية باركلي Berkeley’s Idealism — «ضاربًا بقدمه حجرًا كبيرًا بقوةٍ عنيفة.» «إنني أدحضها هكذا.» إنني لأسأل جادًّا: هل كانت نظرة الحس المشترك هي النظرة الصحيحة في أي وقت من الأوقات؟
منذ عهدٍ قريب كسب رجال الحس والعلم إلى جانبهم أنصارًا قدموا إلى قضيتهم أخص ما كانت تفتقر إليه؛ شيئًا من الفكر الجوهري. إن أولئك النفر البارعين والصادقين، أصحاب المذهب العقلي بكمبردج، وعلى رأسهم الأستاذ جورج مور G. E. Moore الذي أدين بفضلٍ كبيرٍ لكتابه «مبادئ علم الأخلاق» Principia Ethica، هم بطبيعة الحال دينيون للغاية ويعيشون بإيمانٍ مشبوبٍ بالقيمة المُطلَقة لحالاتٍ ذهنيةٍ معينة، كما أنهم وقعوا في حبِّ نتائج العلم ومناهجه، ورغم ذلك فهم يُدركون، لذكائهم البالغ، أن الحجج التجريبية لا تجدي شيئًا في تأييد نظريةٍ ميتافيزيقية أو في تفنيدها، وأن نتائج العلم جميعها قائمة في صميمها على منطقٍ سابقٍ على التجربة، وهم يدركون أيضًا أن العواطف هي واقعية بقدر واقعية الإحساسات؛ ومن ثم فإنهم يجدون أنفسهم في مواجهة الصعوبة التالية: إذا خطا شخصٌ خطوةً إلى الأمام ليقول إن لديه قناعةً قبْليةً a priori منزهةً عن الغرض بخيرية انفعالاته نحو القداس فإنه يضع نفسه في ذات موقف الأستاذ مور الذي يشعر بقناعةٍ مماثلة بخيرية انفعالاته نحو الحقيقة، فإذا حق للأستاذ مور أن يستدلَّ على خيرية إحدى الحالات الذهنية بالاستناد إلى مشاعره، فلماذا لا يحقُّ لغيره أن يستدلَّ على خيرية حالة ذهنية أخرى من مشاعره؟ إن عقليِّي كمبردج ليضيق صدرهم بمثل هؤلاء الخوارج، وهم (أي عقليو كمبردج) يؤكدون لهم ببساطة أنهم لا يشعرون حقًّا بما يقولون إنهم يشعرون به، ولقد بدأ بعضهم يُطبقون مناهجهم المفحمة على الإستطيقا، فيؤكدون لنا حين نُنبئهم بما نشعر به تجاه الشكل الخالص أننا في الحقيقة لا نشعر بشيء من ذلك، إلا أن هذه الحجة تصدمني دائمًا بافتقارها إلى الحذق.
وبقدر ما يكره رجلُ العلم الشائع أن يذكر الحقيقة أو أن يَسمع ذكرها، فهو لا يعرف غايةً للحياة غير العمر الطويل الهانئ. وها هنا نقطة التعارض ومنشبُ الجدل بينه وبين الديني؛ وهي أيضًا عذره في أن يكون داعيةً يوجيني.٦ إنه يأبى أن يعتقد في أي واقع غير واقع العالم الفيزيائي؛ فهو يجزم بهذا الواقع جزمًا دوجماويًّا؛٧ فالإنسان عنده هو حيوان يرغب مثل باقي الحيوانات في الحياة، وهو مزوَّد بحواس ويريد مثل باقي الحيوانات أن يُشبعها: وهو يُهيب بنا أن نجد في هذه الحقائق تفسيرًا لكل طموحٍ بشري؛ فالإنسان يريد أن يعيش ويريد أن يقضي وقتًا سعيدًا، ولكي يحقق هذه الغايات فقد ابتكر آليةً معقَّدة. إن جميع الانفعالات، في قول رجل العلم الشائع، يجب أن تردَّ إلى الحواس؛ فجميع العواطف الأخلاقية والدينية والجمالية مُستمَدة من الحاجات الجسمية، تمامًا مثلما تقوم الأفكار السياسية على غريزة الاجتماع التي هي ببساطةٍ نتاج رغبةٍ في الحياة الطويلة والمريحة. إننا نُطيع القانون الداخلي الذي يحظر ركوب دراجة على رصيف المشاة؛ لأننا نرى أن هذا القانون يؤدي بنا في النهاية إلى حياةٍ ممتدة وسائغة، ونحن لأسبابٍ مماثلةٍ جدًّا (هكذا يقول رجل العلم) نثني على الشخصيات الشهمة والأعمال الفنية الجليلة.

«ما هكذا الأمر.» كذلك يردُّ القديسون والفنانون وعقليو كمبردج وكل ذي معدنٍ طيب؛ لأنهم يشعرون بأنَّ عواطفهم الدينية والجمالية والأخلاقية ليست مشروطة بشكل مباشر أو غير مباشر بحاجاتٍ جسيمة، ولا هي في الحقيقة مشروطة بأي شيء في العالم الفيزيائي. إنهم يحسُّون أن بعض الأشياء خيرٌ لا لأنها وسائل إلى الهناءة الجسمية، بل لأنها خيرٌ في ذاتها، فليست قيمة النشوة الإستطيقية أو الدينية متوقِّفةً بأي حال على ما تقدَّمه من إشباعٍ جسمي، ثمة أشياء في الحياة لا يمكن لقيمتها أن تتعلق بالعالم الفيزيائي؛ أشياء قيمتها ليست نسبيةً بل مُطلَقة، عن هذه الأمور أتحدث بحذرٍ ودون سلطة، ولا يعورني في غرضي المباشر — وهو أن أعرض تصوُّري للشخصية الدينية — سوى أن أقول إنَّ من الناس من يبدو لهم التصور المادي للعالم مفسِّرًا لتلك العواطف التي يُحسُّونها بيقينٍ أعلى ونزاهةٍ مطلقة. حقيقة الأمر هي أن رجال العلم بعد أن دفعوا بنا إلى عادة محاولة تبرير مشاعرنا وحالاتنا الذهنية بردِّها إلى العالم الفيزيائي، قد حملوا بعضنا بالترهيب على أن يعتقدوا بأن ما لا يُمكن تبريره بهذه الطريقة فهو غير موجود.

إنني أدعوه دينيًّا ذلك الإنسان الذي يوقن أن هناك أشياءَ هي خيرٌ في ذاتها وأن الوجود الفيزيائي ليس من بينها، فيسعى على حساب الوجود الفيزيائي إلى ما يبدو له خيرًا؛ ومن ثم فإن كل أولئك الذين يعتقدون بإخلاص عنيد أن الحياة الروحية أهم من الحياة المادية، هم في فهمي دينيُّون. لقد رأيت في باريس على سبيل المثال رسامين صغارًا، مُفلسين ضامرين مقرورين مُهلهَلي الثياب، وليست زوجاتهم ولا أولادهم بأفضل منهم حالًا، رأيتهم طيلة يومهم في نشوةٍ محمومةٍ مُنغمِسين في رسم لوحاتٍ لا يؤمَّل لها رَواج، ومن الجائز تمامًا أنهم كانوا حريِّين بأن يَقتلوا أو يُصيبوا أي شخص يقترح عليهم التوفيق بين فنهم ومتطلبات السوق، وحين كانت أدواتهم تَنفَذ ورصيدهم ينقطع بالكامل كانوا يبيعون الجرائد خِفيةً ويمسحون الأحذية حتى يُمكنهم أن يواصلوا خدمة ولوعهم المسيطر، لقد كانوا دينيِّين بامتياز؛ فجميع الفنانين دينيون، وكل اعتقادٍ عنيدٍ هو اعتقادٌ ديني. إن إنسانًا تملَّكَه حُبُّ الحقيقة بحيث آثر السجن أو الموت على الاعتراف بإلهٍ لا يؤمن بوجوده، هو إنسانٌ ديني وشهيد في سبيل الدين شأنه شأن سقراط ويسوع؛ ذلك أنه جعل لقيَمِه معيارًا خارج العالم الفيزيائي.

يقال في مجال الأشياء المادية إنَّ نصف رغيف خيرٌ من انعدام الخبز، لكن الأمر في مجال الأشياء الروحية غير ذلك. إن رجل السياسة سوف يؤيد مشروع قانونٍ يَعرِف قصوره إذا ما رأى أن هذا القانون قد يعود بفائدةٍ ما، إنه يُدلي باعتراضاته ثم يصوت مع الأغلبية، وربما يكون تصرُّفه سليمًا، أما في المسائل الروحية فمثل هذه التسويات غير مُمكنة، إن الفنان لا يسعه أن يقدم تنازلًا لكي يرضي الجمهور؛ لأنه إذا فعل ذلك يكون قد ضحَّى بالشيء الذي يجعل للحياة قيمة، فإذا كان عليه أن يكذب ويُعبِّر عن شيء غير ما يشعر به فلن يعود مسكونًا بالحقيقة، وماذا يُجديه أن يربح العالم كله ويخسر روحه الخاص؟ إنه يعرف أن في دخيلته شيئًا أهم من الوجود الفيزيائي، شيئًا ليس الوجود الفيزيائي إلا وسيلة إليه؛ فوجود احتمالٍ بأن يحسَّ هذا الشيء ويعبر عنه يجعل من الخير له أن يتشبَّث بالحياة، ولكنه ما لم يشعر بهذا الشيء ويعبر عنه على خير وجه فمن الأفضل له أن يموت.

الفن والدين إذن طريقان بهما يهرب البشر من الحدث العرضي إلى الوجد، وبين الوجد الإستطيقي والوجد الديني ترابطٌ أسري؛ فالفن والدين وسائل إلى حالات ذهنية متشابهة، وإذا جاز لنا أن نتغاضى عن علم الإستطيقا ونتفحص، متجاوزين انفعالنا وموضوعه، ما في ذهن الفنان، فقد نقول (بتبسطٍ كبير) إنَّ الفن من تجليات الحس الديني، فإذا كان الفن تعبيرًا عن انفعال — مثلما هي قناعتي — فهو تعبير عن ذلك الانفعال الذي هو القوة الحيوية في كل دين، أو هو على أيَّة حال يُعبِّر عن انفعال نحو ذلك الذي هو جوهر الكل، وقد نقول إن كلًّا من الفن والدين هو من مظاهر الحسِّ الديني للإنسان، إذا كنا نعني ﺑ «الحس الديني للإنسان» حسَّه بالواقع النهائي. أما الذي يَجمُل بنا ألا نقوله فهو أن الفن تعبير عن أي ديانة معيَّنة؛ لأننا بذلك نخلط بين الرُّوح الدينية وبين القنوات التي أُجبرت فيها هذه الروح أن تجري. إنه خلطٌ بين النبيذ والقارورة؛ فقد يكون للفن شأن كبير بذلك الانفعال الكوني الذي وجَد تعبيرًا فاسدًا ومتلعثمًا في ألف عقيدة مُختلفة: ولكنه لا شأن له بالوقائع التاريخية والخيالات الميتافيزيقية، ومما يؤكِّد ذلك أن كثيرًا من فنون التصوير الوصفي هو أبواق دعاية وشروحٌ للعقائد الدينية، وهو أيضًا استعمال مناسب جدًّا للتصوير الوصفي، ويقينًا أن موطن الضعف في كثير من الصور الجيدة هو العنصر الوصفي المُقحَم من أجل التهذيب والإرشاد، ولكن بقدر ما تكون صورةٌ ما عملًا فنيًّا فلن يكون لها شأن بالعقائد والنظريات أكثر من شأنها باهتمامات الحياة اليومية وانفعالاتها.

(٢) الفن والتاريخ Art and History

على أن هناك صلة بين الفن والدين، حتى بالمعنى الشائع والمحدود للكلمة، هناك صلة تاريخية: أو بمعنى أدق هناك صلة أساسية بين تاريخ الفن وتاريخ الدين. إن الأديان لا تتحلى بالحيوية والصدق ما لم تكن مُفعَمةً بما يُفعم كل فنٍّ عظيم — الخميرة الروحية. ومن الخطأ، على ذكر ذلك، أن نفترض أن الدين الدوجماوي لا يُمكن أن يكون حيويًّا وصادقًا. إنَّ بالعواطف الدينية ميلًا إلى أن تُلقي بمرساتها إلى العالم الأرضي بواسطة سلسلة من الدوجما، هذا الميل هو العدو المندس داخل كل حركة دينية، وقد يكون الدين الدوجماوي حيويًّا وصادقًا، بل إن اللاهوت والشعيرة كانا فيما مضى هما بوق الثورات الروحية وطبلها، غير أن العصور الدينية الدوجماوية أو الخالية من الفكر، عصور الفورة الروحية إذ يعلي الناس الروح فوق الجسد والعواطف فوق الفكر، هي العصور التي يشيع فيها الإحساس بالدلالة الروحية للعالم. الأمر إذن هو أمر بشرٍ يَقطنون على تخوم الواقع ويُصغون بشغف إلى حكايا الرحالة، هكذا قدَّر أن تكون العصور الدينية الكبرى هي بعامة العصور الكبرى للفن، أما حين يأخذ حسُّ الواقع في التبلُّد ويتضلَّع الناس في التلاعب بالنعوت والرموز ويَصيرون أكثر آليةً وتدجينًا وتخصُّصًا وأقل قدرةً على الإحساس المباشر بالأشياء، هنالك تَهِن قدرتهم على الهروب إلى عالم الوجد ويبدأ الفن والدين في الانحدار، حين يَفتقر الأغلبية إلى الانفعال الذي منه جُبل الفن والدين، ويَفتقرون حتى إلى الحساسية التي يَستجيبون بها لما تُقدمه القلة التي لا تزال قادرةً على الإبداع، عندئذٍ يُصاب الفن والدين بالعرج، وبعدها لا يتبقى للفنِّ والدين إلا اسمُهما، ويسمى الإيهام والملاحة فنًّا، وتسمى السياسة والابتذال العاطفي دينًا.

والآن، إذا كنتُ مصيبًا فيما أراه من أن الفن هو مظهر — علامة لا تعبير — للحالة الرُّوحية للإنسان، فنحن في تاريخ الفن إذن سنقرأ التاريخ الروحي للجنس البشري، وليس من المستغرب عندي أن أولئك الذين كرَّسوا حياتهم لدراسة التاريخ لا بد أن يستاءوا حين يأتي شخصٌ مثلي يعترف بأن فهمه مقصور على طبيعة الفن ويُلمِّح بأن فهمه لعمله قد يؤهله للحكم على عملهم، فلأكن دمثًا إزاءهم جهد ما أستطيع. إنني آخر من يحقُّ له، وآخر من يميل حقًّا إلى أن يدَّعي شرف التلقب بلقب «عالم تاريخي»، فليس أحدٌ أقل مني التفاتًا إلى اللغو التاريخي أو يَفوقني حيرةً في فهم ما يراد ﺑ «علم التاريخ» على وجه الدقة. غير أنه إذا كان للتاريخ أن يكون أكثر على أي نحو من مجرد سجلٍّ للتسلسُل الزمني للوقائع، وإذا كان له أن يُعنى بتحولات العقل والروح، فإن لي إذن أن أؤكد أننا لكي نقرأ التاريخ قراءةً صحيحة فلا بد لنا من أن نعرف الأعمال الفنية التي أنتجها كلُّ عصر، بل أن نعرف أيضًا قيمتَها كأعمالٍ فنية، وإذا كانت الدلالة الإستطيقية للأعمال الفنية، أو انعدام الدلالة، شاهدةً حقًّا على الحالة الرُّوحية؛ فإن الشخص الذي لدَيه القدرة على إدراك الدلالة لا بد أن يكون في وضعٍ يَسمح له بأن يُدلي بدلوه فيما يتعلَّق بالحالة الروحية للأشخاص الذين أنتجوا تلك الأعمال ولأولئك الذين تذوَّقوها، وإذا كان للفن أن يكون ذلك الشيء الذي يفترض دائمًا أن يكونه، فإن تاريخ الفن لا بد أن يكون فهرسًا للتاريخ الرُّوحي للجنس البشري، يبقى أن المؤرِّخ الذي يريد أن يستخدم الفن كفهرس ينبغي ألا تقتصر ملكاته على الملاحظة الدقيقة لرجل العلم وعالم الآثار، بل أن يمتلك أيضًا حساسية مُرهَفة؛ ذلك أن الدلالة الإستطيقية للعمل هي ما يقدم مفتاحًا لفهم الحالة الذهنية التي أنتجته؛ ومن ثم فإن القدرة على نسبة عملٍ فني معين إلى حقبة معينة لا تغني فتيلًا ما لم تصحبها قدرةٌ أخرى على إدراك دلالته الإستطيقية.

هل يتعيَّن علينا لكي نفهم تاريخ عصر من العصور فهمًا كاملًا أن نعرف تاريخ الفن في ذلك العصر ونفهمه؟ يبدو ذلك، إلا أن هذه الفكرة لا يحتملها علماء التاريخ، وإلا فأية نازلةٍ تحلُّ بالمبدأ العلمي الأكبر: مبدأ انقسام العلم إلى مباحث مستقلةٍ مسيَّجة منيعة؟ مرة أخرى هذا مبدأٌ جائر؛ إذ من المتيقن أننا لكي نفهم الفن فلن نحتاج إلى معرفة أي شيء كان عن التاريخ، ونحن ربما كان بإمكاننا أن نستمد من الأعمال الفنية استدلالات عن نوعية الأشخاص الذين صنعوها، إلا أن محادثاتنا مع أحد الفنانين مهما تكن طويلة وحميمة فهي لن تُنبئنا إن كانت لوحاته جيدةً أم رديئة، إنما يتعين علينا أن نشاهدها، وعندئذٍ سوف نَعرف؛ فقد أكون متحيزًا أو غير صادق فيما أقول عن العمل الفني لصديقي، غير أن دلالة العمل الإستطيقية ليست أوضح لي من دلالة عمل فني فرغ منه مُبدعه منذ خمسة آلاف عام، فلكي ندرك عملًا فنيًّا إدراكًا كاملًا فلسنا بحاجة لشيءٍ غير الحساسية. إن الفن ليتحدث عن نفسه إلى من يستطيعون سمعًا، بينما لا تتحدث الوقائع والتواريخ بشيء، وعلى المرء إن أراد أن يغزل شيئًا من هذه المادة أن يتلقط المعلومات من النجود والأغوار التماسًا لنتفٍ من الأخبار والاقتراحات المساعدة، وليس تاريخ الفن استثناء لهذا المبدأ، فإذا شئتُ أن أدرك فن شخص فلستُ بحاجةٍ إلى أن أعرف أي شيء عن الفنان، وبوسعي أن أحكم إن كانت هذه اللوحة أفضل من تلك دون عون من التاريخ، أما إذا حاولتُ أن أبين أسباب تدهور فنه فسوف يعينني أن أعرف أنه قد أُصيب بمرضٍ خطير، أو أنه قد تزوَّج امرأةً دفعتْه إلى أن ينتج للارتزاق فقط؛ فأنا حين أتبيَّن التدهور إنما أقيم حكمًا إستطيقيًّا بحتًا، وحين أُعلِّل له أتحول إلى مؤرِّخ، يتعيَّن إذن أننا لكي نفهم تاريخ الفن يَنبغي أن نعرف شيئًا عن أنواع أخرى من التاريخ، وربما يكون الفهم الدقيق لأي نوع من التاريخ منوطًا بفهم كل نوع من التاريخ، ربما يكون تاريخ أي عصر أو حياة هو كلٌّ لا يتجزَّأ، وتلك فكرة أخرى لا يَحتملونها! فأي خطبٍ يلمُّ بالمتخصِّص؟ ماذا يكون مصير تلك الخلاصات التاريخية الهائلة التي تفصل فيها أنشطة الإنسان المتعددة عن بعضها البعض بحرصٍ شديد؟ إنَّ العقل ليُجفل رعبًا من الرؤية الهولية لاستنتاجاته الخاصة.

ولكن هل يَعنيني هذا الأمر على أية حال؟ إنني لستُ مؤرِّخًا للفن ولا لأي شيء آخر، ولا يُهمُّني بحالٍ متى صُنعت الأشياء أو لماذا صُنعت، إنما تعنيني دلالتها الانفعالية بالنسبة لنا، فكل شيء عند المؤرِّخ هو وسيلةٌ لوسيلةٍ معينة أخرى. أما بالنسبة لي فكل ما يهمُّ هو وسيلة مباشرة للانفعال. إنني أكتب في الفن لا في التاريخ، وليس يَعنيني التاريخ إلا بقدر ما يُسعفني في إيضاح فرضيَّتي، ولا يعنيني في شيء أصدق التاريخ أم كذب؛ حيث إن نظريتي غير قائمة على التاريخ بل على الخبرة الشخصية، وليست مُستندة إلى الوقائع بل إلى المشاعر؛ فالصدق والكذب التاريخيان لا وزن لهما عند من يُحاولون التعامل مع حقائق الواقع؛ فهؤلاء لا يُعوزهم أن يسألوا «هل حدث هذا؟» بل يعوزهم أن يسألوا فحسب «هل أشعر بهذا؟» ومن حسن حظِّنا أن الأمر كذلك؛ إذ لو كان على أحكامنا عن الأشياء الواقعية أن تَنتظِر حتى يأتيها اليقين التاريخي فقد يكون عليها أن تَنتظِر إلى الأبد، إلا أنَّ من الشائق أن ننظر إلى أي حدٍّ يتَّفق ما نحن واثقون منه مع ما يجب أن نتوقَّعه. لقد كانت فرضيتي الإستطيقية — أن الصفة الجوهرية في أي عمل فني هي الشكل الدال — قائمة على خبرتي الإستطيقية، وأنا من خبراتي الإستطيقية على ثِقة. أما عن فرضيتي الثانية — أن الشكل الدالَّ هو تعبير عن انفعال خاص تجاه الواقع — فلستُ واثقًا منها بحال، ورغم ذلك فإنني أفترض أنها صحيحة وأمضي قدمًا فأقترح أن حسَّ الواقع هذا يجعل الناس تُولي الدلالة الرُّوحية للعالم أهميةً أكبر من الدلالة المادية، وأنه يجعلهم أميل إلى الشعور بالأشياء كغايات بدلًا من تمييزها كمجرد وسائل، وأن حسًّا بالواقع هو في حقيقة الأمر جوهر الصحة الرُّوحية، فإن صحَّ ذلك فسوف نتوقع أن نجد أن العصور التي توقَّف فيها إبداع الشكل الدال هي عصور بات فيها حسُّ الواقع كليلًا، وأن هذه العصور هي عصور فقرٍ رُوحي، وسوف نتوقع أن منحنيات الفن ومنحنيات التوقد الروحي تصعد معًا وتهبط معًا. وفي الفصل القادم سألقي نظرةً على تاريخ دورةٍ من دورات الفن بقصد تتبُّع حركة الفن واكتشاف مدى مواكبة تلك الحركة للتغيُّرات التي تعتور الحالة الروحية للمجتمع. إنَّ وجهة نظري عن صعود الفن في العالم المسيحي وانحداره وسقوطه قائمةٌ بالكامل على سلسلة من الأحكام الإستطيقية المستقلة أثق بصحتها ثقةً كبيرة وأعتد كثيرًا بذلك. إنني أدعي القدرة على التمييز بين الشكل الدال والشكل غير الدال، وسوف يُشوِّقني أن أنظر إن كان انحدارٌ في دلالة الأشكال — أي تدهور الفن بتعبيرٍ آخر — يتزامن بصفة عامة مع هبوط الحس الديني، وسوف أتوقع أن أجد أنه حيثما سمح الفنانون لأنفسهم أن تضل عن مهمتها الحقيقية، وهي خلق الشكل، تحت إغراء اهتماماتٍ أخرى غير ذات صلة بالفن؛ فإن المجتمع يكون إذاك في تفسُّخٍ روحي، وأتوقع أن العصور التي ضاع فيها حس الدلالة الشكلية تمامًا في غمرة الانشغال بالواضح سوف يُثبِت أنها كانت عصور قحطٍ رُوحي؛ ولذا فإنني فيما أتتبع مصاير الفن خلال أربعة عشر قرنًا من الزمان سوف أحاول أن أضع نصب عيني ذلك الشيء الذي قد يكون الفن مظهرًا له — أعني حسَّ الإنسان بالواقع النهائي.

أن ننقد عملًا من أعمال الفن نقدًا تاريخيًّا هو أن نتصرَّف بسخف مَن أسكرَه العلم، فلم يحدث قط أن صدر عن دماغ مشعوذٍ نظريةٌ أكثر شؤمًا من نظرية التطور في الفن. إن جوتو لم يزحف، يرقةً، حتى يُرفرف تيتيان، فراشة، إن من إساءة الفهم لفن شخصٍ ما أن نعتبره مؤديًا إلى فنِّ شخص آخر؛ فإطراء عملٍ فني أو تسفيهُهُ أو الاهتمام به لأنه يؤدي أو لا يؤدي إلى عملٍ فني ثان، هو بمثابة اعتباره شيئًا آخر غير عمل فني؛ فقد تكون للصلة بين عمل فني وآخر شأنٌ كبير بالتاريخ، ولكن هيهات أن يكون لها شأن بالتذوق الفني؛ فما إن نشرع في النظر إلى عمل ما دون اعتباره غايةً في ذاته حتى نكون قد غادرنا عالم الفن؛ فرغم أن التطور في فنِّ التصوير من جوتو إلى تيتان قد يكون ذا أهمية من الوجهة التاريخية، فما كان له أن يؤثر على القيمة الفنية لأية لوحة معيَّنة؛ فذاك أمرٌ غير ذي بالٍ على الإطلاق من الوجهة الإستطيقية. إن كل عمل من أعمال الفن ينبغي أن يُقيَّم وفق حالته الموضوعية ودون تأثر بأي اعتبارات أخرى.

ليكن القارئ إذن على ثقة بأني لن أقوم في الفصل القادم بوضع أحكام إستطيقية في ضوء التاريخ، بل سأقوم بقراءة التاريخ في ضوء أحكام إستطيقية؛ فبعد أن أضع أحكامي، بمعزلٍ عن أية نظرية إستطيقية أو غير إستطيقية، سأكون مشوَّقًا لأن أرى إلى أي حدٍّ تتفق النظرة التاريخية التي قد تستند إلى هذه الأحكام مع الفرضيات التاريخية المقبولة، فإذا صحَّت الأحكام التي وضعتها والتواريخ التي يقدمها المؤرخون لترتَّب على ذلك أن بعض العصور قد أنتجت فنًّا أجود من بعضها الآخر، ولكن مما لا خلاف عليه حقًّا أن التنوع في الدلالة الفنية للعصور المختلفة هو تنوعٌ هائل، وسوف يُشوِّقني أن أرى نوع العلاقة التي يمكن أن تتأسَّس بين الفن والعصر الذي أنتجه، وإذا صحَّت فرضيتي الثانية (أن الفن هو تعبير عن انفعالٍ نحو الواقع النهائي) فإن العلاقة بين الفن وعصره ستكون علاقةً محتومةً ووثيقة. في تلك الحالة سيَنطوي كل حكمٍ إستطيقي على نوع معيَّن من الحكم عن الحالة الذهنية العامة للفنان ومحبِّيه المعجبين به، الحق أن كل مَن يقبل فرضيتي الثانية قبولًا مطلقًا بكل متضمَّناتها الممكنة — وهو أمرٌ يفوق ما أريد أن أفعله — فلن يَكتفي بأن يرى في تاريخ الفن التاريخ الروحي للجنس البشري، بل لن يسعه أبدًا أن يفكر في أحدهما دون أن يفكر في الآخر.

فإذا كنتُ لا أشتط في الرأي إلى هذا الحد، فإنني أقترب منه كثيرًا؛ فمن المتيقن أن اعتبار الفن مفتاحًا للتاريخ هو رأي أكثر استساغةً وأقل امتناعًا من أن نتخيل أن التاريخ يمكن أن يعيننا على إدراك الفن، إنني أبحث في عصور التوهج الروحي عن الفن العظيم، ولستُ أعني بعصور التوهج الروحي العصور السعيدة أو الرومانسية أو الإنسانية أو المستنيرة، إنما أعني العصور التي كان فيها الناس لسببٍ أو لآخر مكترثين بأرواحهم اكتراثًا فائقًا، وغير مكترثين بأجسادهم. لقد كانت هذه العصور في نصف الحالات عصور خرافة وقسوة؛ فقد يؤدي الانشغال بالرُّوح إلى الخرافة، ويؤدي الاستخفاف بالجسد إلى القسوة، وما قلتُ على الإطلاق إن عصور الفن العظيم كانت عصور تعاطفٍ مع الطبقات الوسطى؛ فالفن والحياة الهادئة، في ظني، مُتنافران، ولا بدَّ كي يوجد الفن من وجود بعض التوتر والاضطراب؛ فهل عليَّ أن أضيف أنه في أدفأ عصور المادية قد يظهر فنانون عظام ويَزدهِرون؟ نعم بالطبع، ولكن حيثما يكن إنتاج الفن العظيم شائعًا متدفِّقًا متوافرًا سأتوقع أن أجد جيلًا مُتململًا قلقًا، كذلك كلما تبيَّنتُ حقبةً من الفورة الروحية، فسوف أبحث غير بعيدٍ عن تمثُّلها في شكلٍ دال، غير أن الفورة يجب أن تكون روحيةً وأصيلة، فما يكون لدوامةٍ من العاطفية أو السعار السياسي أن تثير شيئًا رفيعًا،٨ فإلى أي حد يؤدي الوجد العام إلى تنشيط إنتاج الفن أو تؤدي الأعمال الفنية إلى الوجد العام في عصرٍ معيَّن من العصور؟ هذا ما سوف يتضح عندما أحاول في الفصل القادم أن أرسم مخططًا للمنحدر المسيحي: صعوده وانحداره وسقوطه.

(٣) الفن والأخلاق Art and Ethics

يبقى بيني وبين المواضع السارة من التاريخ رغم ذلك حاجزٌ صفيقٌ واحد؛ فليس بوسعي أن ألهو وأُخضخض في بِرَك الماضي وضحله قبل أن أجيب عن سؤال هو من العبث بحيث لا يكل الحمقى من ترديده: «ما هو التبرير الأخلاقي للفن؟» إنَّهم على حقٍّ بالطبع أولئك الذين يُلحُّون على أنَّ إبداع الفن يجب أن يُبرَّر على أساس أخلاقي؛ فجميع النشاطات البشرية يجب أن تبرر أخلاقيًّا. إن من صلاحيات الفيلسوف أن يطالب الفنان بإثبات أن ما يقوم به هو إما خير في ذاته وإما وسيلة إلى الخير، وإن من واجب الفنان أن يجيب: «الفن خير؛ لأنه يعلو بنا إلى حالة من النشوة أفضل بكثير مما يُمكن أن يخطر ببال الداعية الأخلاقي البليد الحس، وفي هذا وحده الكفاية.» إن الفنان على حق من الوجهة الفلسفية، كل ما في الأمر أن الفلسفة ليست بهذه البساطة التي يجيب بها الفنان، فلنُحاول إذن أن نجيب بطريقة فلسفية.

يُحقِّق الداعية الأخلاقي فيما إذا كان الفن إما خيرًا في ذاته وإما وسيلة إلى الخير، وقبل أن نجيبه علينا أن نسأل ماذا يعني بكلمة «خير»، لا لأن لدينا بها أدنى شك، بل لنحمله على أن يفكر. الحق أن الأستاذ جورج مور G. Moore قد أثبت بصفةٍ نهائية تقريبًا في كتابه «مبادئ علم الأخلاق» Principia Ethica أننا جميعًا بكلمة «خير» نعني الخير ولا أكثر؛ فكلنا نعرف جيدًا ما نعنيه رغم عجزنا عن تعريفه، فكلمة «خير» لا يمكن أن تعرف أكثر مما تعرف كلمة «أحمر»: ﻓ «الكيفية» quality لا يمكن أن تعرف، غير أننا نعرف تمامًا ما نعنيه عندما نقول عن شيء إنه «خير» أو «أحمر»، ذاك حقٌّ بلغ من الوضوح مبلغًا أقلق الفلاسفة التقليديين (ولا نَقول أغضبهم) قلقًا عظيمًا.
إنَّ الفلاسفة التقليديِّين لا يوافقوننا بحالٍ حول ما نعنيه بكلمة «خير»، وكل ما هم واثقون منه هو أننا لا يُمكننا أن نعني ما نقول، ولا يزالون مُغرمين بافتراض أن «الخير» يعني اللذة، أو أن اللذة على أيِّ حالٍ هي الخير الوحيد الذي يُعدُّ غايةً. هاتان قضيتان مختلفتان غاية الاختلاف، أن الخير يعني اللذة، وأن اللذة هي الخير الوحيد، كان هذا رأي الهيدونيين Hedonists (أصحاب مذهب اللذة) وما زال هو رأي أيِّ فلولٍ من النفعيين Utilitatians (أصحاب مذهب المنفعة) تكون قد بقيَت إلى غضون القرن العشرين، إنهما تتشرَّفان بلقب المغالطتَين الأخلاقيتَين الوحيدتَين اللتَين تستحقان عناء أي كاتب في الفن، ولستُ أتصور لمحةً منطقية أكثر رهافةً وإقناعًا مما قاله الأستاذ مور في دحض القضيتَين معًا، ولكن ما يكون لي أن أفعل بتعثُّرٍ ما فعله الأستاذ مور بتأنق، ولن أُستدرج إلى محاولة نسخ جدلياته فأجلب على نفسي سخرية المُلمِّين بكتاب «مبادئ علم الأخلاق» أو أُفسد متعة غير الملمِّين به ممَّن سيفعلون عين الصواب حين يلتهمون هذه الرائعة الدقيقة والمنهجية، إنما يلزمني لغرضي الحالي أن أستعير سهمًا واحدًا فقط من تلك الترسانة العامرة.

سأوجه هذا السؤال إلى من يؤمن بأن اللذة هي الخير الوحيد: هل يتحدَّث، شأنه شأن جون ستيوارت مِل أو أي شخص آخر سمعت به، عن لذاتٍ «أعلى وأدنى» أو «أجود وأردأ» أو «رفيعة ووضيعة»؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يدرك أنه قد تخلى عن قضيته؟ إذ عندما يقول بأن إحدى اللذات «أعلى» أو «أفضل» من الأخرى فهو لا يعني أنها أكبر في «الكم» بل أرفع في «الكيف».

في صفحة ٧ من كتاب «المذهب النفعي» Utilitarianism يقول جون ستيوارت مِل J. S. Mill: «إذا كانت إحدى اللذتين، لدى أولئك الذين يُلمون إلمامًا كافيًا بالاثنتين، تَتَسنَّم مرتبةً أعلى من الأخرى بحيث يفضلونها عليها رغم علمهم بأنها مصحوبة بقدر أكبر من القلق، ولا يتنازلون عنها مقابل أي كم من اللذة الأخرى التي يقدرون عليها بطبيعتهم، فإن لنا أن نعزو إلى المتعة المفضَّلة تفوقًا في الكيف يرجح الكم رجحانًا يجعله ضئيلَ القيمة عند المقارنة».
ولكن إذا صحَّ أن اللذة هي الخير الوحيد، لما أمكن أن يكون هناك سوى معيار واحد لتقدير اللذات — هو كمية اللذة. ولما أمكن لكلمة «أعلى» أو «أفضل» أن تعني غير الاشتمال على لذةٍ أكثر، أما الحديث عن «لذات أفضل» بأي معنى آخر فهو يجعل خيرية الخير الوحيد المعتبَر كغايةٍ في ذاته مُعتمدةً على شيء ما هو «بحكم الفرضية» ex hypothesi ليس خيرًا في ذاته. إن مِل Mill أشبه بشخصٍ جعل صفة الحلاوة هي الصفة الخيِّرة الوحيدة في المربى ثم أعلن أنه يُفضِّل مربى تيبري على مربى كروس وبلاكويل، لا لأنها أكثر حلاوة بل لأنها تحوز نوعًا أفضل من الحلاوة، وهو إذ يفعل ذلك يكون قد تخلَّى عن صفة الحلاوة كمعيارٍ نهائي ونصَّب مكانها صفة أخرى. إذن عندما يتحدَّث مِل، شأن أي شخص آخر، عن لذاتٍ «أفضل» أو «أعلى» أو «أرفع» فإنه يتخلى عن اللذة كمعيار نهائي، وبذلك يعترف أن اللذة ليست هي الخير الوحيد. إنه يشعر أن بعض اللذات أفضل من بعض، ويُقدِّر لكلٍّ منها قيمتها وَفق درجة اشتمالها على تلك الكيفية التي نميِّزها جميعًا ولكن لا يقدر أحد على تعريفها؛ وهي صفة الخيرية goodness، فحين نقول: لذات أعلى وأدنى، رفيعة ووضيعة، فنحن نعني ببساطة «لذات» أكثر «خيرًا» أو أقل خيرًا؛ فهناك إذن كيفيتان مختلفتان؛ اللذاذة والخيرية؛ فاللذة، بين غيرها من الأشياء قد تكون خيرًا، ولكن اللذة لا يمكن أن تعني الخير، ونحن لا يمكن بكلمة «خير» أن نعني «لذيذ»؛ لأن هناك كما رأينا صفة، هي الخيرية، متميزة عن اللذة بحيث إننا نتحدث عن لذات أكثر أو أقل خيرًا دون أن نعني لذات أكثر أو أقل لذاذة، نحن إذن بكلمة «خير» لا نعني اللذة، ولا اللذة هي الخير الوحيد.
ويمضي الأستاذ مور Moore قُدمًا ليتساءل أي الأشياء هي خير في ذاتها؛ أي كغاية بتعبير آخر، وخلص إلى نتيجةٍ نوافق عليها جميعًا (على قلة من عثر منا في يوم من الأيام على حجج مقنعة ومنطقية تثبت هذه النتيجة): يبين مور أن «حالات ذهنية» states of mind معيَّنة هي وحدها الخير بوصفه غاية، أما أولئك الذين لا يسيغون المنطق إلا أقل القليل فسوف يجدون برهانًا بسيطًا ومرضيًا على هذه النتيجة فيما يسمى ﺑ «منهج العزل» method of isolation.
من شأن الشيء الذي هو خير كغايةٍ في ذاته أن يحتفظ على كل حال ببعض قيمته حين يُعزَل عزلًا تامًّا. إنه سيحتفظ بكل قيمته كغاية، أما الشيء الذي هو خير كوسيلةٍ فحسب فسوف يَفقِد كل قيمته بالعزل. إن ذلك الذي هو خير كغاية سيبقى ذا قيمة حتى حين تسلب منه كل نتائجه ولا يُترك له إلا وجودُه المحض؛ ومن ثم فنحن لن يسعنا أن نكتشف ما إذا كنا حقًّا نشعر تجاه شيء ما بأنه «خيرٌ كغاية» ما لم نتمكَّن من تصوره في انعزال تام، ونتأكد أنه يظل ذا قيمة وهو معزول. إن الخبز خير، فهل الخبز خير بوصفه غاية أم بوصفه وسيلة؟ تصور رغيفًا موجودًا في كوكبٍ غير مأهول وغير قابل للسُّكنى، فهل يبدو كأنه يفقد قيمته؟ إن مثال الرغيف مُغالٍ في السهولة بعض الشيء، فلننظر في العالم الفيزيائي، إنه يبدو لمعظم الناس خيرًا بدرجةٍ هائلة، ذلك أنهم يشعرون نحو الطبيعة باستجابة انفعالية عنيفة تضع على شفاههم النعت «خير» good، ولكن هب أن العالم الفيزيائي لا يمتُّ لعقلٍ بصلة، وأنه ليس من شأنه أبدًا أن يُثير استجابةً انفعالية، وليس من شأن أي عقل أن يتأثَّر به، وأنه ليس له عقل خاص به، فهل يظلُّ هذا العالم يبدو خيرًا؟ افترض أيضًا أن هناك كوكبَين أحدهما خلوٌ من الحياة وسيظل خلوًا أبدًا، والآخر توجد به شظية من بروتوبلازم حيٍّ بالكاد ولن ينمو أبدًا ولن يَصير واعيًا على الإطلاق، فهل يسعنا أن نقول بحق إننا نحسُّ أن أحدهما خير من الآخر؟ هل الحياة نفسها خيرٌ كغاية؟ إن ما يجعل الحكم القاطع أمرًا صعبًا هو حقيقة أن المرء لا يمكنه أن يتصوَّر أي شيء دون أن يشعر نحوه بشيءٍ ما؛ فتصوُّرات المرء نفسها تُثير حالات ذهنية وبذلك تكتسب قيمةً كوسيلة، فلنسأل أنفسنا بصراحة: هل يُمكن لأي شيء ليس له عقل وليس يؤثر في أي عقل أن تكون له قيمة؟ كلا بالتأكيد، بينما يُمكن لأي شيء له عقل أن تكون له قيمة باطنة، ويُمكن لأي شيء يؤثر في عقل ما أن يُصبِح ذا قيمة بوصفه وسيلة، من حيث إن الحالة الذهنية التي ينتجها قد تكون لها قيمة في ذاتها، ولتعزل (في تصورك) ذلك الذهن؛ اعزل الحالة الذهنية لإنسانٍ في حالة حبٍّ، أو إنسان مُستغرق في التأمل. إنه لا يبدو أنه يفقد كل قيمته، «لاحظ» أنني لا أقول إن قيمته لا تنقص؛ فمن الواضح أنه يفقد قيمته كوسيلة لإنتاج حالات ذهنية خيِّرة لدى الآخرين، غير أن هناك قيمة معينة تدوم بالفعل، إنها قيمة باطنة.

اعمر الكوكب الموحش بعقلٍ إنساني واحد، يُصبح كل جزء من هذا الكوكب ذا قيمة كامنة كوسيلة؛ لأنه قد يكون وسيلة إلى ذلك الشيء الذي هو خير كعادته؛ أعني حالة ذهنية خيرة، إن الحالة الذهنية لشخصٍ في حالة حبٍّ أو مُستغرق في التأمل تكفي في ذاتها؛ فنحن لا نعود نتساءل «أيُّ غرض نافع تُقدِّمه هذه الحالة، أيُّ شخصٍ تفيده، وكيف؟» بل نقول بمباشرة واقتناع: «هذا خير.»

عندما نُطالب بتبرير ما نراه من أن أي شيء، عدا حالة ذهنية، هو خير، فإننا إذ نشعر أن هذا الشيء هو مجرَّد وسيلة، نفعل عين الصواب حين نتلمَّس آثاره الخيِّرة، ويكون تبريرنا النهائي دائمًا هو أنه يؤدي إلى حالات ذهنية، هكذا عندما نُسأل لماذا ننعت سمادًا منثورًا بأنه خير، فقد نُبيِّن (إن أمكننا أن نجد مُستمعًا!) أن السماد وسيلة إلى المحصولات الجيدة، والمحصولات الجيدة وسيلة للغذاء، والغذاء وسيلة إلى الحياة، والحياة شرط ضروري لحالات ذهنية خيِّرة، وأبعد من ذلكم لا يمكن أن نمضي، وعندما نسأل لماذا نعتقد أن حالة ذهنية معينة هي خير، ولتكن حالة التأمل الإستطيقي مثلًا، فإن حسبنا أن نجيب بأن خيريتها بالنسبة لنا هي أمرٌ واضح بذاته self-evident، فبعض الحالات الذهنية تبدو خيرة بمعزل عن نتائجها، ولا شيء عدا هذه الحالات يبدو خيرًا بهذه الطريقة، نخلُص من ذلك إلى أن الحالات الذهنية الخيرة هي وحدها خير كغايةٍ في ذاتها.
علينا لكي نُبرر أي نشاط إنساني تبريرًا أخلاقيًّا أن نتساءل: «هل هذا النشاط هو وسيلة إلى حالات ذهنية خيرة؟» أما في حالة الفن فإن جوابنا سيكون فوريًّا وإمباثيًّا empathic؛٩ فالفن ليس فقط وسيلة إلى حالات ذهنية خيرة، بل ربما يكون أقوى الوسائل التي في حوزتنا وأكثرها مباشرة وقوة، إنه أكثرها مباشرةً لأنه لا شيء أسرع منه تأثيرًا في الذهن، ولا شيء أكثر قوة وفعالية؛ لأنه لا توجد حالة ذهنية أكثر امتيازًا أو شدة من حالة التأمل الإستطيقي، فإذا كان الأمر كذلك فإن التماس أي تبرير أخلاقي آخر للفن، أو البحث في الفن عن وسيلة إلى شيء لا يرقى إلى أن يكون حالة ذهنية خيرة، هو خطلٌ لا يقع فيه إلا أحمق أو رجلٌ من رجال العبقرية.

لقد وقَع في هذا الخطل كثيرٌ من الحمقى، وروَّج له واحدٌ من عباقرة الرجال ترويجًا قبيحًا، فلم يحدث قط أن وضع أحدٌ العربة بشكلٍ معيقٍ أمام الحصان مثلما فعل تولستوي عندما أعلن أن ما يُبرِّر الفن هو قدرته على تعزيز الأفعال الخيرة، كما لو كانت الأفعال غايات في ذاتها! إنَّ فعل الجري ليس فيه فضيلة ولا رذيلة، ولكن أن تجري بأنباء سارة هو فعل جدير بالثناء، وأن تجري فرارًا بكيس إحدى العجائز هو فعلٌ غير جدير بذلك. كذلك فعل الصِّياح، فليس في الصياح فضيلة، ولكن أن تصيح لكي تصدعَ بالحق والعدل هو فعل خير، أما أن تصمَّ آذان الخلق بالدجل والهُراء فهو فعلٌ لعين. إنَّ الغاية المنشودة هي دائمًا ما يضفي على الفعل القيمة، ويجب أن تكون غاية جميع الأفعال الخيِّرة في النهاية هي أن تخلق أو تحفز أو تمكِّن لحالاتٍ ذهنيةٍ خيِّرة؛ ومن ثم فإن حثَّ الناس على الأفعال الخيِّرة بواسطة لوحاتٍ إرشادية هو حرفةٌ جديرة بالاحترام ووسيلة غير مباشرة إلى الخير. أما الأعمال الفنية فهي وسيلة مباشرة إلى الخير وأكثر مباشرةً من أي شيء آخر يمكن للكائن الإنساني أن يُمارسه، في هذه الحقيقة على وجه التحديد تَكمن الأهمية الهائلة للفن: فليس ثمة وسيلة إلى الخير أكثر مباشرةً من الفن.

حين تعدُّ أي شيء عملًا فنيًّا، فإنك إذن تُقيم حكمًا أخلاقيًّا خطيرًا؛ لأنك بذلك تعدُّه وسيلةً مباشرةً وفعالةً إلى الخير بحيث لا نحتاج إلى أن نُكرِّث أنفسنا بأي شيء من نتائجه المحتملة، وحتى لو لم يكن الأمر كذلك؛ فإن عادة إقحام اعتباراتٍ أخلاقيةٍ في عملية الحكم بين أعمالٍ فنية معيَّنة لن يكون لها ما يبررها، فليُقم الداعية الأخلاقي حكمًا على الفن ككل، وليُقيِّض له ما يرى أنه مكانه الصحيح بين وسائل الخير، ولكن إذا كان المقام مقام أحكامٍ إستطيقية؛ أي أحكام مقارنة بين أعضاء فئة واحدة؛ أي بين الأعمال الفنية بوصفها أعمالًا فنية، فليُمسِك هذا الداعية لسانه. إن الفن مساوٍ لأعظم الوسائل إلى الخير، ولو ظنَّ الداعية الأخلاقي أن الفن أقل من ذلك بأي شيء فقد أخطأ، ولو سلَّمنا على سبيل الموادعة أنَّ الفن أدنى من بعض هذه الوسائل فسوف أُذكِّره رغم ذلك أن أحكامه الأخلاقية حول قيمة أعمالٍ فنيةٍ معيَّنة لا شأن لها بقيمتها الفنية. ليس من حق الحكم في إبسوم أن يغمط الفائز في الدربي حقه لمصلحة الحصان الذي جاء قبل الأخير، لا لشيءٍ إلا لأن هذا الحصان هو لأسقف بروجهام كنتربري.

عرِّف الفن كما تهوى، مؤثرًا أن يكون ذلك وفقًا لما طرحته من أفكار، وأنزله المنزلة التي تشاء في النسق الأخلاقي، ثم فاضِل بين الأعمال الفنية حسب امتيازها بتلك الخاصية أو تلك الخصائص التي وضعتها في تعريفك باعتبارها الخصائص الجوهرية والمميِّزة للأعمال الفنية. قد تقيم بالطبع أحكامًا أخلاقية حول أعمالٍ معينة، ليس بوصفها أعمالًا فنية بل بوصفها أعضاءً في فئة أخرى، أو بوصفها أجزاءً مستقلة وغير مصنَّفة من العالم، وقد ترى أن لوحة معينة لرئيس الأكاديمية الملكية هي وسيلة أعظم إلى الخير من إحدى لوحات نادي الفن الإنجليزي الجديد بكل مجده، وأن كعكةً بقرشٍ هي أفضل من الاثنتين؛ فأنت في مثل هذه الحالة إنما تُقيم حكمًا أخلاقيًّا لا حكمًا إستطيقيًّا؛ ومن ثم سيكون من الصواب أن تأخذ بالاعتبار مساحة القماشة، وسمك الإطار والقيمة الممكنة لكلٍّ منها كوقود أو وقاء من تقلبات مناخنا القاسية. وعليك في عملية جمع الحسابات ألا تُغفل آثارهما الممكنة على الكهول الذين يَزورون برلنجتون هاوس وصالة عرض سافوك ستريت، وألا تُغفل أيضًا ضمائر أولئك الذين يَمسُّون موارد الأوقاف أو أولئك الذين تدفعهم الرغبة في الربح إلى المحاكاة والتقليد. إنك عندئذٍ تُقيم حكمًا أخلاقيًّا لا حكمًا إستطيقيًّا. وإذا كنت قد خلصت إلى أن كلتا اللوحتين ليست عملًا فنيًّا، فأنت رغم مظنة تضييع وقتك ستكون بمنأى من السخرية، ولكن حين تتعامل مع لوحة بوصفها عملًا فنيًّا تكون قد أقمت — ربما على نحوٍ لا شعوري — حكمًا أخلاقيًّا أهم بكثير. لقد أدرجتها في فئة من الأشياء تُعدُّ وسائل قوية ومباشرة إلى النشوة الروحية بدرجة تمحي إلى جانبها جميع المزايا الصغرى، ورغم المفارقة الظاهرة؛ فإن الخصائص الوحيدة ذات الصِّلة بالعمل الفني بوصفه عملًا فنيًّا هي الخصائص الفنية، فنحن إذ خلصنا إلى أن الخصائص الفنية هي وسيلة إلى الخير؛ فإنَّ أي خصائص أخرى تغدو غير ذات بال؛ فليس ثمَّة خصائص تفوق الخصائص الفنية من حيث القيمة الأخلاقية؛ ذلك أن ليس هناك وسيلة إلى الخير أعظم من الفن.

١  An Essay in Aesthetics, by Roger Fry: The New Quarterly, No. 6, vol. ii.
٢  العربة الكارو. (المترجم)
٣  كانت كعكات الزنجبيل في العصور الوسطى تُباع في المعارض والأسواق الموسمية، وهي زهيدة الثمن ومطلية بلون ذهبي. (المترجم)
٤  McTaggart: Some Dogmas of Religion.
٥  هو صموئيل جونسون، الكاتب والناقد والمعجمي والمحدِّث المعروف، اشتهر كنصير للحسِّ المشترك، ودحضه لمثالية جورج باركلي (بركل حجرٍ) أصبح من النوادر المأثورة. (المترجم)
٦  داعية تحسين النسل. (المترجم)
٧  أعرف أن من رجال العلم من يحتفظ بعقل مفتوح تجاه حقيقة الواقع الفيزيائي، ويدرك أن ما يُعرف ﺑ «الفرض العلمي» يفوته تلك الأشياء التي تبدو لنا شديدة الواقعية، لا شك أن هؤلاء هم العلماء الحقيقيون، وليسوا هم عامة العلماء. (المؤلف)
٨  ما كان لي أن أتوقع من الحروب المسماة الدينية أو من الثورة البيوريتانية أن تكون قد أيقظت في الناس حسًّا بالدلالة الانفعالية للعالم، وسأعجب كثيرًا بلا شكٍّ لو أن ثورة السير إدوارد كارسون كانت من أجل إنتاج محصول من التعبير الشكلي الرفيع في شمال شرق أيرلندا. (المؤلف)
٩  أي قائمًا على «المواجدة» empathy، وهي التمثُّل الوجداني، أو القدرة على إدراك وجدانات الآخرين ومشاركتهم إياها. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤