الفصل الثالث

استقصاء مفهوم «السلطة»

السلطة مفهوم رغم أن له دورًا مركزيًّا في علم السياسة المعاصر، فهو على قدر كبير من الغموض بحيث لا يبرر هذا الدور إلا نادرًا (دومو ١٩٧٩، ١٦٥).

(١) التصدي لمفارقة «السلطة»

في الفصل السابق، وضعتُ «الدين» على «مقصلة» الاستقصاء الجوهري، وشككت عندها في الطريقة التي نتحدث بها عن الدين ونفكِّر فيه، وسعيت خلال ذلك لاستيضاح الكيفية التي يمكن بها أن نستمر في الحديث والتفكير بشأن الدين دون التأثر كثيرًا بالقوالب التي وضع فيها. والآن جاء دور مفهوم «السلطة» في الاستقصاء الجوهري، فعلى مفهوم «السلطة» أن يخضع لسلسلة من الأسئلة حول الطريقة التي نفكِّر بها فيه، وننظر إليه، لأسباب ليس أقلها أننا نتكلم عن «السلطة» بصورة مفعمة بالمفارقة. من ناحية، نحن نتحدث عن «السلطة» باعتبارها جسرًا يجمع بين مجالي الدين والسياسة، وغالبًا ما نستخدم نفس الكلمة، وهي «السلطة»، مع ما هو ديني وما هو سياسي أيضًا. وعليه، فنحن نتحدث عن «السلطة» العلمانية المادية أو الدنيوية في مجال السياسة بنفس الصورة التي نتحدث بها عن «السلطة» الروحية أو الأبدية في مجال الدين. وفي الوقت الذي يبدو فيه من الطبيعي في مجال السياسة أن نتحدث عن «السلطة» أو «القوة» في «سياسة القوة» و«الاستيلاء على السلطة» و«مراكز القوى» و«السياسيين المتعطشين للسلطة» وما شابه، فإن كلامنا التقليدي يعكس إحساسنا بأنه من الطبيعي في الدين كذلك أن نتحدث عن «قوة الحب»، أو «قوة الرب المخلِّصة»، أو مصطلح «القوة المقدسة» الذي يقابل الكلمة السنسكريتية للذات المطلقة «براهمان».

في الواقع، توحي الطريقة التي نتحدث بها عمومًا عن «السلطة أو القوة» بأكثر من مجرد الربط بين مجالين مختلفين هما: الدين والسياسة؛ إذ تشير إلى اعتقادنا بأن «السلطة» في الدين والسياسة واحدة. وتدفعنا عاداتنا الخطابية الشائعة — التي سأتهمها لاحقًا بأنها «عادات سيئة» — للحديث عن «السلطة» باعتبارها مجالًا موحدًا، وإلا فلماذا نستخدم نفس الكلمة في عدة مجالات من حياة الإنسان التي تبدو — ظاهريًّا على الأقل — مختلفة تمام الاختلاف؟ ربما يقول واعظٌ ما إن:

النعمة التي تمنحها قوة الروح القدس تعرفنا بخطايانا، وأي قوة تفعل هذا؟ أي قوة تعرف الإنسان الطبيعي بخطاياه؟! فماذا يحدث عندما تقابل رجلًا فريسيًّا فخورًا كشاول الطرسوسي؟ ما الذي قد يقنعه ويبين له حقيقة رجل بمثل خطيئته؟ ليس هناك سوى قوة واحدة يمكنها ذلك؛ إنها قوة النعمة التي يمكنها أن تقهره وتُبكيه: «يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟» (أعمال الرسل ٩: ٦).

لكن هل «قوة الروح القدس» المذكورة هنا مثل «القوة النيرانية» لبندقية آلية عيار ٥٠ ملم؟ وهل التماثل هنا أكبر منه فيما بين «قوة التمويل» و«سلطة» الكهنة الرومانيين الكاثوليك فيما يتصل ﺑ «تقييد أو إعتاق» المخطئين؟ فنحن نَصِف الجيش الأمريكي بالقوة لأنه سحق جيش صدام حسين، لكننا نتحدث عن مدى ضعفه رغم ذلك في مواجهة المقاومة ضد القوة المحتلة. هل هناك فرق كبير بين «سلطة» مهيمنة تُفرض و«سلطة» شرعية تُقبل؟ تُفرق الفرنسية بين الكلمتين اللتين تُترجمان بنفس الكلمة في الإنجليزية (وهما puissance التي تعني القوة، وpouvoir التي تعني السلطة)، بينما تكتفي الإنجليزية بكلمة واحدة هي power. فهل ينقص المتحدثين بالإنجليزية فرق جوهري في طبيعة «القوة أو السلطة» يعرفه الفرنسيون مثلًا؟ وبينما لا تبلغ الكلمتان مرحلة القوالب الفكرية التي لمستُها في أفكار معينة عن الدين، عندما نتحدث عن «السلطة» ونتحاور معها، فإننا جميعًا نعتبرها مجالًا واحدًا متحدًا من مجالات الحياة. وعليه، فإننا على كل حال نتحدث عن مجالات «السلطة» العلمانية أو المادية أو الدنيوية بجانب الحديث عن «السلطة» الدينية أو الروحية أو الأبدية، فنحن نتحدث عن «القوى» الدنيوية أو المحدودة مقابل «القوى» الأخروية أو المطلقة وغيرها كما لو كانت كلها أشياء يمكننا إدراجها تحت نفس البند. إذن فكلمة «السلطة» — على الأرجح — تنتمي لعالم الدين بقدر ما تنتمي لعالم السياسة؛ لأن استخدامنا التقليدي يبين أننا نرى «السلطة» شيئًا واحدًا.

إلا أنه رغم «عاداتنا السيئة» في الحديث عن «السلطة»، فإننا نعلم من داخلنا أن «السلطة» في مجال السياسة، كما ورد في الأمثلة، تختلف عن «السلطة» في سياق الدين، «فالسلطة» المعهودة في السياسة هي سلطة قسرية، باستخدام العنف في العادة. هذه «السلطة» هي القدرة على فرض الهيمنة، بحيث لا يكون من الضروري اجتماع الخاضعين لها على شيء سوى الامتناع عن مقاومتها. إن الدولة — وهي السياسة في صورتها المثالية — تُعرَف بأنها الكيان المجتمعي الذي يحتكر استخدام القوة ويفرض الهيمنة. ورغم أنني لن أكرر القالب الفكري الذي هاجمته في الفصل السابق والقائل بأن الدين لا علاقة له بالقوة ولا بالإجبار، فإن احتكار استخدام السلطة لا يحدد على ما يبدو ما يميز الدين. ولا ينطبق هذا إلا على تصورات الدين في العصر الحديث، أو باستثناء الظواهر الدينية السياسية المسببة للاضطراب مثل التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط. تختلف العصور الوسطى المسيحية هي الأخرى في تعاملها مع السلطة القسرية، وكذلك التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط. كل ما أقصده هو أنه في حالتي الدين والسياسة ثمة شيء إضافي يحدد المعالم المميزة لكل منهما على حدة؛ لذا إن كان عليَّ أن أحدد شيئًا يفرق بين الدين والسياسة فسيكون — مع وضع كل العوامل في الاعتبار — إدراكنا أن الدين يعتمد على «السلطة» بمعنى «السلطة الشرعية»، حتى وإن استخدم العنف، بينما تعتمد السياسة في الأساس على احتكار «السلطة» بمعنى الهيمنة والسلطة القسرية الصريحة، رغم أن السلطة الشرعية مهمة بالطبع بالنسبة للسياسة. أحيانًا ما تتقيد السلطة القسرية بالسلطة الشرعية؛ حيث يفقد استخدام السلطة القسرية قوته أو يثبطه سحب السلطة الشرعية منه. وكما قال ريتشارد ستانلي بيترز، فإن «السلطة» ليس لها معنًى في العادة إلا بالمقارنة ﺑ «السلطة الشرعية»، وليست مصطلحًا نوعيًّا تدخل «السلطة الشرعية» ضمن أنواعه (بيترز ١٩٥٨، ٢٠٧–٢٢٤، ٢٢٠).

لكن رغم الاختلاف، فكلٌّ من السلطة القسرية المميزة للسياسة والسلطة الشرعية المميزة للدين هما من صور «السلطة»، بمعنى أنهما طريقتان لحمل الناس على فعل ما يراد منهم. لم يكن ستالين يتحدى «قوة» البابا العسكرية عندما سأل: «كم عدد الفرق العسكرية» التي يقودها؟ فقد قال هذا لأنه شعر بأن السلطة القسرية التي تستند إلى القدرة العسكرية لا تضاهي سلطة البابا. وبالمثل، يُتصوَّر أن الحكومة الصينية تُقدِّر الاختلاف الجذري بين هاتين الطريقتين لحمل الناس على فعل ما يراد منهم من خلال استعراض القوة الغاشمة في مذابح ساحة تيانانمن عام ١٩٨٩. وكذلك سيكون من المثير للسخرية المساواة بين المقاومة الثقافية المتمثلة في السلطة الشرعية للدالاي لاما و«السلطة» القسرية المسلطة على البوذيين في التبت من قِبل جيش التحرير الشعبي الصيني، حتى وإن كان الصينيون يهابون السلطة الشرعية التي يستحوذ عليها الدالاي لاما. وكذلك ليس منقطع الصلة بما سبق أن الهيمنة العسكرية — «السلطة» — على العراق من قِبل القوات الأمريكية تعتمد بشكل ما على السلطة الشرعية لرجل دين منعزل، بل مسالم، مثل الإمام الشيعي علي السيستاني. إذن فهذه الأمثلة ينبغي لها أن تدفعنا للنظر في إحساسنا الفطري بعدم الارتياح تجاه استخدام كلمة «السلطة أو القوة» في الحديث عن «قوة الحب»، أو «قوة الرب المخلصة»، أو مصطلح «القوة المقدسة» الذي يقابل الكلمة السنسكريتية للذات المطلقة «براهمان». إنها لمفارقة حقًّا أن نتحدث عن «السلطة» بالطريقة التي نتحدث بها. وهذا في ذاته سبب كافٍ يتطلب الاستقصاء الجوهري لهذا المفهوم.

لذا فإن استخدام كلمة «السلطة» كي تشير إلى ما يبدو أنها جوانب مختلفة من الحقيقة يثير أول نقطة في استقصاء هذا المفهوم. فلماذا نتحدث عن «القوة أو السلطة» كما لو كانا شيئًا واحدًا رغم عدم ارتياحنا لذلك؟ هل لنا أن نتابع الحديث عن «السلطة» باعتبارها مسمًّى لمجال موحد؟ وبالنظر إلى وجود فجوة كبيرة بين المتضادات مثل الدنيوي والأزلي أو المادي والروحي، فما الذي يجعلنا نظن أن بإمكاننا تفادي الإشكال باستخدام كلمة «السلطة» على هذا النحو الفضفاض عندما نتحدث؟ إن كلامنا على هذا النحو يشير إلى أننا نظن أيضًا أننا نتحدث عن نفس الصورة من القوة أو السلطة، وأتفق مع الاقتباس الوارد في هذا الفصل المنسوب إلى عالم الأنثروبولوجيا لويس دومو: «السلطة مفهوم رغم أن له دورًا مركزيًّا في علم السياسة المعاصر، فهو مشوش جدًّا بحيث لا يبرر هذا الدور إلا نادرًا» (دومو ١٩٧٩، ١٦٥)؛ ولهذا السبب سأبين في هذا الفصل أن علينا أن نزداد وعيًا بأن «القوة» لها عدة معانٍ، وأن نتفادى الانزلاق إلى «العادات السيئة» التي قد تؤدي بنا إلى اتخاذ قرارات خاطئة (أرون ١٩٨٦، ٢٥٣–٢٧٧).

(٢) كيف يفسد مفهوم «السلطة» التفكير بشأن «العنف المؤسسي»

يبرز مثال آخر لإحدى «عاداتنا السيئة» المشينة خلال الحديث عن القوة في الطريقة التي نتحدث بها غالبًا عن العنف ضمن خطاب الدين والسياسة باعتباره «عنفًا مؤسسيًّا». وأنا أعترض على استخدام هذه العبارة، ليس لأنني أرى أن المؤسسات لا يمكنها «انتهاك» حقوق الإنسان كما في قوانين جيم كرو، ولا لأنني أرى أن المؤسسات لا يمكنها ممارسة العنف ككتيبة من مشاة البحرية الأمريكية وهي تهاجم شاطئًا ما، ولا لأن العنف لا يمكن أن يتخذ صورة نظامية كما في مؤسسات الحرب الحديثة؛ بل إنني أعترض على عبارة «العنف المؤسسي» لأنني أرى أنها تُجسِّد إحدى تلك «العادات السيئة» التي كتب عنها أورويل، فهي وسيلة خفية لدسِّ فكرة مفادها أنه ليس هناك — على الأكثر — سوى فروق كمية بين أشكال «القوة» التي تتضمن القوة المادية وتلك التي تخلو منها. ووصولًا بهذا المنطق إلى منتهاه، فلن يكون هناك سوى فرق كمي — على الأكثر — بين «القوة» الموجودة في «العنف المؤسسي» لقانون يمنعني من امتلاك منزل في ضاحية ما، والقوة العنيفة، أو القوة التي تلقيني حرفيًّا خارج منزلي … إلخ. صحيح أن كلتا الحالتين تشتركان في أنهما جزء من نظام غير عادل، لكن ما أقصده هو أنهما مختلفتان من حيث العنف.

من المؤكد أنه في حالَتي «العنف المؤسسي» في قوانين الملكية الظالمة وفي العنف المتعلق بطردي من منزلي، فإن الظلم الواقع متساوٍ في كلتا الحالتين. وليس هذا هو المقصود عند الدعوة لتحديد فرق معين أو «حد فاصل». فما أزعمه هو أن تعبير «العنف المؤسسي» أداة بلاغية؛ فهو يوسِّع معنى كلمة ليغطي مجالًا شاسعًا بنفس الطريقة التي تستخدم بها كلمة «القوة» عبر نطاق كبير من الأشياء المختلفة. فلعل هدفها إذن أن تجيز وتتغاضى في صمت — دون جدل صريح — عن استخدام القوة المادية؛ أي العنف في حد ذاته، للتغلب على «العنف المؤسسي». إذن لن يكون هناك أي فرق كيفي بين ما يسمى «العنف المؤسسي» والقوة المادية أو العنف المادي، فكلاهما يعتبر صورة مختلفة لنفس الشيء، ولا ينتميان لفئتين مختلفتين، والاستنتاج على المستويين البعيد والقريب الذي يترتب على ذلك هو أن كيفية مواجهة ما يسمى «بالعنف المؤسسي» هي تحصيل حاصل. ووصولًا إلى الاستنتاج المنطقي لما سبق، إن كان لنا أن نفكر في العنف باعتبار أنه لا يوجد فرق كيفي بين «العنف المؤسسي» والقوة المادية العنيفة، فإننا نفترض أن استخدام العنف المادي في الصراعات حول ما يمكن اعتباره قضايا «العنف المؤسسي» لن يؤثر تأثيرًا كيفيًّا في شكل تلك الصراعات وطبيعته، إذ العنف سيكون قد بدأ بالفعل على يد أولئك الذين يرسخون للظلم، وطرح مستوًى معين من «القوة» سيكون قد تم بالفعل. من هذا المنطلق سيكون كلٌّ من «العنف المؤسسي» والعنف المادي هما نفس الصورة من «القوة»، فكلاهما من أشكال العنف؛ لذا فهما من نفس النوع، لكن بالتبعية ولأن مصطلح «العنف المؤسسي» يصهر كل ما يعتبر «عنفًا» في بوتقة واحدة، فإن مصطلح «العنف» يفقد أي حد منطقي قد يفصله عن حالات الظلم الأخرى.

أتفهَّم أن انعدام هذا «الحد» المنطقي الذي يحدد مصطلح «العنف» يمكن الاستعاضة عنه تمامًا؛ لأن مصطلح «العنف المؤسسي» له «حد» عاطفي عند من يمارسونه. أعترف بالقوة البلاغية لمصطلح مثل «العنف المؤسسي» لما له من فائدة في حالات الصراع، لكن بغض النظر عن البلاغة، أسلِّم بأن استخدام كلمة «العنف» في مصطلح «العنف المؤسسي» لا يختلف في الحقيقة عن كلمة «الظلم»، فاستخدام مصطلح «العنف» يضيف اتهامًا للخطاب الذي يوظفه، وبذلك يدعم القضية المستهدفة المتعلقة به. وإن كان مصطلح «العنف» له أي معنًى مميز — أي إن كان له «حد فاصل» — فأصل معناه في اللاتينية يخبرنا بأنه يشير بالفعل إلى القوة المادية؛ لذا عندما حذر مارتن لوثر كينج الابن وغاندي من استخدام «العنف» بغية علاج الظلم السياسي والاجتماعي — وهو ما يمكن اعتباره حالات «العنف المؤسسي» — فقد كانا يعارضان استخدام القوة المادية. وعندما يدعو شخص ما للإطاحة بالحكومة باستخدام العنف — وهي إطاحة تتضمن بالضرورة استخدام القوة المادية — فهو يؤيد وسيلة قسرية للإطاحة بنظام سياسي، فمصطلح «العنف المؤسسي» إذن يعتمد على المعنى الأولي للعنف من خلال توسيع حدود المعنى ليتجاوز حد العنف بالمعنى الحرفي إلى ما يمكن تسميته بالعنف المجازي أو التشبيهي، إلا أن حقيقة هذا الاتساع في المعنى لا ينبغي أن يضيع في زمرة الحماس لصورة مجازية قوية قادرة على تشكيل نظرتنا لمفهوم القوة. وسأُبيِّن السبب في عدم استخدامي كلمة «العنف» بمعناها الفضفاض المستخدم في مصطلحات مثل «العنف المؤسسي».

تشكِّل مثل هذه الاعتبارات في استخدام اللغة فارقًا لدرجة أن طبيعة الصراعات قد تتغير — تغيرًا كبيرًا وكيفيًّا في الأغلب — عندما تكون القوة المادية متمثلة في العنف — أي العنف ذاته — مستخدمة أو مطروحة، فحتى إن تساوى العنف المادي والمجازي على مقياس العدالة، يبدو أن ثمة اختلافًا رهيبًا بين الانتهاكات الحقيقية والمجازية. ومن بين أسباب قولي هذا قناعتي بأن الأشياء المادية المتجسدة لها تأثير معين ربما يتعذر تغييره، فالتعرض «لمباغتة» من قِبل مناورة برلمانية ماكرة في اجتماع لإحدى الكليات يختلف عن التعرض «لمباغتة» في مباراة كرة قدم، حتى وإن كنت أُفضِّل تلقِّي ضربة مباغتة صادقة في الملعب. وبالمثل، فإن التمييز العنصري أو التمييز على أساس النوع قد يحرمني من الخيارات في حياتي، لكنه — وإن كان ذلك لا يشفع — لا يسلبني حياتي بصورة نهائية. وأظن أن هذه النظرة للاختلاف بين العنف و«العنف المؤسسي» تقع في قلب تفكير غاندي ومارتن لوثر كينج الابن، والدالاي لاما، كما نرى في يومنا هذا. فلا يقتصر الأمر على إيمانهم — سواء كانوا على صواب أم خطأ من الجانب البراجماتي وحده — بأنهم في حالة الصراع «العنيف» أو المادي لا «يتفوقون في العتاد»، ولن تكون لهم الغلبة؛ فهم يؤمنون كذلك — أصابوا أم أخطئوا — بأن الصراع ما إن يصبح عنيفًا في ذاته — أي يصطبغ بالسلطة القسرية؛ وهي صورة للقوة المادية الحقيقية — حتى يتحول بكل جنون إلى نوع من الفوضى الخارجة عن السيطرة، التي تؤدي إلى اتهامات مضادة لا نهاية لها، ومحاولات لتحقيق انتصارات سهلة في سبيل موازنة الأمور. ويتحول الأمر إلى أسوأ الكوابيس: «حرب ضروس يكتوي الجميع بنارها.» فالعنف يضيف عاملًا جديدًا قائمًا بذاته إلى الصراع يتجاوز ماهية الصراع نفسه. تصور كيف سيتغير طابع حملة سياسية يطلق فيها أحد المرشحين الرصاص على ركبة خصمه؛ تحديدًا بنفس الطريقة التي اعتاد بها مقاتلو الجيش الجمهوري الأيرلندي استهداف خصومهم في أيرلندا الشمالية. من المؤكد أن غاندي وكينج أدركا تلك الحقيقة، ورأيا أن العنف «الحقيقي» يجلب العنف؛ ومؤكد أن الدالاي لاما يعرف نفس الحقيقة في يومنا هذا. فلم تكن الطيبة والمحبة وحدهما السبب الذي جعل نبذ العنف أسلوبهما المفضل، بل كان الإيمان الراسخ بالفرق الكيفي بين العنف في ذاته وغيره من صور الصراع والمقاومة غير العنيفة التي وجهتهم؛ أي الفرق بين العنف المحض و«العنف المؤسسي»، إن جاز التعبير. فإن رأى شخص — مثلما أرى — أنه من المنطقي التمييز بين الاستخدامات المادية للقوة من ناحية — «العنف» في حد ذاته — والاستخدامات الأخرى للقوة؛ فإن من المنطقي استبعاد تعبير «العنف المؤسسي». مرة أخرى يأتي أورويل بتشبيهه وتحليله المعبر:

قد يلجأ الرجل لمعاقرة الخمر إن أحس بالفشل، فيزداد فشلًا على فشله بسبب شربه الخمر. وهذا هو الحال مع اللغة الإنجليزية؛ إذ تكتسي قبحًا وتجانبها الدقة لأن أفكارنا صارت حمقاء، لكن إهمالنا للغتنا يسوغ لنا الأفكار الحمقاء (أورويل ١٩٥٦، ٣٥٥–٣٦٦، ٣٥٥).

في الوقت الذي خدم فيه الاستخدام الفضفاض لكلمات مثل القوة عددًا من الأهداف الجيدة، فقد أربك نظرتنا للقوة؛ ومن ثم نظرتنا للدين والسياسة؛ إذ أدى إلى تسطيح الخطاب، وعطل قدرتنا على استيعاب التنوع في شئون البشر. أنا غير مهتم إذن بنوع من الجدل العقيم حول استخدامات الكلمات، فمن اللافت أن هذا النوع من تصنيف «القوة أو السلطة» ضمن «السياسة» قد أغلق الباب أمام إدراك أن الدين له تأثير في عالم السياسة. وسوف تَرِد هذه النقطة في الفصل الأخير؛ حيث أجمع نتائج الاستقصاءات الجوهرية للدين والقوة، أو السلطة والسياسة من أجل تناول قضايا الدين والسياسة التي تُثار في حالة التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط.

(٣) من يتحمل المسئولية؟ «التاريخ» في قفص الاتهام

من الذي يتحمل المسئولية — إن وُجد — عن الطريقة التي ننظر بها إلى العنف، ومن ثم «القوة» بالتبعية كما لو كانت شيئًا واحدًا؟ نادرًا ما تكمن الإجابات عن مثل تلك الأسئلة المتعلقة بالاستخدامات التقليدية غير المدروسة للكلمات — إن وُجدت — في ظاهر الأشياء أو تظهر في ضوء تصرفات الأفراد. فلماذا يتحدث الإنجيل عن الرب باعتباره ربًّا أبويًّا ذكرًا متعاليًا في «سمائه» وليس أمًّا قابعة في أعماق أرضها إذا علمنا أن كليهما غير حقيقي من الناحية الحرفية؟ لماذا لا يتضح السبب في أن الأرقام التي تلي «عشرة» هي «أحد عشر» و«اثنا عشر» بدلًا مما قد يبدو منطقيًّا — وهو «واحد عشر» و«اثنان عشر» — ليتفقا مع الأرقام التالية «ثلاثة عشر» و«أربعة عشر» وغيرها؟ والإجابات على كثير من التساؤلات الخاصة «بطبيعة الأشياء» مثل حديثنا عن «القوة» باعتبارها مجالًا واحدًا غالبًا ما تكون ذات بُعدٍ تاريخي. فحال الأشياء «على ما هي عليه» ناتج عن أحداث تاريخية معينة، وأشياء صادف أن تحدث بطريقة معينة، رغم أنه كان من الممكن حدوثها بطريقة مختلفة. وأعتقد أن جزءًا من السبب الذي يجعلنا نستسيغ الحديث عن القوة باعتبارها شيئًا واحدًا هو تساؤل ذو بُعد تاريخي له إجابة ذات بعد تاريخي هي الأخرى. فماذا في تاريخ الغرب قد جعل من السهل — «من الطبيعي» كما يقال — علينا أن نفكر في «القوة» ونتحدث عنها بوصفها مجالًا موحدًا، وباعتبارها شيئًا يشمل ما هو روحي وما هو دنيوي تحت نفس التصنيف؟ وما «الظروف» التي أصبح كل الكلام فيها عن «القدرة على فعل شيء أو تنفيذ شيء فيما يخص الآخرين من أشخاص وأشياء ومؤسسات» هو الحديث عن «القوة»؟ كيف اكتسبت كلمة «القوة» قوتها إن جاز التعبير؟ كيف حازت كلمة «القوة» هذه الهيمنة التي تمتلكها الآن (دونما تفكير)؟

أحد الأجوبة المثيرة للاهتمام على هذا التساؤل يطرحها عالم الأنثروبولوجيا البنيوية والمتخصص في الدراسات الهندية لويس دومو. في الجزء الأخير من حياته، بعد مسيرة مهنية في الكتابة عن الطوائف الاجتماعية والأنساب والزهد في الهند، حوَّل اهتمامه إلى الأصول التاريخية والثقافية للأيديولوجيا الغربية الحديثة. وخلال تناول دومو لثقافتنا الحالية باعتبارها موضوعًا لنوع من «العمل الميداني»، ركَّز نظرته — باعتباره عالمًا بوصف الأجناس البشرية — على السؤال عن السبب الذي جعل «القوة» تحتل مكانة مميزة في التصورات الغربية فيما يتصل بالعالم. وهنا أدت أساليب علماء الأنثروبولوجيا في المقارنة بين الثقافات لنتائج جيدة، فبالمقارنة مع الغرب، لم يخص النظام الطبقي الهندي التقليدي الوارد في نظام «فارنا» مفهوم «القوة» بمكانة خاصة كما يحدث في الغرب. في المقابل، فضل نظام فارنا مفهوم «دارما» الذي يُترجم على نحو تقريبي إلى «الفضيلة» و«الواجب الأخلاقي أو الشعائري»؛ على قيمة «أرثا»، التي تُترجم ترجمة تقريبية باعتبارها مفهومًا تنفيذيًّا يعني القوة؛ ومن ثم السلطة القسرية. وقابل هذا الترتيب في القيم ضمن نظام «فارنا»، بدوره، ترتيبًا للطبقات الاجتماعية التي تعتبر تجسيدًا لتلك القيم: طبقة البراهميين أو «رجال الدين» الذين يجسدون السلطة الشرعية، أو دارما الأعلى من طبقة الكاشتري، أو العسكريين والملوك وأمثالهم، ويجسدون السلطة القسرية أو أرثا؛ ففي الحالة الهندية التقليدية، كما وصفها دومو، لا يوجد أي تفضيل لمفهوم «القوة» باعتباره مجالًا موحدًا، فلماذا ينظر الغرب إلى «القوة» بتلك النظرة في حين يوجد على الأقل حضارة أخرى عظيمة لا تفعل ذلك؟

إن المقارنة تعلمنا أشياء عن أنفسنا مسلَّم بأنها طبيعية في ذاتها وهي ليست كذلك، فالاختلافات بين المجتمعات تنتج من ناحية عن اختلاف «الاختيارات» — سواء كان عن عمد أم لا — التي اتُّخذت عبر تاريخها، فما نُسلِّم به فيما يتعلق «بالقوة» قد يكون العكس، فقد كان من الممكن أن «يختار» المجتمع الغربي وضعًا مختلفًا عن وضعه اليوم، وكان من شأن «التاريخ» أن يأخذ مسارًا مختلفًا. ماذا لو صمدت الجمهوريات الإيطالية الأولى أمام الهجمة الشرسة للاستبدادية؟ ماذا لو كانت شخصيات مثل: غاندي، أو مارتن لوثر كينج الابن، أو ليخ فاونسا، هي الشخصيات المحورية في التاريخ السياسي للغرب، لا شخصيات متأخرة فيه — بفضل الهند القديمة — كما هي الآن؟ هل كان لعقيدة الحقوق الإلهية للملوك أن تنشأ هي وكل ما جاء بعدها ردًّا عليها، إن لم يكن هناك نظرية مطلقة منافسة بنفس القدر للحقوق الإلهية للباباوات بصفتهم حكامًا علمانيين؟ هل كان نظام الدول القومية سيظهر في الغرب إن لم يأتِ عهد الإصلاح؟ (فيلبوت ٢٠٠٠، ٢٠٦–٢٤٥) هذه كلها مسارات تاريخية كان من الممكن أن تختلف تبعًا للاختيارات المختلفة ضمن مسار الأحداث. وعليه، فكيف أصبحنا على ما نحن عليه هو سؤال ذو بعد تاريخي، والتاريخ وحده هو القادر على تقديم الأجوبة. لقد كان إدراك احتمالات الحاضر هو ما أعاد دومو إلى جذور الحضارة الغربية؛ إلى ماضينا التقليدي وإلى تاريخ الغرب اللاتيني.

والآن فيما يتعلق بالتفكير في «القوة»، فإن أي تقصٍّ بخصوص معناها سيعيدنا بالضرورة إلى تاريخ الإمبراطورية الرومانية، فإن كان هناك كيان يجسد «القوة» في روما القديمة فهو الإمبراطورية. إن اسمها نفسه، «الإمبراطورية الرومانية»، يستحضر مبادئ الإمبراطورية، ومن ثم السلطة القسرية، لكن كذلك عند التفكير في الإمبراطورية والقوة سيكون علينا أن ننظر إلى الكيانات التي يحتمل أنها عززت القوة الإمبراطورية. وهنا لا توجد مؤسسة سوى الكنيسة على أهمية كافية للوقوف أمام القوة الإمبراطورية، فكلامنا اليومي عن «القوة» — مثل حديثنا في اليوم الحاضر عن الرب في سمائه — قد تحدد على أساس الوضع البنيوي والتاريخي للمؤسسات الكبيرة. وكما تغيرت العلاقة بين المؤسسات الاجتماعية الكبرى؛ كالإمبراطورية والكنيسة، فقد تغيرت طرقنا التقليدية في التفكير والحديث عن التغيير — بما في ذلك القيم التي كانت ترمز إليها هذه المؤسسات وتجسِّدها، مثل السلطة القسرية والسلطة الشرعية. وعليه، فإن تعارضت العلاقة بين الإمبراطورية والكنيسة مع السلطة القسرية والسلطة الشرعية، فسنشعر بتغير في العلاقة البنيوية بين هاتين المؤسستين — إن جاز التعبير — على مستوى المواقف والمعتقدات الفردية تجاه نفس هاتين القيمتين. فلنفترض أن الجيش في مجتمعنا، وهو قوة «قسرية»، أطاح بالقضاء، وهو قوة لها (سلطة) «شرعية» وحل محله. يرجح منطق هذا الافتراض أننا على مستوى التفكير اليومي سنتوصل بالضرورة إلى استنتاج مفاده أن قيمة القوة «القسرية» تتفوق على السلطة «الشرعية». وسيختلف تفكيرنا بشأن العلاقة بين السلطة القسرية والسلطة الشرعية عنه في حال فشل الانقلاب العسكري أو إجهاضه مثلًا.

من بين المنطلقات الجيدة لاستبيان هذه العلاقة هي الحالات الموثقة للصراع على السيادة بين الإمبراطورية والكنيسة. كيف كان لنتيجة هذه الصراعات المؤسسية أن تشكل العلاقة بين الإمبراطورية والكنيسة، بل ونظرتنا إلى القيم التي يمثلها كل منهما؟ كيف أفرزت تلك النتيجة افتراضنا القائل بأن «القوة» بمعنى السلطة القسرية السياسية تهيمن على مجال ولاية الأمر بكامله؟ وكيف لنا أن نفصِّل «سلطة» منح الأسرار المقدسة، ورسامة الكهنة، وتنصيب الأساقفة، وإقرار المذاهب وغير ذلك مما يخص الكنيسة عن «صلاحيات السلطة في المجال العام»، بمعنى «السلطة القسرية المتعلقة بالسلطة العامة … أي القوة الحكومية الحقيقية»؟ (أوكلي ٢٠٠٦، ٧٩) ماذا يُستنتج من اختلاف الإمبراطورية والكنيسة اللاتينية حول الرفض «القاطع» للبابا جلاسيوس الأول مَنْحَ الإمبراطور «السلطة الكهنوتية» حتى مع تأكيد الإمبراطور الروماني في الشرق عليها؟ (أوكلي ٢٠٠٦، ٧٧).

عند دومو، كان الأفضل اعتبار هذا التعارض اختلافًا بين «كيانين أو وظيفتين» (دومو ١٩٨٦أ، ٢٣–٥٩، ٤٦)؛ إذ يمكن الفصل بين «الوظيفتين» أو صورتي السلطة من خلال تعريف الفارق بين ما يوصف «بالروحاني» وما هو «دنيوي» (دومو ١٩٨٦أ، ٢٣–٥٩، ٥٠). وقد جرى عادةً التعبير عن تلك السلطات من خلال التمييز بين السلطة الشرعية للقديس والسلطة القسرية للملك (دومو ١٩٨٦أ، ٢٣–٥٩، ٤٦). في القرون الأولى اتسمت هذه العلاقات بالنزاع المتقطع، فعندما يعلن الإمبراطور نفسه (في القرن الثالث) «الحاكم المطلق … فوق القانون» مستعيضًا عن لقب الملك بلقب السيد، ومختزلًا «المواطنين» في «الرعايا»، فإن الصراع في سبيل فصل الإمبراطورية عن الكنيسة يبدو حتميًّا. وطالما كان السؤال عمن كانت السيادة تعود إليه؛ فأي هاتين المؤسستين لها اليد العليا: أهي الإمبراطورية لأنها احتكرت القوة والسلطة القسرية، أم هي الكنيسة لأنها مثلت السلطة الشرعية النهائية للرب؟ وعليه، أي القيمتين وأي السلطتين — القسرية أم الشرعية — كانت أعلى؟

ومن الأمثلة التي توضح هذا الصراع الصدامات بين الإمبراطور والكنيسة حول مسائل العقيدة الدينية، كما كان الحال في مجمع نيقية (٣٢٥م)، ويؤكد دومو أنه «كان من المحتَّم» أن يصطدم قسطنطين في مجمع نيقية «أحيانًا بمطالبة الكنيسة بأن تظل الجهة العليا.» وبوصف قسطنطين الملك المقدس كما تصوَّر نفسه — رغم أنه لم يكن مسيحيًّا تمامًا وقتها — فقد أنشأ المجلس في نيقية. ويلخص عقد المجلس وأمر الأساقفة بالحضور — كل ذلك في سبيل توحيد الإمبراطورية — كيف رأى قسطنطين أن الدين والسياسة يمثلان وجهين لعملة واحدة. وفي المقابل، كان البابا والمجلس «مهتمين بالحفاظ على» سلطتهما الشرعية من خلال «تعريف العقيدة باعتبارها أساس الوحدة الأرثوذوكسية». وبينما شعرت القيادة الكنسية بتهديد الوجود القمعي للقوة القسرية تجاه سلطتها الشرعية، فقد «مقتت تدخُّل الحكام صونًا للسلطة الإكليركية» (دومو ١٩٨٦أ، ٢٣–٥٩، ٤٥)؛ ففي الشرق برز القديس أثناسيوس (٣٧٣) بصفته منتقدًا «للتدخل الإمبراطوري في الشئون الإكليركية». أما في الغرب فكان القديس هيلاري (٣٦٧) نظيره (أوكلي ٢٠٠٦، ٧٧). لذا، «ليس صحيحًا» — كما يقول فرانسيس دفورنيك — «أن الأساقفة كانوا أدوات طيعة في أيادي الأباطرة المستبدين؛ فهذه الفترة من التاريخ الكنسي تعجُّ بالصراعات الشديدة مع كبار الكهنة على الحق الحصري في تعريف العقيدة المسيحية» (دفورنيك ١٩٥١، ١–٢٣، ٢٢). في الواقع، رغم أن المسيحيين بصفة عامة تقبلوا «إقرار صفة القدسية لأي حاكم»، وسعى كبار علماء اللاهوت كذلك لحشد الدعم الفكري لهذه الرؤية، فإن مقاومة الملكية المقدسة في الغرب استمرت؛ فالإمبراطورية والكنيسة في الغرب وقفتا إذن في خضم صراع مرير غير محسوم بعضهما مع بعض، باعتبارهما ممثلتين لمجموعتين مختلفتين من المصالح، وجانبين مختلفين من الواقع. أدى هذا التدخل المستمر من جانب كلٍّ منهما في شئون الآخر إلى غياب الوضوح الفكري عن العلاقة بين الإمبراطورية والكنيسة (أوكلي ٢٠٠٦، ٧٧)، وأدى انعدام نظرة الإمبراطورية والكنيسة المناسبة إحداهما للأخرى إلى إغلاق الطريق أمام احتمال التوصل إلى حل عملي لصراعهما.

لكن، في نحو عام ٥٠٠م، حاول البابا جلاسيوس الأول طرح حل نظري لاضطراب العلاقة بين الإمبراطورية والكنيسة (٤٩٢–٤٩٦م)؛ ففي خطابه عام ٤٩٤ إلى الإمبراطور أناستاسيوس كشف عما وصفه ستيفن أوزمنت بأنه «ربما يكون أكثر بيان متزن عن العلاقة بين القوتين العلمانية والإكليركية» (أوزمنت ١٩٨٠، ١٣٩). طرح البيان نظرية سعت على الأقل لتناول الصراع بين الإمبراطورية والكنيسة — السلطة القسرية والسلطة الشرعية — على مستوى اللاهوت والفكر، وإن ترك هذا الصراعات العملية لتُحل بطريقتها الخاصة. وبينما لم يعد يُتصور أن يكون للإمبراطور «أي منصب كهنوتي»، لم يكن لرجال الدين أن يطمحوا للمناصب الحكومية بأنفسهم. وكتب جلاسيوس إلى الإمبراطور عن هذا التصور الجديد:
اثنان يحكمان هذا العالم بصفة رئيسية؛ السلطة المقدسة للكهنوت auctoritas، والسلطة الملكية protestas. والأثقل من بين الاثنتين هي مسئولية الكهنة عن ملوك البشر أنفسهم عند الحساب. اعلم أن لك (أيها الإمبراطور أناستاسيوس) أفضلية في المكانة على سائر البشر، إلا أن عليك أن تنحني أمام هؤلاء المسئولين عن الشئون السماوية، وتلتمس منهم وسائل الخلاص … لأن الأساقفة وإن أقروا … بأن التاج الإمبراطوري جاء إليك نتيجة الإرادة الإلهية، فهم يستجيبون لقوانينك طالما كانت ضمن دائرة النظام العام … فبأي قدر من الحماس عليك أن تطيع هؤلاء الذين تقع على عاتقهم مسئولية إدارة الغيبيات المقدسة؟ (تيرني ١٩٦٤، ١٣-١٤، مقتبس في أوزمنت ١٩٨٠، ١٣٩).

من ثم رأى جلاسيوس «الكيانين أو الوظيفتين» المتعارضتين — سلطة الكاهن الشرعية وقوة الملك القسرية — مرتبطتين بعلاقة تبادلية دقيقة، فبدلًا من كونهما سلطتين قطبيتين متعارضتين، فقد اجتمعتا برابطة شرعية حميمة، فتحقق نوع من التوازن والتبادلية، وإن لم يكن إلا نظريًّا. وبدلًا من إخضاع الملوك للكهنة أو الكهنة للملوك، افترض جلاسيوس علاقة تبادلية تقوم على أساس العطاء المتبادل والاستقلال المؤسسي. فلم تكن الكنيسة والإمبراطورية إذن مرتبطتين من الخارج ضمن ترتيب مؤقت؛ ففي كلمات جلاسيوس «يخضع الكاهن للملك في الأمور الدنيوية التي تخص النظام العام»، ومن نفس المنطلق «يخضع الملك للكاهن في الأمور الروحية» (دومو ١٩٨٦أ، ٢٣–٥٩، ٤٦). وباعتبار الكهنة من رعية الإمبراطورية، فإنهم يخضعون لسلطة الحكومة الإمبراطورية، لكن «مفهوم الصلاحيات الكهنوتية للإمبراطور» المقبول وقتها على نطاق واسع — بغض النظر عن سوء تعريفه — قد تلاشى؛ «فلم يعد الإمبراطور يحمل لقب الكاهن، ولم يعد الكاهن يتمتع بمكانة ملكية» (أوكلي ٢٠٠٦، ٧٧).

فرضت هذه العلاقة بين المؤسستين بدورها علاقة فعلية مناظرة في ممارسة «السلطتين» المتكاملتين: السلطة الشرعية والسلطة القسرية؛ فالسلطة القسرية للملك تستلزم إذن خضوع الكاهن وسلطته الشرعية فيما يخص الأمور الدنيوية، وفي المقابل تستلزم السلطة الشرعية للكاهن خضوع قوة الملك القسرية فيما يخص الأمور الروحية. وهذا هو النقيض تمامًا للقول بأن الملوك يتمتعون بالسلطة الشرعية الروحية، أو أن الكهنة يتمتعون بقوة قسرية، بل يعني ذلك أن كلًّا منهما يعترف بامتيازات الآخر كلٌّ في مجاله الصحيح (أوكلي ٢٠٠٦، ٧٨)، فكلتا السلطتين تستند إلى الأخرى من دون أن تتحول إحداهما إلى الأخرى، وهما ليستا كيانين مستقلين منفصلين، فكلتاهما ضروريتان في تكوين النسيج الاجتماعي الكلي (دفورنيك ١٩٥١، ١–٢٣، ٢٠).

ويمكن رصد نفس هذا التكامل في العلاقة بين البراهميين والملك في الهند القديمة. إذن فالمجتمع الهندي القديم لم يكن مجرد تجمع من الكيانات المستقلة التي الْتأمت بلا تناغم لتتعامل اجتماعيًّا بعضها مع بعض، بل هي أجزاء من نسيج عضوي واحد، فبعضها «ينتمي» للبعض الآخر باعتبار كونه أجزاءً ضرورية لنفس المجموع؛ لذا بينما قد يظن بعض البراهميين أنهم «أسمى من الملك من الناحية الدينية أو من الناحية المطلقة»، فهم في الحقيقة ليسوا الأسمى بالمعنى المطلق، وبالتأكيد ليسوا أسمى في النواحي الملكية. فمن جوهر طبيعة البراهمي أنه «خاضع من الناحية المادية» للملك الهندي؛ فهو «منتمٍ» إليه لذلك، والعكس صحيح في المسائل الشعائرية والدينية (دومو ١٩٨٦أ، ٢٣–٥٩، ٤٦ وما بعدها). وبالمثل، بالعودة إلى جلاسيوس، علينا أن نُؤَوِّل محاولة البابا تلك في التوفيق بين السلطة القسرية والسلطة الشرعية باعتبارها تضعهما في علاقة هرمية تكاملية يفهمها الهنود القدماء جيدًا؛ لذا «إن كانت الكنيسة جزءًا من الإمبراطورية من ناحية المسائل الدنيوية، فإن الإمبراطورية جزء من الكنيسة فيما يتعلق بالأمور المقدسة» (دومو ١٩٨٦أ، ٢٣–٥٩، ٤٨)، فلا يوجد عند جلاسيوس أي مجتمع روماني إطلاقًا ما لم «تنتمِ» كل سلطة إلى الأخرى جوهريًّا. فإلى أي مدًى يمكن للسلطة الشرعية أن تصل في سياق سياسي من دون «القوة» القسرية؟ يبدو أن جلاسيوس يرى أنه ليس مدًى بعيدًا. وهل «للقوى الموجودة» أن تحكم من دون «قوة» السلطة الشرعية التي تدعمها وتبيح وجودها؟ مرة أخرى يجيب جلاسيوس بالنفي. وكما أوضح الفيلسوف السياسي جوزيف راز، فإن «الحق في الحكم» يكمله «إلزامية الطاعة» (راز ١٩٦٨، ٢٣). علاوة على ذلك، عندما يصمد المجتمع، «فمن بين أسباب ذلك أن بعضًا من الرعية على الأقل يقبلون» استحواذ الحكام على الحكم (راز ١٩٨٦، ٢٧).

إلا أن موازنة جلاسيوس الأيديولوجية الحساسة — التي وُصفت بأنها غير ممكنة — لم تكن لتصمد لأكثر من قرنين؛ حتى مع كونها نظرية، فقد كانت السلطتان في طريقيهما لأن يكونا أكثر التباسًا. فمثلًا، في مرحلة مبكرة لم تتجاوز القرن الخامس، أخذت الكنيسة تتولى «شئونًا عامة» في روما، مثل الصحة والتعليم والخدمة الاجتماعية (أوكلي ٢٠٠٦، ٩٤)، وعندما اختلط الأمر لهذه الدرجة تعدت السلطة القسرية هي الأخرى حدود مجال السلطة الشرعية، وغلبت السلطة الشرعية من الناحية العملية من خلال القضاء على استقلاليتها؛ فالقوة المحضة — السلطة القسرية — تميل لاختزال كل السلطات الأخرى في ذاتها، بما في ذلك السلطة الشرعية؛ لذا فمنذ القرن الخامس أصبحت الكنيسة «مجتمعًا إجباريًّا قسريًّا شاملًا يشبه ما نسميه الدولة يكاد لا يمكن تمييزه عنها في شموليته» (أوكلي ٢٠٠٦، ٩٤).

ربما أخذت الأحداث منعطفًا مختلفًا خلال ترسيخ الكنيسة لمكانتها بوصفها «الدولة الحقيقية في العصور الوسطى بالمعنى المعاصر» مع التنصيب المشئوم لبيبان القصير ملكًا على الفرنجة من قِبل البابا ستيفن الثاني في عام ٧٥٤م (فيجيس ١٩٩٨، ١٥)، فقد اعترفت الكنيسة بشرعية الأسرة الكارولنجية، وباركتها مباركة خاصة بإسباغ صفة الملكية عليها عن طريق المسح بالزيت المقدس. دافع الفرنجة من جانبهم عن مصالح الكنيسة، ومنحوا البابا جزءًا كبيرًا من وسط شبه الجزيرة الإيطالية ليكون تحت حكمه وهيمنته الدنيوية الأبدية (السلطة القسرية). وفي عام ٨٠٠م، أقر التتويج البابوي — والمسح المقدس — لشارلمان إمبراطورًا على الرومان بحسن نواياه، باعتباره ملكًا مقدسًا عليه مسئوليات دينية جسام تجاه رعيته (أوكلي ٢٠٠٦، ٩٨)؛ لذا علينا ألا نتجاهل الأسلوب الذي أعاد به الفرنجة تقديم الملكية المقدسة في المشهد، وألا نتجاهل الطريقة التي رأى بها شارلمان — على وجه الخصوص — نفسه «حاكمًا مسيحيًّا» مسئولًا عن قيادة «شعبه المسيحي» إلى الخلاص، لكن في الوقت ذاته لم يقتصر الأمر على تتويج البابا ومسحه شارلمان بالزيت المقدس؛ ومن ثم مباركة الأسرة الكارولنجية، باعتبار ذلك بداية للإمبراطورية الرومانية المقدسة، بل منذ ذلك الحين ووصولًا إلى عصر «الملكية البابوية» من القرن الحادي عشر وحتى القرن الرابع عشر، تحول الباباوات أنفسهم لسلطات «سياسية عليا» كذلك. وكما يخبرنا جيه نيفيل فيجيس: «إن الإمبراطورية الرومانية المقدسة … حاولت تطبيق فكرة الدولة ذات القوة الشاملة، لكن تلك الدولة كانت الكنيسة» (فيجيس ١٩٩٨، ١٤). استمر هذا الوضع خلال العصور الوسطى بحيث صاحَبَ «المطالبة البابوية بالحق الأصيل في السلطة السياسية تغييرٌ في العلاقة بين ما هو سماوي وما هو دنيوي؛ إذ طالب عندها الأول بحكم العالم من خلال الكنيسة، وصارت الكنيسة منخرطة في الأمور الدنيوية أكثر من أي وقت مضى» (دومو ١٩٨٦أ، ٢٣–٥٩، ٥٠). فكلٌّ من الكنيسة والإمبراطور زعم أنه يحكم بموجب ما لديه من سلطة قسرية. لذا، نحن ننظر للقوة باعتبارها شيئًا واحدًا بدلًا من كونها ساحة للاختلاف المُكمِّل؛ لأن الكنيسة لم تعد تمثل العالم الروحي وحده، فقد تقلدت دورًا دنيويًّا بينما أضاف الإمبراطور — أو زاد — بُعدًا روحيًّا على ملفه الدنيوي الواضح. بعبارة أخرى، في نقطة غير محددة في التاريخ، صار الروحي دنيويًّا وصار الدنيوي روحيًّا. وفي مرحلة ما لم يعد ما كانا مبدأين مختلفين — الروحي والدنيوي — شيئين متمايزين، بل صارا جانبين من نفس الشيء؛ وهو «القوة». وبتقلص الاختلاف بين الإمبراطورية والكنيسة، استحوذ البابا على دور الإمبراطور في الغرب، واختلطت المبادئ الروحية والدنيوية بعضها ببعض، واستمدت السلطة الشرعية التي يدَّعيها قوتها من سلطته السياسية. والآن نعيش في ظل نتائج هذه التفاعلات التاريخية من خلال نظرتنا الحالية لمفهوم «القوة».

ورغم محاولات جلاسيوس الجمع بين السلطتين تحت سقف المصلحة المشتركة للكل الاجتماعي، وهما اللتان شكلتا جزأين مكونين له، فإنه لم ينجح في مسعاه الصعب هذا. يمكننا القول إن الكيانين اللذين يمثلان السلطة القسرية والسلطة الشرعية قد ذهب كلٌّ منهما مذهبه الخاص؛ بحيث احتلت السلطة القسرية المكانة الأولى؛ لذا فبدلًا من الحكم الثنائي الهرمي الذي طرحه جلاسيوس، أصبحت الكنيسة بحلول القرن العاشر الميلادي أساسًا «لملكية مكتملة الأركان لم يسبق لها مثيل؛ وهي ملكية روحية»؛ لذا رغم المحاولات القسطنطينية والإفرنجية في الغرب لإرساء دعائم «سلالة مقدسة» على غرار الإمبراطورية الشرقية كانت النتيجة نظام «الكهنة الملكيين» في الكنيسة الرومانية في الغرب (دومو ١٩٨٦أ، ٢٣–٥٩، ٥٠). لقد ضمنت جهود ما يسمى بالإصلاحات الجريجورية في القرن الحادي عشر ألا يتمكن الملوك من حمل صفة القدسية، ولا أن يستمروا في «تكريم» الأساقفة ﺒ «الرموز الروحية مثل الخاتم وعصا الأسقف»، فاستحوذ البابا على صلاحيات أعلى من الإمبراطور، وزعم أنه — وليس الرب — هو مصدر القوة الكامنة في الزيت البابوي المقدس (أوكلي ٢٠٠٦، ١١٢). وفي مقابل نظام جلاسيوس للحكم الثنائي — حيث كانت الكنيسة جزءًا من الإمبراطورية والإمبراطورية جزءًا من الكنيسة كذلك — جعلت الإصلاحاتُ الجريجورية الإمبراطورية جزءًا من الكنيسة في الحالتين. وكان ذلك يعني — كما كتب البابا جريجوري السابع في خطاب لهيرمان أسقف ميتز (مارس ١٠٨١) — أن «كهنة المسيح يجب اعتبارهم آباء الملوك والأمراء وأسيادهم» (أوكلي ٢٠٠٦، ١١٥)؛ ومن ثم أنكر الباباوات القدسية — أو الحكم بالحق الإلهي — على الأباطرة، لكنهم احتفظوا بها لأنفسهم، وجعلهم هذا «الخلفاء الحقيقيين لأباطرة الرومان سابقًا» (أوكلي ٢٠٠٦، ١١٦).

الدرس النهائي الذي نستفيده هنا في استقصاء مفهوم «القوة» هو أنه لا يهم كثيرًا مَن حمَل عصا الهيمنة؛ لأنه في حالة إذا كان حاملها الكنيسةُ أو «الدولة»، فإن القوة السياسية المحضة كان لها اليد العليا. وعليه، فقد اتحد العالمان الروحي والدنيوي على حساب الجانب الروحي. إن الدرس الأخير من هذه الحكاية هو أن كلًّا من الإمبراطور والبابا — بجانب السلطات في مجاليهما — يطلق عليهما وصف «القوى»؛ فمصطلح «القوة» المحضة — أي السلطة القسرية — يُطلَق أيضًا على السلطة الشرعية؛ إذ صارت هي الأخرى مجرد «قوة».

يُفسِّر هذا الالتباس ذو البعد التاريخي بين السلطة القسرية والسلطة الشرعية مجموعة من الحالات الشاذة ظاهريًّا في عالم الدين والسياسة. فلماذا على سبيل المثال قد تدعي مؤسسة دنيوية معروفة باحتكارها استخدام القوة والعنف — القوة بمعناها القسري، أو في ضوء الدولة المعاصرة أو الدولة القومية — صفة دينية؟ لماذا صارت محل الطاعة المطلقة التي لا يقتصر الأمر فيها على تضحية الأفراد بحياتهم في سبيلها، بل يشعرون بأنهم ملزمون بذلك؟ ولماذا تحتكر الدولة القومية هي الأخرى استخدام السلطة القسرية، أو القوة والعنف؟ لماذا تسمو سلطتها الشرعية على نحو يكاد يكون تامًّا عن مستوى الشبهات؟ ولماذا تستحوذ على وظائف أخرى للسلطة الشرعية؛ هي الحق في فرض الطاعة، والحق في الحكم، وواجب الالتزام بالطاعة ناحيتها؟ (راز ١٩٨٦، ٢٣–٢٦) وما هي الأسباب الأخرى وراء اعتبارها الغاية الطبيعية للولاء الشخصي والمجتمعي؟ فعلى كل حالٍ لا تنادي غيرها من الكيانات الجمعية الكبرى بهذه المطالب، رغم سعي المؤسسات الاعتبارية الحديثة إليها، ولماذا أصبحت — بهذه الطريقة — «تجسيدًا للقيم المطلقة» — أو العناصر الروحية السامية — التي تُنسب في الأصل للرب أو غيره من الكيانات الدينية؟

يقدم انهيار طرح جلاسيوس إجابة عن تلك التساؤلات؛ إذ يبين اتصاف الدولة القومية بمثل تلك الصفات المميزة أنها «ليست امتدادًا لغيرها من الكيانات السياسية؛ كجماعة الفرنجة المهاجرة، أو الدولة patria، والمدينة civitatas عند الرومان، أو دولة المدينة polis عند الإغريق، بل هي «كنيسة متحولة»» (دومو ١٩٨٦، ٢٣–٥٩، ٥١)، وهيمنت الدولة الحديثة وقيمها المرتبطة بالسلطة القسرية هيمنة عالمية من موقعها السامي ذاك باعتبارها «كنيسة متحولة»، وبذلك امتلكت سلطتها الشرعية. فالدولة الحديثة باعتبارها «كنيسة متحولة» تطالب بالفداء، والولاء المطلق، والاعتراف بحقوقها السامية في الخضوع لها؛ بالسلطة الشرعية التي نُسبت ذات يوم للكنيسة باعتبارها السمة المميزة لها؛ فهي «قوة»، بل هي القوة والينبوع المقدس لكل القُوى والمهيمن الذي يحتكر استخدام القوة. ومن هذا المنطلق، تدعي الدولة الحديثة كذلك من الناحية العملية — على الأقل — حقَّها في السلطة الشرعية العليا في عالم البشر، رغم الاعتراضات في بعض الأحيان من قِبل بعض الجماعات الدينية. وهنا يبرز السر الملهم لمبدأ «قول الحق في مواجهة السلطة» الذي عفا عليه الزمن؛ السر التنويري للحركات غير المواكبة إطلاقًا للعُصُر التي تقاوم السلطة القسرية بسلطة شرعية يمارسها أمثال مارتن لوثر كينج الابن، أو غاندي، أو الدالاي لاما. ويبرز من الناحية الأخرى السر الأقل إلهامًا، والمتعلق بأسباب نظرتنا للقوة على نحو يعطي الأفضلية «للكنيسة المتحولة»؛ أسباب نظرتنا إلى الظلم باعتباره نتيجة للقوة المادية أو العنف المحض؛ وأسباب اختزالنا الظلم في «العنف المؤسسي». وهنا كذلك تتضح أسباب نظرتنا لجميع أشكال السلطة باعتبارها صورًا لقوة الهيمنة المحضة؛ «الكنيسة المتحولة»، القوة المحضة، السلطة القسرية.

(٤) عامل مساعد: علينا أن نلوم فوكو أيضًا

إلا أن التاريخ البعيد ليس السبب الوحيد في نظرتنا للقوة باعتبارها مجالًا واحدًا خاصًّا بالسياسة؛ إذ يوجد عامل مساعد، وهو ميشيل فوكو. إن شعبيته الحالية كان لها دور كبير — كما أظن — في تجدد أحكامنا المسبقة على أساس العرق بشأن «القوة»؛ فهو الذي تحدث عن القوة بوصفها «التوزيع العام للطاقة داخل نظام اجتماعي ما» (تشيدستر ١٩٨٨، ٧). لقد شجع فوكو إذن على النظر إلى القوة باعتبارها «حراكًا سائدًا أو توترًا موجودًا في شبكة معينة من العلاقات الاجتماعية … شبكة معقدة من القوى والتوترات والطاقة تُكَوِّن النظام السياسي …» فبدلًا من كونها متركزة على الدولة، صارت «القوة طاقة تفاعلية تتشعب داخل النظام الاجتماعي» (تشيدستر ١٩٨٨، ٨).

إن ما ينُسب لفوكو في هذا الخطاب عن «القوة» لا يسهل ذكره في بضع كلمات، لكن من المؤكد أن تحديده لموضع العوامل الدقيقة والمتعددة الأقطاب للهيمنة خلالها بجانب ضرورة المقاومة والكفاح يجب أن يأتي في الصدارة. وفي المقام الأول، يأتي ترديد فوكو في البداية لفكرة أن «المعرفة هي السلطة»؛ لذا يَعتبر فوكو أن عمله يسعى إلى التحريض على «انتفاضة معرفية» تكشف كيف أن نظراتنا للعالم تُمكِّن أنظمة معينة من الاستحواذ على القوة، فإن كانت المعرفة هي السلطة، فإن فوكو أراد إذن أن يكشف الأمور الخفية التي كان خفاؤها يضر بحرية الإنسان، فالأنظمة المعرفية التي تروِّج لمحتوياتها «العلمية» تمثل في الغالب أهدافًا لجهود فوكو الماهرة الرامية إلى إخراج ادعاءاتها بالحرية من تلك الحسابات المتعلقة بالقوة، فيقول فوكو إن كونها أنظمة معرفية كافٍ لتضمينها في أنظمة السلطة؛ إذ «يتعارض وجوب بدء الصراع بشدة مع أهداف خطاب يعد علميًّا.» ويرى فوكو أن تقسيم الأنظمة المعرفية وتصنيفها للأشياء يعطيها قوة هائلة؛ حيث إننا نتفاعل مع تلك الأشياء في ضوء هذه التصنيفات (فوكو ١٩٨٠، ٨٤).

إن جُل جهود فوكو قطعًا تحررية؛ إذ يسعى لشيء أقرب إلى التحول في سياستنا، فهو يريد «تصور خطط تسييس جديدة … تتخذ صورًا جديدة» في سبيل تيسير التحرر؛ وخاصة التحرر من «الآليات المتعددة الجديدة للسلطة التي تتماشى مع الاقتصادات المتعددة الجنسيات والدول البيروقراطية» (فوكو ١٩٧٧ب، ١٨٣–١٩٣، ١٩٠). وعليه، فإن كتابات فوكو التاريخية الغنية من الناحية النظرية، والمفعمة بالإيحاءات الثقافية، أنتجت جيلًا يفكر في كيفية سيطرة الأفراد والمؤسسات على غيرها باستخدام أكثر الوسائل خفاءً وغموضًا وعفوية. ونتيجة لاتساع نطاق موضوعات فوكو — الجنس والتصنيفات والمصحات والسجون — يسهل معرفة كيف يمكن لعمله أن يجتاز حدود موضوعات متعددة في المجال الأكاديمي. ما عليك إلا أن تفكر في الطريقة العفوية التي تدعو بها الإنسانية التنويرية إلى الحرية والإصلاح، وأيضًا في الكيفية التي يتأتى بها لمؤسساتها — مثل المصحات — أن تطبق في الغالب أقسى صور الهيمنة اللاإنسانية، فتلك العمليات المجردة من الإنسانية انطلقت من المعارف «المستنيرة» التي قسَّمت الناس وصنفت سلوكهم، ومنحت المجردين من الإنسانية سلطة على الناس.

وفي الوقت الذي ندين فيه بالكثير ﻟ فوكو؛ ذاك المؤرخ والفيلسوف الفرنسي العظيم، فإن مدخله إلى «القوة» يعزز في الحقيقة تحيزاتنا الثقافية التي تشكلت على مدار التاريخ، والتي كشفتُ النقاب عنها في الصفحات السابقة. ومن هذا المنطلق، ورغم اشتهار فوكو بإحداث ثورة في تفكيرنا، فقد عزز في الواقع التحيزات المترسخة التي تكونت عبر التاريخ في نظرة الغرب «للقوة»، فبحسب فوكو، فإنه بجعله «القوة» الموضوع الأساسي لأعماله الفكرية الكاملة عزَّز ميولنا «الفطرية» لتفضيل نموذج الصراع في الاجتماعيات الإنسانية.

لكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد؛ ففي أعمال فوكو لا نجد أي فصل بين السلطة الشرعية والسلطة القسرية، فالقوة وحدة واحدة، وهي سياسية. وتكمن المفارقة في أنه بينما يقول فوكو إنه يسعى للتفكير في القوة خارج إطار «العالم الواقعي» للسياسة اليومية للدولة، فهو يطرح مفهومًا للقوة ذا طبيعة سياسية حتى النخاع، فعند فوكو «تشكل مجموعة علاقات القوة في مجتمع ما المجال السياسي»، «فالسياسة هي … استراتيجية لتنسيق هذه العلاقات وإدارتها.» وبعود «السلطة» إلى المعادلة من جديد، يترتب عليه من باب أولى عند فوكو أن:

كل رابطة قوة تتضمن رابطة سلطة في جميع الأوقات … وكل رابطة سلطة تتجسد باعتبارها نتيجة لها، بل شرطًا لإمكان وجود مجال سياسي تكون هي جزءًا منه، فالقول إن «كل شيء سياسي» يؤكد على الوجود الشمولي لعلاقات القوة ولملازمتها مجالًا سياسيًّا (فوكو ١٩٧٧ب، ١٨٣–١٩٣، ١٨٩).

ويوجد ما هو أكثر من ذلك؛ فإصرار فوكو على اعتبار السلطة مفهومًا سياسيًّا يؤدي إلى نظره للسلطة في إطار المؤسسات الإنسانية باعتبارها الحرب. وعليه، يعتبر فوكو أن الحرب عمل سياسي نموذجي، وهو إذن جوهر السلطة، يقول فوكو:

كل الصراعات السياسية والصراعات على السلطة، أو التي توظف السلطة، أو التي تنشب في سبيلها، والتغيرات في علاقات القوة، وتفضيل نزعات معينة، والتعزيزات، وغير ذلك مما يجري في إطار السلام الأهلي لا ينبغي أن تُفسر بشيء إلا بأنها استمرار للحرب (فوكو ١٩٨٠، ٩٠-٩١).

هنا يدعم فوكو الإعلان الصريح وغير النادم لصورة متطرفة لنموذج الصراع باعتباره أساس التاريخ والحالة الإنسانية (فوكو ١٩٨٠، ٩٠، تايلور ١٩٨٥أ، ١٥٢–١٨٤، ١٧٠)، فكل ما يرتبط بالصور المتطرفة لممارسة السلطة؛ كالحرب والصراع والنضال (وليس من بينها المصطلح الأكثر حيادية: «الحكم»)، يمثل مضمون التاريخ، وسيظل كذلك دائمًا. وبأسلوب أكثر مباشرة، فإن امتلاك «القوة» بالمعنى الذي يقصده فوكو يعني تفسير العلاقات الإنسانية في سياق سياسي بحت، أي من منظور الصراع والقسر والهيمنة وغيرها من صور السلوك السياسي في عالمنا. ويستلزم هذا أن يُنظر «للسلطة» بالمعنى السياسي؛ بل ويستوجب الأخذ في الحسبان فكرة فوكو القائلة بأن الحياة الإنسانية عامةً تتضمن ممارسات السلطة في كل مراحلها. ويُعد الادعاء الشائع بأن «الأمور الشخصية هي ذاتها الأمور السياسية» عَرَضًا بارزًا لهذا النمط من التفكير (مينوج ١٩٩٥، ٥-٦). لذا، ففي الإنسانيات يدخل الحديث عن السياسة في كل شيء، والسلطة — السلطة المحضة بمعنى السلطة القسرية — تشمل كل شيء، فهي تستحوذ على مجال العوامل المؤثرة بسبب شعبية فوكو في غالب الأمر.

(٥) إشكالية السلطة في جنوب أفريقيا

إذن ماذا يحدث عندما نربط مفهوم فوكو عن السلطة بالدين؟ في صورة أولية من تلك العلاقة، يمكننا أن نرى تركيز فوكو على السلطة في كتابات علم من الأعلام المعاصرة في دراسة الدين:

لذا تصير الأديان أكثر الأمثلة انضباطًا لتكوينات السلطة؛ أي أنماط القوة التي تتحكم بحياة البشر، وتملي مسارها. لا يختلط عليك الأمر، فالأديان تتمحور حول السلطة؛ السلطة التي تُمنح لك، والسلطة التي تتحكم بك (ليس ١٩٩٤، ٤٥٣–٤٧٩، ٤٧٤).

ويربط نفس الكاتب عندها السلطة بالسياسة بصورة قد تلقى قبولًا لدى فوكو، فيرى جاري لِيس أن نتائج فهم الدين واضحة؛ «فالدين نقطة رئيسية لتوزيع السلطة والسيطرة … على الوعي؛ أي إن الدين في النهاية ودائمًا هو تجلٍّ سياسي، وينبغي أن يُنظر إلى أي نظرية تخص «الدين» باعتبارها نظرية سياسية كذلك» (ليس ١٩٩٤، ٤٥٣–٤٧٩، ٤٥٩). لكن مثل هذه العبارات تجعلنا في موقف سيئ على مستوى النظرية المجردة، فكيف سيكون موقف فوكو ونظريته «في الواقع» عندما يتدخل الدين؟

يقدِّم مؤرخ الأديان في جنوب أفريقيا ديفيد تشيدستر تصورًا جيدًا عن نظرة فوكو إلى «الواقع» في الأجزاء الجنوبية من أفريقيا على الأقل. لنبدأ بالطريقة التي يبدو بها اقتناع فوكو بأن «المعرفة هي السلطة» من منظور تشيدستر. يلفت تشيدستر في إشارة لعالم الأنثروبولوجيا لويس ليكي إلى تصنيف الأخير لحركة الماو ماو باعتبارها «ديانة»، بعد أن كان قد صنَّفها في وقت سابق باعتبارها جماعة «سياسية». وبهذا فقد بدَّل ليكي «معرفتنا» بقبيلة الكيكويو بنفس الصورة التي قال فوكو إنها قد تحدث بتصنيف بعض نزلاء المصحات في القرن الثامن عشر المصابين بهذا «المرض» العقلي أو ذاك. وعليه يجب أن يتبع هذا بعض النتائج بخصوص السلطة حسب نظرية فوكو، فما هي؟

من المثير للاهتمام أن عملية إعادة توجيه «المعرفة» عن الكيكويو تمَّت في نفس الوقت الذي كانت تمارس فيه الحكومة الكينية سلطاتها — أي قوتها القسرية — لحبس الآلاف من قبيلة الكيكويو فعليًّا في أثناء ثورة الماو ماو، بتزكيات من ليكي كذلك. وكما هو متوقع، فقد لفتت هذه المصادفة انتباه تشيدستر وهو يطرح طريقة للتجاوب معها تتوافق مع أفكار فوكو؛ فالتغير «المعرفي» فيما يخص الكيكويو يتزامن مع تغير في علاقتهم «بالسلطة» التي تملك القوة القسرية، كما يرى تشيدستر — بما يتفق بصورة أو بأخرى مع معتقدات فوكو — ممارسة ليكي لسلطة التصنيف على أنها تكافئ فرض القوة القسرية الصريحة التي تملكها السلطة السياسية؛ لذا يقول تشيدستر:

في وسط منطقة حرب … حاول لويس ليكي أن يعزز الحصار المفاهيمي الاستعماري حول حركة الماو ماو من خلال تصنيفها على أنها ديانة. وتصادف هذا الاحتواء المفاهيمي مع احتواء على أرض الواقع لآلاف من الكيكويو في السجون ومعسكرات «إعادة التأهيل» (تشيدستر ١٩٩٦، ٢٥٦).

وبينما لا تتوافر لدي أي نية للدفاع عن ليكي، أو عن الإدارة الكينية الاستعمارية، يمكننا أن نحاول تخطي تشبيهات تشيدستر المجازية من أجل أن نفهم ما الذي يدعيه في الحقيقة.

أرى أن استنتاج تشيدستر متكلف وغير مقنع وسخيف بكل صراحة، فإن كان لنا أن نستشف شيئًا من تشيدستر، لكان ذاك الشيء هو أن إعادة التصنيف التي أجراها ليكي — أو «حصاره المفاهيمي» — كان لها دور في التسبب في «الاحتواء الفعلي» من خلال القوة القسرية لقبيلة الكيكويو. ومن المستبعد أنه يقصد أن نوعي «الحصار» و«الاحتواء» يؤديان إلى نوع من التناغُم الفني الجميل. فكما يقول تشيدستر: «لقد حاول ليكي أن يعزز حصارًا مفاهيميًّا استعماريًّا حول» البشر ذوي اللحم والدم. ألا يكشف هذا بصورة مؤكدة إذن — وبما يتعارض مع نظرية فوكو — حقيقة مفادها أن «المعرفة ليست السلطة» بمعناها القسري؟ يخطئ تشيدستر بالخلط بين «اعتقال الناس» واعتبارهم «ضمن فئة واحدة». مؤكد أن «معرفتنا» — أي تصنيفنا للكيكويو — من شأنها أن تسهِّل ممارسة أشكال معينة من «السلطة» عليهم، فوصف شخص ما بأنه «عدو مقاتل» في صراع عسكري سيحسم إن كان ينظر إليه باعتباره هدفًا يستحق الإبادة أم العكس، لكن بينما قد يؤدي سبب ما إلى نتيجة ما؛ فذلك لا يعني أنهما ليسا الشيء ذاته، فالمعرفة قد تكون هي السلطة، لكن السلطة ليست شيئًا واحدًا في الحقيقة.

كان تشيدستر سيصيب قدرًا أكبر من الصحة لو أنه قال إن «عزل» الكيكويو وحدهم ضمن هذا التصنيف أو ذاك يذكره من الناحية المنطقية «بعزل» الناس في السجون، أو إن الأمر يشبه ذلك مجازًا، لكن أخذ هذه التشبيهات بالمعنى الحرفي سيتسبب — كما أرى — في إشكاليات أمام تشيدستر؛ إذ سيتوجب الاعتراف بوجود صور مختلفة «للسلطة»، ولن تصمد معتقدات فوكو عن السلطة باعتبارها مجالًا واحدًا. بدلًا من ذلك، يطلق تشيدستر الادعاء غير المبرر على ما يبدو بأن ليكي أوعز للحكومة الاستعمارية «باحتواء» قبيلة الكيكويو نتيجة تصنيفه لبعض الجوانب من ثقافتهم على أنها دينية. فما الدليل الذي وصلنا من ليكي — أو من غيره فيما يخص هذه المسألة — لكي نضم دعوته «للاحتواء» المادي مع «احتوائه» لثقافة الكيكويو داخل حدود مفهوم واحد للدين دون سواه، خاصة عندما يوصف ذلك التصنيف الجديد بأنه «ديانة»؟ وحتى إن أمكن إثبات أن «الاحتواء» المفاهيمي سبب أو شرط «للاحتواء» المادي، ألا يُفترض أن أي مفهوم يُطبَّق على الكيكويو سيؤدي إلى النتيجة ذاتها، وليس «الدين» فقط؟ نعم، يوجد أسباب كثيرة لتصديق تشيدستر — مثل الآلاف غيره من المستوطنين البيض في ماو ماو كينيا — عندما قال إن ليكي كان حريصًا على رصد الأعداء المتخيلين، لكن رغبة ليكي تلك لا تتعدى مجال «السياسة» المحلية، بل هي جوهر السياسة (السلطة) بمنظورها القسري.

إذا كانت رغبتي في التفريق السليم بين أشكال «السلطة» سببها إثبات مسألة منطقية، فإنني قد أكون متهمًا بالعبث بأعمال تشيدستر، وهذا في الواقع أبعد ما يكون عن الحقيقة؛ فلأن تشيدستر يتبنى اختزال فوكو لجميع أشكال «السلطة» في صورة واحدة، وهي في الأساس السلطة القسرية؛ فهو يغض الطرف عن حقيقة اختلاف الأطراف الفاعلة، وينتهي به المطاف إلى التعامل مع جميع ممارسات السلطة كما لو كانت كلها واحدة، وبهذا المنطق فهو لا يفرق كثيرًا بين المجرمين الحقيقيين وغير المجرمين؛ إذ ربما يبرئ تشيدستر من الناحية العملية الأكاديمي البارز الداعم لسياسات الفصل العنصري التي تدعمها وتديرها الدولة — وهو نفسه أحد الفاعلين الرسميين الفعليين في قلب سياسة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا — من مسئوليته عن ممارسة القوة القسرية الحقيقية، فلا يتعدى الحديث عن دبليو إف أيزلين مجرد صفحة ونصف من الكلام العام عن دوره في «الاحتجاز» الفعلي للأفارقة، في الوقت الذي يسترسل تشيدستر — كما رأينا — في الحديث عن «احتجاز» ليكي المجازي لمتمردي الكيكويو ضمن فئة «الدين» (تشيدستر ١٩٩٦، ٢٥٢-٢٥٣). إن اللوم على مثل هذا التضليل ربما لا يقع على تشيدستر بقدر ما يقع على فوكو الذي يسعى الأول لمحاكاته. وكما سأبين في الفصل المقبل، وكما ذكر مايكل والزر من قبلي، فإن هوس فوكو بالسلطة والسياسة «يُفقد قرَّاءه إحساسهم بأهمية السياسة» فيما يتعلق بسياسة الدولة وممارستها للقوة القسرية (والزر ١٩٨٦، ٥١–٦٨، ٦٦)؛ فقد ضلل فوكو تشيدستر ودفعه ليترك دون عقاب «المذنب» الحقيقي المسئول عن ممارسة السلطة الفعلية على الأفارقة باستغلاله الحاذق لتصنيفهم!

إن هدفي هنا ليس نقد عمل ديفيد تشيدستر لذاته، بل استخدامه كمثال ضمن عملية استقصاء لمفهوم السلطة وتفاعلها مع الدين؛ إذ يبين كيف يمكن أن يهيمن الحماس الأيديولوجي والأخلاقي — الذي استلهمناه من فوكو — على ما نفعل أكثر من اللازم، كما يبين أننا بحاجة لاستقصاء بنية السلطة تلك بقدر ما يتلذذ البعض باستقصاء «الدين».

(٦) مواجهة فوكو بفكره

أولى خطوات إجراء هذه العملية الأساسية على مفهوم «السلطة» هي التحرر بقدرٍ ما من السيطرة القوية لفكر فوكو علينا. وبهذا يمكننا معرفة «حدوده»، إن جاز التعبير. ويمكننا بهذه الصورة أن «نتجاوز» فكره هذا وصولًا إلى ما أرى أنه منظور أعمق تجاه «السلطة» و«السياسة»؛ ومن ثم الدين والسياسة، لكن ألا يمكن أن نسأل فوكو عن إمكان أن يطور الفرد نفسه ويمكِّن لها — بتعلم الرسم أو الرقص أو السباحة وغير ذلك — من دون تسلُّط الآخرين؟ وهل الحديث عن السلطة في مثل هذه السياقات كالحديث عن السلطة في غيرها من السياقات التي تصير فيها المنافسة والصراع ضد الخصوم هي الأمر المعتاد؟ فحتى لغة المنافسة أو الصراع «مع النفس» يجب أن نشك في أنها امتداد زائد لصورة مجازية، وأن وراءها دافعًا مختلفًا في جوهره. ألا يخبرنا مثل هذا الحديث عن إصرارنا دون تفكير على التمسك بمفهوم واحد مُسيس عن السلطة والأطراف الفاعلة بأكثر مما يخبرنا عن الطبيعة الحقيقية لمجموعة الفواعل وعوامل التمكين التي تؤثر في مجريات الأمور؟ وهل التمكين — سواء للنفس أو للآخرين — كتعلُّم الغناء منفردًا أو في كورال، أو تعلم الرقص منفردًا أو مع الآخرين من الضروري أن يكون وصفه الأمثل أنه ممارسة للسلطة، أم يمكن اعتباره إثراءً وتطويرًا وتمكينًا وغير ذلك، وليس حربًا؟ فليس الرسم ولا الرقص فنًّا قتاليًّا. ألا يمكننا أن نمارس الغناء والرقص دون أن نصطبغ بالسياسة في أيٍّ من معانيها المفهومة؟ هل نكون فعلًا في «حرب» عندما نمكن أنفسنا من خلال الاهتمام بالألوان المائية؟ بالقطع لا، لكن هذا ما يدفعنا فوكو إلى الاعتقاد به، وما يعنيه الارتباط الشديد بين فكره والتحررية الجديدة. علينا أن نرفض طريقة التفكير هذه باعتبارها أضيق نطاقًا من أن تساعد على فهم البشر، وعلينا أن «نتخطى حدود» منظور فوكو الضيق إذا أردنا أن نتقدم بتفكيرنا عن الدين والسياسة إلى الأمام.

ومن الغريب أن أفضل شخص يمكنه مساعدتنا على تجاوز حواجز فكر فوكو التي رأيناها إلى الآن هو خليفته: فوكو نفسه في سنواته الأخيرة! ففي بعض كتاباته الأخيرة — وخاصة المجلدين الثاني والثالث من «تاريخ الجنسانية» — يبدو أن فوكو تبنى منظورًا يفتح الباب على الأقل أمام الاحتمالات التي طرحتُها (فوكو ١٩٨٨، ١٦–٤٩، ٣٥)؛ ففيه يتناول الممارسة الإغريقية القديمة، أو «رعاية النفس»، أو «النظرة التقدمية»، أو «السيطرة» على «النفس» التي ظهرت ضمن الفن الرواقي للتدريب على ضبط النفس. إلا أن فوكو — وكأنه ينقلب على فكره السابق — يرى أن هذا النوع من رعاية النفس ليس «نشاطًا سياسيًّا» على الإطلاق (فوكو ١٩٨٨، ١٦–٤٩، ٢٦). لقد تراجع فوكو في الكثير من الأفكار التي تبناها تشيدستر رغم أنه لم يستطع التخلص من الاستخدام غير السليم للغة «الهيمنة»؛ إذ يقول في محاضرته عام ١٩٨٢ بعنوان «تكنولوجيات النفس»:

ربما زاد إصراري على تكنولوجيا الهيمنة والسلطة عن حدِّه، لكن يزداد الآن اهتمامي بالتفاعل بين الفرد والآخرين، وبتكنولوجيات الهيمنة الفردية، وتاريخ تحكُّم الفرد بنفسه، وتكنولوجيا النفس (فوكو ١٩٨٨، ١٦–٤٩، ١٩).

إن استدراكه المتأخر خير من عدمه على ما أظن.

(٧) النظر للسلطة بمنظور السلطة الشرعية والبناء الهرمي

إذا ثبت أن بحث مفهوم السلطة في هذا الفصل مقنع، فما انعكاس ذلك على بؤرة اهتمام هذا الكتاب المتمثلة في الدين والسياسة؟ فإن أصبتُ في اعتقادي بأن نظرتنا «للسلطة» أحادية البعد، فلم لا نحسنها على الأقل بجعلها ثنائية الأبعاد؟ ونتيجة لأسباب تاريخية خاصة بالغرب، فقد اعتدنا أن ننظر «للسلطة» من منظور واحد فقط، المنظور الموحِّد للقوة السياسية والقسر والعنف وما شابه؛ أي بالمعنى القسري، لكن إن كان هذا هو الحال، إذن فاستقصاؤنا يبين أننا يمكننا مقاومة ما فرضه التاريخ بالنظر إلى «السلطة» من المنظور الشرعي كذلك، فإن أمكننا التمييز بين هذين المعنيين للسلطة، فسنستطيع استكشاف الدين و«السلطة» بما يتجاوز البعد الواحد «للسلطة» بمعناها القسري.

وعليه فأودُّ أن أختتم هذا الفصل بطرح هذا البعد الآخر «للسلطة» المعروف بالسلطة الشرعية. ويوصف هذا البعد الآخر لامتيازات «السلطة» بالبعد «الديني» — كما ذكرت في الفصل الثاني — خاصة عندما تكون أهدافنا النظرية هي فهم التفاعل بين ما يمكننا أن نسميه الدين والسياسة. ويعني هذا أنه بينما يمكننا أن نجد كلتا السلطتين الشرعية والقسرية في جميع أشكال التكوينات الاجتماعية — سواء السياسة أو الدين أو الفن أو غير ذلك — فإني أقدِّم ما أرى أنه طريقة مثمرة لتمييز الجانب الديني في السياقات السياسية بالكامل في العادة من خلال تتبع الفرق بين السلطة القسرية والسلطة الشرعية. في حالات كثيرة بالطبع لن يكون هناك داعٍ لتمييز البعد الديني في الأحداث ذات الطابع السياسي المحض بطبيعتها، لكن تحديد إن كان علينا أن نتناول الجانب الديني من عدمه سيتوقف على أهدافنا واستراتيجياتنا الفكرية والجدلية الأعم. وأرى أن الموقف الحالي للتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط، ربما يكون أحد هذه الحالات التي ينفعنا فيها فصل ما يوصف منطقيًّا بالجانب «الديني» كما سأوضح في الفصل الأخير.

لذا سأشير مجددًا إلى ما ذُكر آنفًا عن كيفية تعريفنا «للدين» في السياق الاستراتيجي للتمييز بين الدين والسياسة، ويتمخض هذا عن الصيغة التالية: بينما يمكن ﻟ «دين» معين أن يُجسد كلتا السلطتين القسرية والشرعية، لا يمكن لأي «دين» أن يُتصور في غياب السلطة الشرعية، بل يمكن ذلك حال غياب السلطة القسرية، لكن على الجانب الآخر، بينما يمكن للسياسة هي الأخرى أن تكون مزيجًا من السلطتين الشرعية والقسرية، فمن الممكن تصورها في غياب السلطة الشرعية، لكن ليس في غياب السلطة القسرية. وفي الفصل الأخير، سأناقش كيف يمكننا فهم روابط الدين و«السلطة» بصورة أفضل من خلال التطرُّق لمثال التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط. ففي رأيي أن التفجيرات الانتحارية يمكن وصفها بأنها أعمال سياسية؛ حيث إنها تُمارس السلطة في صورة قوة قسرية، لكنني أقول إنه سيكون من المهم فهمها من ناحية كونها أعمالًا «دينية»؛ أي تمارس السلطة الشرعية، وهو الأمر المنطقي نتيجة اعتمادها على التراث الإسلامي. فالنظر إلى «السلطة» باعتبارها مفهومًا منقسمًا بدلًا من كونها مفهومًا واحدًا يوفر لنا قدرًا أكبر من الفهم للأحداث التي تجري في هذا العالم.

لذا، بدلًا من تحديد بعض الفروق المجردة بين الدين والسياسة، أرى أنهما يمتزجان بالتوازي مع معنيي «السلطة»، فالتفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط تجمع في الحقيقة بين الدين والسياسة، حتى وإن كان من المفيد الفصل بين هذين البعدين في الحياة الإنسانية، وأرى أن فهم هذا «الامتزاج» بين الأنواع المختلفة «للسلطة» هو ما يمكننا من فهم ظاهرة التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط مثلًا، ولهذا سأُبيِّن أن مثل تلك التفجيرات — سواء رضينا عنها أم لم نرضَ — يجب أن يُنظر إليها باعتبارها أعمالًا جهادية علمانية «قوية»، وباعتبارها في ذات الوقت تضحيات دينية ذات سلطة شرعية، فالتفجيرات تمثل حالات ينكشف فيها جوهر الحكمة التقليدية عن الدين الذي أسميته بالقوالب الفكرية على حقيقته في صورته الأولية.

ومن دون القفز إلى ما توصلت إليه، لن أشير إلا لما هو واضح وبديهي — وهو أنه إن استطاع أحد إثبات أن التفجيرات الانتحارية تمثل ظاهرة دينية تجمع بين السلطة القسرية والسلطة الشرعية — فهذا سوف يستتبع نتائج كثيرة، من بينها نقض القالب الفكري الذي ينص على أن الدين خير دائمًا؛ حيث تتوافر أسباب عديدة — تتوقف على وجهة نظر الفرد في الصراع — للحكم على التفجيرات الانتحارية بالشر، بقدر ما توجد أسباب للحكم عليها بالخير. إن استدعاء السلطة الشرعية للدين الإسلامي في مثل تلك الأعمال لا يجعل من التفجيرات الانتحارية عملًا «خيِّرًا»، بحيث إن مجرد بيان جوانبها السياسية الواضحة سوف يؤدي بالضرورة إلى الحكم عليها بأنها «شريرة». وهذا واحد فقط من بين القوالب الفكرية التقليدية عن الدين والسياسة يُستبعد من المعادلة عندما ننقب في نظرتنا إلى الدين والسلطة والسياسة فيما وراء ظاهرها.

لكن في المرحلة الراهنة، اسمحوا لي أن أستنبط نتائج ذات صلة من المناقشة التي وردت في هذا الفصل. لقد توجَّه هذا الفصل بأكمله توجهًا قويًّا نحو استقصاء للسلطة يتطلب مناقشة تامة لمفهوم السلطة الشرعية، فنحن نعلم كيف ولِمَ ننظر «للسلطة» نظرتنا الحالية. فماذا نعرف عن «السلطة» إذن بمعناها الشرعي؟ وما هي السلطة الشرعية التي ينبغي فصلها عن السلطة بمعناها المفهوم في أغلب الأحيان؛ وهو السلطة القسرية؟

يقول ريتشارد ستانلي بيترز إن إدراك المصطلح اللاتيني auctoritas الذي يعني المشروعية هو «المفتاح» لفهم «السلطة الشرعية»، فبجانب إتاحته فهمَ الأصل اللغوي اللاتيني للَّفظ الإنجليزي لمفهوم السلطة الشرعية؛ وهو authority، فإن إدراك هذا المفهوم كما عرَّفه الرومان، أتاح لنا فهمًا أعمق لمفهوم السلطة الشرعية المعاصر؛ لذا ففهم المشروعية لدى الرومان هو مفتاح فهم معنى السلطة المعقد بصورة أعمق. ويتيح إدراك مفهوم لنا استيعاب الفارق بين السلطة بالمعنى الشرعي والسلطة بالمعنى القسري (القوة). ويتيح لنا فهم هذا الفارق نظرة أعمق نحو الفارق المناظر بين الكنيسة والإمبراطورية، والفارق بين الدين والسياسة بالتبعية؛ لذا فعند استكشافنا لمعنى مفهوم المشروعية سنجد أكثر من مجرد سؤال أكاديمي حول معنى الكلمة اللاتينية، فمفاهيمنا الأساسية عن الدين والسلطة والسياسة كلها تستمد معانيها من مصادر قديمة استمر أثرها في تشكيل نظرتنا إزاء تلك المفاهيم إلى يومنا هذا. وسنبدأ بمفهوم المشروعية auctoritas.
كان مصطلح المشروعية auctoritas عند الرومان يشير في الأصل إلى قوة العقود القانونية أو ثقل شهادة الشهود، وتغير معنى المصطلح لاحقًا ليشير إلى «الوجاهة أو المكانة أو الثقل» الخاص بالشاهد أو المستند وخلافه، وبالتبعية صار يطلق على الشخص الذي يضيف هذه القيمة أو الثقل للمستندات أو المعاملات اسم الكاتب (أو auctor باللاتينية)؛ لأنه يعطي عمليًّا قيمة أكبر — أو يمنح استمرارية وقوة — لأي شيء اعتُبر أن له مشروعية. وتحمل الكلمة اللاتينية كلا معنيي الكلمة الإنجليزية المناظرة auctor؛ حيث إن كلمة author تعني الكاتب أو الشخص المبدع (فريدمان ١٩٩٠، ٥٦–٩١، ٧٤). إلا أن معنى المبدع هو المعنى الذي استمر لمدة أطول في تشكيل أفكارنا عن السلطة الشرعية، فالكاتب أو المبدع بصفته مصدر «الإنتاج أو الابتكار أو التأثير» الذي «يمكن ممارسته في دوائر الرأي والشورى والسيطرة وغيرها» هو المعنى الذي استمر بيننا وقتًا أطول. وبهذا المعنى، فإن مفهوم الكاتب auctor أو author محوري في الأمور المتعلقة بالمشروعية أو السلطة الشرعية؛ لذا ففي «الحياة الاجتماعية — سواء شئنا أم أبينا — يوجد مثل هؤلاء الكتبة أو المبدعين»، فهم «واضعو أو مصممو الأوامر والمنطوقات والقرارات وغيرها»، فعليهم «يقوم التنظيم الاجتماعي» (بيترز ١٩٥٨، ٢٠٧–٢٢٤، ٢١٠)؛ لذا يؤمن فريدمان بالرأي القائل إن تعريف ويليام جلادستون للسلطة الشرعية يحدد مكانة الكاتب باعتباره «يُضيف» لما كان موجودًا من قبلُ. يقول جلادستون:
إن الفكرة المثلى (عن «الكاتب») هي أنه شخص يضيف. ومن الناحية الحرفية، يجب أن تكون هذه إضافة لشيء كائن من قبلُ، كما يضيف الشاهد شهادته إلى الشيء الذي يشهد عليه … فاستخدام كلمة author بمعنى الكاتب سليم حرفيًّا؛ وهو المعنى الأصلي.
ومن بين ما يضيفه الكتبة هو نقلهم الأشياء من مستوًى ما إلى مستوًى مختلف:

يتوسط «الكاتب» بيننا وبين الحقائق أو الأفكار، ويضيف إليها أساسًا من المعتقدات ليؤكد على احترامنا لها … ومن ثم نجد أنفسنا ربما أمام أكبر وأوضح صورة «للسلطة الشرعية»، باعتبارها ما يقع بيننا وبين شيء معين، وباعتبارها ما يضيف — بالنسبة إلينا — إلى ذلك الشيء ما يعد جانبًا جوهريًّا منه (فريدمان ١٩٩٠، ٥٦–٩١، ٧٥، جلادستون ١٨٧٧، ٣-٤).

إذن يتضمن مفهوم المشروعية — أو الشرعية — بالتبعية مفهوم التراتب الهرمي؛ لأن وجود «المستويات» أو الدرجات يدخل فورًا في المعادلة، فالكاتب يتدخَّل وسط مستويات الحقيقة بإضافته إلى أشياء في مستوًى معين أشياءَ من مستوًى آخر أو أشياء من عنده. وهذا بالضبط هو ما يفعله الأبطال والمنقذون في العالم؛ فالمنقذون «يقدمون» الخلاص، والأبطال «يمنحوننا» الأمل، لكن لا يمكن في أيٍّ من الحالتين أن يستويا مع باقي البشر — إذ إننا نعتمد على تدخُّلهم — حتى وإن كان نجاح تدخلهم يتوقف على قبولنا وإقرارنا به، فلا المنقذون ولا الأبطال يعيشون في الفراغ وحدهم، ولا يمكنهم بالتأكيد أن ينجحوا وحدهم، فالاعتماد المتبادل شرط لنجاح دورهم؛ لذا فتدخل الكاتب يجب أن يحظى بالقبول أو يُعترف به من قِبل مَن «يضيف» هو إليهم؛ إذ لا يمكن فرضه قسرًا، كما هو الحال مع السلطة القسرية. إذن فقد رأى جلادستون أن كلًّا من الكاتب والسلطة الشرعية يشتركان في أنهما جزء من منظومة اعتماد على الغير، فالأمر يتعلق بالسلطة الشرعية أو الكاتب الذي عليه يعتمد الفرد؛ لذا فحكم شخص آخر مُقدَّم على حكم الفرد نفسه (فريدمان ١٩٩٠، ٥٦–٩١، ٧٦).

ولما كانت منظومة السلطة الشرعية بالضرورة منظومة تنعدم فيها المساواة، فهي تضع الفرد في حالة من الالتزام تجاه من يمتلك السلطة الشرعية؛ أي الكاتب. وتقتضي السلطة الشرعية واجبًا تجاه الكاتب، فالسلطة الشرعية من ضمنها القدرة على فرض الطاعة، فهي الوسيلة التي نحمل بها الآخرين على «فعل ما نريد» (فريدمان ١٩٩٠، ٥٦–٩١، ٥٩)؛ ومن ثم أينما تَسُدْ قيم الفردية والمساواة تزعجْنا التزاماتنا، وستبدو المراتب الهرمية التي تفرضها مرهقة ومقيِّدة. وعندها تصبح السلطة الشرعية هي الأخرى محل شكٍّ بطبيعة الحال، كما جاء في الشعار الثوري الصريح الذي كان يُكتب على ملصقات السيارات في ستينيات القرن الماضي: «تشكك في السلطة!» وربما يدخل هذا ضمن الأسباب التي جعلتنا — نحن «الحداثيين» — نكبح جماح السلطة الشرعية، فنحن لا نفضِّل مواجهة حاجاتنا إليها، نحن نبغضها لأنها تضع «لجامًا» مرفوضًا في أفواهنا. إن مبادئ الفردية والمساواة عندما تسود، فإن التأكيد على أهمية السلطة الشرعية سيوضع في أفضل الأحوال محل التدقيق الواعي. أما في أسوئها فسيخضع لأحكام قاسية، وربما قاطعة؛ فالبناء الهرمي لا يتناسب مع نظرتنا التقليدية المؤمنة بالفردية والمساواة تجاه العالم.

إن هذا الشعور العام بعدم الارتياح إزاء السلطة الشرعية فيما بيننا — نحن الفرديين المعاصرين — يجعل من السهل علينا نسبيًّا أن نظن في أن مَن في السلطة دائمًا ما يسيئون استغلال ثقة الناس في السلطة الشرعية، فنحن منتبهون لاستعداد مَن هم في السلطة لإخفاء نيتهم في فرض سلطتهم الشرعية باستخدام القوة القسرية. لذا، يذهب مؤرخ الأديان بروس لينكولن لدرجة القول إن القوة والعنف «كامنان في السلطة الشرعية»، فالسلطة الشرعية «قد تستخدم القوة» في أي وقت ولأي سبب؛ لذا علينا أن نكون متيقظين للسلطة الشرعية لأنها «تضم في ثناياها القدرة على القمع بالعنف» التي يسعى إليها «المناصرون الليبراليون» للتفريق بين السلطة الشرعية والقسر. فرأي لينكولن — من ناحية — هو نسخة مادية من مفهوم فِيبر عن القوة الغامضة «الجذابة» التي تقوم عليها السلطة الشرعية. فمن رأي فِيبر أن السبب في خضوع الناس للسلطة الشرعية ليس أنهم يبصرون — بغير وضوح — خلف حجاب السلطة «المشروعة» الملامح القاسية للقوة القسرية الكامنة هناك، بل لأن الشخص أو المؤسسة المستحوذة على السلطة الشرعية تملك قوة سحرية يسميها فيبر «الجاذبية» أو «الكاريزما» (أيزنشتات ١٩٦٨، ٢١ وما يليها). إذن، فلينكولن وفيبر — كلٌّ بطريقته — يرفضان تناول السلطة الشرعية على نحو مستقلٍّ، بل يسعيان في المقابل لأن ينسباها لشيء مختلف تمامًا. فمن الحكمة إذن لدى الساعين لامتلاك السلطة الشرعية — إما بالقوة وإما بالجاذبية على التوالي — أن يكفوا عن المبالغة في ممارسة سلطتهم الشرعية؛ لئلَّا ينزعوا «ورقة التوت» التي تواري «سوءة القوة»، أو يكشفوا أن السلطة الشرعية مجرد خدعة سحرية وهمية (لينكولن ١٩٩٤، ٦).

وبغض النظر عن نجاح محاولة لينكولن في اختزال مفهوم السلطة في القسر — أي اختزال السلطة الشرعية في القوة القسرية — من خلال الممارسة الفعلية للسلطة، فإن الطبيعة الهرمية للسلطة الشرعية تظل قائمة، لكن المشكلة الوحيدة في الاختزال المفترض، من جانب لينكولن، للسلطة الشرعية في القوة القسرية هي الرغبة المتزامنة في القول بأن السلطة الشرعية تعتمد على «الثقة» (لينكولن ١٩٩٤، ٨)، أو الآراء «العامة المشتركة» (لينكولن ١٩٩٤، ١٠). ومهما تحدث ماكس فيبر عن سحر الجاذبية الخالص لدى السلطة الشرعية، يخبرنا هو نفسه كذلك بأهمية «الاعتراف» بالسلطة الشرعية ذات الجاذبية بالنسبة لقوتها؛ إذ يخبرنا فيبر عن أهمية ما يُسمَّى بالأشياء «غير الملموسة» مثل «الثقة» في الشئون الإنسانية، وكيف تهمنا بالتبعية عوامل أخرى بجانب السلطة (أيزنشتات ١٩٦٨، ٢٠). ما يوضحه هذان المثالان هو أنه بينما يمكن تخويف الناس على نحو خفيٍّ في سبيل إخضاعهم — من خلال القوة القسرية المتنكرة في صورة السلطة الشرعية مثلًا كما يقترح لينكولن — ثمة مرحلة تعتمد فيها السلطة الشرعية بالكامل على مدى تقبُّلها. فالسلطة الشرعية كلها تتخذ صورة هرمية؛ وهو شيء لا يسعنا — نحن المؤمنين بالمساواة — أن نعترف به. وبالمثل، يعرف فيبر كيف يمكن «للتهديد باستخدام القوة» أن يكون مؤثرًا، لكنه يعرف أنها دائمًا «خيار أخير» (أيزنشتات ١٩٦٨، ١٦)، وفيما عدا هذه الحالات القصوى، فإن ما يبقى في الممارسة الطبيعية للسلطة الشرعية هو ضرورة أن تكون «مشروعة» — أو «مقبولة» — بمعنى أن يخضع الناس بإرادتهم لغيرهم؛ فريتشارد ستانلي بيترز — على سبيل المثال — يقول:

إن مصطلح «السلطة الشرعية» ضروري لوصف المواقف التي يتم فيها الامتثال من دون اللجوء إلى القوة أو الرشوة أو الحوافز أو الدعاية، ومن دون كثير من الجدل أو النقاش، كما في المواقف الأخلاقية (بيترز ١٩٥٨، ٢٠٧–٢٢٤، ٢١٨).

يخبرنا بيترز من ثَمَّ أن السلطة الشرعية ينبغي أن تُعزى إلى سمات الكاتب باعتباره «شخصًا يضيف شيئًا جديدًا»، أو باعتباره صاحب مهارات استثنائية، وبنفس القدر ينبغي أن تُعزى إلى المجتمع الذي «يتقبَّل» الكاتب بصفته تجسيدًا للسلطة الشرعية. فقط مع توافر شروط الاعتماد المشترك والتبادلية — البناء الهرمي — «تتحقق» السلطة الشرعية.

عندما يُطرح مثل هذا المفهوم عن السلطة المستمدة من المجتمعات، فإن الشخص الذي يخطر اسمه على الذهن هو عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركايم؛ فدوركايم هو خير من يعلمنا كيف يمكن للمجتمع أن يمارس «السلطة» التي ليست إكراهًا قسريًّا ولا قوة حجة جيدة.

(٨) ماذا بعد؟ النظر للسلطة بالمعنى الشرعي والقوة الاجتماعية

أما فيما يتجاوز السلطة الشرعية التي تشتمل على نوع من القوة غير القسرية التي تعمل عملها من خلال العلاقة التبادلية والإقرار والتقبل والبناء الهرمي، فإن كلمة كاتب auctor، تشبه في معناها أفكار دوركايم عن العوامل الاجتماعية السلبية والإيجابية التي تشكِّل الفعل البشري. وهذا هي ما يشير دوركايم إليها ﺑ «القيود» و«القوى» الاجتماعية على التوالي. فأما العوامل الاجتماعية السلبية — «القيود» عند دوركايم — «فمعناها النموذجي» هو «ممارسة السلطة الشرعية بدعم من العقوبات لحمل الأفراد على الامتثال للقواعد»، فهذه هي سلطة السيطرة الاجتماعية؛ أي «سلطة» الرأي العام، والضغط الاجتماعي، والإلزام الأخلاقي والواجب، التي يجب أن تُطاع وهكذا، وأما على الجانب الإيجابي عند دوركايم، حيث إن «القوى» الاجتماعية كانت تحرك «عوامل سببية تدفع الناس» من بين أشياء أخرى ﻟ «الخروج على القواعد» (لوكس ١٩٧٢، ١٣). وهذه هي «السلطة الشرعية» بمعناها الذي يتجاوز الواجب. وهنا يأتي الفعل المشروع الذي اعتبره دوركايم «مستحسنًا». فبالمعنى الذي قصده دوركايم يمثل «الخير والواجب» جزءًا من كلِّ التزام، ولا يقل وجود «درجة معينة من الاستحسان» — كما يقول دوركايم — «أهمية عن الواجب» (جدنز ١٩٨٦، ١٥٥).

تمنح السلطة الشرعية من الجانب الإيجابي المستحسن الناس الثقة التي تدفعهم إلى الابتكار، وإخراج طاقاتهم الإبداعية، وهو ما يوازي مفهوم دوركايم عما هو «مقدس»، والذي يُعتبر هو الآخر «خيرًا، ويحظى بالحب ويُسعى إليه» (جدنز ١٩٨٦، ١٥٥). هذه القوة «التمكينية» لا علاقة لها في الواقع بالمفهوم السلبي عن القيود التي تفرضها رابطة الدين، التي بيَّنها في أول هذا الفصل جاري لِيس؛ كأن يكون الدين عبارة عن «أنماط من القوة تسيطر على حياة البشر، وتملي عليهم كيف يعيشونها» (ليس ١٩٩٤، ٤٥٣–٤٧٩، ٤٧٤). كذلك لا تشبه هذه القوة «التمكينية» حديث فوكو عن «الصراعات السياسية؛ أي الصراعات على السلطة، أو التي توظِّف السُّلطة، أو التي تنشب في سبيلها»، التي «لا ينبغي أن تُفسر إلا بأنها استمرار للحرب» (فوكو ١٩٨٠، ٩٠-٩١)، فهي ليست إذن «السلطة» بالمعنى القسري، بل هي «السلطة» بالمعنى الشرعي؛ وهي ما سماه أتباع دوركايم «القوى المولِّدة للقدرة». وهذا تكرار لمفهوم جلادستون عن أن الكاتب هو شخص «يضيف شيئًا» لحياتنا العامة، وهُمُ الأبطال في هذه الحالة! فها هم أولئك الذين «يضيفون شيئًا» للحياة العامة بتدخلهم وسط مستويات الحقيقة.

وهذه الطاقات الإبداعية تميز لحظات «الفوران الجمعي» عند ولادة مُثُل ومعتقدات جديدة (لوكس ١٩٧٢، ١٣، بيكرنج ١٩٨٤، ٢٠٩–٢١٥). علاوة على ذلك، يحدد دوركايم المكان الذي تتجسد فيه وتنطلق «القوى المولِّدة للقدرة» في صورة الدين، بل الأكثر من هذا لدى أتباع دوركايم أن «الوظيفة الأساسية للدين هي توليد القدرة»، فالدين بوصفه أحد عوامل «السلطة» الشرعية من ثم «ينتج طاقة اجتماعية؛ يجب أن ينظر إليها من منظور النشاط والتغيير» (بيكرنج ١٩٨٤، ٢١٤). لذا، عندما شكا لويس دومو من أنه «رغم أن السلطة مفهوم له دور مركزي في علم السياسة المعاصر؛ فهو غامض جدًّا بحيث لا يبرر هذا الدور إلا نادرًا» (دومو ١٩٧٩، ١٦٥). كان يقصد بذلك التحذير، لقد كان يتحدى أمثال لِيس وفوكو الموجودين بيننا في افتراضهم أن السلطة إما قيد سلبي، وإما سلطة قسرية إمبريالية تابعة «للسلطة» السياسية. وفي حين ينطبق ذلك عليها جزئيًّا، فإنها سلطة شرعية كذلك. فمشكلتنا — التي تسبَّب فيها تاريخ الغرب كالعادة — هي أننا أصبحنا ننظر للسلطة باعتبارها مجالًا موحدًا بلا ملامح، بدلًا من كونها مجالًا للاختلاف والتكامل، فما كان في وقت ما عبارة عن مبدأين متمايزين بوضوح — الديني والدنيوي اللذين يوازيان السلطة الشرعية والسلطة القسرية — صارا صورتين لنفس الشيء؛ وهو «السلطة». فعندما ذاب الفارق بين الإمبراطورية والكنيسة، وتولى الباباوات دور الأباطرة في الغرب، تغيرت نظرتنا الغربية نحو «السلطة» كذلك. لكن ليس علينا أن نتقبل مثل هذه النظرة، فبإمكاننا أن نوسع نطاق مفاهيمنا عن «السلطة» لتشمل معنًى أكبر للسلطة؛ هو السلطة الشرعية.

في مجال نقاش ثري وواسع يضم الدين والسلطة والسياسة، سأعترف بأن الناس قد يختلفون حول موضع التركيز؛ ولهذا السبب فإن اتجاه البحث الذي بدأه فوكو يجب أن يستمر بنفس الوتيرة؛ وليزدهر بستان الفكر بمختلف الزهور! مشكلتي مع فوكو وأمثاله هي أنهم يختزلون الأبعاد الكثيرة المحتملة «للسلطة» في بُعدٍ واحد هو السلطة القسرية. وقد سعيتُ بدلًا من ذلك إلى تمييز الاختلافات بين المعاني المختلفة للسلطة، واستحضار واحد منها على الأقل — السلطة الشرعية — يمكنه أن يبين دور الدين في هذه الأمور. وبوضع كلا المعنيين للسلطة أمامنا — السلطة القسرية والشرعية — يمكننا أن نتناول إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة على مستويين اثنين على الأقل؛ الأول: هو تناول معنى «السلطة» باعتبارها عاملًا يؤثر في شئون الدين والسلطة السياسية؛ أي من ناحية السلطة القسرية، والمستوى الثاني هو البيان الأفضل لمعنى «السلطة» باعتبارها السلطة الشرعية، أو «القوة الأخلاقية».

سأركز في الفصل المقبل على ذلك المجال الأول للسلطة بالمعنى السياسي. مرة أخرى باعتبار أفكار فوكو نموذجًا مناسبًا للمقارنة، فسأركز على «السياسة» بالمعنى «السليم»، وليس المعنى الموسَّع الذي طرحه فوكو. وهذا يعني التفكير العميق في «السياسة» — أي استقصاءها — بنفس الصورة التي سعيت بها للتنقيب في منجم التاريخ عن مصطلح «السلطة». وبدلًا من استكشاف مفهوم فوكو عن «الفاشية المُصغَّرة في الحياة اليومية»، سأركز على الرأي القائل إن المكمن الطبيعي «للسياسة» في عالمنا — أي الدولة — هو «الكنيسة المتحولة». فأي اختلاف يحدث عندما ننظر للعلاقة بين الدين والسياسة باعتبارها علاقة بين «الكنيستين» كما كان الحال؟ ماذا يختلف في نظرتنا للدين والسياسة عندما نرى ظاهرة مثل التفجيرات الانتحارية في الشرق الأوسط شكَّلها الصدام بين «الكنيسة المتحولة»؛ أي الدولة الحديثة، و«الكنيسة الصريحة»؛ أي الثقافات والمؤسسات الدينية الحديثة؟ فساحة التلاقي تلك تشمل ما يُشار إليه بساحة الدين والسياسة. وفي العادة لا ننظر إلى تلك الساحة باعتبارها ساحة للتلاقي بين «الكنائس». وقبل أن نرى ماذا سيحدث عندما ننظر للدين والسياسة باعتبارهما ساحة ترتبط فيها «كنيستان» بعضهما ببعض، علينا أولًا أن نُجري استقصاءنا الأوَّلي لمفهوم «السياسة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤