مقدمة الطبعة الأولى

إذا كان المريض المحموم يتطلع دائمًا إلى ما يلطِّف عنه عناء المرض وحرارة الحمَّى، فكذلك النفوس المضناة من هموم هذه الحياة المرتبكة تتطلع إلى التحرر من قيودها، وتنزع إلى البساطة والاعتدال.

والاعتدال بنوع خاص لا يتقيد بالظروف والحالات التي يتطور فيها المجتمع، ولا بالنظريات الفلسفية العقيمة التي ينسبها واضعوها لحاجة الاقتصاد والتمدين والرقي الاجتماعي؛ لأن الاعتدال روح عالية تُشْرِف على العقل والنفس وتوجههما في السبيل السويِّ، بدون أنْ تبعدهما عن العمل لما فيه رقي الفرد والجماعة، فكل من يتطلع إلى الاعتدال، ويعمل بمقتضياته فإنما يعمل حقيقة لخدمة النوع الإنساني من طريق الحق والعقل والعدل، ويبني الرقي والتمدين على آساسٍ ثابتة ودعائم قوية لا تعبث بها عوادي الحماقة والتطرف.

وليس المراد بالاعتدال التمسك بمظاهره، وإنما العناية الحقيقية بما يرمي إليه معنى الاعتدال وروحه. وإذا لم يكن في وسع الإنسان اليوم أنْ يعيش على ما كان عليه الإنسان الأول من السذاجة والبساطة والاعتدال في المظاهر، فإنَّه يستطيع دائمًا أنْ يكون كذلك بعقله وروحه وعمله وفكره وقوله، فإنَّ إنسان اليوم ينحدر حقيقة على مزالق تباين السبل القويمة التي سار عليها الأولون. ولكن هذا لا يمحو الإنسانية ولا يجردها من أغراضها ومقتضياتها الشريفة؛ فالحياة اليوم هي الحياة بالأمس، والغرض منها بالأمس هو الغرض الوجيه الذي يريد الإنسان تحقيقه اليوم، وإن اختلفت الوسائل التي تستعمل لذلك والسبل التي تختار لنيل هذه الأمنية.

فعدم النجاح ليس ناشئًا عن اختلاف المعدات والوسائل، وإنما هو نتيجة الابتعاد عن الغرض الحقيقي والتورط في مجاهل الحياة المرتبكة. وإنَّ ما يحول الآن بين الإنسان والحياة الحقيقية الراقية هو مما لا فائدة منه على الإطلاق، والحياة بدونه ممكنة كل الإمكان. وليس من نتائجه غير الحيلولة بين الناس وبين الحقيقة والعدل والطيبة؛ أركان الحياة ودعائم السعادة، وغير إلقاء الحجب الكثيفة بين العقل والبصيرة، وبين الهداية والحقيقة. فمن شاء أنْ ينظر إلى جلال الحياة وجمالها مجردين من كل ما يحجب بهاءهما، ومن رام أنْ يهنأ بالسعادة فعليه أنْ يزيح عن عينيه هذه الغشاوة، وأن يرتد عن ذلك الطريق المجهول إلى طريق الاعتدال والحق، فإنَّه هو وحده الذي يؤدي إلى الغرض من الحياة.

شارل وانير
باريس – مايو ١٨٩٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤