خاتمة

في كل ما تقدم من المباحث القدر الكافي لإدراك معنى الاعتدال في الحياة ومظاهرها، وفيه ما يثبت ابتعاد العالَم عن الطريق السوي والوجهة الواجب الاتجاه إليها، وفيه ما يدلُّ على الغرور العام والانصراف عما في الكون من سائر القوى الحيوية والسعادة وجمال الحياة.

وكل مَن يستطيع التخلص مما ورَّطه فيه التقليد، والاندفاع مع تيار العصر، ومقتضيات المدنية الكاذبة يتأتَّى له أنْ يشاهد بهاء الكون وجمال الطبيعة، وأنْ يتمتع بالسعادة الحقيقية الخالية من كل الشوائب والمنغصات مستهديًا بنور الحقيقة.

وكل مقاومة للميول الفاسدة، ونفورٍ من الشهرة الكاذبة وحُبِّ الظهور، وكل رجوع إلى التواضع والقناعة والحياة الهادئة يكون من أسباب قوة الهيئة الاجتماعية ورقيِّها، ومدعاة إلى بث روح جديدة في البيوتات وبين الأفراد، وإلى خلق عادات حديثة، وتكوين بيئة راقية وتربية صحيحة عالية، فتتجه أفكار الشبَّان والفتيات مع الاعتياد والتدرج إلى غايات شريفة وآمال صحيحة يمكن تحقيقها بسهولة، ولا يلبث هذا الإصلاح التدريجي والانقلاب البطيء أنْ يظهر سلطانهما على كل الهيئة الاجتماعية. وكما تكون متانة البناء على قدر صلابة الأحجار وقوة مواد التلاحم، فكذلك تكون الحياة على قدر القيمة الذاتية في الأفراد وقوة الرابطة بينهم.

ولما كان الغرض الأساسي هو تكوين الاجتماع على آساس ثابتة ودعائم قوية وجب أولًا العناية بتقوية الأجزاء التي يتكوَّن منها ذلك الاجتماع وهي الأفراد؛ لأن كل ضعف فيهم ضعفٌ في المجموع وشللٌ في جسم الهيئة الاجتماعية، وإذا كان العامل على أية آلة محكمة يهمل أو لا يُحسن العمل عليها فلا يكون للآلة ولا لما تصنع قيمة، وفي هذا المثل شَبه قريب بين العامل على الآلة والعامل لرقي الاجتماع وكماله.

إنَّ الحياة جميلة في ذاتها محكم أمرها، ولكن جلالها لا يظهر إلَّا لمن يعرف كيف يدير حركة نفسه ويحكم أعماله وسلوكه، وكما أنَّ غفلة العامل أو عجزه يفسد الآلة ويتلف المصنوعات، فكذلك تهاون الإنسان وأغلاطه تشوِّه جمال الحياة وتفسد هناءها وتنغِّص عليه العيش، ولذلك وجب الاهتمام بتحذير الإنسان وإلفاته إلى تعرُّف أساليب العيش والعمل في الحياة؛ لكيلا يضرَّ بنفسه وبالمجتمع، ويكون حظه حظ العامل المهمل أو الجاهل الذي يسيء إلى نفسه ويضرُّ بسمعة المصنع الذي يعمل فيه.

فليعتنِ الفرد بنفسه فيعمل ليتشبع بمبادئ الحرية والنظام والإخاء؛ حتى يكون مِن أقوى عوامل التضامن والارتقاء؛ لأن هذا هو غرض الجميع والمقصد العام. والاعتدال وحده وانتشار روحه بين الجميع يقوِّيان روابط الاجتماع والتضامن العام، وكل انحلال أو وهن فيها يرجع إلى سبب واحد هو ضعف الفرد في ذاته وضعف رابطته بالآخرين. وليس في الناس من يستطيع أنْ يقدِّر الأضرار التي تلحق بالهيئة الاجتماعية من تنافر الأفراد والأحزاب والطوائف، ومن حبهم الاستئثار بالسلطة والنفوذ؛ للتغلب على الغير وإخضاعه، أو لهضم حقوقه وصوالحه، فإن في ذلك تقويض أركان السلام، وهدم أساس التكوُّن والاجتماع، وتنغيص العيش وتكدير صفو الحياة وهنائها وقضاء على السعادة.

وكل هيئة لم يسد بينها حب الإخاء وتفرد كلٌّ لصالحه الشخصي تكون هي الفوضى بكل معانيها. وشأن أعضاء مثل هذا المجتمع شأن أبناء العائلة الواحدة الذين يكونون عالة عليها، يمدُّون أيديهم للأخذ مما لها، ولا يبسطونها للأخذ بناصرها.

من لوازم الحياة التعامل وفيه تبادل المنافع، والناس دائن ومدين، فإن لم يعترف المدين بما عليه ويؤده زالت الثقة به، وكفَّ الناس عن معاملتهِ. والناس مدينون للهيئة الاجتماعية بكثير من الواجبات والحقوق في مقابل النفع والفائدة التي تعود عليهم من عمل الغير، فإن لم يؤدوا ما عليهم عن رضاء زعزعوا الثقة المتبادلة، وأضعفوا نشاط العاملين، فأفسدوا نظام العالم وشوَّهوا جمال الحياة.

ومما يؤسف له تظاهر الإنسان بمظهر المتفضل على الاجتماع والدائن المُطالِب بما له من الحقوق، فإن صحَّت دعوى الجميع فعلى مَن تكون هذه الحقوق وتلك الواجبات؟ ومن هو المقصر في الأداء والمطالَب بما عليه؟

الأمة عائلة كثيرة الأفراد، ومن الأسباب القوية في تكوين الأمم الاشتراك والتضامن ونكران الذات للمنفعة العامة، فمن الحكمة التساهل في المعاملة، وإغفال ما يمكن التجاوز عنه، فإن الشدة في المعاملة منشأ الخصومات، وليس في العالم من لا ينفر من الفظاظة والغلظة وسوء الخُلق، فكلها صفات وحشية تجرِّد المرء من مميزات الإنسان، ولا تساعد على دوام الاحترام والحب المتبادل وهما من لوازم الاجتماع.

إنَّ الناس لتختلف في العمل والمهن، فينظر الفرد إلى ذاته من وجهة واحدة وهي المظهر الاكتسابي، وينسى أحيانًا حقيقته الطبيعية، ومركزه في الاجتماع، وعضويته في جسم الهيئة الاجتماعية، فينتج من ذلك أنَّ الذي يشغل الإنسان ويضع له خطة العمل والسير في الحياة، هو السبب العارض الذي يفصله عن بقية الناس بالمهنة والحرفة، ويفتنه بما لا يترك مكانًا في قلبه لحب الاجتماع الذي هو روح الأمم وحياة الشعوب. وينتج من ذلك أيضًا بقاء الذكرى السيئة حية في الأفكار؛ لأن حبَّ الاستئثار منافٍ لصالح الغير، وكل قوم غذَّتهم هذه الروح الخبيثة تنتشر بينهم الخصومات، ولا يمرُّ عليهم يوم واحد بدون حوادث سيئة وعواقب وخيمة، ولا يكاد أحدهم يلمح الآخر حتى تحيا في مخيلته ذكرى الشقاق والمزاحمة والخصومة؛ ونتيجة ذلك عدم الثقة وسوء الظن والحقد.

فمن الصالح العام التساهل والتسامح ونسيان الذكرى المؤلمة، وإذا كانت المنفعة جوهرًا فكل ما يضرُّ بها عرض فاسد، والمنفعة هي غاية المساعي ومرمى الغايات. والخصومة من المؤثرات السيئة على المنفعة فهي عرض فاسد، والعاقل من يتمسك بالجوهر ويغفل العرض.

ما أجمل وأسعد الحياة لو كان التسامح هو مبدأ الوضيع والرفيع؛ لأنه بلسم القلوب المكلومة وترياق النفوس المتسممة. والذكرى السيئة أكبر محرِّك للعداوة والانتقام، فلو سادت روح النسيان والتسامح زالت أسباب العداء والخصومات، ونَعُمَ بال المجتمع الإنساني، وكان التساهل أقوى ضمين لتوفر أسباب السكينة والسلام.

فعلى هذا يكون لروح الاعتدال نفوذ قوي وسلطان فعَّال في تقويم الأخلاق، وتلطيف الأمزجة الحادَّة والطباع الغليظة، وفي إيجاد السلام في بيئة الأحقاد والمشاكل وبين الخصومات القائمة. وهي أيضًا من أقوى مطهرات القلوب وداعية إلى تقريب الناس بعضهم من بعض، وأجلى مظاهر هذه الروح وأسماها تتضح ملموسة عندما تكون واسطة لتسوية الاختلافات والمشاكل القائمة بين الخصوم والمتنافرين، بسبب تباين المصالح والمنافع، وبسبب الرعونة والحمق، وعندما تبدِّل الخلاف وفاقًا والعداء حبًّا والامتهان احترامًا وإجلالًا.

هذه هي أحسن رابطة اجتماعية، وبها يمكن تكوين الأمم وخلق الهيئة الاجتماعية الصحيحة على أمتن الأساس وأقوى الدعائم، وإظهارها في الشكل البديع الذي نتوهمه أملًا لا يتحقق وأمنية لا تُنال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤