الفكر والاعتدال

لا يكفي للإنسان أن يسعى لترتيب أموره الدنيوية وأحوال معيشته وحياته، بل يجب أن يهتم أيضًا بفكره فيطهره من كل الأدران التي تشوبه وتضلله؛ لأن الفكر السخيف منشأ الاختلال والفوضى، ولما كانت طريق الحياة وعرة كثيرة العقبات والمزالق وجب أن يكون الفكر سليمًا صحيحًا؛ ليتيسر له تمييز الغي من الرشد، واطِّراح كل رأي سقيم ومعتقَد باطل لا يُظهر الإنسان بمظهر الرجولة الصحيحة، ولا يَنْشَط به إلى طريق الكمال والرقي.

الفكر أداة من الأدوات النافعة للمجموع، وليس من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها؛ فيجب الاهتمام به اهتمامًا كليًّا وتربيته تربية كفيلة بالتثقيف والتقوية؛ ليؤدي الوظيفة التي خلق لها، وإلَّا فلا فارقة تميزه من خواطر الحيوانات والهامات.

أطْلِقْ قردًا في مكان أحد المصورين تجده يبتهج لمرأى الرسوم والصور وأدوات الرسم، فيتنقل بينها مسرورًا، ثم يعود فيعبث بها، فيحطم اللوحات البديعة؛ لينظر ما وراءها، ويمزق الأقمشة بأنيابه الحادة؛ ليرى ما في باطن صورها، ويذوق مواد الألوان، ثم يمتعض لطعمها فينثرها في أرض الغرفة، ولا يترك شيئًا في مكانه. ولا شكَّ في أنَّ القرد يُسرُّ بما يعمل ويلهو بهذا الإتلاف، ولكن أماكن المصورين لم تخصص للقرود، ولم تنسق ليتلفها هذا الحيوان الخبيث. فكذلك الفكر ليس مكانًا للتجارب البهلوانية، ولم يخلق للَّهو به وإجهاده فيما لا يفيد، ومن أشد الأخطار على الإنسان أن يجعل فكره لعبة يسلو بها ويلهو، فلا يكون يومًا ما فكرًا راقيًا يميز ويدرك.

ومن المضار المتفشية جنون الإنسان بمعرفة قدر نفسه ومنزلته بالنسبة للآخرين. وليس الضرر في فحص الضمير والقلب للتحقق من وجود الميول الصالحة والمبادئ الشريفة؛ لأن هذا الفحص مما يساعد على التقويم والتكمل. وإنما الضرر في الاغترار بالنفس، وحب الظهور بمظهر المتفوق على الغير الممتاز عنهم، وكل عامل يقضي حياته في فحص آلة عمله على تحققهِ صلاحها يفسدها ولا يتمم عملًا. ومَن أراد أن يمشي فليس في حاجة لطبيب يفحصه ويقرر قدرته على المشي، فحسبه أن يتحقق وجود قدميه، ويقوم عليهما، ويسير في طريقه محترسًا من السقوط مستعملًا قوته بتؤدة وحكمة؛ لكي لا تنفد قبل الوصول إلى غايته. وحسب الإنسان أن يكون على شيء من التعقل؛ ليعلم أنه خلق للعمل، لا لقتل الوقت في تأمل ذاته في المرآة. ولكن التعقل أصبح نادرًا بين الأفراد كسائر الصفات الحميدة، بل أصبح من العوائد المنبوذة والصفات الخلقة، التي يستعيض عنها عشاق المدنية بسواها فيضلون سواء السبيل. ومن المحقق أنَّ الاتصاف بالشطط والإفراط والتطرف بدلًا من الارعواء والاستقامة؛ تكون نتيجته إصابة الهيئة الاجتماعية بكل أنواع المسخ والبتر والتشويه، وإبعادها عن الحكمة وأصالة الرأي.

المستحدثات طارئة تتجدَّد، ولكن الفكر والتعقل والتبصرة من الدعائم الأساسية التي لا تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال، فمن تجرَّد منها ساء مصيره، ومن حازها واحتفظ بها اعتدل وأمن شرَّ العاقبة. وليس التعقل من الصفات الغريزية التي توجد عفوًا في جميع الناس، ولكنه من الصفات التي تكتسب بعد عناء طويل وكد متواصل. وهو كنز من أثمن الكنوز وأنفسها قدرًا، ولا يعرف قيمته إلَّا من يكون حكيمًا لا يرضيه الشطط والتطوح مع الأهواء. والعاقل من يستهين المتاعب، ويستقصر الزمن الذي يلزم للتكمل بهذه الصفة الحميدة، فيكون بصيرًا بالأمور والعواقب حكيمًا سديد الرأي. إنَّ صاحب السيف يخاف عليه من التثني والتعوج ولا يتركه طعامًا للصدأ، بل يتعهده بالنظافة والعناية، فإذا كان هذا حظ قطعة الفولاذ التي لا تنفع في كل آنٍ مع تيسر وجود عوضها، فما بالك بالعقل — وهو الجوهر الذي يستحيل إصلاحه — إذا فسد، أو الاستعاضة عنه بغيره إذا اختل؟

وليس من العقل التشبث بمذهب الرافضين؛ أي عدم التصديق والإيمان إلَّا بما يتحقق بالاختبار، ذلك المذهب الجامد الذي ينكر كل ما لا تشاهده العين أو تلمسهُ اليد؛ لأن التقيُّد بهذا القيد الضيق يحصر العقل في دائرة ضيقة، ويترك الفصل في الأمور للحواس المادية، فيلاشي مواهب الإدراك والتمييز وصحة الحكم. وهذه المسألة من أهم المسائل الاجتماعية وأشدها تعقيدًا؛ لأن نشاط العقل لمعرفة الغوامض شديد الخطر؛ فهو أبدًا يبحث عن تلك الأمور المتوارية في ظلام الغيب، والتائهة في دياجير المجهول، ومن المؤكد أنَّ البحث العقلي من أشق الأعمال وأكثرها حاجة للتروي والصبر، فإنَّ استقصاء الحقائق والعثور عليها ليس بالأمر الهين، ولكن الحاجة الماسة تدفع الإنسان إلى البحث، وتسهل له سبيل الاستدلال فيصل إلى الحقيقة.

•••

إن مجرد الوجود لا يستدعي التعقل؛ لأنه سابق له وغير مرتبط بالعلم والجهل؛ إذ هو وجود حيواني لا مزية له إلَّا بعد التهذيب والتثقيف. وقد خُلق الإنسان قبل أن يفكر وفكر بعد أن خُلق ووُجِد، فكان وحشًا قبل رقي مداركه وصار إنسانًا بالمعنى الصحيح بعد أن تحلَّى بحلية العقل المهذَّب والتمييز عن معرفة، فمهَّد السلفُ سبيل الحياة للخلف، وأوجدوا أضواء الحقائق التي تنير ظلام الحياة وتكشف سبلها المتشعبة، فلم يبقَ على الإنسان إلَّا أن يتعرف ما أمامه، فيعيش آمنًا ميسورًا بدلًا من أن يقضي كل حياته عبثًا دون الانتهاء إلى نتيجة من البحث والتنقيب.

ولولا الحقائق والخطط القويمة التي اهتدى إليها السلف ودونوها لوقفت حركة التقدم، ولما خطا العالَم خطوة واحدة في سبيل الرقي والكمال؛ لأنه إذا كان كل فرد يبدأ بالعمل لنفسه، فإنَّه لا ينتهي من البحث والاهتداء إلى الحقائق إلَّا وهو في آخر مرحلة من العمر، وقدمه على حافة القبر، فتنطفئ حياته قبل أن يستفيد بما قضى العمر للحصول عليه، ويترك المجال لمخلوق جديد يعيد الكرَّة لينتهي إلى مثل هذه النهاية، فلا يكون هناك مجال للتمتع بلذائذ الحياة، ونعيم العيش، وتكون الدنيا دار شقاءٍ ونَصَبٍ لا دار نعيم وسعادة، وهذا ضلال مبين.

الحياة أمد قصير وزمن لا يطول ومعترك ومضمار جهاد، فمن غفل سقط قبل أن يلتفت إليه غيره؛ لاشتغال كل فرد بأمر نفسه وانصرافه لمقاومة تيار التنازع والوصول إلى شاطئ السلام، والفائز مَن عُني للنجاة جهده. فليس على الإنسان إلَّا الامتثال لما هو حتم على كل نفس، ومقابلة متاعب الحياة ومقتضياتها بصبرٍ ورضاء؛ فإنَّ التذمُّر لا يُجدي نفعًا ولا يدفع مقدورًا. ولا يتوهمنَّ أحدٌ أنَّ الحالة تسوء من يوم ليوم، أو أنَّ العصور الغابرة كانت خيرًا من الحاضرة؛ لأنه ليس في الاستطاعة الحكم على أحوال الزمن القاصي حكمًا صحيحًا، كما لا يمكن للعين التثبُّت من حقيقة الأشياء البعيدة تثبتًا تامًّا. ومما لا ريب فيه أنَّ حياة الإنسان — منذ بَدء الخليقة إلى الآن كانت ولم تزل — مشوبة بما يتقزز منه ويتأفف، وإن اختلفت الأسباب والأعراض. ولم يصل الفكر ولا البصيرة في أي عصر للدرجة التي تكشف للمخلوق حجاب الغيب، فيطل منها على المستقبل ويهتدي إلى الحقائق.

فلا فارق إذن بين إنسان اليوم ورجل العصر البعيد، كما أنه لا فارق أيضًا في ذلك بين المرءوس والرئيس والمتعلم والعالم والصانع، فكلهم عاجزٌ عن إدراك أبعد غايات العقل والاستئثار بالفهم والحكم، فهم يقدِّرون الأمور — كلٌّ على قدر عقله — ويتوسعون في البحث والحكم — كلٌّ على قدر بصيرته وسعة مداركه — فتتجلى لهم الحقائق على مقدار ما لهم من وفرة الاختبار وقوة التمييز.

وإن ما وصل إليه العالِم من العلم والتنوير واكتشاف بعض الحقائق قد أفاد المجموع فائدة مذكورة، ولكنه لم يكشف طريق المجهول، ولم يصل لحل كل مسائل الاجتماع، ولم يرفع من سبيل الحياة كل الحواجز والعقبات الحائلة دون الحقائق، ولا يزال العقل يصادف طلاسم يتخبط فيها دون أن يهتدي، ولا تزال الحكمة والفلسفة تشتط في مجاهل لا حدَّ لها ولا غاية، ولكن مَن يعرف أنَّ الظمآن يرتوي بقليل من ماء البئر يجد الحياة ممكنة باليسير الذي توفق إليه الإنسان، كما كانت ممكنة من قبل لمن جهل كل الحقائق، وكتمت عنه أسرار الوجود ونظام العالم، فالحياة ممكنة والاعتدال في الحياة غير المحال، ولا يستدعي ما لا طاقة به للإنسان، ومَن اعتدل فكره اعتدل قوله وانتظم عمله.

والاعتدال في الفكر يستدعي التوكل والأمل والطيبة.

التوكل ركون واعتماد بعد ثقة، وإيمان عن اعتقاد بعد تصديق، لا عن وراثة واعتياد.

والإيمان يقوي الفكر ويقيه شرَّ الاندفاع إلى ما وراء المعلوم، ويوقفه عند الحد الجائز، ويجعله كثير الثقة بالخالق، وبخلود العالم إلى ما شاء الله، وبحسن عناية الله بنظام الوجود وسائر الكائنات، فيرتاح خاطر الإنسان ويطمئن ويعيش هادئًا آمنًا، كما تعيش الأزهار والأشجار والحيوانات وسائر المخلوقات التي لا تفكر ولا تبحث في كيفية الوجود وسر الحياة.

والعقيدة الثابتة تجعل الإنسان واثقًا من إشراق الصباح، وانسدال الليل، ونزول الأمطار في أوانها، وجري الأنهار والجداول إلى مصابِّها، ومن وجود الهواء الكافي للخلائق، وسائر الحاجات الضرورية للحياة، ودوام وجود هذه الضروريات؛ لأن كل ما كان لحاجته وحكمته يكون ويبقى ولا يتلاشى، فالتوكل من أسباب الراحة والطمأنينة، ولما كان هذا المبدأ مدعاة النشاط وحب الحياة فهو يحسِّن الحياة ويجمِّلها.

الإيمان هو السر الوحيد الذي ينعش النشاط في الإنسان ويجدده ويدفعُه وراء الرزق، فيسعى في مناكب الأرض ويضرب في مناحيها طلبًا للعيش وضروريات الوجود، فكل ما يزعزعهُ يكون شرًّا على الحياة من السم الزعاف، كما أنَّ من شر المصائب التي عم ضررها على الاجتماع، واشتدت الشكوى منها انتشارَ الفلسفة العقيمة، التي تؤدي إلى تنفير الناس من الحياة، وتحويل أنظارهم عن جلالها وحسنها، وتصويرها في أشنع الصور وأفظع الأشكال.

ولو سألت أحد أولئك الدعاة عما اكتشفوه من العلاج، وهل في الاستطاعة ملاشاة الحياة في ذاتها — ولا أقصد بذلك إزهاق النفس، بل زوال سرِّ الحياة وحقيقة الوجود — لكان الجواب سلبًا. أوَليس الأجدر إذن بالناس أن يحترموا سرَّ الوجود، ويتركوا غيرهم يتمتع بالحياة بدلًا من أن ينغصوا على أنفسهم وعلى الناس العيش ويقللوا الراحة؟

وإذا كان المرء لا يأكل شيئًا وثق من ضرره وعدم صلاحيته للأكل، أَفَليس الأخلق به أن يطرد عنه كل الأفكار السخيفة التي تؤذيه في الحياةِ أثمنِ هبات الله ومِنَحِهِ للإنسان؟

لا يوجد من أولئك الفلاسفة المتشدقين بأقوالهم من أقام دليلًا منطقيًّا يحط من قدر الحياة، وينفي سرَّها الإلهي العجيب؛ لأنه يجب على من يريد الدليل أن يفحص الحياة أولًا، ويعرف ينبوعها وأسرارها حتى يستطيع الحكم والتعليل، وذلك ليس في استطاعة الإنسان ولا في قدرته. ومع وضوح هذه الحقيقة فكم نرى أولئك المشاغبين يتحمسون في صيحاتهم ونشر آرائهم! كأنما هم الذين خلقوا العالَم وأحاطوا علمًا بما فيه من أسرار غامضة وعجائب مدهشة، وهذا نهايةٌ في الحمق وغاية في الجنون، فخيرٌ للإنسان أن يغذي فكره بالآراء الصالحة، ونفسه بالحقائق الثابتة بدلًا من أن يقتله بالسفسطات والأباطيل.

•••

الأمل هو الثقة بالمستقبل، والحياة — في ذاتها — عبارة عن رغبة وعمل ونتيجة، وكما لها بداءة فلها نقطة اتجاه ونهاية. وكل إنسان يؤمل قبل أن ينال، وينال بعد أن أمَّل، وعلى قدر قوة الأمل ومقداره يكون المستقبل، فالأمل ضروري؛ لأنه لا حياة بدونه.

والقدرة التي خلقت النفس وأوجدتها بعثت فيها الأمل، وحثتها على التطلع والطموح، وإلا فلا معنى للخضوع للشرائع السماوية، ولانتظار الأجر والثواب في الدار الأخيرة والنعيم المؤمل. وكل حوادث الحاضر تدلُّ دلالة واضحة على أنه لا يتم شيء في الوجود بغير الأمل؛ فالعابد يعبد الله أملًا في خير الجزاء، والصانع يجهد نفسه ويعمل أملًا في الأجر، والتاجر يخاطر بأمواله ويكد ويكدح أملًا في الربح. فلولا الأمل لما كانت عبادة ولا صناعة ولا تجارة ولا حِرفة ولا مهنة. ولولا الأمل لما كان الوجود. والتاريخ أكبر شاهد على أنَّ الأمل وحده هو الذي نشط بالخلائق إلى مراقي الفلاح وذروات المجد والسؤدد، ولولاه لما فاز العالم بهذا النصيب الوافر من الإثراء والرقي الأدبي والعلمي. الأمل يخفف الأحمال الثقيلة ويلطِّف الآلام، ويساعد العاثر على النهوض والمعدم على تحمل أرزاء الفقر والعوز، ويحول بينه وبين اليأس الوبيل. الأمل أكبر عزاء للمنكوب، وأقوى أساس لنظام العالم.

ولو قيد الإنسان فكره بالحقائق الواضحة، ولم يقتنع بغير الأدلة العقلية، والحجج المنطقية لاستنتج أنَّ الموت هو النهاية الوحيدة لكل الكائنات الحية، وأنه السيف المسلول الذي يهدد الحياة في كل لحظة؛ فيشتغل به الفكر رهبةً منه، وينظر إلى الحياة من وجهها الأسود فيتلاشى الأمل ويقل نشاط العاملين، وتقف حركة العالم ويتطرق الخلل والجمود إلى هذا المجتمع العامل النشيط. ولكن الأمل — والحمد لله — باقٍ وله النفوذ الأقوى في نفوس الخلائق وأفكارها، وهو المنشط الوحيد الذي يجعلها تتعلق بالحياة ومتاع الدنيا فتعمل وتجدُّ.

فحتم على العاقل ألَّا يحقر طموح النفس وتطلعها إلى المستقبل، بل يجب عليه احترام هذا الأمل أينما كان، وعلى أي صورة وجد، سواءٌ تمثل له في رأس الطائر الذي يجمع القشَّ لبناء عشٍّ لفراخه، أو في نفس الحيوان الطاحن المجروح، الذي يقع ويقوم في كل خطوة من خطواتِه ساعيًا وراء رزقه، أو باحثًا عن ظلٍّ ظليل يرقد فيه ليستريح، وسواء في قلب الفلَّاح الذي يقضي نهاره في الحقل عاريًا يحرث ويفلح الأرض ويبذر أو يروي أو يحصد.

لنحترم الأمل ونحيِّه، ولو كان في الخرافات والقصص أو في الأغاني والأناشيد العامية؛ لأنه عماد القوة والمنشط الوحيد للعالم، وعليه مدار النظام والترقي. ولكن مما يؤسف له أنَّ إنسان اليوم أكثر الخلائق خوفًا من المستقبل، وأقلها أملًا؛ فهو يخشى سقوط الرجوم واصطدام الأرض بأحد الكواكب أو المذنبات،١ ويرقب — في كل لحظة — نهاية العالم ودنو الساعة الأخيرة، ويزيد هذا الخوف تكهنُ بعض علماء الفلك بأمثال هذه الأمور والهذيان بالنبوات المخيفة؛ لتتناقل الصحف أسماءهم، ولكي يطيرها البرق إلى أنحاء المعمورة، فيصدِّع بها الآذان ويملأ القلوب خوفًا والأفواه شقشقة وأفكًا.

فالحكيم مَن يثق بقدرة الخالق على تدبير ما خلق، وبأن مَن أوجد النظام الإلهي العجيب ليس بعاجز عن ضبطه وإحكامه، وبأن مَن خلق هذا العالم البديع لا يتركه للفناء والزوال بغير إرادته ومشيئته، فلا تكون النهاية على ذلك الشكل الخرافي الذي تختلقه وتتوهمه العقول السخيفة. والعقول البشرية مهما ارتقت قاصرة عن إدراك كنه الكون وأسراره العجيبة، وما وقف عليه الإنسان من المعلومات تافه في جانب الحقائق المجهولة والمبهمات الغامضة الخفية. فيجب على المخلوق أن يعترف بالقصور، وأنْ يَكِلَ نظام الكون لخالقه، ويشتغل بأموره الدنيوية، وأحواله الاجتماعية، ويقوي الأمل ما استطاع، ويسد المنافذ في وجه اليأس؛ لأنه من العوامل القاضية على الشجاعة وحب العمل.

ولماذا يتطرق اليأس ما دامت الشمس لم تنقطع عن الإشراق والأرض عن الإنبات؟ لماذا نيأس والحياة لم تزل كما هي؟ فالعصفور يغرِّد وهو مهتم بصنع وكْره وجلب الطعام لأفراخه، والأم لم تزل تبسم لطفلها، والوالد يسعى في طلب الرزق ليعول امرأته وأولاده. لِمَ نيأس ما دامت النجوم ترصع السماء، والقمر يطل بوجهه الفضي على جيوش الظلام فتتبدد وتمحى؟ لماذا نيأس من رحمة الله ونضعف نشاطنا بأمثال هذه الأوهام والأباطيل؟ الأملَ الأمل؛ فهو سبيل الفوز والنجاح، وحذار من اليأس؛ فهو مدعاة الفشل والحبوط.

•••

الطيبة من لوازم الرجولة، ولست من القائلين: إنَّ الكمال غريزي في الإنسان؛ المعتقدين أنَّ منشأ الفساد العِشْرة أو البيئة الفاسدتان. ولكنني ممن تسوءهم العادات السيئة، وجلها موروث. ولو قابل الإنسان أصحاب هذه السيئات بما يستحقه المسيء المؤذي لما بقي في العالم نزر من خلق الله. ولا أظن في الوجود من ينكر البغضاء والفساد والتعدي على الغير والاسترقاق، وأشباه هذه الرذائل التي تأباها النفوس ولا تتحملها إلَّا مكرهة مغلوبة على أمرها. وليس من يشك في أنها من أكبر الوسائل التي توتر القلوب وتملؤها بالأحقاد والضغائن، وتسوق الإنسان سوقًا في طريق الانتقام من الظالم بأية وسيلة ومن أي طريق. فلولا الطيبة واستسلام الإنسان لقدرة الخالق وعدله الإلهي لفسدت الأرض وشرَّبت الدماء.

الطيبة ينبوع ماء حي يروي النفوس ويطفئ فيها نار الخصومة، وهي من مِنح الله التي تحفظ النظام، وتلطف شرور العالَم وفجور الإنسان. وهي أبدية لا تزول، وجدتْ من ابتداء الخليقة وستبقى إلى ما شاء الله، على وفرة ما يناقضها، ويشوه جلالها، ويعمل على محوها من القلب، فإنَّ لها فيه خصومًا عدة؛ منها: القسوة، والخبث، وحب السلطة، والأنانية، والكفران بالنعمة. وأقل هذه الرذائل ينزل بالإنسان إلى أحط منازل الحياة وأسفل دركات الشقاء، ويطوح به إلى بؤرة الرذيلة ويسوقه إلى التعدي على مال الغير وحياته، ولكن المألوف انتصار الطيبة على كل هذه النقائص وفوزها عليها جمعاء. وما أكثر الحوادث التي تغلبت فيها الطيبة على كل ضروب القسوة والتوحش، وأخضعتها فدانت لها وصغرت.

الطيبة تصلح ذات البين وتعزي المنكوب وتلطف آلام الشقي وتكمِّل صاحبها وتجمله، ومن خاصيَّاتها التواضع والصبر على الضيم. الطيبة بلسم الجراح تمسح الدموع، وتقوي الفقير على احتمال الفاقة، وتضمِّد القلوب المكلومة، وتساعد على السماح والغفران. وهي الصفة الرئيسية التي يحتاجها النوع البشري ويفتقر إليها في كل أدوار الحياة.

•••

فمن رام أن يكون على شيء من الاعتدال — بالمعنى الصحيح — فعليه بالتوكل والأمل والطيبة. وإنني لا أريد تخوير عزائم المتطرفين ولا تخدير نشاطهم، كما أنني لا أبغي ردع المولعين بكشف سرِّ المجهول، ولا زجر الباحثين عما وراء الغيب، والمتعمقين في المباحث الفلسفية أو العلمية. وإنما أروم الركون إلى الحقائق بدلًا من التشبث بما لا يفيد، والكد وراء ما لا يُدرك ولا ينال. فإنَّ من أسرار الحياة والمسائل الاجتماعية ما يتساوى في معرفته والوقوف على غوامضه العالِم المفكِّر والجاهل الغبي؛ لأنها فوق قدرة الاثنين، وليست في متناول العقل والإدراك، فمن أراد الله به خيرًا وعى هذه الحقيقة بلا جدل، وكف عن الضلال، وارعوى عن الغي، واعتدل في حياته وفكره.

ورُبَّ معترضٍ يزعم أنَّ التوكل من النظريات الدينية التي تثبط الهمم، وتهمد العزائم، وتمنع المخلوق من السعي والدأب على العمل، فيحسن الرد عليه بأن الدين نفسه فرض على الإنسان العمل والسعي في طلب الرزق، فقد جاء في الإنجيل: «بعرق جبينك تأكل خبزك.» وجاء في القرآن: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ.

وليس بين كل الأديان دين يدعو إلى الخمول والكسل انتظارًا لفيض نِعم الله وبركاته، وإنما كلها تدعو إلى العمل والاجتهاد، مع التوكل والاعتماد عليه تعالى.

ولو سأل سائل عن أحسن الأديان لما استطاع حكيم الإجابة على هذا بغير تفكر طويل ومخاطرة؛ لأن الأديان جميعًا تدعو إلى الفضائل، وتحرض على اجتناب الرذائل. والعقل يتحاشى الجزم برأي معيَّن عند ولوج مثل هذا المبحث؛ لأنه لا يستطيع تفضيل شريعة على الأخرى بغير تحامل وتحيز، وبغير إثارة سخط البعض على حكمهِ، مع أنَّ الحقيقة لا بدَّ وأن ترضي الجميع، ولا يقوم دليل على غير صحتها.

فخير ما يفعل العاقل أن يضع السؤال على صورة أخرى، ويسأل عن ماهية الدين القويم الصالح للدنيا وللآخرة، فيكون الجواب أنَّ الدين القويم هو الذي ينير البصائر، ويرفع قدر الحياة، ويحض على العمل مع التوكل والأمل والطيبة. الدين القويم هو الذي ينتصر للخير والفضيلة، ويخذل الشر والرذيلة، وينشط الإنسان، ويدفعهُ إلى التكمل بالفضائل والصفات الحميدة، وإلى اكتساب كل خِلال الرجولة الحقة. الدين القويم هو الذي يعين على احتمال الآلام بصبر وقبول، ويدعو إلى احترام الغير ومراعاة حقوقهم، ويساعد على التسامح، ويقلل من الكبرياء والعتوِّ، ويحثُّ على عمل الواجب.

فالدين الذي تكون هذه تعاليمه هو الدين الصحيح، وشريعته هي الشريعة السمحاء التي تقرب الإنسان إلى الله، وتجعله من عباده المتقين.

وكل دين تزين تعاليمه الخيلاء والكِبر والأفضلية على سائر المخلوقات البشرية، وتدعو إلى النزاع والشقاق، وتدفع إلى التغلب على الغير والاستئثار بإرادتهم وحريتهم، أو ترمي إلى انقياد الإنسان نفسه للصَّغَار، فما تعاليم مثل ذلك الدين إلا باطلة وفاسدة، لا ترضي الخالق ولا المخلوق، بعيدة عن محجة العقل والصراط المستقيم.

فهل لا ترى في التعاليم الأولى جلالًا واعتدالًا، وفي الثانية صَغارًا وشططًا؟ وهل يكون للفكر السخيف قوة على تمييز الحسن من القبيح، أم يسقط بصاحبه فيكون من الضالين الذين ساءوا منقلبًا، وكانوا من المفسدين؟

ألا إنَّ مدار الحياة ورقي الاجتماع على الفكر السليم المعتدل؛ لأنه ينبوع الحكمة وعماد النظام وأساس الرقي والكمال.

١  لنذكر الخوف الذي ساد أيام كان مذنب هلي زائرًا جونا كعادته كل ٧٦ سنة (نجيب متري).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤