القول والاعتدال

للإعراب عن الفِكر عدة وسائل، أهمها: القول؛ وهو مقياس العقل وميزانه. فالعاقل مَن يربأ بلسانه أن يهفو، وقلمِه أن يشط ويجعل قوله حكيمًا كفكره، والحكيم من يفكر برويَّة ويتكلم بصراحة.

والثقة المتبادلة حلقة توثق بها الروابط الاجتماعية، ومدار الثقة على الأفراد أنفسهم ومبلغهم من الصدق والشرف، فإذا ضعفت هذه الخصال قلَّت الثقة واختل النظام وقضى على الراحة والأمن جميعًا.

وما هذه النظرية إلا حقيقة مشاهدة في المعاملات المادية والأدبية، فكما يصعب التعامل مع مَن لا يوثق بهم، فكذلك يصعب الاهتداء إلى الحقيقة من أقوالهم. ومِن البديهي أنه إذا شردت الأقوال عن محجة الصواب، وبعدت النيات عن جادَّة الصدق واتخذت سبيل التضليل والإغراء؛ كان ذلك سببًا لتعدد مشاكل الحياة وتعقيدها واختلال نظام الأحوال. وهذا هو الواقع اليوم والمشاهد الملموس الذي لا ينكر، فالعالَم مملوء بدُهاة الرجال والمحتالين الذين لا همَّ لهم إلا اختداع الغير وتضليلهم، فوالحالة هذه لا غرو أن يشق على الناس تبيُّن الحقائق والاهتداء إليها في بيئة مملوءة بالمفاسد والأباطيل.

•••

لقد كانت وسائل التفاهم وتبادل المنافع في الماضي بسيطة ومختصرة وقليلة، وكان المرجح أنَّ تحسنها يرقي المدنية الصحيحة، ويكون واسطة لتقريب الشعوب بعضها من بعض، وربطها بروابط المنافع المادية والأدبية، فيكون ذلك سببًا من أسباب السلام وتبادل الحب والاحترام.

وكان المنتظر أن يعيش أفراد الأمة الواحدة كالأخوة فيما بينهم؛ لكثرة الأواصر التي تربطهم ووثوق العُرى التي تجمعهم معًا، وكان المؤمل أن يعملوا معًا لتقويتها وصون المنافع المشتركة. ولذلك هللت الخلائق فرحًا عند اختراع آلة الطباعة وتفاءلوا خيرًا، وتضاعف السرور والاغتباط بانتشار المطبوعات، وانصراف القوم إلى التعليم والتثقيف، وانعكافهم على مطالعة الجرائد والمطبوعات الدورية؛ ظنًّا منهم أن الأضواء الكثيرة خير من الضوء الواحد، وأن الفوائد الجمة خير من الفائدة المفردة، واعتقادًا بأن انتشار الصحف والمجلات والكتب واسطة لترقية الأفكار، وتهذيب العقول، وانتشار العلم، ورفع حجب الجهل عن الأبصار والبصائر، وتسهيل جمع وتقرير الحوادث لمن شاء من المؤرخين والكتَّاب. وهذه هي النتائج الصحيحة الطبيعية التي تتبادر إلى الذهن في بادئ الأمر. ولكن الأمور جرت — ويا للأسف — في غير هذا السبيل، فجاءت النتائج بعكس ما كان ينتظر.

وكأني بالناس انصرفت أنظارهم إلى الآلة وقوتها، وإلى الفائدة الوقتية المتوخاة منها. وذهلوا عن أمر العامل الذي يديرها، وعن روحه التي هي مبعث تلك القوة وعلة تلك الفائدة؛ فاغتنم السفسطائيون والأفَّاكون وذوو الأقلام المرة والألسنة الذَّرِبة فرصة الذهول هذه، وبادروا إلى تسميم العقول، وتضليل الألباب بما باتوا ينشرونه من المبادئ الفاسدة والأباطيل والأضاليل، بحيث أصبح الوقوف على الحقائق والمبادئ الأولية ضربًا من المحال.

ولئن وجد بين المطبوعات كتاب أو صحيفة تنشر الحقائق مجردة من الغايات السافلة، وتعمل بنزاهة لربط أواصر الصداقة بين الشعوب والأمم، فهناك آلاف سواها — ومن نوعها — تفتري الكذب وتؤيد الزور؛ لتعبث بهذه الثقة المتبادلة وتحل العُرى الموثوقة، وتبذر بذور الشقاق والبغضاء بما تنشره من التهم الباطلة، وتقرره من الأكاذيب الملفقة، وتحدثه من اللجب والضوضاء بلا داعٍ ولا سبب. وسواء في ذلك ما يختص بالأحوال الداخلية أو الخارجية وما يتعلق بسائر الشئون العمومية من تجارية وصناعية وزراعية إلى غيرها. فمن العسير، بل من المحال الوقوف على الحقائق مجردة من الفذلكات والتلفيقات، وخالية من الطلاء الكاذب. وقد بات يصح القول: إنه كلما كثر الاطلاع على المطبوعات والجرائد زاد الناس ضلالًا على ضلالهم. وكثيرًا ما تململ المُطالِعُ من كثرة خداع الكتَّاب، فمزَّق ما بيده من الصُّحف وتيقَّن أنَّ العالَم صار خلوًّا من ذوي الذمم الطاهرة، اللهمَّ إلَّا نزرًا قليلًا مجهولًا لا يمكن الاستدلال عليه لضياعه بين هذا المجموع الفاسد. ثم يعود فيسيء الظن حتى بهذا النزر اليسير أيضًا؛ لما يراه من تحرش المحررين بعضهم ببعض وافترائهم السوء والقبيح للحطِّ من كرامة أنفسهم، فيحوقل آسفًا على ما وصل إليه المجتمع من الفساد والسقوط الأدبي.

وليست هذه الحيرة بمحصورة في أفراد الشعب المعبَّر عنهم بالعامة أو الجمهور، بل يشاركهم فيها الخاصة أيضًا، والمتعلم والفيلسوف والمتأدب وأرباب السياسة وأساطين العلم وعشاق الفنون ورجال الدين؛ لأن الفساد شمل كل الطبقات حتى هال الناسَ كثرةُ انتشار الكذب والرياء والخداع، ولم تعد العين تميز الغث من السمين، ولا بقي في استطاعة العقول الوقوف على الحقائق بين الترهات والأباطيل المنتشرة، فبات الجميع في غرور وضلال، واستوى الخادع والمخدوع والمحتال والأبله الغافل؛ لأن نفس المرائي المخاتل لا بدَّ له من الاعتماد على الغير، والاتكال عليه فيكرع من الكأس التي يقدمها لغيره فيتسرب إليه السم الذي يدسُّه هو لسواه؛ ولذا فالنتيجة العمومية هي فساد الذمم وعدم تبادل الثقة.

•••

إن المرائي والمخادع، وسائر أنواع هذه الفصيلة المفسدة من أكثر الناس اعتدادًا بسوء الظن وضعف الثقة بالآخرين؛ لما يعرفونه من أنفسهم من خبث النيات وفساد الضمائر، ولما يأتونه من ضروب الحيل وأنواع الخداع والتغرير. ولذلك هم أكثر الخلق عذابًا وشقاءً؛ لأن إيمانهم ضعيف، ومبدأهم سافل، وغايتهم الوحيدة المنفعة الشخصية. فهم يصوغون القول الصيغة الملائمة لما يعود عليهم بالنفع، وسيَّان لديهم طابقت الحقيقة أم خالفتها تمام المخالفة.

هذا دأبهم في المعاملة وهم يتوقعون مثله من غيرهم؛ فلذلك هم في شك دائم يضني الأفكار ويأكل القلوب، وهو السبب الأقوى لعدم تبادل الثقة ولسوء الظن بالآخرين، وهو الداء الذي يتأفف منه أولو الألباب والكتَّاب والخطباء والمعلمون ويحتقره ويمقته كل الناس عامة.

وليس أشدَّ على نفس الحرِّ الشريف من الوقوف على خداع كاتب يزخرف العبارات، وينمق السطور؛ ليُخفي بينها الأباطيل الخداعة ووسائل الإغراء. فليس من الشرف أن يخدع الكاتب جمهورًا ساذجًا مملوءًا بالثقة وحسن الظن، ولا من الشهامة أن يقتل المحرر بسموم قلمه هذه الثقة، ولولاها ما عاش ولا اكتسب رزقه وقوت عائلته. ولا من المروءة تضليل المعتمدين على الذمم الطاهرة والإخلاص والصدق.

إن الكاذب المنافق ليؤذي نفسه على تمادي الأيام؛ لأن اليوم الذي يظهر فيه دليل الخداع والكذب سيجيء حتمًا فتتجلى إذ ذاك حقيقة أمره للعيون، وتزول الثقة فيهِ فتنفضُّ من حوله القلوب، وتنفر منه الناس. ذلك هو يوم سقوطه من حالق، وتدهوره إلى الحضيض، وضياع كل أمل له في الحياة؛ لأنه لا شيءَ أشد من سخط الجمهور على المنافق الذي يخدعهُ ويغرر به، ولا أصعب على الإنسان من توقي هياج الشعب الساخط عند هياجه. إنَّ الأوراق اليابسة لا تقاوم الريح الصرصر، وكذلك المنافق لا يقوى على مناهضة الأمة في اندفاعها عليه لتثأر منه. وإن اليوم الذي يتضح فيه الخداع والنفاق لهو اليوم الذي توصد فيه الأبواب في وجوه المنافقين، وتسد الآذان عن سماع المكر والرياء، بل وعن سماع النصح الصادق والإرشاد الحق، وهذه هي الطامَّة الكبرى والجناية التي لا تغتفر للذين يخدعون الناس، ويضيعون الثقة بالكتَّاب والمرشدين.

وإذا كانت القوانين تعتبر مزيِّفي النقود جناة مجرمين؛ لأنهم يغشُّون المتعاملين في منافعهم المادية، فما قولك بمن يفسد العقول والضمائر ويزيِّف النفوس، ويسممها بالكتابات المنتشرة والأقوال المتداولة؟

إن الضرب على أيدي هذا النوع من الكتَّاب والخطباء واجب تقضي به الإنسانية ونظام الاجتماع؛ لأنهم يُعدمون الثقة، ويميتون العقول، ويزعزعون أقوى أركان السلام، ويفسدون نظام العالم، ويشوهون جمال الحقائق وجلالها.

فمن المهم الجدير بالاعتبار العناية باللسان والقلم وتقييدهما إلَّا عن نشر الحقائق والأفكار السديدة المعقولة. والاعتدال في القول خير من التهور المرذول. ولا شيء في الكتابة أقبح من استعمال العبارات المبتذلة، والكلمات ذات المعاني المتعددة التي تحتمل الحسن والقبيح. ولا هنالك أشرف من ذكر الحقيقة مجردة من الغاية والمصلحة الشخصية، وكل ما خالف هذا فهو خداع ممقوت مُضر بالجمهور، وحطة في قدر الكاتب، ووصمة على الخطيب، والرجل الكامل مَن كان له فكر ثابت وقول حق صريح، فإنَّ الصدق — وإن ثقلت خطواته — أسرع من الباطل وأضمن للفوز وتحقيق الآمال.

وليس الغرض الحط من شأن الكتابة في ذاتها، أو منع الكتَّاب من استعمال الغلو والإغراق وسائر المحسنات اللفظية، أو حض الناس على إهمالها، فإنَّ النفس لتتوق إلى هذه المحسنات، وتعترف بما لها من التأثير في إبداع القول. والعقل يؤكد أنها الوسيلة الفعالة ذات التأثير الشديد في ترقية الكتابة وتخريج المجيدين من الكتَّاب والشعراء، ولكن من المعروف أيضًا أن أحسن المواضيع وأجودها هو ما لا يحتاج إلى عناء في صوغ عباراته وتنسيق كلمه؛ لأن الموضوع الجليل مجموعة أفكار عالية تؤثر بطبيعتها فيشعر بجلالها العقل والنفس. وقد تكفي أبسط الكلمات وأسهل اللغات لصوغها في قالب سهل مفهوم، بدلًا من قتل الوقت وإجهاد الفكر في انتخاب الكلمات ورصف العبارات التي كثيرًا ما ترغم الكاتب على إفساد المعنى وتشويه الفكر إذا انصرف عن جلالهما إلى تزويق الألفاظ. والأفكار العالية لا تحتاج إلى الطلاء الغريب لتظهر في سماء رفعتها وأفق جمالها؛ لأن قوتها في ذاتها وسموها في رجحانها وأصالتها.

وليس كل مَن يحسن التوشية ورصف الكلمات بالكاتب المجيد، أو الخطيب المفوَّه، ولكن هذا اللقب من حق كل مفكر يجمع شتات المعاني الراقية، والأفكار السديدة في القالب اللغوي الفصيح. ولا شيء أبلغ من السهولة عند التعبير والإقناع بالأدلة المعقولة الخالية من التعقيد المضني والركاكة المملة.

إن نظرة واحدة في بعض الأحايين، أو إشارة لطيفة في بعض الأحوال لتعرب عن انفعال نفساني، أو ألم شديد، أو إخلاص، أو سرور، أو حزن إعرابًا لا تؤديه أبلغ العبارات في كل لغات العالم. ولا يتأتى للإنسان التعبير عن حقيقة عواطفِه وشعوره إلا بأبسط العبارات وأسهلها؛ حتى لا تضيع الفائدة المقصودة والتأثير المراد من شرح أسرار القلوب وخفايا الصدور. ولا تتأتى المحاجَّة إلا بالحقائق واللغة السلسة والاعتدال في القول — عند الشرح — أكثر إقناعًا من العبارات المعقدة، والتهوس في الجدل المطوَّل الممل؛ لأن الاعتدال في القول أكثر فائدة للقائل من الشطط والحدة، وصالح لكل الأزمان، ومحمود في كل المواقف.

ولا شيء أنجح من الصدق في الرواية والإيجاز في الإعراب عن اعتقادٍ راسخ، أو عند شرح العواطف والإحساسات النفسية، سواء كان ذلك في المواقف العمومية أو في المفاوضات الخصوصية. وليس أوقع في نفس المطالع أو السامع من الكلمات القليلة التي تصدر حقيقة من القلب لتصل إلى القلب، أما الكلمات المنتقاة للتوشية والتحسين اللفظي فإنَّها كالزخارف المادية، التي تساوم بالمال الكثير، ولا تؤدي فائدة جزيلة لمن يبتاعها. ولما كان الغرض من القول أو الكتابة الإعراب عما في الفكر؛ كان من الواجب تأدية ذلك بما لا يزيد عن المعنى خوفًا من ملل السامع أو المطالع.

كم من الخطباء غرضهم الوحيد من الخطابة الوقوف بين الجماهير؛ لسماع تصفيقهم الحاد بعد ملء الآذان بكثير من العبارات المنتخبة؟ وكم من السامعين يكتفون بالسماع فقط وبالتلذُّذ ببلاغة المقول، فإذا ما اجتازوا باب المكان نسوا ما سمعوه وأعجبوا به والْتهَوا بالمشاهد الجديدة عن حديث ذلك المهذار الصدَّاح؟ ولو كان هذا مبلغ تأثير ما يقال ويكتب في النفوس والعقول، لكانت نتائج التفكير والتحبير مجموعة من الخطابات المنمقة والكتابات المزخرفة، وخليطًا من القطع التمثيلية وضعت كلها للَّهو والتلذذ بها حينًا من الوقت، ووقفت فائدتها عند هذا الحدِّ كأن مهمة العقل مقصورة على ذلك، بغير محاولة اكتساب الفوائد الجمة التي تُمحِّصها العقول وتبحث عنها في شتات الحوادث وبين صنوف الأباطيل.

إن ارتفاع صوت العاطلين الذين لا همَّ لهم إلا الصياح والضوضاء؛ بغية الشهرة والظهور يغري الجمهور ويضلله وينسيه أنَّ العامل المفيد أكثر الناس هدوءًا وأقلهم جلبة، وينسيه أنَّ كثرة الإعلان تدلُّ على عكس المعلَن عنه. فلولا فراغ جوف الطبل لما أزعج صوته الفضاء. فالصمت خير من القول الهراء، والسكون أفضل من الجلبة، والقوة التي لا تستنفد في التهوس تدَّخر للعمل المفيد وتكون ربحًا من غير عناء ولا خسارة. ألا ترى أنَّ الباخرة التي تستنفد بخارها في الصفير وإزعاج الكون بصراخها لا تجد في مستودعها قوَّة لمواصلة السير والوصول إلى غايتها؟

إن مَن درس أحوال الأمم وطبائع الأفراد يلاحظ أنَّ الكسول يستعمل في حديثه العبارات المقتضبة، بخلاف الثرثار والأحمق، ويجد أنَّ العاقل المعتدل يقتصر على الموجز الكافي، فيكون لفظ عبارته على قدر المعنى الذي وضعت له. فإذا كانت اللغات تختلف باختلاف الخصال والأمزجة، فإنَّها تختلف أيضًا باختلاف الأزمان والعصور، حتى إنَّ مَن يقارن بين لغة العصر الحاضر والزمن المنصرم لا يلبث أن يرى فرقًا واضحًا، وتمييزًا جليًّا، فيتحقق أنَّ كتَّاب العصر الغابر كانوا يكتبون بلغة أوجز وأبلغ، خاليةٍ من التعاقيد والحواشي التي تحرج المطالع، وتضني فكره دون تمييز الغرض منها، بعيدةٍ عن المبالغات التي تحول بين العقل والحقيقة الكاملة. ويجد أيضًا أنَّ كتَّاب هذا الآن أقل إدراكًا من سالفيهم وإلمامًا بشئون الكتابة، ويجد أنَّ الأقلام في هذا العصر أقل ثباتًا في الأيدي وأكثر شططًا وتخبطًا.

•••

من الناس من يصفق للكاتب الذي يكتب بحماس وتطرُّف، ويطري ويفتخر بمن يرسل من جوف قلمه سيالًا من النار، ولكنه لا يلبث أن يحترق بهذا اللسان المندلع. هذا النوع من الكتابة منتشر، وهو الخطر الذي يجب اتقاؤه، والضرر الذي يتحتم على الحكيم تحاشيه والتنكُّب عنه؛ لأن الشطط والغلوَّ في الكتابة لا ينتجان غير إغراء العقول، وتضليل الأفكار، وإبعاد المطالع عن مركز الحقيقة، فتكون النهاية سوء الظن وضعف الثقة وتوتر العلائق بين الأفراد والجماعات والتشديد في المعاملة وفساد الأحكام؛ لجهل الحقائق وفقد الأمن وإخلال النظام وفساد الأخلاق. وكفى بهذه النتائج السيئة سببًا للسقوط التام والموت الأدبي.

فالمصلح الحقيقي مَن يطلب لقومه ولإخوانه اعتدالًا في الكتابة والخطابة، ونشر ما يكون علاجًا للنفوس ودواءً للعقول ووسيلة لرقي المجتمع الإنساني أدبيًّا وماديًّا. وليس الغرض منع الكتَّاب والشعراء وأرباب الفنون عن الإبداع والإجادة، وإنما العناية بما يفيد ولا يضرُّ؛ لأن الفكرة الصالحة توافق كل المشارب، وتصلح لكل زمان ومكان، كما أنَّ المصلحة العامة لا تكون لفرد دون الآخر ولا تختص بفريق واحد أو تنحصر في جماعة أو طائفة بذاتها.

إن ينابيع الإرشاد والموعظة والهداية عامة تستقي منها كل العقول والأفكار، فيرِدها البعض ويكون صالحًا فيبذل للناس نصحًا وهدًى، ويتسمم بها البعض؛ لتسمم نفسه بالشر والخبث فلا تنطق أفواههم إلا بسخافة ولغو. والنوع الأول: روح تَبعث في النفوس القوة وتدعو إلى العظمة والرقي والحياة. والنوع الثاني: طامَّة على العقول والنفوس وسببٌ للهوان والصغار والسقوط، إذا انتشرت تعاليمه وتغذت بها العقول وتشبعت بها القلوب.

فخير المحبين لبلادهم ووطنهم من يدعو ذوي الحكمة لإرشاد الناس وإبعادهم عن الشطط، وردعهم عن التطرف الوبيل، وعن التطوح في مهاب العواصف ومختلف الرياح؛ فيرتقي المجموع بارتقاء مدارك الجماعات، ويعتدل الشعب باعتدال الفرد، وتعيش الأمة هادئة مطمئنة ينشط بها العقل إلى مدارج الرقي بعيدة عن مزالق السقوط والهوان. فإنَّ من يسير في الطريق السوي يأمن العثار، ومن يجمح في المزالق يتدهور ويتحطم. وإنَّ زلَّات اللسان والقلم ليست مما يستهان به؛ فقد تودي بالفرد، بل وبالأمم برمتها، وربَّ كلمة كانت سببًا في حرب عوان ووبال عميم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤