الواجب والاعتدال

عندما تُكلِّم الطفلَ في شأن لا يروقه تراه يجتهد أن يشرد بك عن الموضوع، فيلفتك إلى حمامة تطعم أفراخها، أو يشير إلى سائق يضرب جياده، أو يكثر عليك الأسئلة المملة مَكْرًا منه فتضيق ذرعًا وينفد صبرك.

يكاد يكون هذا الشأن شأن الإنسان إزاء الواجب، فيختلق من الأعذار ما يخاله مقبولًا يشفع له عند التقصير، أو الإحجام عن واجب الإنسان الحي المميز. وأول سبب يتعلق به المعتذر المقصِّر هو التساؤل عن حقيقة الواجب. وإن الغرور الذي ملك من المقصرين نفوسَهم وعقولَهم، وحبس إرادتهم عن الانصراف إلى أداء الواجب يستند على أنَّ من دعائم الواجب الحرية. وهي مسألة معقدة لم يهتدِ العالَم إلى حلِّها حلًّا يرضي الناس جميعًا، والبحث فيها يُفضي بالباحث إلى التعمق في سائر الأمور، فلا يمكن الاعتداد بها ولا الاعتراف بكونها من أقوى أركان الواجب.

ومن ينظر هذا القول نظرًا سطحيًّا يتوهمه حقيقة لا اعتراض على صحتها. ولو أنَّ أمور الحياة نظريات عقلية فقط لما وسع الباحث أن يعنى بأمر الواجب قبل البتِّ في مشكلة الحرية، وحلِّ عقدتها وتعريفها تعريفًا تامًّا. ولكن الحياة ليست نظرية لكونها حركة عملية سبقت النظريات وواضعيها. وأنَّى لنا أن نوقف الحياة وحركاتها الدائمة ريثما يصل الباحثون إلى حلِّ النظريات المجهولة المختلف فيها بعين المفكرين؟ فلا يتوقف أداء الواجب على معرفة حقيقة الحرية وحدودها واعتراف الناس بها؛ لأن شأن الحرية شأن كل المسائل المعقدة التي لم تزل بين أيدي الباحثين، وتحت أنظارهم بدون أن تقف حركة العالم، فها هي الخلائق لا تزال تتعامل، والتضامن موجود فعلًا بين الناس، ومسئولية البعض أمام البعض الآخر محدودة على قدر الإمكان بشكل يكفل بعض الراحة والنظام العام.

ولكن المشتغل بالعلوم النظرية لا يعتد بغير نظرياته العقلية، ولا يحفل بالحركات العملية، ولا يتعرض بتاتًا لإثباتها أو لدحضها، ولا يعمل شيئًا لرد خصومه في الفكر والرأي عن المنهج الذي يراه خطأ وغير قويم. فلا مبرر من تقاعده عن معرفة الواجب الإنساني وأدائه قبل معرفة كنهه وحقيقته وحدوده. فالطفل لا يعرف الأزمنة والمواقيت، ومع ذلك فهي تمر عليه، والصبي يجهل تقدير المسافات وتحديدها، ولكنه يمشيها ويقطعها، فلا مندوحة إذن عن أداء الواجب قبل معرفة كل قيوده وروابطه وسبر الأبحاث والآراء التي وضعت بشأنه؛ لأن الواجبات الأدبية عامة، وللإنسان أن يخضع لها فيكون إنسانًا بالمعنى الصحيح، أو يخالفها فيسقط ويبتذل لدى العارفين بواجب الإنسان، فلا تفيده الأعذار مهما اختلق منها، وتنطلق عليه ألسنة الناقدين كل انطلاق، ولا أقلَّ من أن يقال له: «أنت إنسان كسائر الناس لك حقوق وعليك واجبات، فكما أنك لا تتجاوز عمَّا لك، فكذلك يتحتم أن تؤدي ما عليك، سواء لبلادك أو لأبنائك أو لذويك أو للناس عامة، والجهل وعدم استيفاء البحث والتقرير لا يشفع ولا يمنع.»

وليس الغرض حمل الناس على ترك الأبحاث الفلسفية والاستقراءات الدقيقة لمعرفة الحقائق الأدبية، واستجلاء غوامض المسائل الأخلاقية التي استعصى حلُّها حتى الآن. فكل سعي في هذه السبيل ممدوح ومحمود، ولكن المراد عدم توقف الباحث عن أداء الواجب الإنساني قبل أن ينتهي من أبحاثه. والعاقل مَن يتذكر دائمًا كونه خلق قبل أن توضع هذه النظريات، وقبل أن تخلق هذه المشكلات. وقد خلق الواجب مع الإنسان فهو سابق لها، فالرجل الحقيق بهذا اللقب مَن يؤدي واجبات الرجولة.

والخبير بضمائر الناس وخفايا القلوب لا يشك في كثرة الاعتراضات التي يُعترض بها على ما مرَّ، ولكن من تُسَوِّل له نفسه الفرار من واجب الإنسان، لا يخجل طبعًا من انتحال الأسباب المبررة للسقوط الأدبي.

•••

من الصعب أن يتخبط الرجل في طريق الواجب المجهول، وأن يتلمس في الظلام طريق الهدى والسبيل القويم، وعسير عليه أن يهتدي بين المتناقضات والاختلافات العديدة التي تدور حول الواجب وفروض الإنسانية. وقد يكون الواجب في بعض الأحايين فوق الطاقة وفي غير وسع المرء، ولكن من المؤكد ندرة هذه الأحوال الحرجة التي تستدعيها بعض الاضطرابات الاستثنائية. وخير ما يعمل الإنسان في تلك المواقف أن يلزم الأناة والحذر؛ لأن الذي يقبل عذر من يكبو في الطريق المظلم المجهول، ويشفق على المحارب أن يقهر بين نارين، لا يتردد في الرفق بمن يقصِّر عن ضعف، أو يسقط رغمًا عنه سقوطًا أدبيًّا ما دامت القوى التي تغالبه فوق طاقته.

وليس السقوط الإجباري عابًا على الساقط، ولا يجوز توجيه الانتقاد والعذل إلى المقصِّر المرغم على التقصير، ولا يصح أن يُقصر الكلام على ذلك الواجب المتعذر أو المستحيل أداؤه، بل يجب أن يتناول السهل الذي يتسنى لكل إنسان القيام به بدون إجهاد النفس، ولا استنفاد القوة ولا تبذير المتاع، إنَّ المهم إنما هو أداء الواجب الممكن؛ فتعدد القائمين به بين الأفراد يخفف ويلات المجتمع الإنساني ويلطِّف الحال.

وليس العار على من يقصر في القيام بأعباء الواجبات الثقيلة، بل العار كل العار على من يحجم عن تأدية الممكن السهل منها إهمالًا وتقصيرًا.

ولو أنَّ واحدًا من ذوي اليسار والمراكز السامية يتخلى عن عرش نعيمه ويطوف خلال صفوف الناس؛ ليخفف ويلاتهم ويمد للمنكودين منهم يد المساعدة والمعونة، فلا يلبث أن يرى في هذه البيئة ما لا يحصى من أنواع الشقاء الذي لم يترك دارًا إلَّا دخلها، ولا عائلة إلَّا حطَّ بين أفرادها، فيقف على كثير من أنواع الآلام النفسية والجسدية التي يعانيها القوم، ويئنون منها في كل لحظة. وكلما اختلط بأولئك الأفراد ودقق النظر في حالتهم المعيشية اكتشف من أنواع البؤس ونكد العيش ما يهوله ويقصر همته؛ حتى ليتصوَّر أن تخفيف هذه الكوارث وتلطيف حال أولئك المتعسين البائسين ليس في طاقة أحد من الناس، مهما أوتي من حب الخير والسعة التي تخوِّله الأخذ بأيدي المعوزين والبؤساء؛ لوفرة عدد المنكودين، واتساع الدائرة التي يخيِّم على من فيها الشقاء ويحكم فيها البؤس. ومع ميل الكرام إلى بذل ما في الوسع من المساعدة ترى الحيرة تأخذهم أمام هذا المشهد المخيف، فيتساءلون عن فائدة ما يقدَّم من المساعدة ويُعمل من الطيبات، وهو لا يشفي الغلَّة ولا يدفع الغائلة. ومنهم من يروِّعه اليأس فيكفُّ عن المبرَّات، مع أنَّ قلبه يتقطع إشفاقًا وحنوًّا على ذلك الفريق المنكود. وهذا هو عين الخطأ ومنتهى الخطل؛ لأن مساعدة المنكوب واجبة على أخيه الإنسان القادر على قدر ما يستطيع، فليس حتمًا عليه أن ينقذ العالَم من مخالب الشقاء، ويدفع عن كل المنكوبين عاديات الدهر وصروف الزمان، ويترك هذه الأرض سماءً، فما كلف الله نفسًا فوق طاقتها.

فالعاقل من يرشد هذا الفريق اليائس إلى محجة الصواب، ويهديهم إلى عمل الخير المستطاع؛ لأن الكفَّ عن المساعدة — وإن قلَّت — يعدُّ ضررًا واسع الأذى. والواجب في مثل حالتنا الاجتماعية أن يساعد الإنسان أخاه بما في استطاعته، وأن يتخذ من البؤساء والمتعسين إخوانًا يواسيهم ويلطف آلامهم، وإن كانت هذه المساعدة غير مُحسَّة في جانب المصائب التي تحوط جزءًا عظيمًا من النوع الإنساني، فإنَّ فائدتها محققة، وأقل مَن ينالها فرد من أبناء هذا النوع. وربما اقتدى بالكريم غيرُه، فيكثر عدد العاملين على نصرة الضعفاء والمنكودين، وتحسن الحال بعض الشيء، وتخف على تلك البيئة وطأة الفاقة، فتجف جذور الحقد في قلوب البائسين الذين يسخطون على الكون ومن فيه، وتقوى الرابطة الإنسانية بين سائر الطوائف، فيقل الشر، ويجد الخير سبيلًا ممهدة وأرضًا خصبة. وكلما زاد العاملون قلَّ الشقاء وتقطعت أوصال البؤس.

وإذا انفرد الجواد بصنع الخير فإنَّ القلوب تعطف على عمله والألسنة تحمد صنيعه، ولا ينكر المكابرون ما بذل من الحسنات لأداء الواجب الإنساني. وماذا يريد المرء بعد أن يرضى ضميرُه عن عمله المبرور، ويعترف الناس باستقامته وقيامه بما تستدعيه المروءة والإنسانية؟ ليعرف الناس أنَّ الطمع ذلك الداء الذي يوسع دائرة الأحلام والأوهام ويغرِّر بالناس، لم يصل بصاحبه يومًا إلى ما يؤمل، مع ما يعانيه من المشاق، وما يبذله من المجهودات للحصول على أماني النفس الجشعة. وإلى العاقل كل حوادث الماضي والحاضر، فمن المحال أن يجد فيها إلَّا ما يؤيد هذا القول.

•••

سرُّ النجاح المؤكد في حسن التفكير ودقة العمل وطول الأناة والتعقل والاهتمام بكل شيء، حتى بالأمور الطفيفة الحقيرة؛ لكونها دعامة الفوز، وواسطة للحصول على النتائج المنشودة. ولكن الناس يهملون هذا الأمر ويتناسون هذه الحقيقة، فليتذكر الغافل أنَّ الغريق لَينجو من لجَّة البحر الهائج على قطعة من لوح أو مجذاف مكسور. وما أشبه الحياة بلجة البحر والمنكوب بالغريق! فليتمسكنَّ جهده بما يستهين به؛ فربما كان ذلك الشيء الحقير سفينة الخلاص وفلك النجاة والسلامة. ألا إنَّ احتقار الصغائر لسيئ العاقبة؛ فإنَّ معظم النار من مستصغر الشرر، وإن الثروة الطائلة تُجمع درهمًا فدرهمًا.

إن عبر الدهر كثيرة وصروف الزمن جمة عديدة، وقد يحدث أن يخسر المرء ماله وتنزل به الفاقة، أو يفقد عزيزًا عليه، أو تضيع أمام عينيه ثمرة جهد شديد وعمل شاق وصبر طويل، فيعجزه استرداد الثروة وإحياء الميت واستعادة الضائع والتعوض من المفقود؛ فتتلاشى قوة المنكوب وهمته، ويقف مكتوف اليدين، خائر العزيمة أمام هذه الكوارث النازلة. ثم يتراخى في شئون حياته الخاصة، ولا يعود يهتم لحاجات بيتهِ وتنقطع عنايته بأطفاله.

هذه هي النتائج المعروفة التي نشاهدها إثر المصائب العديدة، التي تنتاب الناس وتنزل عليهم بهموم النفس وآلام القلب. وهذا خطأ مغفور، ولكنه خطر شديد وخيم العاقبة، ينتقل بالمنكوب من حال سيئة إلى أخرى أسوأ منها. فجدير بمن خسر أن يجمع القليل الباقي، ويفرغ جهده في الحرص عليه والسعي في إنمائه واستثماره؛ لعله يدرك بعد قليل ما يعزِّيه وينسيه ألم الضائع المفقود. فالسعي والعمل يخففان من لوعة المصاب، والاستسلام والاستكانة يزيدان الألم ويدميان القلب المقروح، والتعلق بالقليل الباقي أسلم عاقبة من اليأس الذي يلاشي حتى البقية الباقية، والتشدد في مقاومة الكوارث، والتصبر في احتمال الآلام خير من الاندحار والسقوط تحت أعباء الهموم النفسية. والوقوف في وجه النازلة ومقابلة الخطر خير من الهرب والفرار؛ لأن المقدور صائر لا محالة.

وليتذكر الغافل أنَّ نفرًا قليلًا من الناس عمَّروا الأرض بعد الطوفان، بعد دمارها، ومن نسلهم ظهرت هذه الملايين العديدة التي تضيق بهم المسكونة. وأن اليسر لا بدَّ وأن يعقب العسر وأن الفرج لا يأتي إلَّا حين تشتد الأزمات. وكم حياة ضاعت لأوهن الأسباب! وكم منكوب عزَّ بعد ذلٍّ وكرم بعد هوان وامتهان!

كل حوادث التاريخ تؤيد هذا القول وتؤكد للباحث أنَّ المصائب العظيمة والرفعة والسمو قد تأتي عن أحقر الأسباب شأنًا؛ فليس من الحكمة إهمال الصغائر. وعلى الإنسان الثبات والصبر ومعاودة الكرة عقب الفشل فإنَّها سبيل الفوز وسر النجاح.

•••

من الغريب أنَّ شيئًا من الوهن أو الإهمال يغشى أبصار الخلائق وبصائرهم، فيمنعهم من معرفة الواجب وتقديره وأدائه، فينظرون إليه ممسوخًا أو من جانب واحد، مع أنهم ينشطون ويتشددون لاكتشاف الغوامض البعيدة على نظر الإنسان، ويتشوقون إلى معرفة ما لا يضر ولا ينفع، فيقضون على جزء عظيم من الإرادة والقوة بالتعلق بأمثال هذه الأوهام. وأي فائدة تعود على الإنسانية من ترديد عبارات الإشفاق والحنوِّ والاهتمام للخير العام والعطف على المجهولين، الذين أخنى عليهم الدهر بخطوبه، وهم في أنحاء الأرض القاصية بعيدين عن الآذان والأبصار؟ ماذا تفيد هذه الظواهر؟ وماذا ينفع التشدُّق بدعوة الناس إلى عمل الخير في مجاهل هذه السبل، مع كون الآذان تكاد تُصمُّ من أصوات البائسين القريبين منَّا، والقلوب في الصدور منفطرة مكسورة من جراء ما تسمع من أنين المنكوبين الذين تراهم أعيننا وتلمسهم أيدينا، ونعثر بهم في كل خطوة من خطواتنا؟

أوليس من الخطأ الفاحش أن يتجشم الرجل أهوال الأسفار؛ ليعرف ضروب النوع البشري، ويرحل الرحلات العديدة لهذا الغرض، بينما هو يجهل كل الجهل أبناء بلده، كأنما هم من غير الآدميين الذين يفتش عن أنواعهم، ويبحث عن ماهيتهم. فلا يحفل بمعرفتهم ولا يحدث نفسه بحاجتهم إلى التعليم والتربية، كأنه يظن أنه لا يعنيه شيء من شئون معيشتهم وراحتهم أو شقائهم، ولا ينظر في أمر حكومتهم ومعاملتها لهم. بل لقد تراه لا يسعى حتى في معرفة الذين يظلهم وإياه سقف واحد، ولو كانوا مجهدين أنفسهم في خدمته واكتساب رضائه. وقد يجهل أيضًا أو يتجاهل حال العمال الذين يعدون له معدَّات النعيم والرفاه، ولا يعبأ بشأن سائر الخلائق الذين تربطه بهم عدة روابط اجتماعية لا غنى لامرئٍ عنها.

ولست لأدري هل ذلك جهل بالأمور وسوء تصرف غير مقصود، أم هو إهمال عن احتقار واستهانة بهذا الخليط الآدمي؟ وهنالك ما هو أفظع من ذلك؛ فإنَّ بعض النساء لا يعرفن عن أزواجهن شيئًا كأنهم غرباء عنهنَّ، وكذلك الأزواج تراهم على جهل بنسائهم كأنهن في غير عصمة الرجال. وكم يجهل الكثيرون شأن أولادهم والوسائل المتبعة في تربيتهم وتهذيبهم، ولا يعرفون أفكارهم ونياتهم، ولا يهتمون لشيء من الأخطار التي تتهدَّدهم أو الآمال التي تملأ قلوبهم، كأن هذه الأمور تافهة حقيرة أو كأنها لا تعنيهم قط. وكما ترى الآباء لا يعرفون كثيرًا عن أبنائهم، فكذلك ترى الأبناء لا يعرفون شيئًا عن والديهم، فهم يجهلون ما يصيبهم من شقاء أو ينالون من نعيم وسعادة.

ولست أعني بمن ذكرت القبائل الهمجية التي لا تكاد توجد علاقة بين بطونها وأفخاذها، حتى ولا بين أفراد العائلة الواحدة منها. ولكنني أعني الهيئات الراقية من كل أمة، والتي هي عنوان كمال الشعوب ورقي البلاد، أولئك السراة الذين ألهاهم ما هم فيه حتى عن أعزِّ الناس لديهم وأقربهم منهم، فصرفوا أنظارهم إلى ما وراء الأفق، فلم يعودوا يبصرون ما أمامهم ولا ما تحت أرجلهم؛ حتى داسوا أقدس ما يجب على الرجل نحو ذويه وعائلته ومواطنيه. وأعماهم التطلع إلى الشهرة من وراء التظاهر بعمل الواجبات العظيمة الخطيرة؛ عن أداء الواجب المعتدل السهل المفروض أداؤه نحو من يعولون من الأبناء، أو من يتصل بهم من الأقرباء. فإن قام بها ومدَّ يده لنصرة الغير كان فضلًا منهُ، وإن أهملها وتطلع إلى ما يبغي به الشهرة والظهور عِيبَ عليه النقص، وكان ما يبنيه على غير أساس يدكُّه الكلم ويمحوه القدح القليل والذمِّ من الناس.

فليكن الرجل حكيمًا قبل كل شيء يقوم بما عليه لنفسه، فأفراد عائلته، فأبناء بلدته، فمواطنيه، فإذا كان في وسعه فوق ذلك وعمل خيرًا شكر وأثيب.

إن مَن لا يرتب عمله يلهو بما لا يفيد ولا ينفع عما يفيد وينفع، وكل من يشتغل بما لا يعنيه مقصِّرٌ فيما فُرض عليه، وآتٍ بدليل على حمقه وجهله وغباوته. وهذه هي أقوى الأسباب التي تربك الهيئة الاجتماعية وتجعل الخلل يتطرق إليها ويشوش مجرى الأمور.

ومن الناس من يقول: إنَّ المرء مسئول عن إصلاح ما أفسد، وهذا حق لا غبار عليه، ولكنه من باب الصالح قولًا لا فعلًا، ونتيجة الاعتداد بهذه الدعوى هي ترك الفاسد فاسدًا حتى يوجد المفسد فيكلف إصلاح ما أتلف. ولست أدري كيف يُصْلَحُ الفاسدُ إذا لم يُوجَد المُتلِفُ، أو إذا هو وجد وأبى الإصلاح أو لم يقدر عليه؟

إذا كان المطر يتطرق إليك من سقفك الخَرِب، فهل تتركه يُتلف أثاث البيت ورياشه ريثما تجد العامل الذي كان سبب هذا الإتلاف؟ وإن كانت الريح تنفذ إلى غرفتك من الزجاج المكسور، فهل تتركه على حاله من التلف حتى تجد من كسره وحطمه؟ إنَّ الصبيان وحدهم هم الذين يتشبثون بهذه الآراء السخيفة. وكثيرًا ما نرى الطفل يقول: إنني لم ألقِ هذا الشيء؛ ولذلك لا أرفعه. وإن الكثيرين لينتحون هذا النحو، ولكن العاقل منهم من يبادر إلى إصلاح المختل؛ لأن الاعتماد على تلك النظرية — الصحيحة عقلًا — يوقف حركة الأعمال، ولا يأتي بنتيجة غير العطلة والتأخير. فيجب أن يتلاشى هذا الاعتقاد الراسخ في أذهاننا، ويجب أن نتذكر جميعًا أن ما يتلفه الواحد يصلحه الآخر؛ لأن هذا هو الواقع فعلًا، والمشاهد في كل أدوار الحياة وحوادثها الجمة، فالبعض يتلف والبعض يرمُّ، والبعض يخلق المشاكل والمعارك والبعض يصلح ذات البين ويحول بين المتعاركين، والبعض يثير الأشجان ويستنزف دموع الأعين والبعض يعزِّي ويواسي ويلطف الأحزان، والبعض يسطو على الأعراض والأموال والأنفس، والبعض يضحي نفسه للدفاع عن الإنسانية ويقوم في وجه الشر والأشرار. هذا هو حال العالَم ونظام الخلائق لا تبديل فيه ولا تحوير. هكذا نشأ الناس وهكذا يبقون إلى الأبد، تلك قضية عقلية، ولكنها مما تنحني له الرءوس ولا يكابر في صحتها المكابرون. والنتيجة من كل ما ذكر هي وجوب المبادرة إلى إصلاح ما فسد، سواء توفق المرء إلى معرفة المفسدين أم لم يتوفق. والتجارب الكثيرة علَّمت الناس ألَّا يعتمدوا على المفسدين لإصلاح ما أتوه من الضرر والإفساد.

الإنسان في حاجة إلى قوَّة تساعده على القيام بالواجب، وإنْ سهل واعتدل، فما هو نوع هذه القوة وأين توجد؟ إنَّ الواجب لَحِمْلٌ على المرء يثقل عليهِ وينفر منهُ، إن لم يكن يعرف قدر نفسه، ويرغب في أداءِ ما عليه رغبةً خالصة بلا تمليق ولا رهبة. وكثيرًا ما يفر الإنسان من الواجب، وكلما اشتد طلبه وضرورته اختلق سبلًا للتخلص والإفلات منه، وشأنه في ذلك شأن اللص الماهر الذي يعرف كيف يفرُّ من وجه العدالة، ويضلل أنظار الشرطي، فإن قبض عليه فإنما يسوقه إلى السجن، لا إلى الطريق القويم والسبيل السوي.

وليس الإنسان الكامل من يؤدي ما عليه طوعًا للأمر والنهي، ولا تلك الوسيلة بالدواء الناجع الذي يشفي الإنسانية من داء التقصير ومرض الإهمال. بل لا بدَّ من الانصراف إلى ذلك حبًّا في القيام بالواجب حبًّا حقيقيًّا، غير مشوب بالغايات والمقاصد الشخصية، فإنَّ من يقوم بعمل لا يريده مكرهًا عليه لا يحسن القيام به، وإن انحطت عليه كل قوى العالم وساقته إلى الأحكام سوقًا عنيفًا. ولكن من يتعلق بمهنته وعمله يجيده ويلذ له الإتقان والإبداع فيما يعمل، ويستحيل صرفه عن خطته، أو تقليل عزمه وتحويل إرادته. وهذه هي الحال في قضيتنا التي تشغل الأفكار وتضني العقول.

وخير علاج لتلك الحال حب الحياة على ما فيها من راحة وتعب ونعيم وشقاء ويأس وأمل، وحب الناس على ما فيهم من ضعة وسؤدد ونبل وسفالة وفقر وسعة، وحب الإنسانية التي تقوي الرابطة بين الخلائق، وتلطف آلام المنكوبين، وتخفف نوعًا من الشرور المنتشرة والآلام الكثيرة التي يئن منها النوع الإنساني. فإذ ذاك يشعر المرء بقوة خفية تتمكن من قلبه وإرادته وتدفعه إلى طريق الخير، كما تدفع الريح السفينة إن تمكنت من شراعها. وسرعان ما يعرف معنى الشفقة والعدل ودفع الحيف والغبن، فيقدم ما استطاع من الطيبات والإحسان وهو مسوق بإرادته المحضة. وتتغلب عواطفه على ميول النفس الخبيثة إن حاولت ردَّه عن هذا السبيل المحمود، وضميره يقول: لا خير في الإنسان إن لم يعمل خيرًا، ولا فائدة من وجوده إن لم يكن نصيرًا للضعيف وأخًا للبائس ورفيقًا للمنكود وطبيبًا للمريض ومعزِّيًا للحزين.

وهذه القوة التي تتمكن من القلب وتُحكَّم فيه أقوى من أن تقهر، وأكبر من أن تعرف، ولكنها تستطيع البقاء في مكامن القلوب والعواطف. وكل ما في الإنسان من عاطفة حية وإحساس رقيق وميل إلى الخير؛ ناشئ من هذه القوة الغريبة التي تحتلُّ الأفئدة والصدور. وكذلك كل ما يمتاز به الرجل النابغ من الفكر والعمل الجليل يكون نتيجة هذه القوة المتسلطة على الإرادة والعقل؛ لأن الشجرة التي تورق وتثمر تستمد جذورها الحياةَ والقوة من خصب الأرض، ويأخذ ما ظهر منها كفايته من النور والهواء وحرارة الشمس. والرجل الذي يحتفظ بنفسه، فلا يطوِّح بها إلى المفاسد في هذا الوسط الإنساني المملوء بصنوف المضار والشرور، ويتبع السبيل القويم، إنما يستمد القوة والهدى من ينبوع طاهر وضمير حي شريف.

وقد تظهر نتائج هذه القوة الكامنة في أشكال جمة، منها: قوة الإرادة، والحنوِّ، والعطف على أبناء الإنسانية. ومنها: الفكر المستنير الذي يعمل لتلطيف شرور المجتمع الإنساني ويفتق عن كل وسيلة ناجعة؛ لشفاء أمراض الهيئة الاجتماعية. ومنها: الإشفاق على اللقطاء الذين تركهم أمهاتهم تحت رحمة الله والإنسان. ومنها: الرفق بالحيوان الأعجم الذي لا يشكو ولا يعرف كيف يدفع غائلة الأذى وشرور صاحبه. ومنها: طول الأناة في تكوين الجمعيات الخيرية لنصرة الضعيف وإغاثة الملهوف. ومنها كثير غير ما ذكر من أنواع المساعي الخيرية التي يبررها العاقل، ولا ينكر فضلها الخبيث الساقط.

وكل عمل من هذه الأعمال يدل على وجود هذه القوة في مكامنها الطاهرة الشريفة، فتنشط وتنزع النفوس إلى طريق الخير وصالح الأعمال، وكل من وهبه الله هذه النعمة يغبط نفسه عليها، ولا يلتذُّ له إلَّا أن يقف وجوده على تخفيف أرزاء الإنسانية والتلذذ بخدمة النوع البشري، وهو هنيء سعيد بذلك، لا يميل بأذنه إلى شكر صنيعه ولا تأبه نفسه للفخر بعمله؛ لأنه يستصغر كل مجد ظاهر، ويعرف أنَّ قيمة الحياة ومجد الإنسان في قيمة العمل وفي الخير الذي يسديه إلى البائس والمنكود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤