الاعتدال والسرور

كلما ينظر الباحث إلى المجتمع الإنساني وأطواره الذاتية وإلى الأحوال الشخصية يزداد وثوقًا بإقفار القلوب من عاطفة السرور الحقيقي، وليس ذلك لرغبة الناس عن هذه العاطفة أو لتقصيرهم في البحث عن أسبابها ووسائلها، فإن العالَم بأجمعه إنما يسعى بكل قواه ليسرَّ ويفرح.

إن في الناس من ينسب الاستياء العام والفتور المخدر إلى أسباب مالية أو سياسية، ومنهم من يرجع الأسباب إلى المشاكل الاجتماعية، والخصومة الدائمة بين الخلائق. والحقيقة أنَّ الباحث ليحار في إسناد ذلك إلى سبب واحد لتعدُّد الأسباب ووفرتها. وإن المرء ليرى كل مَن يصادفهم في شغل دائم وتعب يرزحون تحت أعباء من الهمِّ والنكد، إما لشقاق في السياسة، وإما للمشاكل القضائية القائمة بين الناس، وإما للغيرة التي تحرق الصدور وتأكل القلوب، وإما للحسد المتبادل بين ذوي المهنة أو الصناعة الواحدة، وإما للتنافس بين ذوي اليسار والمراكز السامية، وإما للمزاحمة في التجارة.

ولا يفوت الباحث أنَّ التعليم ولوائحه الكثيرة الصارمة من أكبر الأسباب التي تشغل أفكار الشبيبة، وتنغص عليها العيش، كما أنَّ الصناع والعمال في همٍّ متزايد بسبب الخلاف الدائم بينهم وبين أصحاب المصانع والأعمال.

فالحياة لا تلذُّ للحاكم لضياع النفوذ وقيام الأمة بكسر قيود الإرهاق وطلب التخلص من السلطة المطلقة، والمعلم ساخط لقلة اكتراث الناس بالعلم ومعرفة أقدار المربين والمهذِّبين. وهكذا بقية الناس لا ترى فيهم إلَّا المغضب المستاء، مع أنَّ التاريخ يرينا عصورًا كثيرة تنقصها مزايا العصر الحاضر من معدات الرفاهية والتنعم، وأسباب السرور والراحة، ويرينا ما كان عليه الإنسان في تلك الأزمان من سعادة العيش، وصفاء البال والاغتباط بهما، رغمًا من الحوادث الخطيرة الجمة التي تذهب بلذة الحياة.

ويظهر أنَّ سوء الحظ والشقاء وعدم الاعتداد بالمستقبل وتتابع الأزمات، هي من الأسباب الموحِّدة للقوى الدافعة إلى التضافر؛ لمقاومة الكوارث الطارئة والمصائب العامة التي تصيب الناس بالضر والأذى.

وقد مرَّ على الإنسان حين من الدهر لم تخلُ لحظاته من همٍّ جديد وشقاءٍ دائم، غير أنَّ ما اعتور راحته وعيشه من الطوارئ المتعبة، والنوازل العائقة لم يسلبه الهناء والسعادة، بل كانت تلك الفترات خير الأزمان التي عرف فيها الفرح والاغتباط، وهذا عجيب بعيد عن التصديق، ولكنه الواقع، ويرجع السبب في ذلك إلى سلامة الضمير من أدران الخبث، وتنزُّه النفس عن كثير من الطباع المرذولة كالحسد والغيرة والطمع، إلى غير ذلك.

وليس السرور من الماديات، بل هو شعور ينبعث من النفس ويشعر به القلب، وقد تبدو ظواهره على الوجه في شكل ابتهاج، أو ترتسم أماراته على الثغر في زي ابتسامة؛ ولهذا يرجح كون بواعث الانقباض والاستياء التي يشعر بها الإنسان في هذا العصر نفسية أيضًا، ولو أنَّ منشأها المؤثرات الخارجية.

ومن مقتضيات السرور الحقيقي الأمن والاطمئنان إلى الحياة والثقة بالنفس، وهي ما ينقص الناس. إن الرجال، بل والشبان يضنيهم التفكر في أمر الحياة وإن لم يكونوا من الفلاسفة. وكيف يطرق السرور هذه القلوب، ما دامت الأفكار مشتتة تعبة تود لو أن العالَم لم يخلق والوجود لم يكن؟

إن الإفراط قد أودى بقوى الإنسان الحيوية فأصابها الانحطاط والوهن، وفسدت الحواس وضعفت المشاعر حتى قضي على جميع أسباب السرور؛ لكون الطبيعة لا تحتمل كل المفاسد التي يرتكبها المرء ويقتل بها النفس والعواطف. ولكن رغبة الإنسان في الحياة ومتاعها لم تزل حاكمة متحكمة في نفسه، تصرفها إلى التفتيش عن بواعث السرور أنَّى وجد، ولو كان باطلًا ووهميًّا.

وكما أن الطبيب يلتجئ عند الضرورة إلى الوسائل الصناعية في التنفس والتغذية وغيرهما، متى كان المريض في حاجة إلى مثل ذلك، فكذلك ترى الناس يعنون بإيقاظ السرور من مرقده، وبعثه من قبره، فيضطرهم ذلك إلى استنباط الوسائل الآتية بهِ والمؤدية إليهِ، بغير أن تردعهم النفقات الطائلة والعوائق الجمة. ولكنهم — مع ما كلفوا أنفسهم من المصاعب، وصنعوه من الممكن والمحال، وما أعدوه من المعدَّات — لم يذوقوا قطرة واحدة من السرور الحقيقي.

وهنالك فرق واضح بين السرور ومعداته، فكما أنه لا يكفي الحصول على القلم ليكون الإنسان كاتبًا، ولا تأبط المزمار ليكون موسيقيًّا بارعًا، فكذلك لا يكفيه أن يهيئ كل معدات السرور ليكون مسرورًا. والمُشاهَد أن الكاتب المقتدر يكتفي بقصبة — لا قيمة لها — ليكتب ما يخلد الذكر ويعطر الاسم، وأن المصور الماهر يرسم بقطعة من الفحم ما يعدُّ من المعجزات ويبقى من آيات الفن وبدع الدهر. فالعبرة إذن بالخبرة والموهبة وعليهما المعوَّل. ومن عرف كيف يسرُّ ويهنأ لا تكلفه السعادة نفقة ولا جهدًا. ولكن هذه الموهبة لا تتفق مع السفسطة والغرور والإفراط، ومن لوازمها الثقة بالنفس والاعتدال في الفكر والعمل؛ فحيث تجد الاعتدال ترى السرور الحقيقي وتشعر بالسعادة الصالحة، كما أنك حيث تجد الزهر العَطِر تشتم عبيره المنعش. وكثيرًا ما ترى الزهرة تنبت بين حَجرين، أو تخرج في شق جدار متهدم، أو في جانب صخرة ملساء فتعجب وتدهش وتتساءل: كيف نبتت وكيف أزهرت وكيف صارت يانعة عاطرة؟ مع أنها لا توجد بهذا المنظر البهيج في حديقة غناء تُسقى وتخدم، بل كثيرًا ما ذبلت بين يدي المعجب بها، وذوت أمام ناظريه، وهو عاجز عن دفع ما حاق بها.

سائلوا الممثلين ورجال المراسح عن أكثر الناس سرورًا وابتهاجًا بالتمثيل الهزلي، يدلوكم على الجمهور الساذج، وهم محقون في ذلك؛ لأن هذا الصنف من الناس لم يختلف كثيرًا إلى المراسح، بل لا يقصدها إلَّا نادرًا فيرى الأشياء في بهجة الجديد وروائه، ويسمع الكلام كأنه غريب عن آذانه التي لم تعتد الهزل ولم تعرفه، فيجد لذة بعد جهد النهار وتعب الأسبوع. وهذه اللذة حقيقة بذلك النفر؛ لأنهم لم يذوقوها إلَّا بعد طويل الحرمان، وهم أعرف الناس بقيمتها، كما يعرف العامل الكادح قيمة الدرهم الحقير بعد طويل الكد والتعب. وزد على ذلك أن العامل الساذج يتأثر مما يشاهد تأثرًا حقيقيًّا، كأنه حوادث واقعة غير شاكٍّ ولا مرتاب، فيلهو بما يرى ويسرُّ سرورًا حقيقيًّا لا يعرفه من يقضي حياته على المراسح ويعرف حقيقة التمثيل.

فمما يدعو للأسف أن البساطة سرُّ السعادة وروحها أخذت تزول حتى من الوسط الساذج، وبعد أن كنا نندب حظ سكان المدن الذين اطَّرحوا وراء ظهورهم العادات والتقاليد الممدوحة، أخذنا ننظر بحزن واستياء إلى حال القرويين الذين اقتفوا خطوات المتحضرين في تلك المزالق الخطرة، فانكبوا على الكحول واعتادوا المقامرة وألفوا قراءة ما يفسد الأخلاق ويحرِّك العوامل الكامنة، فيطوِّح بالمرء إلى بؤرة الفساد والرذيلة.

زالت البساطة من ذلك الوسط بعد أن كانت هي دعامة الهناء والسعادة حينًا من الدهر، فأخذت الحياة الملفقة مكانها وأفسدت كل صالح وقضت على كل حسن، وإن من يقارن بين الأعياد والأفراح التي كانت تقام في القرى وبين أمثالها اليوم؛ لتذوب نفسه حسرة وحزنًا على ما فات.

أين ذلك الزمن الذي كان الناس فيه إخوانًا يشمل عرس أحدهم كل أبناء الضيعة، فيجمعهم سامر واحد وتربطهم عاطفة واحدة، يستجلونها في غنائهم وصياحهم ورقصهم وتصفيقهم بعد أن يملئوا بطونهم طعامًا مغذيًا وماء قراحًا؟

إن السرور والسعادة من المسائل الرئيسية في الحياة الدنيا، ولكن بعض العقلاء ذوي الرزانة يهملونها كأنها لا تستحق الاهتمام والذكر، وينفر منها المتمولون ذوو المطامع المادية الذين حصروا حياتهم في الكسب والادِّخار؛ لتوهمهم أنها مما يستدعي كثرة الإنفاق والتبذير. أمَّا من نعرِّفهم في المجتمع بالشهوانيين فإنهم يبحثون عنها في غير مكانها، كما يبحث الخنزير عن الأقذار في الحديقة الفيحاء.

وعجيب ألَّا يحفل الناس بأمر السرور الحقيقي، مع شدة احتياج النفس إليه؛ السرور شعور يزكي العواطف فيحييها وينشطها ويجعل للحياة في نظرها صورة حسناء تفتن، ومن يعرف كيف يسرُّ ويهنأ في هذا الزمن المملوء بالأفكار العقيمة والمتاعب النفسية، يكون ممن لهم ميزة وتفوُّق غريب. ولو عني هذا البعض ببث أفكارهم بين الناس؛ لإرشادهم إلى طريق السعادة لرفعوا عن القلوب ما يثقلها، وعن الوجوه المقطبة مسحة الكآبة والكدر الدائم، ولأنعشوا الأفئدة بعد أن طال عليها الخمول والجمود، ولجعلوا للحياة وجهًا غير هذا الوجه الأسود. ولكن كيف يتسنى ذلك بعد أن أقفرت القلوب من الرأفة والحنوِّ، وقصرت الأفكار عن معرفة الأسباب الوجيهة للعزاء والسلوى، حتى إن من يريد أن يخفف عن يائس وقر الشقاء ونكد العيش مجاملة ينكر عليه آلامه ويناقشه في ذلك؛ ليوهمه أنه على خطأ في معرفة مركزه الحقيقي وتقدير سوء حظه في الحياة!

ليس من يقتنع ويعرف آلام الغير وتأثيرها في النفس إلَّا من يعاني مثلها، ويئن من وقرها، ولهذا ترى المنكودين يتفاهمون ويرثون بعضهم لبعض، حتى إذا ما صلحت حال أحدهم وابتدأ نجمه ينتقل من برجه المنحوس نسي ما كان يقاسيه، وأنكر على غيره ما هو فيه من نكد وشقاء، مع أن المعزِّي اللطيف هو من يشعر بآلام المنكود شعورًا حقيقيًّا ويرثي له رثاءً صادرًا عن القلب. ورب ضغطة على اليد تزيح عن قلب المتعس حملًا من همومه، وتخفف عنه شيئًا من بلواه متى أحسَّ أنها عن ودٍّ وإخلاص، وربَّ نظرة واحدة تفضل آلافًا من العبارات المنمقة المزخرفة.

من الناس مَن يستصحب البائس، ثم يجهد نفسه ليدهشه بمقدرته في الكلام والنكات، ويفتح له مصراعي بابه، ويدعوه — على الرحب — إلى مائدته، ويعدُّ له من الطعام أشهاه وأفخره مختالًا بما رزقه الله وحرم منه الكثيرون، وربما تصدَّق عليه، وهو يظن أن في ذلك عزاءً وتلطيفًا لحال اليائس الشقي، ولكنه عين الخطأ والغرور. فأي عزاء لمن يفاخره الإنسان بمقدرته ويكاثره بفضته وذهبه، ويجسِّم له حقيقة أمره أمام خدمه وحشمه، ويوقظ الحسد في نفسه بما يمنح من مال وجاه، ثم يحقره بما يعطيه صدقة من فضلات نعمه؟ وهل أصعب على النفس من أن ترى يسر الغير وعسرها وجاههم ومسكنتها وقوتهم وضعفها؟

إن من يريد أن يأخذ بيد البائس ويزيح عنه شيئًا من همومه يجب أن ينكِّر نفسه أولًا؛ لأن الأنانية تُنفِّر منه القلوب مهما كرم أصله، ورق قلبه، وابتغى صالحًا، وعملًا طيبًا. على أن هذه التضحية ليست إلَّا مظهرًا؛ فإنَّ المرء لا يتجرد من خاصة ميل النفس إلى ذاتها. والمراد بهذا التقييد كسب ثقة المنكود وفتح أذنيه لسماع كلمات العزاء والتشجيع، فيشعر بتأثر قلوب الغير لمصابه فيتقبل الإعراب عن عواطفها، ويقع منه موقعًا يُنسي الهموم ويبعث إلى الطمأنينة.

وإذا كان الإنسان يتناسى في أوقات السرور كل متاعبه الشخصية وهمومه التي تشقيه وتشغله، فأولى به أن ينسى في ساعة العزاء والمواساة مركزه الاجتماعي وجاهه وحوله، ويتجرد من كل القيود التي تكمُّ الأفواه وتحُول بين الإنسان وفطرة الصبي الساذج؛ ليضحك ضحك الأطفال، وهم أقل الناس إدراكًا للهموم، وأكثرهم سرورًا وسعادة. ألا إنَّ هذا التناسي ليفيد كثيرًا، ويصلح حال الاجتماع، ويزيل ما بين النفوس والقلوب من الموانع والحواجز، ويكون واسطة قوية لتبادل الحبِّ والنفع.

•••

من الظن الشائع أن الممرِّض لا ينفع لغير التمريض، والمدرس لغير التعليم، والقسُّ لغير الوعظ وبقية مقتضيات عمله الديني، فتكون النتيجة أن كل المتفرغين للأعمال الجدية مكرسون لهذه الأعمال، لا يتزحزحون عنه قيد أصبع، كأن شأنهم في العمل شأن الدابَّة فيما خصص لها من العمل. وعلى هذا الزعم يكون العجزة والمفلسون وكل المنكوبين — على سائر أنواعهم واختلاف مصائبهم — من المحكوم عليهم بالتجرُّد من عاطفة السرور، كأنهم خلقوا للضرَّاء والهموم، فلا يقابلون بغير الوجوه المقطبة، ولا يسمعون غير الأخبار المحزنة المكدِّرة. وكما أن ذلك الظن يستدعي — بطبيعة الحال — أن يمسخ الزائر وجهه إن عاد مريضًا أو منكوبًا، وأن يختلق من الأحاديث ما يضيق الصدور ويسئم الأسماع والنفوس، وألَّا يدنو من تعس إلَّا ليردد على سمعه أخبار البؤس والشقاء، ولا من مريض إلَّا ليزفَّ إليه شتاتًا من أحاديث الأمراض والعاهات والآلام والموت. ألا إنَّ هذا هو منتهى البربرية والتوحش، وأخلق بالعقول أن تتجرد من مثل هذه الظنون السخيفة.

فإذا ما لقي الإنسان رجالًا أو نسوة كرسوا أنفسهم للأعمال الشاقة، أو انقطعوا للتمريض والتعليل، فليتذكر أنهم من الآدميين يعوزهم ما يعوز سائر الأحياء من الراحة ونسيان الهموم والفرح، وأن السرور لا يردُّ أولئك التعساء عن مهنتهم المحزنة، وإنما يجدد قواهم وينشطها لممارسة العمل بهمة وصبر.

وإذا ما صادفتَ عائلةً حطَّ عليها الشقاء بهمومه وأحزانه فلا تفرَّ منها فرار الجبان من الموت، ولا تحذر من مقاربتها حذر من يتخطى النطاق الصحي المضروب على الموبوئين، فإنَّ الإنسانية تحتم على الإنسان مقابلتهم بثغر باسم وصدر منشرح، مع احترام عاطفة الحزن التي بسطت أجنحتها على ذلك المكان وأفراده؛ حتى يشعر التعساء بحنان القلوب وعطفها عليهم، فيتجدد فيهم الأمل ويتعلقون بأهداب الحياة، فينشطوا لتحسين حالهم فيتحسن شطر من الهيئة الاجتماعية.

إن العالم مملوء بالتعساء الذين قضى عليهم نكد الطالع بالشقاء، وأولئك يكفيهم وميض من السرور في سماء حياتهم المتلبدة بغيوم الهمِّ وسحب الأحزان، وتقنعهم عطفة قلب حساس وابتسامة ثغر باسم، فمن السهل مواساة هذا النفر، لو أتيح للناس أن يتعرفوهم أو يتفكروا فيهم.

لقد آن أن تُماط عن العيون العوينات التي تمنعها رؤية متاعب هذا الفريق المنكود، فتسهل مساعدة من هم في حاجة إلى العزاء والمواساة، ويتأتى تعهدهم بشيء من العناية التي تخفف عنهم وقر الهموم وأعباء العمل الشاق، وتعيد لهم شيئًا من الابتهاج. إن مَن يسيرُ بجانب ذي الحمل الثقيل لتأخذه عليه الشفقة، فيحمله عنه — ولو لحظة قصيرة — مجاملةً وإشفاقًا، فتعيد تلك اللحظة من الراحة إلى المتعوب قوته وتشرح صدره. فهل بين الناس من ينكر هذا العمل الإنساني؟

ما أسعد حال المجتمع الإنساني إذا تبودلت فيه المعاونة وعواطف الإخاء والمحبة، فإنَّ ذلك العزاء والسرور، بل والسعادة الحقيقية التي ننشدها من غير سبيلها القويم.

•••

ولما كانت العناية بالناشئة واجبة، فعلى القائمين بالتربية أن يلاحظوا أن التروض والسرور من أكبر الوسائل التي تساعد على التكمل والتأدُّب.

ورُبَّ معترضٍ يقول: إن الشبان لا يعرفون الاعتدال أو الاكتفاء بوسائل السرور التي يُسمح بها لمن في سنِّ الشباب، وإنهم ليطفرون إلى ما لا يستحب ولا يمدح. فيدفع الاعتراض بأن ذلك يكون بحسب قدرة المربِّي، فإنَّ عرف كيف يسوس من هم في حرزه وصيانته، بما يختلقه من أسباب السرور وبواعثه — بغير أن يقيدهم بحدٍّ محدود — أمكنه أن يشفي النفس من تطلعها إلى غير الجائز، وإن لم يفعل عن تقصير أو إهمال أو عن عجز، فعليه وحده التبعة واللوم.

إن من يتصوَّر أن الناشئة تميل إلى الملاهي الموضوعة، وبواعث السرور المختلق لهو على خطأ؛ لأن النفوس لم تفسد بعد، ولا زالت تميل إلى المروِّحات الطبيعية البسيطة، وتشعر بتأثيرها على النفس الساذجة فتتنشط وتنتعش، بينما هي تسأم تلك المشوقات المملة المتعبة. إلَّا أن الإفراط قد أفسد كل شيء على وجه الأرض، حتى إن اليد لتكاد لا تمسُّ شيئًا صالحًا، والعين لا تقع إلَّا على الموبوء الدرن، فعلى قدر هذا الفساد تجب العناية والحذر عند انتقاء أساليب التروح وأماكن التلهي والسرور.

ومن المحقق أن حرمان الناشئين عن عاطفة السرور يؤلم قلوبهم ويقبض صدورهم، ولكن ترك الحبل على الغارب يؤذي أيضًا، ويقضي على الأخلاق والأدب. فالموقف حرج والضرورة ماسة للتفكر في الحال والمآل، ولو وقفنا بهم عند هذا الموقف من الارتباك لحملناهم من الصغر أتعاب الحياة وهمومها، وجعلناهم في شكٍّ ووسواس، وأريناهم العالم من وجههِ المغبر.

فليعتنِ الحكماء بوسائل السرور؛ ليفتحوا للسعادة بابًا تأتي منه، فتنزع الهموم واليأس وتبدِّل الحال من حسن لخيرٍ منه. وليعمل العقلاء لإزالة الفارق الموجود بين المعلمين والمتعلمين وللقضاء على الغطرسة التي تنفِّر الناشئة من المربين؛ ليكونوا أخوة في أوقات الفراغ ترشف نفوسهم كأسًا واحدة، هي كأس السرور الشامل؛ فإنَّ ذلك مما يطرد النفرة وسوء الظن ويقوي الرابطة ويساعد على الدرس والتعليم. وإن للمعلم المحبوب منزلة في قلوب تلاميذه تفتح لمعلوماته صدورهم وأفهامهم، وليس ألذُّ للمتعلم من فهم نصائح وتعاليم مربيهِ المحبوب والعمل بها.

•••

ليس للسرور ثمن ولا هو مما يباع ويشترى وإنما هو ثمرة يجتنيها مَن يعرف مكانها. فمن شاء ألَّا يعرف الهمَّ والأحزان، وأن يروِّح عن نفسه ويملأ قلبه سرورًا وابتهاجًا، فعليه بالعمل والاعتدال في العيش والمعاملة، ونبذ ما ينفر منه الغير. وليكن حَسَنَ اللقيا واللفظِ أنيسًا معتدلًا، حَسَنَ الظن بالناس لا حسودًا ولا حقودًا، محبًّا لرفاقه غير مهذار ولا نمام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤