المال والاعتدال

المال من وسائل التعامل، ولكن الضرورة إليه لا تجيز أن يُحلَّه الإنسان في غير موضعه من مراتب الاعتبار، أو ينظر إليه بأرقى من العين التي تمثله واسطة لتبادل المنافع.

والمشاكل والمشاغب التي تنجم عنه خطيرة، وسبب لأكثر الاضطرابات في العلائق الاجتماعية، إلا أنه مع هذا لا يمكن الاستغناء عنه، وعناية الخلائق بأمره من أقوى العوامل التي بعثت النفوس والأفكار على حب الاقتصاد، والبحث عن سبله المؤدية إلى الغاية، فرفعت من قيمته الوهمية وخلقت له في الحياة قدرًا وسلطانًا.

ولولا الافتقار إلى تبادل المنافع لما نشأت الحاجة إلى المال، وليس المراد بهِ الفضة والذهب فقط، بل كل متداول ذا قيمة متفق عليها معترف بها. وقد جعلت المطامع والرغبة في الربح والاكتناز في مستوى المنافع أشياء ليست منها، ولا يجوز أن يكون لها هذا الاعتبار، فأوجدت لها قيمة مالية ليست لها ولا يصح أن تقدَّر بها، وفسد بذلك المعنى الصحيح لتبادل المنافع، وأصبح الحصول على المال — بهذه الواسطة — غشًّا وسرقة واغتصابًا.

من المعلوم أن الغلال والمأكولات والملبوسات — وما شاكل هذه المنافع — مما يسوغ الاتجار به، واستبدال أحد أنواعها بالآخر منها. وكذلك يصح أن يقدر العمل، أو المجهودات الشخصية تقديرًا لا غبن فيه على المتعاملين، فيستوفي العامل منفعة توازي ما عاد على الآخر من فائدة عمله، إلا أنه يجوز أن يكون في هذا النوع من التبادل شيء من عدم التماثل، فإنَّ المجهودات الشخصية ليست ذات قيمة ذاتية، وإنْ كانت تقدر تقديرًا يلوح أنه لا غبن فيه على المتعاقدين.

ويجب أن يُلاحظ أن في الحياة ما لا يمكن بيعه كمعرفة المستقبل وما شاكل ذلك، فكل من يعدُّها سلعًا تباع وتشرى يكون مجنونًا أو محتالًا. ولكن البعض — ويا للأسف — يحصل على المال بهذه الواسطة غير المشروعة، والمخدوعون يدفعون مقابل ما لا يباع، ولا يملكه البائع، ولا قيمة له ثمنًا من الذهب. والبعض يتاجر بالعواطف والملاذ والشهوات والأعراض والوطنية والدين، وهذا النوع من الاتجار لا يجعل لصاحبه حظًّا من القيمة الأدبية والشرف، اللذين يكونان لمن ينتفع ويربح من بيع وشراء ما يجوز الاتِّجار به.

ومع أنه لا يوجد بين الناس مَن لا يستنكر هذا العمل الشائن، ويستقبح الربح من هذا السبيل، نرى أن هذا المستقبح عقلًا وأدبًا له حكم الجائز المحمود في عرف ذوي المطامع عبَّاد المال، بل ونراهم يعدُّون كل اعتراض على هذه الرذيلة بلاهةً وحمقًا وتطفلًا.

وقد انتشر هذا المبدأ الفاسد حتى صار عادة لا تستأصل، ولم يعد الكثيرون ينظرون إليه بعين الازدراء والمقت الجديرين به، فعبثت يد الإنسان بكل مقدَّس وشريف بلا تردد ولا أسف. وليس المال هو سبب هذه السفالات التي تربك الحياة الاجتماعية وتشوِّه وجهها الحسن، وإنما هي المطامع وحب الذات.

للطموع مبدآن: الأول يحصر في اعتبار المال روح الحياة، والثاني في أن الربح وحده هو الغرض من كل عمل؛ ولذلك تراه يتساءل عند كل حركة: ماذا أربح وماذا عساني أستفيد؟ وهذان المبدآن هما من أشدِّ المزالق انحدارًا إلى حضيض السفالة والعار، بما ليس في استطاعة الكاتب أن يمثله ولا العقل أن يتخيله.

«ماذا أربح وماذا عساني أستفيد؟» هذا السؤال الذي يكون مُبَرَّرًا ووجيهًا ومغتفرًا عندما يراد به مجرد التبصر والاحتياط المفروضين على كل طالب رزق، يكون شؤمًا ومصابًا على الاجتماع عندما يتجاوز ذينك الغرضين، ليكون محورًا تدور حوله الأغراض والأعمال ووجهةً ترمي إليها الأماني والآمال، حتى إنه ليحط من قدر العامل وقيمة العمل الشريف ولو أنه لِكَسْبِ الرزق ودفع العوز.

العمل المأجور مباح لكل الناس، إلَّا أنه إذا كانت الغاية منه مجرد كسب الأجر فإنَّه سفالة لا تبرر. وكل عامل هذا شأنه لا يحسن العمل، ولو استطاع أن يوفر من مجهوداتهِ بغير أن يقلل من أجره الذي يتناوله لفعل غير متردد ولو أضرَّ ذلك بالآخرين. وكل من لا يعمل وفقًا لمقتضيات الصناعة أو المهنة، فإنَّه لبئس عامل يعمل أو أجير يؤاجر.

والطبيب الذي لا يحفل بغير ما يتقاضاه من المرضى لا يجمل بالناس الاعتماد عليه، فإنَّه لا يُعنى إلا بالمال لإشباع مطامعه، وكذلك المعلم الذي يرغب فيما يحصله من المتعلمين تراه يستدرُّ المال ولا يوفيهم حقهم من العلم والتربية. وأخطر من هذين على الاجتماع وأضرُّ بمصالحه الصحافيُّ الذي يؤجر قلمه رغبة في الدرهم الحقير، فإنَّ ما يكتبه وينشره لَيكون أحقر من الدرهم، بل وأكثر سفالة من نفس الكاتب.

ومما يؤسف له؛ أنه كلما كان العمل يرمي إلى تحقيق غايات أسمى وأغراض أكثر نبلًا ووجاهة اشتدت عوامل الطمع، وتقوَّت الفكرة التجارية؛ للتغلب على هذه المرامي الوجيهة وإفساد نفوس العمال. نعم، إنه من الصواب والعدل أن يكون لكل عملٍ أجر ولكل تعب جزاء، إلا أنه من الخطأ الضار بالمجتمع أن يكون الربح هو الباعث الوحيد على العمل والغاية المقصودة منه. وحقيقٌ بالعامل أن يرضي نفسه بالإجادة في عمله قبل أن يشبع مطامعه بما شاءت من الأجر؛ فإنَّ ما يبذله من الجهد لهذه الغاية — سواء كان مجهودًا جسديًّا أو عقليًّا — مما لا يقدَّر بثمن أو يدخل في اعتبار محصور.

إن الإنسان ليستأجر عاملين في قوة متماثلة ومعرفة متشابهة، فيعملان ويجيد أحدهما ولا يحسن الآخر، وهذا لا يدلُّ على تفاوت في القوة والإلمام بالعمل، وإنما يكون على الأرجح دليلًا على أن الأول يعمل راغبًا في الإجادة، والثاني في الأجر فقط. وليس هنالك غير هذا السر في كل ما نراه من نجاح البعض وحبوط البعض الآخر، إذا ما تماثلت الظواهر وتوازنت القوى والمدارك العاملة.

•••

ليس من ينكر أن مشاكل الحياة ومطالبها عديدة، وأن حاجة الإنسان إلى الاقتصاد ماسة، وأنه مرغم على ابتكار أساليب النظام في العمل للكسب والتوفير؛ حتى يتسنى له حفظ مركزه الاجتماعي وكسب قوت عائلته وأطفاله. وإن من لا يراعي هذه الظروف المتجددة، ولا يحفل بالطوارئ فيعد لها العدة قبل أن تفاجئه، وإنَّ من لا يحسب للدهر تقلباته ليس إلا قليل التبصرة. ويجوز أن تفاجئه ظروف تلجئه إلى التسول ممن كان يعيب عليهم الحرص والتدبر والشح.

ليس من ينكر كل ذلك، ولكن إلى أي حال يصل المرء، وعند أي حدٍّ يقف إذا هو حصر أفكاره في أمثال هذه المخوفات؟ وماذا يعمل أو يتمم من العمل إذا قصر همه على أن يقارن بين العمل والأجر الذي يريده لنفسه، أو إذا أصرَّ على أن كل ما لا يأتي بفائدة مادية يكون تعبًا ضائعًا على غير طائل؟

ألا إن الوالدات لا يتقاضينَ أجرًا على إرضاع وتربية ومحبة أولادهنَّ، ويرى الأبناء من واجبات البنوَّة احترام ومحبة ومساعدة الوالدين. والرجل الشريف لا يزال يعلن الحقيقة ولو أنه لا يجني من ذلك غير كره الناس له ونفورهم منه واضطهادهم إياه. والناس تدافع عن الأوطان وما وراء ذلك غير التعب والجراح، وربما الموت أيضًا. وفاعل الخير يسديه إلى الغير بدون أن ينظر إلى ما يكون من نكران الفضل، وحسد البعض له وحقدهم عليه. كل هذا يتمُّ بدون أجر وبدون تطلع إلى ربح مادِّي، والإخلاص وحده هو سر هذه الأعمال الجليلة، ورقة الشعور هي التي تبعث على انفعال النفس وتأثر العواطف وتدفع الإنسان إلى ما يحمد عليه من الواجبات الإنسانية.

أمكتنزَ المال، حوِّل بصرَك عن شعاعه الوهاج فإنَّه يبهره فيزيغه عن الحقائق، وتأمل في كيف جمعت ما استغواك وأبعدك عن جادة الاعتدال، تجد أن معظم ما وصل إلى يدك لم يكن ليصل إليها لولا سذاجة الآخرين، أو إخلاصهم لك. ولو كان كل من صادفت في حياتك من الماكرين ذوي الخبث والأنانية لما كنت في مركزك الحاضر، ولا جمعت هذا القد مما كان للغير وتسرَّب من يدهم إليك. إن جلال العالَم ليس بأمثالك، بل بأولئك الذين لا تحفل بهم ولا تلوح قيمتهم الحقيقية واضحة للعيان. وإن الخدمات التي يؤدونها للاجتماع ليعجز عنها مَن تجرَّدت نفوسهم من مشاعر الإنسانية، حتى إنهم ليجودون أحيانًا بأموالهم وراحتهم وحياتهم لنفع الهيئة الاجتماعية، بينما أنت تحاسبهم على ما تربح وتحصي عليهم ما يعملون وما يأخذون. إنهم ليعملون كثيرًا لمعاونة مثلك مدفوعين بعوامل الرأفة والإشفاق والطيبة والإنسانية، وكثيرًا ما يكون جزاؤهم على ذلك نكران الفضل والمسبة والتحقير، فلا يقابلون هذا الجحود بما يستحقه، بل بلوم أنفسهم على خير أسدوه إلى غير أهله ومعروف زرعوه في غير مكانه. وإنهم لعلى حق في ذلك؛ فإنَّ اللآلئ لا تطرح في القاذورات. ولولا أن مصلحة الهيئة الاجتماعية قائمة بوجود هذا النوع من الناس، وتعدد هذا الخطأ المفيد رحمة بالخلائق لأقحلت القلوب من الرأفة والإنسانية مما يعزِّي البائس ويلطف آلام المنكوب.

•••

المال روح الحياة! هذا هو المبدأ الفاسد الذي تشبَّعت به النفوس والأفكار، وكان سببًا لما نسمعه متناقلًا على مثال الحِكم من قولهم: القوة للمال، هو البرهان القاطع واللسان الناطق … هو مفتاح الآمال وحلَّال المعضلات، هو سلطان العالم، وأمثال ذلك مما نُظم وقيل مدحًا في المال ورفعًا لشأنه.

المال يلوح أنه روح الحياة لمن يصيبه الإفلاس التام يومًا أو أكثر، ويكون في بيئة لم يعرفها ومكان لم يطرقه بعيدًا عن ذوي صداقته وقرباه. وإن ما يقاسيه من نكد العيش وآلام الحياة، وما يمرُّ عليه من التجاريب في هذا الزمن القصير؛ ليمكنه من معرفة ودرس فلسفة الفقر والفقراء درسًا لا يتسنى له على أحسن مدرس حكيم.

ومما يؤسف له أن هذا الدرس المفيد قد يتسنى للبعض مكرهين على تلقيه في مدرسة الشقاء، وقد يطول أمده عليهم وهم — مع ذلك — في أوطانهم، وبين ذويهم وأصدقائهم ورفقاء حياتهم، بل وبين من سبق أن أفاضوا عليهم مما كان لهم من نِعم الله، وغمروهم بالأفضال والحسنات. ولكن هذا لا يمنع أن يكون الدرس أكثر إفادة، والتجربة أبلغ عظة وعبرة؛ فإنَّ العوز يذهب بالصداقة ولحمة القرابة وعهود الصبا وذكرى المنة والمعروف، حتى لينكر الناس معرفة المفلس ويفرُّون منه فرارهم من الموبوء.

إن الذباب ليتهافت على الجيف المنتنة، وكذلك الناس يترامون على المال، فإذا ما ذهب انفضَّ المترامون وتوارى المتحبِّبون. ومن يصل به الشقاء والبؤس إلى هذا الحدِّ من مواقف الحياة، لهو وحده من يستطيع أن يعرف قدر المال، ويسخط على المبدأ السالف، ويقدِّر كثرة أضراره بالهيئة الاجتماعية، ولو أنه كان في زمان سعوده من أنصاره ومن عبَّاد العجل الذهبي.

هذا المبدأ فاسد بكل معنى الكلمة، وليس أيسر على العقل من إثبات فساده بأدلة، ليس منها ما جاء في القصص من ذكر الضالِّ في الصحراء، ولا تمثيل الغني الكانز في ضعف الشيخوخة وانحلال الكبر، وإنما بأدلة تجعل الحقيقة واضحة ملموسة، وتظهر بطلان هذه الأكذوبة التي جرت مجرى الحِكم والنظريات البديهة.

ليس أقرب إلى التذكر من حال الإنسان في دور البداوة، وقبل تطرق هذا الخبث إلى الأفكار والقلوب، فإنه كان أسعد حالًا منه بعد كثرة المال وتوفر الحاجات المادية ووصول العمران والمدنية إلى هذا الحد المبهج، وقلَّ أن صادف المعوز — في ذلك العصر الهمجي — ما يلاقيه اليوم من أخيه المتمدين من دلائل القسوة، وإقفار القلوب من الرحمة، وقبض الأيدي عن الجود، بدون أن يمنع الكرم في ذلك العهد تقدُّم الاجتماع أو يخلَّ بنظام العالم، وبدون أن يكون الشحُّ وحب المال في هذا العصر واسطة للإثراء والحصول على السعادة، أو من عوامل الرقيِّ الحقيقي وأسباب السلام.

وما على المرء إلا أن يقارن بين حال القُرى والضِّياع التي يؤمها السائحون؛ لشهرةٍ لها تاريخية أو صحية يوم كانت ملجأ للضيفان، ودليلًا على وجود العاطفة الإنسانية في الإنسان، وبينها اليوم وقد انقلب الحال وأفسد حب المال تلك النفوس الساذجة والأفكار البسيطة، فحوَّلها إلى نفوسٍ وأفكار لصوص يترقبون مرور السائح أو الزائر؛ ليسلبوه المال في مقابل ما لا يساوي شيئًا، إنهم يبيعون اليوم ما كانوا يفخرون بالجود به وما لا يملكون أيضًا. إنهم يبيعون الظلَّ والشمس والماء والهواء، ويطلبون الأجر حتى على الإرشاد للسبيل.

يقال: إنَّ المال هو واسطة النصر في الحروب. نَعم، إن الحروب تقتضي النفقات الطائلة، ولكن هل يكفي أن يبذل المال للدفاع عن الوطن وحفظ كرامته؟ إن لنا من التاريخ لخير جواب على هذا السؤال، فإن ما كان بين جيوش الفرس ونفر اليونان وانتصار الذابِّين عن بلادهم المستقتلين في الذوْد عن حياضها يناقض هذا القول ويدل على بطلانه.

نَعم، إن المال يكون واسطة للإكثار من المدافع والبنادق والسيوف والرماح والقذائف والعمارات البحرية والخيول، ولكنه لا يمكن أن يكون ثمنًا للمعارف الفنية والفنون الحربية والسياسات الرشيدة والنظام الدقيق والطاعة والحماسة والوطنية، والنصر — في الحقيقة — راجع إلى هذه الأسباب وتوفرها في المقاتلين.

قد يتوهم البعض أن المال وحده يخفف متاعب الهيئة الاجتماعية، ويلطف ما فيها من أنواع الشقاء. والحقيقة أن المال من بواعث التطرف والإفراط، فإن لم يكن له سياج من العقل والتعفف والطيبة والاختبار، كان سببًا للإضرار بمالكه وبالغير بدلًا من النفع. فكثيرًا ما كان الإحسان مثلًا — وهو من ملطفات الشقاء — باعثًا على إفساد النفوس وتعويدها الخمول والكسل والبقاء عالة على المجتمع؛ وهذا لأن المثري المحسن لم يتخير مكان العمل، ولم يعرف كيف يميز بين من يحتاجون الصدقة وبين من يحترفون التسوُّل.

•••

ليس المال كل شيء في العالم. نَعم، إن له بعض القوة والنفوذ، ولكنه ليس السلطان المطلق، وليس أكثر خطرًا على الاجتماع، ولا أضر بالهيئة الاجتماعية من انتشار الطمع والأنانية، والانصراف إلى الكسب بأي الوسائل شرفت أم سفلت، فإن هذا النقص الأدبي مما يجرد الإنسان من كل صفات الإنسانية الحقة، ومما يجرد الرجل من حقيقة الرُّجْلَةِ وشعائر الأحياء، فضلًا عن أنه ينزع الثقة من القلوب ويملؤها خبثًا ونفاقًا وختلًا.

ولا يراد بهذا القول الصواب منع كسب المال بالوسائل المعتدلة من الوجهات الشريفة المحللة، ولا تحقير الثروة لحمل الناس على التجاوز عن طلبها والتعلق بها، وإنما يراد حصر الأعمال في الوسائل المشروعة السائغة وتطبيقها على القانون العام، وهو تقدير الأشياء بقدر ما لها من القيمة الذاتية والاعتبار الأدبي، ووضع الأعمال في مواضعها الحقيقة بها.

لقد وجد المال لقضاء حاجات الإنسان، وواسطة للتعامل وتبادل المنافع، فإذا ما تعدَّى هذه الغاية، وتحرر من رقِّ الحقيقة وتغلَّب على العقول وأفسد النفوس، وصار له السلطان المستبد على الأفكار والقلوب، وأزرى بالحياة الأدبية والكرامة والحرية، وتعمَّد الناس كسبه من كل سبيل كيفما سوَّلت لهم أنفسهم وفتقت لهم الحيلة، وإذا ما ظن الأغنياء أنه واسطة للحصول على ما لا يجوز نيله من حقوق الناس، أو أعراضهم أو كرامتهم، حُقَّ للعقلاء أن يتمرَّدوا على هذا السلطان المستبد والمعتقد الباطل، وأن يحاربوا هذا المبدأ الفاسد ليستأصلوه من العقول السخيفة والنفوس الموبوءة؛ لتحل مكانه الحقيقة الصالحة للاجتماع، فيتلطف الشرُّ الفاشي ويقلُّ شقاء العالَم.

وإذا كانت قيمة الأشياء تقدر بما لها من الضرورة والحاجة الماسة، حُقَّ لنا أن نُذكِّر الناس بأن نِعم الله الأكثر ضرورة للمخلوق الحي مُنحت بلا مقابل، وهي مشاع للجميع، فلا يجوز أن يكون لما لا قيمة له بجانب هذه الضروريات ذلك الشأن الهام والسلطان على كل العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤