خاتمة

رسالة الأم

إذا أردنا أن نُلقي نظرة إلى الطريق الذي قطَعناه حتى الآن في هذه الدراسة، وأن نتطلَّع في آنٍ واحد إلى فجرٍ جديد تُبدِّد أضواؤه ما يُخيِّم على قلب الإنسانية من ظلمات اليأس والتشاؤم؛ فما علينا إلا أن نُوجِّه أنظارنا نحو الأم، وأن نتحدَّث عن رسالتها السامية، وعن الدور العظيم الذي تؤدِّيه في رفع المستوى الحضاري، وفي توفير أسباب الاتزان النفسي والسعادة لرجال الغد.

استيقظ العالم العربي من سُباته العميق، وقام يدعو أبناءه إلى النهضة والتقدم واستثمار الثروات الطبيعية لتعميم النفع على الجميع، ورفع مستوى المعيشة. ولكي تنجح الحركات الإصلاحية لا بد في بادئ الأمر حصر رءوس الأموال الأساسية التي ستَثتثمر في سبيل النهضة والإصلاح. وقد يتبادر إلى الأذهان أن رأس المال الأساسي هو المال أو الثروات الطبيعية على اختلاف أنواعها. الواقع أن هناك رءوس أموال لا يمكن الحصول عليها بالمال، وبدُونها لا يمكن استغلال الأراضي والمناجم ومنابع الطاقة الطبيعية، ورأس المال الأساسي هو الطاقة البشرية، هو القدرة على العمل وعلى الإنتاج المنظَّم المُستديم، هو القدرة على تكوين علاقات إيجابية وإنتاجية بين أفراد المجتمع في جوٍّ من الثقة والتعاون، وفي حدود احترام القوانين الأخلاقية والصالح العام. وهذه الطاقة البشرية تتلخَّص في كلمتَين: الصحة الجسميَّة أولًا، ثم الصحة النفسية ثانيًا؛ وما يتبعهما من إقدام على العمل، ومن القدرة على الابتكار والتجديد، ومن رغبة في الإنتاج، وتحسين هذا الإنتاج في جميع ميادين النشاط الإنساني.

وممَّا لا شك فيه أن العبء الأكبر في توفير هذه الطاقة البشرية التي نتحدَّث عنها يقع على عاتق الأم. وممَّا يدعم هذه الحقيقةَ الجوهريةَ البحوثُ العلمية التي قامت بها أخيرًا المنظمة الدولية للصحة بالاتفاق مع لجنة الأمم المتحدة للشئون الاجتماعية. وقد قام بهذه البحوث الدكتور John Bowlby طبيب الأمراض العقلية، ومُدير إحدى العيادات السيكولوجية الكبرى بمدينة لندن. وقد نُشِر تقرير الدكتور Bowlby بعنوان: عناية الأم وصِلتها بالصحة النفسية. ثم لُخِّص هذا التقرير ونُشِر في مجموعة Penguin بعنوان: العناية بالطفل ونمو الحب.

وقد اهتمَّ واضع التقرير بدراسة مصير الأطفال الذين حُرِموا من عناية الأم، ونشَئوا في مؤسساتٍ حيث كانت الخدمة موزَّعة بين عدد من الأفراد، دون أن يكون هناك من يعتني بطريقةٍ مُستمرة بكل طفل على حِدَة.

وجد هؤلاء الأطفال كل ما يلزم من العناية المادية، ولكنهم حُرِموا ممَّا هو أهم من العناية المادية؛ أعني من حب الأم ودفء صدرها. وقد أحدث هذا الحرمان نقصًا بليغًا في تكوين شخصية الأطفال، وفي قدرتهم على تكوين علاقات تعاونية مع الآخرين، بل كوَّن فيهم اتجاهاتٍ عدوانيةً نحو المجتمع؛ فظهر آثارها في سن المُراهقة والشباب. وممَّا هو جدير بالذِّكر، أن المُشرِفين على العيادات السيكولوجية لمسوا صعوبةً كبرى في معالجة مثل هؤلاء الأطفال المُشكلين، بل اعترف الكثير منهم بعجزهم التام عن تعويض ما فقده هؤلاء الأطفال من حب الأم، وعن إصلاح ما سبَّبه هذا الفقدان من شذوذ في شخصيتهم. هذا يجعلنا نُقرِّر من جديدٍ هذه الحقيقة التي أخذ علماء النفس يُردِّدونها بإلحاح، وهي أن أهم مُقوِّمات الشخصية تتكوَّن وتنمو في السنين الأولى من حياة الإنسان، وأن أسلوب الحياة الانفعالية وما يتبعها من استعداد لبعض الأمراض الجسمية يكتسبه المرء في طفولته حيث يكون اعتماده على الآخرين كبيرًا جدًّا. والعامل الأساسي في تكوين شخصية الطفل، وفي توفير أسباب نموها السوي، هو عناية الأم بطفلها، وأهم وجه من وجوه هذه العناية ليس مجرد تغذية الطفل ورعاية صحته، بل بذل الحب له، وإحاطته بجوٍّ من العطف والاطمئنان؛ فحب الأم لطفلها هو العامل المُشترك في جميع أنواع العلاقات التي تصل بينهما. ويجب أن تستمرَّ هذه العلاقة بدون انقطاع في السنوات الثلاث الأولى بوجهٍ خاص؛ فتغيُّب الأم فتراتٍ طويلةً من الزمن يُحدِث في نفسية الطفل نوعًا من الحيرة والتردد وعدم الاستقرار؛ ممَّا يؤذي نشأته الأولى.

وإذا كان الأمر كذلك، أي إذا كان لحب الأم لطفلها هذه الأهمية الجوهرية في تكوين جيل صالح متَّزِن ناضج، فمن واجبنا أن نطرح من جديد على بِساط البحث مشكلةَ عمل الأم خارج المنزل من الصباح إلى المساء، وترك طفلها الصغير في رعاية مُربِّية مأجورة تتغيَّر من وقت إلى آخر، أليس من حق الطفل على أمه أن يُطالِبها أولًا بهذا الغذاء الروحي الذي بدونه يتحوَّل الغذاء المادي إلى شيءٍ مُنغِّص يصعب هضمه وتمثيله؟ ومن واجب الدولة أن ترعى شئون الأسرة بشتَّى الوسائل التشريعية، بحيث تتمكَّن الأم من العناية بطفلها كما يجب. ومن واجب المؤسَّسات الاجتماعية والتعليمية أن تُنظِّم دراساتٍ للكبار لتثقيفهم بالثقافة السيكولوجية اللازمة لهم؛ لكي يفهموا عملية نمو الشخصية في الطفولة، ويُدرِكوا أهم العوامل التي تؤثِّر في هذا النمو، فيستعدُّون للحياة الزوجية مزوَّدين بأصول فن التربية، فيتجنَّبوا الأخطاء التي تُسيء إلى نفسية أطفالهم على غير وعي منهم.

تلك هي الرسالة الأولى التي يجب على الأم تأديتها لكي نضمن جيلًا يمتاز بالاتزان الانفعالي والنضج العقلي، هذا هو رأس المال الأساسي الذي يجب أن نبني عليه صرح المستقبل.

هناك رسالةٌ أخرى تشمل جميع أفراد الأسرة، على الأم أن تُساهم بقسطٍ وفير في تحقيقها، هي خلق حياة عائلية حقَّة داخل المنزل، يكون محورها حب الزوجَين أحدهما للآخر، وحرصهما على تحقيق سعادة الأطفال بتنشئتهم في جوٍّ من المودَّة المُتبادلة، ومن الاحترام للقيم الإنسانية العليا. وأول قيمة في نظرنا، نحن في حاجة إلى الدفاع عنها، وغرسها في قلوب الجيل الناشئ، هي حب العمل، واحترام الواجب والإحساس اليقِظ بضرورة إنجاز العمل على خير وجه ممكن. والأم في بيتها وهي تقوم بأعباء واجباتها المنزلية دون تذمُّر ولا استياء، هي أفصح مثل يُقدَّم للأبناء لكي يشبُّوا على حب العمل، وعلى بذل المجهود بالصبر والتأنِّي.

إن الشرق لا يُعوِزه الإيمان ولا الحماس ولا القدرة على بناء الآمال الواسعة، ولكن هو في حاجةٍ ماسَّة إلى تنمية الرغبة في العمل؛ العمل الدقيق المُتقَن الذي نبدؤه لكي نُنجِزه، لا لكي نتركه ناقصًا مشوَّهًا.

عاطفةٌ متَّزِنة، شخصيةٌ ناضجة، حياةٌ عائليةٌ حقَّة، حب العمل والرغبة في إنجازه بدقة ونظام؛ تلك هي الصفات التي نُطالب بها الأم العربية أن تُحققها في أفراد الجيل الناشئ. هناك بالطبع صفاتٌ أخرى عديدة كان يجب ذِكرها، غير أننا اقتصرنا على ما يبدو لنا أهم من غيره في هذه المرحلة الدقيقة التي تجتازها الأمم العربية في سبيلها إلى النهضة والتقدم. وربما يجدر بنا أن نذكُر فضيلةً أخيرة نعتقد أنها هامَّة جدًّا لنهضتنا الاقتصادية، وعلى الأم خاصةً تنمية هذه الفضيلة في أبنائها؛ أقصد روح التوفير. لا يمكن أن تصبح أمة من الأمم قوية سياسيًّا إن لم تكن قوية اقتصاديًّا، لا يمكن أن يكون اقتصادها قويًّا بدون نشر روح التوفير بين أفرادها. قد لا يكون التوفير مُتيسِّرًا دائمًا، خاصة في الطبقات الفقيرة، غير أن المهم هو ليس كمية ما يُوفَّر بقدر ما هو روح التوفير ذاته، وما يقتضيه من النظام والتدبير الحسن. والأم بدون شك، عندما تكون شاعرة تمامًا بخطر رسالتها، أميَلُ إلى التوفير منها إلى التبذير، وعندما تعمل على تنمية روح التوفير في أبنائها، فهي في الوقت نفسه تُربِّي فيهم روح الاتزان وحب العمل وعادة التبصر في عواقب الأمور، وهي كلها خصالٌ حميدة تقوم عليها نهضة الشعوب وسعادة الأفراد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤