الفصل الثاني

الجهة الاجتماعية

إنَّا نطلب تخفيف الحجاب ورَدَّهُ إلى أحكام الشريعة الإسلامية، لا لأننا نميل إلى تقليد الأمم الغربية في جميع أطوارها وعوائدها لمجرد التقليد، أو للتعلُّق بالجديد لأنه جديد، فإننا نتمسَّك بعوائدنا الإسلامية ونحترمها، ونرى أنها مزاج الأمة التي تتماسك به أعضاؤها، ولسنا ممَّن ينظر إليها نظره إلى الملابس يخلع ثوبًا كل يوم ليلبس غيره. وإنما نطلب ذلك لأننا نعتقد أنه لرد الحجاب إلى أصله الشرعي مدخلًا عظيمًا في حياتنا المعاشية. لسنا في مقام استحسان أمر واستقباح آخر لما فيه من موافقة الذوق أو منافرته، وإنما نحن بصدد ما به قوام حياة المرأة أو ما به قوام حياتنا.

كلامنا الآن في: هل يلزمنا أن نعيش ونحيى أو نقضي على أنفسنا بأن نموت ونفنى؟ هل علينا أن نهتز مكاننا ونرضى بما وجدنا عليه آباءنا؟ والناس من حولنا يتسابقون إلى منابع السعادة وموارد الرفاهية ومعاهد القوة، ويمرُّون علينا سِراعًا ونحن شاخصون إليهم، إما غير شاعرين بموقفنا، وإما شاعرين ولكنَّا حيارى ذاهلون؟ أوَمِنَ الواجب علينا أن ننظر كيف تقدم الناس وتأخرنا؟ كيف تقوَّوْا وضعفنا؟ كيف سعدوا وشقينا؟ ثم نرجع أبصارنا كَرَّةً ثانية في ديننا وما كان عليه أسلافنا الصالحون، ثم نقتدي بهم في استماع القول واتباع أحسنه، وانتقاد الفعل والأخذ بأفضله، ونسير في طرق السعادة والارتقاء والقوة مع السائرين؟ ذلك هو الأمر الخطير الذي وجَّهنا إليه نظرنا.

ها هي مسألة الحجاب من أهم المسائل، ولها مكان عظيم في شئون الأمة. إذا ترك القارئ نفسه لعواطفه واستسلم إلى عوائده ظهر له الحجاب في مظهر حسن لأنه ألِفَه في صغره، ونشأ بين المحجَّبات وعاش معهن حتى صار ذلك عادة مألوفة له، ثم إنه ورثه عن آبائه وأجداده، فلا يستغربه، بل يميل إليه ميلًا غريزيًّا ليس للعقل فيه مدخل، وإنما هو حركة ميكانيكية ليس إلا. وأما إذا نزع من نفسه العوامل التي أحدثت فيه تلك العواطف، وخلع ما ألبسه إياه أسلافه من أردية الوراثة في المسألة من جهاتها بَحَثَ بَحْثَ من لم يتأثر إلا بالتجربة التي تجري في الوقائع الصحيحة، وحصل لنفسه رأيًا من ملاحظاته الشخصية، وكان ممن تنجذب نفسه إلى الحق وتنبعث إلى السعي للوقوف عليه وتأييده لما له عندها من المنزلة العلية والمكان الرفيع، وكان لا يغش نفسه بالتزويق والتزيين الوهميَّين، وإنما يُسمع صوت وجدانه السليم ويرجحه على كل هدى سواه مهما كانت درجته من التمكُّن فيمن حوله من الناس، فعند ذلك يرى أن المرأة لا تكون — ولا يمكن أن تكون — وجودًا تامًّا إلا إذا ملكت نفسها وتمتَّعَتْ بحريتها الممنوحة لها بمقتضى الشرع والفطرة معًا، ونمَّتْ ملكاتها إلى أقصى درجة يمكن أن تبلغها، ويرى أن الحجاب على ما ألِفناه مانع عظيم يحُول بين المرأة وارتقائها، وبذلك يحُول بين الأمة وتقدُّمها.

بيَّنَّا عند الكلام على تربية المرأة ما لها من المزايا الجليلة والآثار الحسنة التي تترتب عليها في شئونها نفسها وشئون بيتها وفي الاجتماع الذي هي فيه. وذكرنا أن من أكبر أسباب ضعف الأمة حرمانها من أعمال النساء، وأن تربية الطفل لا تصلُح إلا إذا كانت أمه مُرَبَّاة، وقررنا أن الولد ذكرًا كان أو أنثى لا يملك صحة ولا خَلة ولا مَلَكة ولا عقلًا ولا عاطفة إلا من طريقتين: الوراثة، والتربية. واستدللنا على أن الولد يرث من أمه قدر ما يرث من والده على الأقل، وأن تأثير الأم في تربية الطفل بعد ولادته أعظم من تأثير أبيه. ونريد أن نبرهن هنا على أن تربية الأم نفسها لا يمكن أن تتم إذا استمر حجاب النساء على ما هو عليه الآن، حتى إذا انتهى القارئ من تلاوة هذا الباب رأى كيف ترتبط المسائل بعضها ببعض، وكيف أن أصغرها يتوقف عليه أعظمها.

إذا أخذنا بنتًا وعلَّمناها كل ما يتعلمه الصبي في المدارس الابتدائية وربَّيناها على أخلاقٍ حميدة، ثم قصرناها في البيت ومنعناها عن مخالطة الرجال، فلا شك أنها تنسى بالتدريج ما تعلَّمته وتتغير أخلاقها على غير شعورٍ منها، وفي زمنٍ قليل لا نجد فرقًا بينها وبين أخرى لم تتعلم أصلًا؛ ذلك لأن المعارف التي يكسبها الإنسان وهو في سن الصبا لا يحيط بدقائقها ومناشئها؛ ولذلك لا يكون علمه فيها علمًا تامًّا كاملًا، وإنما يتم له شيء من ذلك إذا بلغ سن الرجولية واستمر على مزاولة العمل والاشتغال؛ فالصبي يحفظ أسماء الأشياء أكثر ممَّا يفهم معانيها، وأكبر فائدة يستفيدها في هذا الطور من التعليم إنما هي التعود على العمل وحب استطلاع الحقائق والاستعداد للدراسة. فإن وَقَفَ سير التعليم في هذا السن اضمحلَّت المعلومات المستفادة وانتثرَت من الذهن شيئًا فشيئًا، وكان ما مضى من الوقت في التعليم زمنًا ضائعًا.

ولما كان السِّنُّ الذي تُحجَب فيه المرأة — وهو ما بين الثانية عشرة والرابعة عشرة من عمرها — هو السن الذي يبتدئ فيه الانتقال من الصبا إلى الرجولية وتظهر فيه حاجة المرأة — كما تظهر حاجة الرجل — إلى اختبار العالم والبحث في الحياة وما تستدعيه، وهو السن الذي يظهر فيه الملكات ويظهر الميول والوجدانات، وهو السن الذي يتعلم فيه الإنسان نوعًا آخر من العلم أنفس مما تعلَّمه في المدارس، وهو علم الحياة، وطريق تحصيل ذلك العلم إنما هو بالاختلاط مع الناس واختبار واستعراف أخلاقهم. وفي هذا السن يبتدئ الإنسان يعرف شعبه ومِلَّتَه ووطنه ودينه وحكومته، وفي هذا السن يبتدئ استعداد كل شخص وميله وكفاءته في الظهور، فيندفع إلى الأعمال اندفاع الماء في المنحدرات، وهو سن الآمال والرغائب والنشاط، فإن حُجِبت فيه الفتاة وانقطعت عن هذا العالم بعد أن كانت المواصلة بينه وبينها مستمرة وقف نُمُوُّهَا، بل رجعت القهقرى وفقدت كل ما كان يزين نفسها، ونسيت كل معارفها وخابت كل مساعيها وضاعت آمالها وآمال الناس فيها. ولا ذنب عليها في ذلك، فهي عاجزة مسكينة، قضت عليها عادة سخيفة بالحرمان المؤبد من الترقِّي والكمال.

ربما يُقال إن في طوع المرأة وإمكانها أن تستكمل تربيتها وتتم دراستها في بيتها. وهو وَهْمٌ باطل؛ فإن الرغبة في اكتساب العلم والتشوُّق لاستطلاع ما عليه الناس في أحوالهم وأعمالهم، وحب استكشاف الحقائق وكل ما يستميل النفس إلى المطالعة والدرس لا يتوفر للمرأة مع حجابها؛ ذلك لأن الحجاب يحبس المرأة في دائرة ضيقة، فلا ترى ولا تسمع ولا تعرف إلا ما يقع فيها من سفاسف الحوادث ويَحُول بينها وبين العالم الحي — وهو عالم الفكر والحركة والعمل — فلا يصل إليها منه شيء، وإن وصل إليها بعضُه فلا يصل إلا محرَّفًا مقلوبًا. أما إذا استمرَّتْ المواصلات بينها وبين العالم الخارجي فإنها تكتسب بالنظر في حوادثه وتجربة ما يقع فيه معارفَ غزيرة تنبت فيها من المخالطات والمعاشرات، والمشاهدة والسماع، ومشاركة العالم في جميع مظاهر الحياة. وقد يكفي في إعانتها على كسب ذلك كله والانتفاع منه ما حصَّلَته بالتعلُّم من المعارف الأولى، وربما يمكنها أن تستغني عن تعلُّم المعارف الأولى إذا حسنت الفطرة وجادت القريحة.

وعلى فرض أن المرأة يمكنها في احتجابها أن تستكمل ما نقص منها علمًا وأدبًا بقراءة الكتب، فمن البديهي أنَّ كل ما تُحصِّله من الكتب يعَدُّ من قبيل الخيالات إن لم تُمكنه التجربة ويؤكده العمل. ولو عاملنا إخوتها الصبيان كما نعاملها وحجبناهم في البيوت حتى بلغوا سن الخامسة عشرة لكانت النتيجة واحدة، بل لو أخذنا رجلًا بلغ الأربعين من عمره وحجبناه عن العالم وألزمناه أن يعيش بين أربعة جدران وسط النساء والأطفال والخدم لشعر بانحطاط تدريجي في قواه العقلية والأدبية، ولا بد أن يأتي يوم يجِد فيه نفسه مساويًا لهم. فإذن يكون من الخطأ أن نتصور أننا متى علَّمنا بناتِنا جاز لنا أن نحجبهن متى بلغن سنًّا مخصوصًا، وأن مجرد ذلك التعليم الأول يكفي في التوقِّي من الضرر. لأن الضرر في الحجاب عظيم، وهو ضياع ما كسبنَه بالتعلُّم، وحرمانهن من الترقِّي في مستقبل العمر، والأمر في ذلك واضح لا يحتاج إلى دليل. ويكفينا أن نرجع إلى أنفسنا ونخطر ببالنا ما كنَّا عليه في الخامسة عشرة من عمرنا، فيتبيَّن لنا أننا كنا أشبه بالأطفال، لا نكاد نعلم شيئًا من العالم ولا نعرف للحياة قيمة، ولا نميز كمال التمييز بين ما لنا وما علينا، ولا تمتاز لدينا حقوقنا وواجباتنا، وليس لنا عزيمة ثابتة في مجاهدة أنفسنا، وإن أكبر عامل له أثر في تكميلنا هو استمرار تعلُّمنا وتربية عقولنا ونفوسنا استمرارًا لا انقطاع معه. وإن ذلك لم يتم لنا بقراءة الكتب، بل بالمشاهدة والممارسة والمخالطة وتجربة الناس والحوادث.

وفي الحقيقة إن تربية الإنسان ليس لها سِنٌّ معين تنقطع بعده، ولا حد معروف تنتهي عنده، فهي لا تُنال بحفظ مقدار من العلوم والمعارف يُجهد الإنسان نفسه في اكتسابه في سنين معدودة، ثم يقضي حياته بعد ذلك في الراحة.

التربية ليست ذلك الشيء البسيط الذي يفهمه عامة الناس، حيث يتصوَّرون أنها عبارة عن تخزين كمية من المعارف المقرَّرة في بروجرامات المدارس، ثم امتحان، ثم شهادة ليس بعدها إلا البطالة والجمود، وإنما التربية هي العمل المستمر الذي تتوسل به النفس إلى طلب الكمال من كل وجوهه، وهذا العمل لا بد منه في جميع أدوار الحياة، حيث يبتدئ من يوم الولادة ولا ينتهي إلا بالموت.

وإذا أراد القارئ أن يتبيَّن صحة ما أسلفته من مضارِّ الحجاب على وجهٍ لا يبقى للريب معه مجال، فما عليه إلا أن يُقارن بين امرأة من أهله تعلَّمَتْ، وبين أخرى من أهل القرى أو من المتَّجِرات في المدن لم يسبق لها تعليم، فإنه يجد الأولى تُحسِن القراءة والكتابة وتتكلم بلغة أجنبية وتلعب البيانو، ولكنها جاهلة بأطوار الحياة بحيث لو استقلَّتْ بنفسها لعجزت عن تدبير أمرها وتقديم حياتها، وأن الثانية مع جهلها قد أحرزَتْ معارف كثيرة اكتسبتها من المعاملات والاختبار وممارسة الأعمال والدعاوى والحوادث التي مرت عليها، وأن كل ذلك قد أفادها اختبارًا عظيمًا، فإذا تعاملتا غَلبَت الثانيةُ الأولى.

ومن هذا نرى أغلب نساء نصارى الشرق وإن لم يتعلمن في المدارس أكثر ممَّا يتعلمه بعض بناتنا الآن، فهن يعرفن لوازم الحياة لكثرة ما رأين وسمِعن باختلاطهن بالرجال؛ فقد ورد على عقولهن معانٍ وأفكار وصور وخواطر غير ما استفدنَه من الكتب، فارتفعن بفضل هذا الاختلاط إلى مرتبة أعلى من المرأة المسلمة المواطنة لهن، مع أنهن من جنسٍ واحد وإقليمٍ واحد.

نرى في المرأة عندنا من الاستعداد الطبيعي ما يؤهلها لأن تكون مساوية لغيرها من الأمم الأخرى، لكنها اليوم في حالة انحطاطٍ شديد، وليس لذلك سبب آخر غير كوننا جرَّدناها من العقل والشعور، وهضمنا حقوقها المقررة لها وبخسناها قيمتها.

وقد جرَّنا حُبُّنَا لحجاب النساء إلى إفساد صحتهنَّ، فألزمناهن القعود في المساكن، وحرمانهن الهواء والشمس وسائر أنواع الرياضة البدنية والعقلية.

ليس فينا من لا يعرف أن من النساء من لا يفارقن بيوتهن لا ليلًا ولا نهارًا، بل يلازمنها ولا يرين لهن شريكًا في الوجود إلا جارية أو خادمة أو زائرة تجيئها لحظات من الزمن وتنصرف عنها، ولا يرين أزواجهن إلا عند النوم؛ لأنهم يقضون نهارهم في أشغالهم، ويقضون الجزء العظيم من ليلهم عند جيرانهم وفي الأماكن العمومية.

ليس فينا من لا يعرف أن نساء كثيرة فَقَدْنَ صحتهن في هذه المعيشة المنحطة وفي هذا السجن المؤبد، وأنهن عِشْنَ عليلات الجسم والرُّوح، ولم يذُقن شيئًا من لذة هذه الحياة الدنيا.

لذلك كان أغلب نسائنا مصابًا بالتشحُّم وفقر الدم، ومتى وَلَدَتِ المرأة مرة تداعت بِنيتُها وذبل جسمها وظهرت عجوزًا وهي في ريعان شبابها. كل ذلك منشأ خوف الرجال من الإخلال بالعِفَّة.

على أن القول بأن الحجاب موجِبُ العِفَّةِ وعدمه مجلبة الفساد قول لا يمكن الاستدلال عليه؛ لأنه لم يَقُمْ أحد إلى الآن بإحصاءٍ عامٍّ يمكن أن نعرف به عدد وقائع الفُحش بالضبط والدِّقَّة في البلاد التي تعيش فيها النساء تحت الحجاب، وفي البلاد الأخرى التي تتمتع فيها بحريتهنَّ. ولو فُرض وقوع مثل ذلك الإحصاء لما قام دليلًا على الإثبات أو النفي في المسألة؛ لأن ازدياد الفساد في البلاد ونقصه ممَّا يرتبط بأمور كثيرة ليس الحجاب أهمها.

ومن المعروف أن لطرق معيشة الأمة ومزاجها وإقليمها وآدابها وتربيتها دخلًا عظيمًا في فساد أخلاقها وصلاحها؛ ولهذا نرى الفساد يختلف في بلاد أوروبا بين بلد وآخر اختلافًا ظاهرًا، ونرى أيضًا مثل هذا الاختلاف بين البلاد التي لا تزال فيها عادة الحجاب باقية. بل نرى اختلافًا كبيرًا بين زمن وزمن في بلدٍ واحد. والتجارِب ترشد إلى أمر يُمكن أخذُه دليلًا على أن الإطلاق أدنى بالنساء إلى العفة من الحجاب، فمن المشاهَد الذي لا جدال فيه أن نساء أمريكا هُن أكثر نساء الأرض تمتُّعًا بالحرية، وهن أكثرهن اختلاطًا بالرجال، حتى إن البنات في صباهن يتعلمن مع الصبيان في مدرسة واحدة، فتقعد البنت بجانب الصبي لتلقِّي العلوم. ومع هذا يقول المُطَّلعون على أحوال أمريكا إن نساءها أحفظ للأعراض وأقوَم أخلاقًا من غيرهن، وينسبون صلاحهن إلى شدة الاختلاط بين الصِّنفين من الرجال والنساء في جميع أدوار الحياة. ومن المُشاهَد الذي لا نزاع فيه أيضًا نساء العرب ونساء القُرى المصرية، مع اختلاطهن بالرجال على ما يشبه الاختلاط في أوروبا تقريبًا أقل ميلًا للفساد من ساكنات المدن اللائي لم يمنعهن الحجاب من مُطاوعة الشهوات والانغماس في المفاسد.

وهذا ممَّا يَحمِل على الاعتقاد بأن المرأة التي تخالط الرجال تكون أبعدَ عن الأفكار السيئة في المرأة المحجوبة، والسبب في ذلك أن الأولى تعوَّدَتْ رؤية الرجال وسماع كلامهم، فإذا رأت رجلًا أيًّا كان لم يحرك منظره فيها شيئًا من الشهوة، بل لو عرض عليها شيء من هذا فإنما يكون بعد مصاحبة طويلة وقضاء أوقات في خلوات كثيرة يحدث فيها ما قد يُشعر كل واحدٍ منهما بانجذابٍ إلى الآخر. وهذا هو ما منعته الشريعة وبيَّنَّا امتناعه فيما سبق. أما الثانية فمجرد وقوع نظرها على رجل يُحدِث في نفسها «خاطر اختلاف الصنف» من غير شعور ولا تعمُّد ولا نية سيئة. وإنما هو أثر منظر الرجل الأجنبي؛ لأنه قد وقَر في نفسها أن لا تراه ولا يراها، فمجرد النظر إليه كافٍ في إثارة هذا الخاطر.

وقد شاهدتُ مرارًا كما شاهد غيري هذا الأثر عينه في الرجال، فرأيت أن الرجل الذي لم يتعود الاختلاط بالنساء إن لم يغلبه سلطان التهذيب القوي لا يملك نفسه إذا جلس بينهنَّ، فلا تشبع عينه من النظر إليهن ومن التأمُّل في محاسنهن، وينسى في ذلك كل أدب ولياقة، وربما طلب الوسائل لملامستهن بيده أو مماسَّتهن بكتفه، ويندفع إلى أقوال وأعمال تشمئزُّ منها نفوس الحاضرين، كأنه يظن — بل هو يظن بالفعل — أنه لا معنى لاجتماع الرجل مع المرأة في مكانٍ واحد إلا أن يتمتع كل منهما بشهوته مع الآخر، بخلاف الرجل الذي اعتاد على مخالطة النساء؛ فإنه لا يكاد يجد في نفسه أثرًا من رؤيتهن أكثر ممَّا يجده عند رؤية الرجال، ولا يشعر بأدنى اضطراب في حواسِّه ولا في مشاعره. فمِنْ ألزم لوازم الحجاب أنه يهيئ الذهن في الرجال وفي النساء معًا لتخيُّل الشهوة بمجرد النظر أو سماع الصوت، وهذا يوضِّح لنا السبب فيما نشاهده كل يوم من أن المرأة إذا رأت رجلًا في الطريق أو دعتها الضرورة لمخاطبته، تتصنَّع في حركاتها وصوتها ما تظن أنه يروق في عين الرجل، والرجل كذلك.

وقد شاهدتُ وشاهد كل إنسان ما يخالف ذلك في بلاد أوروبا وفي الآستانة وفي القُرى المصرية وبين الأعراب في البادية، حيث يمر الرجال والنساء بعضهم بجانب بعض وكتفًا لكتف، ولا يلتفت أحدهم إلى الآخر.

ولا ريب أن استلفات الذهن دائمًا إلى اختلاف الصنف من أشد العوامل في إثارة الشهوة.

وبديهي أن المرأة التي تحافظ على شرفها وعِفتها وتصون نفسها عمَّا يوجب العار، وهي مُطلَقة غير محجوبة، لها من الفضل والأجر أضعاف ما يكون للمرأة المحجوبة؛ فإن عفة هذه قهرية، أما عفة الأخرى فهي اختيارية، والفرق كبير بينهما. ولا أدري كيف نفتخر بعفة نسائنا ونحن نعتقد أنهن مصونات بقوة الحراس واستحكام الأقفال وارتفاع الجدران؟!

أيُقبل من مسجون دعواه أنه رجل طاهر لأنه لم يرتكب جريمة وهو في الحبس؟ فإذا كانت نساؤنا محبوسات محجوبات فكيف يمكنهن أن يتمتَّعن بفضيلة العفة وما معنى أن يُقال إنهن عفيفات؟ إن العفة هي خُلُقٌ للنفس تمتنع به من مقارفة الشهوة مع القدرة عليها، ولعل التكليف الإلهي إنما يتعلق بما يقع تحت الاختيار، لا بما يُستكره عليه من الأعمال. فالعفة التي تُكلَّف بها النساء يجب أن تكون من كَسْبِهِنَّ وممَّا يقع تحت اختيارهن، لا أن يُكُنَّ مُستكرَهات عليها، وإلا فلا ثواب لهنَّ في مجرد الكف عن المنكر؛ ولذلك قال : «من عشق فعفَّ فكتم فهو شهيد.»

والحقيقة أننا نعمل عمل من يعتقد أن النساء عندنا لسنَ أهلًا للعفة. أليس من الغريب أن لا يوجد رجل فينا يثِق بامرأة أبدًا مهما اختبرها ومهما عاشت معه؟ أليس من العار أن نتصور أن أمهاتنا وبناتنا وزوجاتنا لا يعرفن صيانة أنفسهن؟ أيليق أن لا نثق بهؤلاء العزيزات المحبوبات الطاهرات وأن نُسيء الظن بهن إلى هذا الحد؟

إني أسأل كل إنسان خالي الغرض: هل هذه المعاملة يليق أن يُعامَل بها إنسان له من خاصة الإنسان ما لنا؟ فهو مثلنا له رُوح ووجدان وقلب وعقل وحواس. وهل سوء الظن في المرأة إلى هذا الحد يتفق مع اعتبارنا لأنفسنا واعتبار المرأة لنفسها؟

والعاقل يرى أن الاحتياط الذي يتخذه الرجال لصيانة النساء عندنا مهما بلغ من الدقة لا يفيد شيئًا إن لم يَصِلِ الرجل إلى امتلاك قلب امرأته، فإن ملكه ملَك كل شيء منها، وإن لم يملكه لم يملك منها شيئًا؛ ذلك لأنه ليس في استطاعة رجل أن يراقب حركات امرأته وسيرها في كل دقيقة تمر من الليل والنهار.

متى خرج أحدنا من منزله أو سمح لامرأته أن تخرج بسبب من الأسباب، فعلامَ يتَّكِل إن لم يكن على صيانتها وحفظها نفسَها بنفسها؟ ثم ماذا يفيد الرجل أن يملك جسم امرأته وحده إذا غاب عنه قلبها؟ أيستطيع أن يمنعها أن تتصرف فيه وتبذله لأي شخص تريد؟ فإذا رأت امرأة من الشباك رجلًا فأعجبها ومالت إليه بقلبها وودَّتْ أن تواصله لحظة، أفلا يُعدُّ هذا في الحقيقة من الزنا؟ ألم يتمزق حجاب العفة في هذه اللحظة؟ وهل بُعد المسافة بينها وبين الرجل وعدم تمكُّنها من مواصلتها يُسمى عفة؟ نعم إن الشرائع لا تعاقب ولا تقيم الحد على زنا العين والقلب لأن العقوبات والحدود لا سلطان لها على الخواطر والقلوب. ولكن في نظر أهل الأدب والتقوى لا عبرة للبعد بين الأجساد إذا تواصلت الأرواح واجتمعت القلوب.

ومع ذلك، ما الذي فعل الحجاب؟ ألم تسمع بما يجري في داخل البيوت مما يُنافي العفة ويُخِلُّ بالشرف؟ هل منع البرقع وقصر النساء وراء الحجاب والأقفال سريان الفساد إلى ما وراء تلك الحُجُب؟ كلا.

ربما يقول قائل إن ما نسمعه اليوم عن كثير من النساء أكثر ممَّا كنَّا نسمعه سابقًا، وإن الإشاعات عن النساء أشد انتشارًا، بل ربما كان الفساد في الواقع أوسع دائرة ممَّا كان عليه قبل ثلاثين سنة مثلًا، ولا منشأ لذلك إلا رقة الحجاب، فالحالة القديمة على ما فيها كانت أصوَنَ للأعراض وأحفَظ لشرف المرأة من تلك الحالة التي طرأَتْ على النساء.

فنجيب عن ذلك بأننا لا ننكر أن بعض الطباع الفاسدة من الرجال والنساء معًا، وجدت سبيلًا من تخفيف الحجاب إلى تعارُف بعضها ببعض، وإتيان ما تميل إليه من المنكر. بل نزيد عليه أنه لو استمر تخفيف الحجاب يتقدم بالسرعة التي سار بها إلى الآن — والنفوس على ما هي عليه — لعمَّتِ البلوى وازداد الفساد انتشارًا.

غير أن السبب في ذلك ليس هو تخفيف الحجاب، بل هو راجع إلى أمور كثيرة يجمعها الجهل وسوء التربية.

فسوء التربية هو علة الخفة والطيش، وهو الذي يسهِّل على امرأة ذات مكانة في بيتها وقومها أن تطيل نظرها إلى شاب يَمُرُّ في طريقها. وسوء التربية هو الذي يخفف عندها تبعة تحريك يَدِها لإجابة ذلك الشاب فيما يشير به إليها. وسوء التربية هو الذي يدفع بها إلى الاتفاق معه على التلاقي والتواصُل قبل أن يدور كلام بينه وبينها، وإنما أركان عقد ذلك الاتفاق هي نظرات وإشارات لا تُفصح عن خُلُق من الأخلاق، ولا عن مَلَكَة من المَلَكات، ولا عن درجة من العرفان، ولا تدل على حالة نفسية ولا عقلية ولا جسمية يمكن الارتباط بها بين شخصين.

سوء التربية هو الذي يخرق كل حجاب ويفتح على المرأة من النساء كل باب، وهو الذي يُخشى معه أن تسري العدوى من امرأة إلى امرأة، ومن طبقة إلى طبقة، فقد نرى أن المحَّجبات مهما بالغن في التحجُّب لا يستنكفن أن يختلطن بنساءٍ أحط منهن في الدرجة وأبعد عن التصوُّن والعفة، فسيدة المنزل لا ترى بأسًا من مخالطة زوجة خادمها، بل قد تأنَس بالحديث معها وسماع ما تنقله إليها من غير مبالاة بما يلائم الحشمة وما لا يلائمها، ولا تأنف التفتُّح في القول مع الدلَّالات وبائعات الأقمشة، بل قد يطوحها الجهل إلى الاختلاط بنسوة لا تعرف شيئًا من حالهن، ولا من أي مكانٍ أَتَيْنَ، ولا بأي خُلُقٍ من الأخلاق تخلَّقن. وأشنع من هذا كله وأشد فعلًا في إفساد الأخلاق أن النساء المومسات اللاتي يحملن تذكرة رسمية، يُدعَوْن في الأفراح ويرقُصن تحت أعيُن الأمهات والبنات والكبار والصغار.

هذا ما يأتي من سوء التربية، وهو من أشد العوامل في تمزيق ستار الأدب، وليست رقة الحجاب بشيءٍ في جانب هذا كله.

طرقت ديارَنا حوادثُ، ودخلَنا ضرب من الاختلاط مع أممٍ كثيرة من الغربيين، ووُجدت علائق بيننا وبينهم علَّمتنا أنهم أرقى منَّا وأشد قوة، ومال ذلك بالجمهور الأغلب منَّا إلى تقليدهم في ظواهر عوائدهم، خصوصًا إن كان ذلك إرضاءً لشهوة أو إطلاقًا من قيد، فكان من ذلك أن كثيرًا من أعياننا تساهلوا لزوجاتهم ومن يتصل بهم من النساء، وتسامحوا لهن في الخروج إلى المنتزهات، وحضور التياترات ونحو ذلك، وقلَّدهن في ذلك كثير ممن يليهن، وعرض من هذه الحالة بعض فساد في الأخلاق.

تلك حالة طرأت للأسباب التي تقدمت، وتبعها من العواقب ما بيَّنَّاه، ولكن ليس من مصلحتنا — بل ولا من المُستطاع لنا — محو هذه الحالة والرجوع إلى تغليظ الحجاب، بل صار من متمِّمَات شئوننا أن نحافظ عليها ونتقي تلك المضارَّ التي نشأَت عنها، وذلك هو ما نستطيعه أيضًا.

أما أنه ليس من مصلحتنا أن نمحو هذه الحالة فلِما قدمناه في مضارِّ الحجاب على الوجه المعروف. وأما أننا لا نستطيع ذلك فلأن أسباب هذه الحالة ممَّا فصَّلناه سابقًا لا تزال موجودة، وهي تزداد بمرور الزمان رغمًا عنَّا، ولأننا قد وجدنا من أنفسنا ميلًا إلى حُسن المعاملة في معاشرة النساء، وزُيِّنَ في أنفس الكثير منَّا حب المجاملة في مرضاتهن، ونشأَتْ لهن في قلوب الرجال منزلة من الاعتبار لم تكُن لَهُنَّ من قبلُ، وأحسَّ النساء بذلك من رجالهن، فعَدَدْنَ ما وصلنَ إليه من الحرية والإطلاق حقًّا من الحقوق وضروريًّا من ضروريَّات المعيشة، فلا يسهُل على الرجل أن يقضي على امرأته اليوم بما كان يقضي به من قبل أربعين سنة.

والذي يجب علينا هو معالجة المضارِّ التي يُظَنُّ أنها تنشأ عن تخفيف الحجاب، ولا توجد طريقة أنجع في ذلك العلاج إلا التربية، التي تكون هي الحجاب المنيع والحصن الحصين بين المرأة وبين كل فساد يُتَوَهَّمُ في أية درجة وصلت إليها من الحرية والإطلاق.

سيقول معترض إن التربية والتعليم يُصلِحان أخلاق المرأة، وأما الإطلاق فربما زاد في فسادها. فنجيب أن الإطلاق الذي نطالب به هو محدود، يحظر الخلوة مع أجنبي، وفي هذا الحظر ما يكفي لاتِّقاء المفاسد التي لا تتولد إلا من الخلوة، أما الإطلاق في نفسه فلا يمكن أن يكون ضارًّا أبدًا متى كان مصحوبًا بتربية صحيحة؛ لأن التربية الصحيحة تُكَوِّن أفرادًا أقوياء بأنفسهم، يعتمدون على أنفسهم ويسيرون بأنفسهم، فمن كمُلت تربيته استقل بنفسه واستغنى عن غيره، ومن نقصت تربيته احتاج إلى الغير في كل أموره، فالاستقلال في النساء كالاستقلال في الرجال، يرفع الأنفُس من الدنايا ويبعُد بها عن الخسائس؛ لذلك يجب أن يكون هو الغاية التي نطلبها من تربية النساء.

حُسن التربية واستقلال الإرادة هما العاملان في تقدُّم الرجال في كل زمان ومكان، وهما مطمح آمال كل أمة تسعى إلى سعادتها، وهما من أشرف الوسائل لإبلاغها من الكمال ما أعدت له، فكيف يمكن العاقل أن يدَّعي أن لهذين العاملين أثرًا آخر سيئًا في أنفُس النساء؟ ومن زعم أن التربية واستقلال الإرادة ممَّا يساعد على فساد الأخلاق في المرأة، فقد قصر نظره على بعض الاعتبارات التي لا يخلو عنها أمر من الأمور النافعة في العالم؛ فإن لكل نافع ضررًا إذا أُسيء استعماله.

هذا تعليم الرجال لا يخلو من العيوب الكثيرة، وكثير منهم يستعمل علمه واختباره فيما يَضُرُّ بنفسه أو بغيره. فهل ذلك يحمل أحدًا من الناس على أن يقول إن من الصواب أن لا يعلم الرجال شيئًا خوف استعمال ما يتعلمون فيما يسوءهم أو يسوء غيرهم؟ وإن من الواجب أن يُتركوا في الجهل تحت حجاب الغفلة؟ لا أظن أن عاقلًا يخطر هذا الخاطر بباله. فإذا كان إجماعنا قد انعقد على أن لا خير للرجال في الجهل والاستعباد، وأن لا سبيل لهم إلى بلوغ درجات الفضل إلا بالعلم وحرية الفكر والعمل، فما لنا نختلف في هذه القضية نفسها إذا عرض ذكر المرأة؟ وأي فرق بين الصنفين في الفطرة والخلقة؟

والحق أنَّا غالَيْنا في اعتبار صِفَة العِفَّة في النساء وفي الحرص عليها، وفي ابتداع الوسائل لحفظ ما ظهر منها وتفخيم صورتها؛ حتى جعلنا كل شيء فداءها، وطلبنا أن يتضاءل ويضمحل كل خلق وكل مَلَكة دونها. نعم، العفة أجمل شيء في المرأة وأبهى حلية تتحلَّى بها، ولكن العفة لا تُغني عن بقية الصفات والمَلَكات التي يجب أن تتحلى نفس المرأة بها، من كمال العقل، وحسن التدبير، والخبرة بتربية الأولاد، وحفظ نظام المعيشة في البيت، والقيام على كل ما يُعهد إليها من الشئون الخاصة بها، بل نقول إن لهذه الصفات دخلًا كبيرًا في كمال العفَّة، وفقدان المرأة خَصلة من هذه الخصال لا ينقص في ضرره وفي الحط من شأنها عن فقدان العفة نفسها.

اتفقت الشرائع الإلهية والقوانين الوضعية على أن عقد الزواج وحده هو الذي يحلل الاجتماع بين الرجل والمرأة، وأن اجتماعهما بدون ذلك العقد المقدس ممنوع وممقوت، ذلك أمر اقتضاه نظام العشيرة وكمال النفس الإنسانية، فالعمل على ما يخالفه قبيح مذموم بلا ريب. غير أن تلك الشرائع الإلهية والقوانين الوضعية قد حظرت أعمالًا أخرى، وأنزلتها من الشناعة منزلة لا تنحط عن منزلة الخنا، ووضعت عليها عقوبات أشد من العقوبة عليه؛ لأنها اعتبرت أن لتلك الأعمال من الضرر بالنظام ما هو أشد من ضرر الزنا. ولنضرب مثلًا بجريمة القتل، فإنها أعظم من جريمة الزنا في نظر الدين والقانون، فلِمَ لم تُتَّخَذْ للوقاية منها من الوسائل الضارة ما اتخذناه للوقاية من الزنا؟

إنا مُعَرَّضون في كل ساعة تمُرُّ من حياتنا إلى مصائب لا تُحصى، وهذا لم يمنعنا من أن نتحرك ونسعى ونقتحم الأخطار في الأسفار لنحصل من رزق الله ما نحتاج إليه. إنَّا نشعر بأنواع الجرائم تُرتكب من حولنا، فالقتل والنهب والنصب والتزوير والقذف وغيرها من الجرائم تزعج الساكن وتقلق المطمئن، ومع ذلك فإنَّا نحتمل مصائبها ونُسَلِّم لحكم القدَر فيها، ونجتهد في تطهير المجتمع منها بالوسائل المشروعة من التربية أو إيقاع العقوبة على مرتكب الجريمة. فلِمَ لا يكون ارتكاب الفُحش من المرأة جريمة من هذه الجرائم التي لا يخلو منها مجتمع إنساني؟ ولِمَ نتخيل أنها أشنع وأفظع مِن سواها حتى اتخذنا لمنعها ما لم نتخذه لمنع غيرها؟

وعلى أي حال فليس من الجائز أن نأتي ما فيه ضرر محقق لنتقي به ضررًا وهميًّا، فوقوع الفُحش من المرأة أمر محتَمَل الوقوع قد يكون وربما لا يكون. أما حجابها ومنعها من التمتُّع بقواها الغريزية فهو ضرر محقَّق لاحق بها حتمًا، ويا ليته اقتصر عليها، ولكنه يتعدَّاها إلى كل ما يقع تحت رعايتها.

يتوهم أحدنا أن امرأته ربما تميل إلى غيره إن رُفِعَ الحجاب عنها؛ فلذلك يزج بها وراء الأبواب ويُغلق عليها الأقفال، ويظن بذلك أنه استراح من الوساوس، ولا يدري ما ربما تأتيه من حيث لا يدري، فلم يُفِدْهُ حرصه شيئًا في الحقيقة. ومع هذا فهو بعمله قد قتل نفسًا حية، وأفسد نفوسًا كثيرة ممَّن تتولاهم زوجته في بيته من سبيل ما يظنه راحة لنفسه.

توهَّم كثير ممن سبقَنا مثل ما توهَّمنا، وحجبوا نساءهم كما نحجب نساءنا، بل فاقونا في التفنُّن واتخاذ الطرق لاطمئنان أنفسهم من ناحية زوجاتهم. وإنني أذكر الآن أغرب طريقة كانت مستعملة عند أعيان أوروبا في القرون الوُسطى، وهي ما كان يُسمَّى عندهم بنطاق العفة، وهو نطاق من حديد يتصل به حفاظ، ولذلك النطاق قفل يكون مفتاحه في جيب الرجل دائمًا، وهذا لم يمنع النساء من أن يمنحن عُشَّاقهن مفتاحًا مصطنعًا! ثم ما لبث هؤلاء الأمم أن أدركوا خطأهم، وعرفوا أن ضرر تلك الأوهام أكثر من نفعها. ولمَّا أخذت المعارف تنتشر بينهم شرعوا في قياس أعمالهم المعاشية بمقياس العقل السليم والعمل الصحيح الخالص من شائبة الوهم، وأدركوا أن سعادتهم لا تتم بما ينالون من ثمار ذلك إلا إذا شاركهم نساؤهم في مساعيهم وعاونَّهم في لَمِّ شعثهم وتكميل نقصهم، فأعدُّوهن بالتربية والعلم إلا ما أمَّلوا منهن. فافتككن من أسرهن وتمتَّعن بحريتهن وسِرن مع رجالهن، يعاونَّهم في الحياة ويُمدِدنهن بالرأي في كل أمر، ولستُ مبالغًا إن قلت إن ما أقامه التمدُّن الحديث من البناء الشامخ وما وضعه من الأصول الثابتة إنما شُيِّد على حجر أساسي واحد، هو المرأة.

لم يكن ما استفاده الغربيُّون من تربية نسائهم والتساهُل لهن في مخالطتهم قاصرًا على المزايا التي أشرنا إليها، بل كان لهم مع ذلك فوائد جمَّة في تدبير المعيشة وتيسُّر طرق الاقتصاد.

تدخل بيت الغربي من أهل الطبقة الوسطى فتجده أتم نظامًا وأكمل ترتيبًا وأجمل أثاثًا من بيت الشرقي من أهل طبقته، ومع ذلك تجد نفقة الغربي أقل من نفقة الشرقي بكثير.

انظر إلى الواحد منَّا تجد مسكنه لا بد أن يكون من قسمين: قسم للرجال، وآخر للنساء، فإن أراد أن يبني بيتًا فعليه أن يُهيِّئ ما يكفي لبناء بيتين في الحقيقة، وإذا استأجر بيتًا فهو إنما يستأجر في الواقع بيتين، ويتبع ذلك ما يلزم لكل منهما من الأثاث والفرش. ولا بد له من فريقين من الخدم، فريق يخدم الرجال في القسم المختص به، والآخر يختص بخدمة النساء داخل البيت. ثم لا بد له من عربة للنساء وعربة للرجال؛ لأنه ليس من الجائز في عُرفنا أن يركب الرجل مع زوجته أو مع والدته في عربةٍ واحدة. وهو مُضْطَرٌّ لأن يزيد في النفقة للطعام وما يتبعه؛ لأنه إذا أتى ضيف واحد رجلًا كان أو امرأة وجب تحضير مائدتين بدل واحدة كانت تكفي. وهكذا ترى نفقات ضائعة وثمرات كَسْبٍ مُستهلَكة، ولا سبب لها إلا تشديد الحجاب على النساء.

هل يظن المصريون أن رجال أوروبا مع أنهم بلغوا من كمال العقل والشعور مبلغًا مكَّنهم من اكتشاف قوة البخار والكهرباء، واستخدامها على ما نشاهده بأعيننا، وأن تلك النفوس التي تخاطر في كل يوم بحياتها في طلب العلم والمعالي، وتُفضِّل الشرف على لذة الحياة، هل يظنون أن تلك العقول وتلك النفوس التي تعجب بآثارها يمكن أن يغيب عنها معرفة الوسائل لصيانة المرأة وحفظ عفَّتها؟ هل يظنون أن أولئك القوم يتركون الحجاب بعد تمكُّنه عندهم لو رأوا خيرًا فيه؟ كلا، وإنما الإفراط في الحجاب من الوسائل التي تبادر عقول السُّذَّج وتركَن إليها نفوسهم، ولكنها يمجُّها كل عقل مهذب وكل شعور رقيق.

متى تَهَذَّبَ العقل ورقَّ الشعور أدرك الرجل أن المرأة إنسان من نوعه، لها ما له وعليها ما عليه، وأن لا حق لأحدهما على الآخر بعد توفية ما فرضته الشريعة على كل منهما لصاحبه إلا ما يُعطيه كُلٌّ من نفسه بمحض إرادته وحُسن اختياره.

متى تهذب العقل ورقَّ الشعور في الرجل عرف أن حجاب المرأة إعدام لشخصها، فلا تسمح له ذمته بعد ذلك أن يرتكب هذه الجريمة توصُّلًا إلى ما يظنه راحة بالٍ واطمئنان قلب.

متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور في الزوج وجَد من نفسه أن لا سبيل إلى اطمئنان قلبه في عِشرة امرأة جاهلة مهما كان الحال بينها وبين الرجال.

متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور في الرجل أدرك أن ألذَّ شيءٍ تشتاق إليه نفسه هو حب يصل بينه وبين إنسان مثله، بحسن اختيار وسلامة ذوق، لا بمجرد نزعات الهوى ونزوات الشهوة، فيسعى جهده في ما يقويه ويشد عراه، ويبذل ما في وسعه للمحافظة عليه.

متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور في الرجل والمرأة لا تقتنع نفوسهما بالاختلاط الجسداني وحده، بل يصير أعظم همهما طلب الائتلاف العقلي.

إن طبيعة العصر الذي نحن فيه منافِرة للاستبداد معادية للاستعباد، ميَّالة إلى سَوْق القوى الإنسانية في طريقٍ واحد وغاية واحدة. فهذا الطائف الرحماني الذي طاف على نفوس البشر فنبَّه منها ما كان غافلًا، لا بد أن ينال منه النساء نصيبهن، فمن الواجب علينا أن نمد إليهن يد المساعدة، ونعمل بقول النبي : «اتقوا الله في الضعيفَين: المرأة، واليتيم»، ولا شيء أدخل في باب التقوى من تهذيب العقل وتكميل النفس، وإعدادها بالتعليم والتربية إلى مدافعة الرذائل ومقاومة الشهوات، ولا من حُسن المعاملة واللُّطف في المعاشرة. فعلينا أن نجعل الصلة بيننا وبينهنَّ صلة محبة ورحمة، لا صلة إكراه وقسوة. هذا ما تفرضه علينا الإنسانية وتطالبنا به الشريعة، وهو مع ذلك فريضة وطنية يجب علينا أداؤها حتى تكون جميع أعضاء المجتمع عندنا حية عاملة قائمة بوظائفها.

وقبل أن أختم الكلام في هذا الباب، أرى من الواجب عليَّ أن أُنبِّه القارئ إلى أنِّي لا أقصد رفع الحجاب الآن دفعة واحدة والنساء على ما هُنَّ عليه اليوم؛ فإن هذا الانقلاب ربما ينشأ عنه مَفَاسِدُ جمَّة لا يتأتَّى معها الوصول إلى الغرض المطلوب كما هو الشأن في كل انقلاب فُجائي. وإنما الذي أميل إليه هو إعداد نفوس البنات في زمن الصبا إلى هذا التغيير.

فيُعَوَّدون بالتدريج على الاستقلال، ويُودَع فيهن الاعتقاد بأن العِفَّة ملَكة في النفس، لا ثوب يختفي دونه الجسم، ثم يُعوَّدون على معاملة الرجال من أقارب وأجانب، مع المحافظة على الحدود الشرعية وأصول الأدب تحت ملاحظة أوليائهن. عند ذلك يسهُل عليهن الاستمرار في معاملة الرجال بدون أدنى خطر يترتب على ذلك، اللهم إلا في أحوالٍ مُستثناة لا تخلو منها محجَّبة أو بادية.

نعم لا ننكر أن هذا التغيير لا يخلو من وجوه انتقاد، لكن سبب وجوه الانتقاد في الحقيقة ليس هو نفس التغيير، ولكن الأحوال التي احتفَت به، وأهمها: رسوخ عادة الحجاب في أنفُس الجمهور الأعظم، ونقص تربية النساء، فلو كمُلت تربيتهن على مقتضى الدين وقواعد الأدب، ووقف الحجاب عند الحد المعروف في أغلب المذاهب الإسلامية؛ سقطت كل تلك الانتقادات، وأمكن للأمة أن تنتفع بجميع أفرادها نساءً ورجالًا.

سيقول قوم إن ما أنشره بدعة. فأقول: نعم، أتيت ببدعة ولكنها ليست في الإسلام، بل في العوائد وطرق المعاملة التي يُحمَد طلب الكمال فيها.

لِمَ يعتقد المسلم أن عوائده لا تتغير ولا تتبدل، وأنه يلزمه أن يحافظ عليها إلى الأبد؟ ولم يجرِ على هذا الاعتقاد في عمله مع أنه هو وعوائده جزءٌ من الكون الواقع تحت حكم التغيير والتبديل في كل آنٍ؟ من ذا الذي يمكنه أن يتصور أن العوائد لا تتغير بعد أن يعلم أنها ثمرات من ثمرات عقل الإنسان؟ وأن عقل الإنسان يختلف باختلاف الأماكن والأزمان، والمسلمون منتشرون في أطراف الأرض، فهل هم أنفسهم محتدون في العادات وطرق المعاش؟ من ذا الذي يمكنه أن يدَّعي أن ما يستحسنه عقل السوداني يستحسنه عقل التركي أو الصيني أو الهندي؟ أو أن عادة من عادات البدو توافق أهل الحضر، أو يزعم أن عوائد أمة من الأمم مهما كانت باقية جميعها على ما كانت من عهد نشأتها بدون تغيير؟ وعلى ذلك يرغب أن يكون بين عوائد السوداني والتركي مثلًا من الاختلاف بقدر ما يوجد بين مرتبتهما في العقل، وهو الأمر الذي لا ريبة فيه، وعلى هذه النسبة يكون الفرق بين المصري والأوروباوي. ولا يمكن أن يتصوَّر أحد أن العادات التي هي عبارة عن طريق سلوك الإنسان في نفسه ومع عائلته ومواطنيه وأبناء جنسه، تكون في أمة جاهلة أو متوحشة مثل ما تكون في أمة متمدِّنة؛ لأن سلوك كل فرد منها إنما يكون على ما يناسب مداركه ودرجة تربيته؛ ولهذا الارتباط التام بيت عادات كل أمة ومنزلتها من المعارف الدينية والمدنية نرى أن سلطان العادة أنفذ حكمًا فيها من كل سلطان، وهي أشد شئونها لصوقًا بها وأبعدها عن التغيير، ولا حول للأمة عن طاعتها إلا إذا تحولت نفوس الأمة وارتفعت أو انحطَّتْ عن درجتها في العقل؛ ولهذا نرى أنها تتغلب دائمًا على غيرها من العوامل والمؤثرات، حتى على الشرائع.

ويؤيد ذلك ما نشاهده كل يوم في بلادنا من القوانين واللوائح التي توضع لإصلاح حال الأمة، تنقلب في الحال إلى آلة جديدة للفساد. وليس هذا بغريب؛ فقد تتغلب العادات على الدين نفسه فتفسده وتمسخه بحيث ينكره كل من عرفه، وهذا هو الأصل فيما نشهده، ويؤيده الاختبار التاريخي من التلازم بين انحطاط المرأة وانحطاط الأمة وتوحُّشها، وبين ارتقاء المرأة وتقدُّم الأمة ومدنيَّتها. فقد علمنا أن في ابتداء تكوُّن الجمعيات الإنسانية كانت حالة المرأة لا تختلف عن حالة الرقيق في شيء، وكانت واقعة عند الرومان واليونان مثلًا تحت سلطة أبيها، ثم زوجها، ثم من بعده أكبر أولادها. وكان لرئيس العائلة عليها حق المِلْكية المطلقة، فيتصرف فيها بالبيع والهبة والموت ما يشاء، ويرثها من بعده ورثته لِما عليها من الحقوق المخولة لمالكها. وكان من المباح عند العرب قبل الإسلام أن يخطب الآباء بناتهم، وأن يتمتع الرجال بالنساء من غير قيد شرعي ولا عدد محدود، ولا تزال هذه السلطة سائدة الآن عند قبائل أفريقيا وأميركا المتوحشة. وبعض الأمم الآسيوية يعتقد أن المرأة ليس لها رُوح خالدة، وأنها لا ينبغي أن تعيش بعد زوجها. ومنهم من يقدمها إلى ضيفه إكرامًا له كما يقدم له أحسن متاع يمتلكه.

كل هذا يُشاهَد في الجمعيات الناشئة التي لم تَقُمْ على نظامات عمومية، بل كل ما فيها يقوم برواية العائلة والقبيلة، والقوة هي القانون الوحيد الذي تعرفه، وهكذا الحال الآن في البلاد التي تُدار بحكومة استبدادية؛ لأنها تُحكم بقانون القوة.

قد يمكن من أول وهلة أن الشخص الواقع عليه الظلم يُحِبُّ العدل ويميل إلى الشفقة لما يقاسيه من المصائب التي تتوالى عليه، لكن المُشاهَد يدل على أن الأمة المظلومة لا يصلح جَوُّهَا ولا تنفع أرضها لنمو الفضيلة، ولا يربو فيها إلا نبات الرذيلة. وكل المصريين الذين عاشوا تحت حكم المستبدين السابقين — وما العهد بهم ببعيد — يعلمون أن شيخ البلد الذي كان يُسلب منه عشرة جنيهات كان يستردها مائة من الأهالي، والعمدة الذي كان يُضرب مائة كرباج عند عودته إلى بلدته ينتقم من مائة فلاح، فمن طبيعة هذه الحالة أن الإنسان لا يحترم إلا القوة ولا يُردع إلا بالخوف. ولما كانت المرأة ضعيفة اهتضم الرجل حقوقها وأخذ يعاملها بالاحتقار والامتهان، وداس بأرجله على شخصيتها. عاشت المرأة في انحطاطٍ شديد أيًّا كان عنوانها في العائلة: زوجةً، أو أمًّا، أو بنتًا، ليس لها شأن ولا اعتبار ولا رأي، خاضعة للرجل لأنه رجل ولأنها امرأة. فَنِيَ شخصها في شخص الرجل، ولم يبقَ لها من الكون ما يسعُها إلا ما استتر من زوايا المنازل. واختُصَّت بالجهل والتحجُّب بأستار الظلمات، واستعملها الرجل متاعًا للَّذَّة يلهو بها متى أراد، ويقذف بها في الطرق متى شاء. له الحرية ولها الرق، له العلم ولها الجهل، له العقل ولها البَلَه، له الضياء والفضاء ولها الظلمة والسجن، له الأمر والنهي ولها الطاعة والصبر.

من احتقار الرجل للمرأة أن يملأ بيته بجوارٍ بِيض أو سُود، أو بزوجات متعددة يهوي إلى أيهن شاء منقادًا إلى الشهوة، مَسُوقًا بباعث الترف وحب استيفاء اللذة.

من احتقار الرجل للمرأة أن يطلِّق زوجته بلا سبب. من احتقار المرأة أن يقعد الرجل على مائدة الطعام وحده، ثم تجتمع النساء من أمٍّ وأخت وزوجة ويأكلن ما فضَل منه. من احتقار المرأة أن يعين لها محافظًا على عرضها مثل آغا أو مقدَّم أو خادم، يراقبها ويصحبها أينما تتوجه. من احتقار المرأة أن يسجنها في منزله، ويفتخر بأن لا تخرج منه إلا محمولة على النعش إلى القبر. من احتقار المرأة أن يعلن الرجل أن النساء لسن محلًّا للثقة والأمانة. من احتقار الرجل للمرأة أنه إذا ولدت زوجته بنتًا اغتمَّ غمًّا شديدًا. من احتقار الرجل للمرأة أن يقول فيها بعضهم:

إن النساء شياطين خُلقن لنا
نعوذ بالله من شر الشياطين

وقول الآخر:

ولم أرَ نعمة شملت كريمًا
كنعمة عورة سُتِرَتْ بقبر

وقول الآخر:

سميتها إذا وُلِدَتْ تموت
والقبر صهر ضامن ومبيت

وقال آخر:

ومن غاية المجد والمكرمات
بقاء البنين وموت البنات

وقال الآخر:

ألا إن النساء حبال غيٍّ
بهن يضيَّع الشرف التليد

ومن احتقار المرأة أن يُحال بينها وبين الحياة العامة والعمل في أي شيء يتعلق بها، فليس لها رأي في الأعمال، ولا فكر في المشارب، ولا ذوق في الفنون، ولا قدم في المنافع العامة، ولا مقام في الاعتقادات الدينية، وليس لها فضيلة وطنية ولا شعور مِلِّي.

(تمَّ)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤