ثقافتنا وروح العصر
«اعرِف حكمة القدماء وعايش العصر، بذا تغدو معلِّمًا.»
الحضارة/الثقافة وحوار الإنسان مع الطبيعة
قضية الإنسان الوجودية الأولى والأساسية هي البقاء فيزيقيًّا واجتماعيًّا؛ وهي على المستوى الاجتماعي الوعي بتحديات البقاء والاستجابة لها. ومن هنا كان تطور الإنسان المجتمع تطورًا ثنائي الأبعاد: تطور بيولوجي وتطور القدرات على التفكير المنطقي والإبداعي الخلاق. واستجابة الكائن الحي — الإنسان/المجتمع — لمسيرة التطور البيولوجي الاجتماعي خلقت منه ما يمكن أن نصفه بأنه حزمة معلومات على المستويين الوراثي البيولوجي والاجتماعي. أعني أن الإنسان يمكن تشبيهه على نحو غير مجازي بأنه حزمة معلومات … فردًا ماديًّا عضويًّا وكِيانًا اجتماعيًّا في وحدة وتكامل وتطور مطرد.
وقيام الحضارات وتطورها تعبير عن هذه القدرة الإبداعية على التكيف، فالحضارة في تعريف إجرائي هي إبداع الأدوات المادية والإطار الفكري/القيمي استجابة لتحديات وجودية يفرضها الواقع المتجدد بتفاعله مع الإنسان/المجتمع على نحو يُفضي إلى رؤية جديدة للعالم على المستويين الوجودي والمعرفي. وهنا الحضارة والثقافة معًا وجهان لعملة واحدة تطورية تستهدف التكيف في إطار الاستجابة لتحديات البقاء. وهنا أيضًا، وحسب هذا التعريف، ينبغي الفصل بين الذات والخارج بحيث يغدو الإنسان، فكرًا وقيمًا وسلوكًا، تعبيرًا عن الحضارة/الثقافة التي يعيشها. ومرة أخرى يمضي هذا التطور متفاعلًا ومؤثرًا في التطور البيولوجي للإنسان المجتمع.
الإنسان في حوار مع الطبيعة، وهو الكائن الوحيد، في ظننا، الذي يحاول أن يفهم ويعرف ما حوله ومن هو، ويحاور الطبيعة مستعينًا بخبراته وتجارِبه التي ترسبت مع الزمن في الذاكرة الجمعية، أي مستعينًا بالتراث الثقافي علاوة على فعله النشط. ذلك لأن الطبيعة لا تحاوره أو لا تكشف عن نفسها في ثوب واحد على نحو نمطي، وإنما متغيرة أبدًا وجوديًّا، ومن حيث صورتها في الوعي، مع التغير الحضاري الثقافي. ومن ثَم فإن ذاكرة الإنسان/المجتمع ليست مجرد خِزانة اكتملت مرة وإلى الأبد؛ بل هي دِعامة مفتوحة، أعني قابلة دائمًا وأبدًا للإضافة والتجديد في اتساقٍ مع تغير الطبيعة وفعالية الحياة. واستعادة الإنسان/المجتمع لمخزون الذاكرة الجمعية، أي للتراث الثقافي، هي نوع من الاستنتاج الإبداعي مشروط بالوعي والفهم لأحداث الطبيعة أو لغتها المتجددة في الحوار معه.
وتهيأت للإنسان/المجتمع، بفضل التطور البيوثقافي، إمكانات بيولوجية واجتماعية تدعم حواره أو تسانده في معركة البقاء والصراع. وتمثلت هذه الإمكانات في تزايد تعقد بنائه العضوي العصبي على مستوى النوع، وتعقد وتطور بنائه الاجتماعي، ومن ثَم نجد تطوره يتميز عن سواه من الكائنات بأنه تطور بعيد عن الاستطراد العشوائي، بل يمضي في طفرات حضارية هي إبداع فكري وأدائي، ويكون إبداعه الفكري هو إطاره المعرفي القيمي، أو المِظلة الثقافية المتسقة والمتكاملة أو المتوحدة مع إبداعه الأدائي. والمظلة الثقافية هي رصيد خبرته وأداة حمايته في زمان ومكان محددَين جرى خلالهما الحوار بين الإنسان/المجتمع والطبيعة.
هذا ما لم تقابلها فعالية إنتاجية نشطة داخل المجتمع، فعالية تفرز فكرًا جديدًا وتكون بمثابة تجارِب إثبات الزيف والصواب تأسيسًا على تحديات واقعية.
وحيث إن دينامية الثقافة رهن بفعالية الإنسان/المجتمع، فهذا يعني أنها مرتبطة عضويًّا بهذه الفعالية … ولكنها ليست هي ذات النشاط، بل هي نتاجه وإفرازه. وتتحول في الوقت نفسه إلى شرط وجودي حاكم للفعالية في الحال وفي المستقبل، مع تهيُّئها، في حالة توفر شروطها الصحية، للإضافة والتعديل، بل ومواكبة الطفرة الحضارية الثقافية.
وتبرز هنا خاصية أخرى للثقافة أو للتراث الثقافي، أنه بنية تاريخية حية فاعلة أبدًا، متغيرة دومًا، إما إلى ثراء وارتقاء بفضل الفعالية الإنتاجية الإبداعية للمجتمع في استجابته لتحديات الواقع، وإما إلى تدهور وانحلال تأسيسًا على ركود الحَراك الاجتماعي وتعطل قدراته الإنتاجية الإبداعية.
وحيث إن حوار الإنسان/المجتمع مع الطبيعة المتغيرة المتباينة يجري على مسرح الأحداث الذي تجسده الجغرافيا، أو النسق الأيكولوجي بمعناه الأشمل، والذي يعطي لكل حضارة/ثقافة خصوصيتها، فلا بد وأن يتعدد التراث الثقافي في المكان وفي الزمان مع تعدد وتباين أنماط الاستجابات ونوع تحديات البقاء التي يفرضها هذا النسق الأيكولوجي المتغير، أو التي تفرضها أيضًا فعاليات الإنسان/المجتمع بحكم كونه الآن قوة تغيير عاصفة بفضل الإمكانات التي أتاحتها له ثورة العلوم والتكنولوجيا. معنى هذا أن البشرية دائمًا إزاء ثقافات متعددة غير متجانسة؛ وإزاء تراثات ثقافية وليس تراثًا ثقافيًّا واحدًا. ويفرض هذا تحدِّيًا إضافيًّا هو عملية الفرز العقلاني النقدي لهذا الرصيد عند المواجهة.
والثقافة بحكم هذا النشوء التكويني التاريخي الاجتماعي داخل النسق الأيكولوجي تكون ثقافتين: ثقافة الموقع والوضع، أي ثقافة محلية النشوء والتكوين والمؤثرات تعبر عن الخصوصية المحلية، وثقافة الحضارة، أي الإبداع المادي والرُّوحي، متجسدة في إطار معرفي/قيمي تجاوزت واقعًا تاريخيًّا سابقًا. والثقافة المحلية تكون مَجلًى لتناقضات المصالح المحلية والرؤى التاريخية، كما تكون إطارًا شاملًا أنساقَ التصور، أي مجموعات المفاهيم والرموز التي يفسر من خلالها أبناء المجتمع صورتهم عن أنفسهم وعن العالم، وتحديد المباح والممنوع … إلخ، وأنساق المعايير والقيم علاوة على أنساق القيم والتصورات التي هي رهن الإبداعات الحضارية المادية التقليدية. ومن هنا فإنها تدخل في صراع أو تناقض مع الحضارة الجديدة بشقَّيها المادي والمعنوي أو الثقافي. والثقافة الجديدة لا تستهدف إلغاء الخصوصية المحلية، وإنما تنشد عملية إعادة تكيف اجتماعية جديدة، وملاءمة وجدانية وفكرية ومفاهيمية، بل وممارسة عملية، أي تتغير أنساق التصور والمعايير وأنساق التعبير والعمل. وهذا هو السبب في أنه مع كل حضارة جديدة، تتغير صورة العالم وجودًا ومعرفة، وتتغير رموز تفسير ظواهره وحدودها؛ كما تتغير القيم المحدِّدة للسلوك والمواقف وأساليب تبريرها وحدود ممارساتها، ونكون مع كل حضارة جديدة إزاء لغة وتعبيرات جديدة من حيث المعنى والدلالة، حتى وإن احتفظت مفردات اللغة بمبناها. وطبيعي أن تتغير الوسائل التقنية التي يمارس بها المجتمع إبداعاته الحضارية الجديدة بما في ذلك إعادة تنظيم بنية المجتمع وعَلاقاته.
معنى هذا أن الحضارة/الثقافة هي نشوء تكويني اجتماعي تاريخي رهن زمان ومكان محددَين، أو لنقُل بعبارة أخرى إن آفاق التصور ومعايير القيم، وأنساق التعبير — اللغة والفكر — والعمل التقني والعَلاقات الاجتماعية هي حدث نشوئي تكويني اجتماعي تاريخي؛ أي حضارة/ثقافة طارئة. ومن ثَم فإن البنية الحضارية الثقافية لا تقبل النقل وإنما التفاعل بشرط توفر بيئة صالحة لدى الطرف الآخر من حيث تطوره النشوئي التكويني الاجتماعي التاريخي. إن النقل يفضي إلى صراع وأزمة هُوية تهدد بالانسلاخ عن التراب ثم لا شيء حضاري جديد، ولكن معاناة البناء والتحول التزامًا بمطالب اجتماعية هو النهج الصواب.
وهنا يجمع التفاعل ما بين الخصوصية والعمومية في آنٍ واحد. مثال ذلك: خطأ شائع نردده حين نتحدث عن الديمقراطية بمعزِل عن كل التطورات البنيوية الأخرى؛ وصواب القول «مجتمع ديمقراطي» للدلالة على عملية النشوء الاجتماعي التاريخي، باعتبار الديمقراطية نسق تعبير، وأداة توظيف، ونسق تصور وقيم خاصة بالإنسان والمجتمع والوجود والعَلاقات واحتياجات المجتمع في مرحلة تاريخية من تطوره، وليست الديمقراطية وصفة يجوز نقلها إلى بيئة رافضة أو غير مهيأة لها بحكم تاريخها وثقافتها. ويتجلى هذا واضحًا حين نعرف أن المجتمع الديمقراطي له أنساق تصوره الخاصة به عن مفاهيم مثل الشرعية ومرجعيتها … شرعية السلطة والسلطان، شرعية المواطنة والمواطن وحقوقه الاجتماعية والسياسية وحرية الفكر والإبداع، وشرعية الحوار والحجة والبرهان والتحالف … إلخ، وأن لا شيء مُعفًى من السؤال والمناقشة والنقد، بل هذا هو أساس الشرعية.
ومن ذلك أيضًا مقولة «التغير والتطور» من حيث هي تصور للوجود، وأيضًا قيمة معرفية، ومحدِّد لأسلوب العمل والتعامل، بل وفعل إنساني بمعنى أن دور الإنسان تغيير العالم علاوة على فهمه؛ إذ إن التغير والتغيير بهذا المعنى ثقافة جديدة أدت إلى خلق بنية ذهنية جديدة. إنه اعتراف بأن الوجود واقع مادي في حركة، وموضوع للفهم، ونحن ندرك قوانينه. والقول بالتغير يعني ضمنًا دعوة العقل لفهم واقع في صيرورة دائمة، ولم يعد كما كانت تقضي تصورات حضارات سابقة أن الوجود كامل مكتمل خاضع لتدبير مسبق، وأن ثمة سلطانًا حاكمًا للوجود والمجتمع قسرًا وَفق فكرة أو عقيدة في الذهن، وأن لا حول ولا طَول للإنسان أو لعقله لفهم الوجود أو تغييره … بل إن عقل الإنسان، تأسيسًا على مقولة التغيير، عقل متجدد يلاحق الواقع المتغير وهو مرجعية الصدق. واقتضى مفهوم التغير الاعتراف بسيادة العقل، والاعتراف بمسئوليته الجديدة عن صياغة شروط ومناهج للبحث والمعرفة … أعني نشأة العلم والقول بالتعددية والتسامح داخل المجتمع، واستعداد الإنسان لمواجهة التحولات والتغيرات، بل ومشاركته في مسئولية التغيير … إن مقولة التغير وليدة حضارة الحداثة هي إحدى عناصر الإبستيم أو المنظومة المعرفية الحداثية، من حيث محتواها العلمي ومنهجها المعرفي، إذ ترفض التصورات الثباتية السكونية تأسيسًا على أن لا جديد تحت الشمس، والقول بالتدبير المسبق، وأن المجتمعات هي هي في الزمان والمكان، وما كان ملائمًا لها بالأمس ملائم لها اليوم وغدًا. ولنقُل الشيء نفسه عن تصورات ومفاهيم أخرى تغيرت دلالتها ومحتواها مع عصر الحداثة، مثل مفاهيم الزمان والعصر والعلم والمعرفة، ومفاهيم التراث والحرية الفردية والإنسان من حيث الدور والقيمة والوضعية والمكانة في المجتمع … إلخ. إنها جميعًا تشكل، حداثيًّا، أنساقًا جديدة من التصورات والمعايير والقيم … إنها عناصر ومكونات منظومة معرفية قيمية جديدة إزاء عالم جديد.
نخلص من هذا إلى أن الحضارة/الثقافة هي جماع إنجازات وإبداعات مادية ورُوحية يحققها المجتمع، حاملة خصوصيته الزمانية المكانية، وترتقي به إلى مرحلة أخرى إثر انتصاره على تحديات مادية ومعرفية وثقافية عاقت حركته وهددت بنيته. ذلك لأن الاستجابة الصحيحة على التحديات هي جوهر الإنجاز الحضاري. وتتجسد هذه الإنجازات في الإنسان/المجتمع من حيث هو الهدف الأسمى والأداة في آنٍ، أعني أن الإنسان ينتقل من مرحلة إلى أخرى من حيث العَلاقات الاجتماعية والدور الاجتماعي والاقتصادي والعلوم واللغة والفنون والتكنولوجيا بعامة وعَلاقة الإنسان بالطبيعة، ومن ثَم يتغير معها الإبستيم إلى إطار معرفي/قيمي جديد يفي بمقتضيات هذا التحول من عصر إلى عصر يميز تاريخ المجتمع في تطوره الحضاري. والجدير بالذكر أن داخل المجتمع، أي البنية الداخلية، هو المعيار والدافع، وليس مجرد صراع مع الخارج دون انعكاسات ارتقائية في نوعية الإنسان وشروط فكره ووجوده. وإن التطور الارتقائي الحضاري الثقافي للمجتمع، والمرتكز على تحول في الشروط الوجودية لهذا المجتمع، والمقترن بإطار معرفي/قيمي جديد، يكون دائمًا رهن فعالية إنتاجية نشطة للإنسان/المجتمع. ويفضي هذا، بلغة جاستون باشلار في معرِض حديثه عن الشروط الإبستمولوجية للتقدم العلمي، إلى ضرورة تدمير العوائق المعرفية التي تفرضها ثقافة قديمة، كما تفضي إلى قطيعة إبستمولوجية، أعني إلى تجاوز، وليس انسلاخَ أو نبذَ، المعرفة السابقة. ولهذا فإن معرفة ما بعد القطيعة، أو الإطار المعرفي/القيمي للحضارة الوليدة يختلف نوعيًّا عما قبله منهجًا ومضمونًا ومحتوًى أو دلالةَ لغة ليواكب واقعًا أو تصورًا جديدًا للواقع.
وتكون الحضارة/الثقافة الجديدة تأكيدًا للهُوية الاجتماعية على أساس من النفي الجدلي، وليس الرفض وقطع الصلة والإسقاط المطلق. إذ ها هنا لا تكون الهُوية الاجتماعية الثقافية تاريخًا مضى وكينونة اكتملت خارج الذات؛ وليست هي الذات في استقلال، بل هي الذات في فعاليتها الاجتماعية وصيرورتها التاريخية. إنها ذات تزدهر في إنجازات مطردة تُحقق من خلالها وجودَها، وآليتُها في هذا دينامية جدلية مع الواقع أو الوجود اعتمادًا على العقل الناقد. إنها مشروع وجودي تاريخي فيه عراقة الماضي وطموحات المستقبل.
رُوح العصر
كان سكان الغرب التقليدي، أي أوروبا، ينهلون من حضارة/ثقافة الشرق القديم … أخذوا عن مصر، وبابل، وشرق البحر المتوسط في عصر الازدهار الحضاري قبل الميلاد، وأخذوا عن الشرق في عز النهضة العلمية في البلدان الإسلامية. وساد في الغرب قول مأثور يقول: «كلما اتجهت جنوبًا ازددت علمًا وحكمة». ظل الحال كذلك صعودًا وهبوطًا حتى نهاية القرون الوسطى في ظل حضارتين: رعوية وزراعية. ثم توقف التاريخ في بلدان الشرق، أعني لم تعد مجتمعات الشرق تضيف جديدًا. انهارت حضاريًّا لأسباب لم تخضع بعد لدراسة سوسيولوجية تاريخية علمية من جانبنا. وكما أشرنا سابقًا، فإن ثقافة أمة لا تبقى على حال واحد أبدًا، فهي إما إلى ازدهار قرين ازدهار الفعل والفكر المجتمعي، وإما إلى تحلل وانهيار، وهذا عين ما حدث.
ونهض الغرب، وبدأ حقبة حضارة/ثقافة جديدة لا تزال ممتدة: حضارة عصر التصنيع وقد اكتملت، وبدأت حضارة ما بعد التصنيع: حضارة عصر الفضاء الإلكتروني. خطا الغرب أُولى خطواته بنقد العقل العملي والنظري ضمانًا لما رآه اليقين على أيدي فلاسفته المتعاقبين، ومهد لهذه الخطوات كسر نِير هيمنة رجال الإقطاع والكهنوت عن طريق الإصلاح الديني والعلمنة. والعلمانية تعني، بإيجاز شديد، إعمال العقل في شئون الدنيا. وهذه خاصية جميع الحضارات إبان ازدهارها، أي خاصية حضارية وليست أوروبية. ومع تعقد مباحث الفكر والعلم، وتعقد المجتمعات والتخصصات، أصبح لكل مبحث فكري وعلمي، ولكل مجال في إدارة شئون المجتمع، أهله ورجاله لا سدنته وفقهاؤه وكهانه، وأصبح الرأي موكولًا لأهله: الدين لرجال الدين، والعلم لرجال العلم، كل في تخصصه.
وبدأ الغرب عصرًا إنسانيًّا وتنويريًّا. والتنوير هو الوجه الآخر للعلمانية، ولكل عصر منهجه في العلمانية والتنوير تأسيسًا على إمكانات وقواعد الفكر والعمل المعتمدة، وأكد عصر التنوير الحداثي إطارًا معرفيًّا/قيميًّا جديدًا. في الماضي، أي في الحضارة الرعوية والزراعية نحن نعايش الحياة، ولكن مع بداية عصر العمل والتغيير، عصر الصناعة، فإن الإنسان/المجتمع يصنع الحياة، والحياة عنده مشروع، والنجاح رهن حرية الفكر والفرد قياسًا إلى سلبيات الماضي ومقتضيات الجديد، ومن ثَم برز مفهوم الحرية الفردية مفهومًا حضاريًّا جديدًا. والتنوير هنا ليس مجرد معرفة تراكمية يجري استكمالها، ولا مجرد إرث أو تراث ينبغي إحياؤه على أي نحو كان بكل محتوياته وتناقضاته الداخلية، أو تناقضه مع شروط ومتطلبات حركة المجتمع في عصر جديد. بل التنوير صياغة نظرية جديدة، وصورة جديدة للعالم والإنسان، الفرد والمجتمع.
والتنوير تجرِبة إنسانية حية ممتدة في الزمان لا تكتمل، لا يوقفها أو يُنكِّسها غير توقف الفعالية الاجتماعية الإبداعية. ومن ثَم يكون التنوير صنو الفاعلية، بل إنه أيضًا فاعلية نشطة نقدية إبداعية. ولا يقنع الإنسان/المجتمع هنا بمجرد المعرفة وتوسيع نطاقها، ولا يقنع بمجرد التأمل النظري المنفصل عن العمل المجتمعي، أي منفصل عن المشروع الحضاري؛ وإنما هو في سَدى ولُحمة النشاط، لذلك فإنه يعتمد التجرِبة والتحليل والنقد والبحث في تاريخية الظاهرة وأسبابها وصيرورتها واحتمالاتها في ضوء قوانينها ودور الإنسان/المجتمع في إدارتها وصولًا إلى صياغة نظرية علمية في إطار قواعد العصر للتفكير العلمي. ولهذا اقترن عصر التنوير بفلسفة أو فلسفات جديدة في مجال الإبستمولوجيا لإزالة المعوقات المعرفية. وأكدت هذه الفلسفات على دور الذات العارفة، وأنها مرجع إثبات الوجود، وأداة الفكر، ومعرفة الظواهر، وصياغة القيم. واقتضى هذا رسم خطوات المعرفة المعتمدة في البحث العلمي لمعرفة الإنسان لذاته وللطبيعة. أضحى العصر الجديد ثورة معرفية.
حضارة عصر التصنيع وما بعد التصنيع هي حضارة العلم، إبداع مادي وثقافي جديد، وتحوُّل ثوري في بنية المجتمع، وفي عَلاقات ووضعية ومكانة الإنسان (الغربي). ساد إطار معرفي/قيمي جديد لبناته الأساسية العقل الناقد الحر المبدع الوثاب … العمل هدف وقيمة ومعيار، والخبرة معرفة نسقية في ارتقاء، والعلم بحث منهجي مجتمعي بروح الفريق … لغة جديدة هي لغة العلم ومرجعية جديدة هي العقل ممثَّلًا في مناهج البحث والأنساق النظرية وشهادة التجرِبة. وتجلى ذلك في نظريات علمية وفي إبداعات فلسفية تتصف بالدينامية والتعددية والتصويب الذاتي، وفي تطبيقات تكنولوجية وقضايا اجتماعية.
بضع قرون وانتقل العالم فيها إلى العالمية عبر الأمة القومية بفضل العلم والتكنولوجيا رُوح العصر الحديث. وفرضت حضارة العلم ثقافة جديدة … إطارًا معرفيًّا/قيميًّا جديدًا، أنماطًا من الفكر والمفاهيم لفضاء وجودي أو لعالم جديد … وخبرات وجودية غير مسبوقة.
والعالم الجديد عالم الكومبيوتر والاتصالات الذي يشكِّل حيِّزًا جديدًا للوجود الإنساني والطبيعي، وتسيطر عليه لغة المعلومات، ووسائل الإعلام والاتصال، وتنفتح أمامه آفاق رحبة بغير نهاية، عالم سرعة الضوء في سريان الأحداث وإيقاع تقدم العلوم وتطبيقاتها، ورِهان السبق في صراع الوجود من أجل البقاء والهيمنة حق لمن يملك القوة ممثلة في إنتاج وإبداع فيض المعلومات، وللأقدر والأسرع في توظيفها لخدمة أهدافه.
وتؤكد هذه الحقبة الحضارية الجديدة الواعدة أن العقل دراما إنسانية وجودية … إنه ليس كِيانًا مستقلًّا، وليس أعدل الملَكات قسمة بين الناس دون اعتبار لشروط الوجود، وليس قوة مكتسبة بصورة حاسمة ونهائية، وليس حِكرًا عرقيًّا أو دينيًّا، بل هو فعالية حرة وجودية إنسانية؛ فعالية الإنسان/المجتمع في الوجود وبهذا الوجود في صورة جديدة متغيرة دومًا والعقل أيضًا صراع وجودي ضد الرؤى أو الأُطر السابقة، أعني ضد ما نسميه «المنفى الفعَّال» الذي تجاوزته الحضارة فكرًا وقيمًا وأداء، ولكنه يصارع في الخلفية بعد أن حمل صفة اللامعقول. فالعقل يحمل في طياته أثناء وثباته تاريخه وأحقابه، أي ثقافاته الماضية. لهذا نرى أن هذا الصراع قد يحتدم في لحظات توصف بالأزمة، ويفضي في حالات الانحسار إلى رده إلى البنية العقلية السابقة. ذلك أن كل طفرة حضارية تستهل عصرها بآلام مخاض الجديد والعودة النقدية العقلانية لبيان لامعقولية القديم، المنفى الفعَّال، في إطار صورة الوجود الجديدة، التي نعقل بها الوجود، أي أنه يؤكد ذاته عقلًا فاعلًا من خلال صراعه ومواجهة تحديات الماضي، وتحديات الاختيارات التي تطرحها البيئة … العالم الجديد.
إن كل حضارة لها عقلها، أعني لها آليتها الفاعلة في إطار وجودي فكري قيمي … إنها قراءة جديدة للوجود، وقراءة جديدة للقديم الموروث.
ويعيش الإنسان بعقله الجديد، وفي عالمه الجديد، حالة من التوتر الوجودي الحي النشط هي حافزه، ومَعْلم حضوره، ومنطلَق وُثوبه إلى حقبة أرقى. وقد يكون ملائمًا أن نَصِفَ هذا التوتر بأنه تجلٍّ لحالة جدلية بين العقل والوجدان … الوجدان الذي هو حالة شعور بالتوازن والسكون مع إطار معرفي/قيمي تقليدي ألفه الإنسان زمانًا.
ثقافتنا وروح العصر
السؤال الآن: أين نحن ثقافيًّا من رُوح العصر؟ ما هو دورنا وإسهامنا إبداعًا وإنتاجًا لهذه الثقافة؟ وما هو نهجنا للاندماج أو للاختيار أو للنقد والتحدي؟ بل نسأل كيف تكوَّن العقل المصري، والعربي بعامة، اجتماعيًّا وأيكولوجيًّا وحضاريًّا على مر العصور؟ النشأة والتكوين والتطور والتفاعل صعودًا وهبوطًا، ازدهارًا وتحللًا في ضوء الظروف المحيطة، والتفاعلات والمؤثرات الإقليمية والعالمية، والفعالية الاجتماعية والتكيف البيئي؟ لمن المرجعية ولمن السيادة العليا تاريخيًّا لكل مكونات العقل؟
مجتمعاتنا العربية تفتقر إلى الثقافة بالمعنى الذي أسلفناه؛ إذ لا يملك أيٌّ من المجتمعات النسق الشامل لنشاط إبداعي عقلاني للإنسان/المجتمع، والذي يحدد صورة المجتمع والإنسان، أو صورة النحن الاجتماعية، وصورة الآخر المتعدد الذي يتفاعل معه المجتمع في حركة مستقبلية نحو هدف منشود.
ولكن ثقافتنا أو ثقافتنا العربية ليست تعددًا وليد حوار قائم على فعالية اجتماعية وعقلانية نقدية، بل هي حالة تشظٍّ بسبب تعطل الفعالية الاجتماعية، وتعطل الإبداع والتجديد؛ ثم الغربة في الزمان وفي المكان مع تهويمات تحمل خصائص الأسطورة عن عصر أو عصور ذهبية مضت، أو عن آخَرَ يراه البعض نَموذجًا جديرًا بأن يُحتذى.
ومناقشتنا للثقافة وعَلاقتها بروح العصر تتوقف على عناصر كثيرة؛ منها مفهومنا للحقيقة ونهجنا في الوصول إليها أو التعامل معها. هل الحقيقة غائبة عنا زمانًا ومكانًا ومعرفتنا لها بالواسطة؟ وهل هي مطلقة؟ أم أن الحقيقة في شئون مظاهر الدنيا هي عَلاقتنا بالواقع الماثل أمامنا الفاعل فينا وبنا، وقدرتنا على التأثير في مجريات الواقع عبر تحويل عَلاقتنا به فكرًا وممارسةً ومؤسسات مجتمعية.
إن تراثنا الثقافي المَعيش أو الدارج يكشف، فيما يختص بمفهوم الحقيقة، عن أننا لا نزال نعيش أسرى الغنوصية أو الباطنية والهرمسية، حيث الباطن استوعب الظاهر واحتواه، فالذات الإنسانية في هذا التراث ليست ذاتًا عارفة، لأننا نعرف الحقيقة عن طريق الإحالة … الإحالة إلى العقل المطلق أو إلى الآخر، والعارف من صدقت نيته وأُوتيَ الوسيلة واستقرت في رُوعه الحقيقة … الحقيقة الغائبة عنا، وهي المطلق زمانًا ومكانًا دون تمييز بين شئون الدنيا والدين، والتغير نقص وموضع إدانة. والقول إن المعرفة تُكتسب مرة واحدة وإلى الأبد بحيث نرى معرفة السلف في عالمهم مرجعًا لنا في عالمنا. وهكذا يصادِر هذا التراث الثقافي المَعيش على السعي الإنساني للمعرفة، ولذلك لا نجد محاولة لبحث الأصول المعرفية … أدوات المعرفة، ومنهج التحقق المعرفي، ولا نواجه مشكلة تتعلق بالأصول المعرفية الاجتماعية التاريخية، أو نسقية المعرفة، ولا تحاول الذات العودة إلى نفسها بنظرة ناقدة لفكرها ومعارفها وتستكشف أخطاءها. وسبب ذلك أن البنية الأساسية للفكر تصادِر على هذا الجهد المعرفي الاجتماعي حين تؤكد بدايةً أن الذات لا تعرف غير ظنون وأوهام، وأن الحقيقة ليست عالم الشهادة.
وإن ظهرت على السطح أزمة معرفة فإننا لا نعيد النظر في أدواتنا المعرفية ومنهج بحثنا، بل نفسرها على الفور بلغة باطنية وليس بانقطاع صلة الفعل بين الذات العارفة (المجتمع) وبين الوجود والتاريخ الذي هو فعالية الإنسان/المجتمع في الزمان؛ ذلك لأننا، دون سوانا، اهتدينا إلى الحقيقة المطلقة الكاملة. وواقع الحال، وشهادة التاريخ، أن المجتمع الذي يعتقد أنه وصل إلى الأجوبة النهائية، ومن ثَم يملك الحقيقة أو اليقين المطلق، يزايله القلق الوجودي، ويستكين … مجتمع الاستكانة … هنا لا يتجدد حضاريًّا … أي يجمد ويذوى حضاريًّا. ويشبه هذا ما كان سائدًا في عصور الانحطاط الحضاري في مجتمعات الغرب أو الشرق. وهنا سقط دور العقل ومرجعيته؛ أي سقط دور الذات العارفة وعَلاقاتها بالواقع الحي. وتكشف هذه الغنوصية عن آلية الفكر السلفية التي تمثل أحد العناصر الرئيسية في ثقافتنا المَعيشة، وتكشف أيضًا عن تعطل دور العقل الناقد دعامة حضارة/ثقافة العصر.
وثقافاتنا المَعيشة هي ثقافة المطلق والمتجانس واللاتاريخ، ليس الزمان والمكان بُعدين حاكمَين لظواهر الوجود وللفكر المتفاعل مع هذا الوجود. ثقافتنا تتجاوز أو تُسقط بُعدي الزمان والمكان، وحيث إنها لا تعتمد الحوار الجدلي بين النحن والطبيعة في حركة الزمان فإنها لا تعرف التعددية، ولا تضع الظواهر في سياقها التاريخي. فالهُوية الثقافية كمثال لها خصوصية انتقائية ومكتملة خارج الذات، إنها ليست صيرورة تاريخية نتاج تفاعلٍ حي إرادي داخل نسق أيكولوجي من خلال الوجود الإنساني، بل هُوية تبحث عن الذات خارجها. ومن ثَم جرى طرح موضوع الهُوية الذي يروق لنا أن نسميه أزمة فكر لا أزمة فعل، على نحو مغلوط وزائف؛ إذ نظرنا إلى الهُوية باعتبارها كينونة ناجزة مطلقة زمانًا ومكانًا، وأنها سكونية غير متفاعلة أو متطورة، ولهذا شاع اختزالها في مسمًّى واحد متجانس ومطلق ولا تاريخي.
ونظرتنا إلى ظواهر الواقع نظرة لا واقعية ولا تاريخية. الإسلام نتحدث عنه كأنه كينونة مستقلة خارج الذات، واحدة موحدة على اختلاف الزمان والمكان. هذا على الرغم من أن هناك إسلامات لم نحاول أن ندرسها كظاهرة تاريخية اجتماعية أنثروبولوجية، ونعرف النشأة والتكوين وأسباب التعدد. بل نحن نرى الآخر دائمًا النقيض أو الضد أو الآخر المرفوض.
الغرب في نظرنا متجانس، كمثال، إنه أيضًا الآخر المرفوض. والتاريخ نسيج متجانس، أو هكذا نعرضه، والشخصيات التاريخية مثالية. والتجانس قرين الواحدية، واحدية الرأي والرؤية داخل الشخص والمجتمع، وهذه واحدية لا ترتضي المزاحمة وتمحو ما عداها، والفكر الأمثل ما يتجلى واحديًّا متجانسًا من نسيج واحد ولا تعددية. وفارق كبير بين التجانس والاتساق المنطقي للفكر.
وتنبني ثقافتنا على ثنائية نقيضية، وتتحرك أو يتحرك الفكر في إطارها، لأنها ثقافة مطلقات ثنائية القطبية … ثقافة إما أو … الدين أو العلمانية على الإطلاق، الأصولية أو المعاصرة، التقليد أو التجديد. الذات مؤمنة والآخر كافر. معي أو عدُوِّي على الإطلاق دون تسامح مع التباين. وأفضت هذه الثنائية النقيضية إلى الانصراف عن تكوين صورة دينامية حية عن الذات وعن الآخر بناءً على دراسة وعلى فعل اجتماعي نشط، وتكشف عن طبيعة العَلاقات والحركة اجتماعيًّا وتاريخيًّا بين الطرفين.
ليست هناك حركة جدلية لظواهر الوجود والفكر عبر المتناقضات، بل الوجود إما هذا وإما ذاك … لهذا يتصف الوجود المطلق في حقيقته بالثبات والسكون والتجانس … ليس جدلًا وفعالية متبادلة بين الطرفين النقيضين في حركة صاعدة إلى طرف نقيض. وهذا لأنه يجري في فراغ، إنه الفكر المطلق من قيود الواقع وشروط فعاليته.
ويتجلى هذا في مواقف المثقفين التقليديين والحداثيين عند مناقشة رُوح العصر: العصر هو الغرب على الإطلاق، والمعاصرة اندماج في الإطار المعرفي/القيمي للغرب … أو القول إن المعاصرة هي أن تستوعبنا الأصولية. ويجري الحوار على أساس استقطابي: الرفض المطلق، والانحياز المطلق، دون نقد لواقعنا التاريخي أو نقد للنموذج الغربي على هدي دراسة تاريخية اجتماعية نقوم بها نحن مع الإفادة بإنجازات علوم الآخرين.
لذلك فإننا بقدر افتقارنا إلى منهج جدلي في النظر واعتبار ظواهر الوجود، نفتقر كذلك إلى المعرفة العلمية الصحيحة التي هي إنجازنا نحن بالأصالة … أن نجري بحوثنا بالأصالة عن أنفسنا واقعًا وفكرًا وفعلًا على أساس منهج علمي لظواهر تاريخنا وواقعنا السياسي والاجتماعي والإنساني والطبيعي، والنقد العقلاني لتجرِبتنا أو تجارِبنا الحياتية (التاريخ الاجتماعي الباحث في العَلاقات وأركيولوجيا المعرفة) في إطار الزمان والمكان، وأن نجري الدراسة النقدية استجابة لمتطلبات وتحديات فعالية اجتماعية تفرض شروطها وتحدد توجهاتنا، وتكون هي البوصلة الهادية لخطواتنا وليس في إطار رطانة موروثة أو مستوردة.
كيف نقيم حياة عصرية تأسيسًا على تقليد لا نعرفه معرفة عقلانية نقدية؟ إننا بذلك نصنع منه أسطورة. وذات السؤال: كيف نقيم حياة عصرية تأسيسًا على عصر نهضة وتنوير وعلوم أوروبية لا نعرفها معرفة عقلانية نقدية، إذ يتراءى لنا هو الآخر أسطورة، أو الملاذ الأسطورة المتوهم. ومرة ثالثة: كيف نحدد هدفنا واتجاه حركتنا في الحياة ونحن لم نضع واقعنا الحياتي بكل ظواهره السياسية والاجتماعية والتاريخية … إلخ في الزمان وفي المكان موضع دراسة عقلانية نقدية؟ لتكون لنا مباحثنا الدراسية عنه، ونظرياتنا وفلسفاتنا النابعة من قضايانا وممارساتنا في السياسة وفي الحكم، وفي إدارة شئون المجتمع، وفي المعرفة وحركة الفكر والواقع ومعنى الحق والحقيقة وصورة الإنسان … إلخ.
نتحدث عن التراث، والحقيقة أن هناك تراثات. فضلًا عن أننا نتحدث عنه بغير علم؛ إذ لا نملك علمًا أو مبحثًا علميًّا عن التراث يتناول النشأة والتكوين والتطور والتفاعلات … إلخ، في ضوء علوم محددة مثل: سوسيولوجيا المعرفة، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، ومباحث الفكر الفلسفي. ونتحدث عن التاريخ السياسي وليست لدينا فلسفة سياسية اعتمدت النقد التاريخي السوسيولوجي لنظم الحكم والعَلاقات السياسية ودور السلطة في مجالات النشاط الفكري والقيمي والاجتماعي. ونتحدث عن الدولة وعن اندماج السلطتين الدينية والزمنية دون أن تكون هناك دراسة نقدية تاريخية أنثروبولوجية اجتماعية فلسفية تفسر لنا تاريخ الدولة وأسباب اندماج السلطتين، أي الدمج بين الإلزام الديني والإلزام السياسي، ودلالة ذلك وأثره في الموازنة بينهما في التطبيق العملي … وأفضى خواؤنا الفكري إلى إطلاق شعارات مثل: لا وطنية، وهي شعارات من شأنها أن تقوض دعائم نهضة المجتمع. ونسأل: هل هناك ضرورة داخلية في الحضارة/الثقافة العربية تفسر الخلط المستمر بين السلطتين الزمنية والدينية، وكانت أيضًا أحد أسباب تفكك عرى الإمبراطورية الإسلامية؟ إن سكان الصحراء … أو حياة الرعي والارتحال لا تعرف الثبات والاستقرار على الأرض؛ لذلك لا تعرف معنى الوطن، والانتماء ليس للأرض ولكن للشيخ الممثل للفكر والعقيدة، الشيخ هو الوطن ومعلم الانتماء وهو العقيدة في آنٍ واحد. والملاحظ أن حياة البدو لا تعرف، مثل حياة الزراعة، بيوت الأولياء والمزارات المقدسة الحامية للأرض والناس.
وروح العصر هي المعرفة العلمية التي هي نمط خاص من عَلاقة الوجود الإنساني بالطبيعة وبالنفس … عَلاقة النظر والنظرية … صياغة قوانين أو قواعد عامة تكشف عن اطراد الظاهرة والإجابة عن السبب والكيف والقدرة على التنبؤ. إنها صورة خاصة من صور تأمل الواقع ومعالجة ظواهره، أي التعامل نظريًّا وتجريبيًّا وَفقًا لقواعد منهج البحث العلمي، وهو ما تتمايز به على صور تأملٍ ومعالجة في الحضارات السابقة. والمعرفة العلمية معرفة هادفة أو غرضية، إنها تستهدف نفعًا دنيويًّا مؤسَّسًا على بحث منهجي … معرفة علمانية.
لهذا فإن المعرفة العلمية وثقافة العلم تتطور اطرادًا على أساس قواعد محددة لاستخدام المعارف، ولاكتساب معارف جديدة، ويجري التطور انطلاقًا من المعارف المتوفرة، ومن وسائل الاكتساب التي تجري مراجعتها، وهي بذلك أيضًا نشاط اجتماعي وليست تلقينًا ولا تأملًا ذاتيًّا فرديًّا. إنها النقيض التام لثقافة التجانس والإطلاق واللاتاريخ.
وعملية الصياغة النظرية هي التي تجعل المعرفة العلمية موحدة واجتماعية الطابع. إنها تأمل نظري ومنهجي للمعارف المتاحة وصياغتها نسقيًّا في ضوء قواعد منهج محدد للكشف عن قوانين الظواهر المطردة وإثباتها في لغة خاصة، هي لغة العلم، قابلةٍ للتحقق من صدقها وزيفها، محددةِ المدلولات، نافيةٍ لأي التباس. هذا بينما ثقافتنا المَعيشة ترسخ نهج التأمل النظري الخالص المتسق مع خاصية الغنوصية أو الباطنية.
وجدير بالملاحظة، ولبيان أوجه المفارقة بين ثقافة العلم وثقافتنا المعيشة، أن التأمل يكون على أحد وجهين:
-
(١)
تأمل الحدث في اطراده وانتظامه والإجابة على كيف ولماذا وكم من المرات؟ وحصاد الحدث ومتلازماته وشروطه. وهذا تأمُّل يُنتج علمًا.
-
(٢)
تأمل الحدث في ذاته، أي باعتباره تجلِّيًا، والقفز منه دهشة وإعجابًا إلى خارج الحدث … إلى قوة هي الفاعل ومحور التأمل. والثقافة القائمة على هذا الطراز من التأمل ليست ثقافة علم، ومن ثَم ليست ثقافة فعالية إنسان لتغيير الواقع والخطو نحو المستقبل بخطوات مرسومة.
والتفكير العلمي المنهجي، أو ثقافة العلم ثقافة نهمة إلى المعرفة. التفكير العلمي مدفوع بقوته الذاتية وبإنجازاته إلى المزيد دون أن يطرح للمناقشة أو التساؤل المعارفَ الدينية، فهذا ليس شأنه وليس اختصاصه. ولكن ثقافتنا المعيشة ثقافة اكتفاء فالحقيقة المطلقة نملكها. إنها ليست ثقافة فضول معرفي علمي، أو لنقُل: إن جهد المرء في مجال الفضول منصرف عن محاولة الفهم العلمي لظواهر الدنيا وتوظيفها والتحكم فيها وتدبيرها. ولهذا لم نسهم في الإنجاز، وعشنا أسرى تصور أن الحداثة هي الاستهلاك، وكما قال أحدهم: إن الله سخر لنا الغرب.
وإن تعطل خاصية الفضول المعرفي العلمي والمساهمة في الإنجازات خلق مناخًا ثقافيًّا تقليديًّا قائمًا على الاستظهار. فالعالم ليس الباحث بل من استظهر أخبار الموك والفقهاء وعلوم السلف. وغرس هذا المناخ فينا خاصية ثقافية هي الانكفاء على الذات. واقترنت هذه الخاصية بعزوف عن دراسة تواريخ حضارات الشعوب … حضارتنا هي الأكمل وإن لم نفهمها، وواجب الآخرين الاقتداء بنا وإن لم ننجز شيئًا … دون أن نسأل كيف نكون قدوة فعلًا وفكرًا، وكيف نكون أهلًا للعطاء الحضاري.
الطريق إلى الاندماج في حضارة العصر
إننا حين نناقش المعاصرة تتجه الأذهان إلى الغرب، ويظنها البعض أنها تعني الغرب بكل جوانبه وتناقضاته المحلية الاجتماعية والتاريخية وليس آلية العصر كمنهج. ولهذا تظل داخل إطار صراع أبدي بين أصولية ومعاصرة، وهذا طرح زائف للقضية. ولكن إذا أخذنا المعاصرة على أنها منهج وأدوات تعامل الإنسان (تقنيًّا وفكريًّا) على مستوى العصر مع الواقع لانتفى التناقض.
رُوح العصر، كما قلنا، هي العلم منهجًا في فهم الواقع اعتمادًا على العقل الناقد بهدف التغيير. والعلم هنا ليس مجرد تحصيل معارف، أو استهلاك منجزات، فإن من يرتضي لنفسه حياة المستهلك، سوف يجف نبع العطاء المادي والفكري عنده، ويظل عميلًا للمنتِج بالمعنى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وإنما نقول العلم باعتباره ظاهرة اجتماعية ثقافية، وباعتباره نسقًا معرفيًّا متحدًا مع بنية المجتمع، صانعًا لها، وهو نسق لأنه ليس معارف متناثرة بل منهج موظف في خدمة بنية المجتمع يعمل على تماسكها، واطراد تقدمها، ومواجهة تحدياتها. ولهذا نراه أيضًا مؤسسة اجتماعية، وعنصرًا حضاريًّا، أي ركيزة الحضارة.
وثقافة العلم هي ثقافة التغيير، تغيير العالم وليس مجرد فهمه أو تأمله أو فك طلاسمه، أو الوقوف أمام تجلياتٍ وإطلاق زفرات الدهشة والإعجاب التي ترسِّخ مشاعر الدونية والنقص. بل إنها ثقافة قوة الإنسان والثقة بالنفس والقدرة على التغيير ورسم المستقبل. والتغيير يعني ابتكار النظريات، وابتكار التكنولوجيا، وكذا التأثير على البنى الاجتماعية، ومن ثَم التأثير في مختلِف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية … إلخ. وأيضًا التغيير الثقافي لأنه يغير البنية الفكرية ويعيد قراءة الواقع والموروث … إنها بإيجازٍ ثقافة الاستجابة والتحدي في إطار العلم.
إن مشكلة الاندماج في عصر العلم مشكلة ملحة وحادة ومعقدة في جميع بلدان المستعمرات السابقة، أي البلدان التي فقدت زمنًا مناخ وعوامل التضامن الاجتماعي، وتعطلت فيها القدرة على الفعل الاجتماعي الموحد، وهما أساس الانتماء ووحدة الهدف. وباتت ثقافتها تجلِّيًا لمظاهر وأسباب التخلف … صورة العالم ورموزه ونهج التعامل معه من إرث الماضي، وصورة الإنسان الذي طحنته قرون من البؤس الفكري والاجتماعي والاستبداد السياسي وتشوهت ثقافته واختل شعوره بذاتيته، وتُشكِّل هذه جميعها معوقات وجودية ومعرفية تحُول دون التلاؤم مع العصر؛ ذلك أن كل عصر بحاجة إلى قراءة نقدية جديدة، وتأويل جديد، وتطوير إبداعي للتراث، مثلما هو تطوير إبداعي لثقافة جديدة وأدوات جديدة.
وتظل المشكلة من حيث الموضوع، ومن حيث الحلول المقترحة رطانةً وهراءً إذا ما فقد المجتمع القدرة على الفعل الإنتاجي الإبداعي النشط وَفق صورة مشتركة وهدف مشترك للمجتمع، إذ على أي نحو يكون جهدنا في سبيل إعادة تأويل التراث؟ وعلى أي نحو تكون تنشئة جيل المستقبل وتعليمه من حيث المحتوى والمنهج؟ ينبغي أن يكون بحثنا في ضوء مشكلات تفرضها فعالية المجتمع في مجال السياسة مثلًا وشكل الدولة ونظام إدارة المجتمع أو دور الإنسان وإيجابيته … إلخ.
معنى هذا أن قضيتنا الأولى تتمثل في استحداث معادلة تحكم العَلاقة بين طرفين: القديم والجديد. وأقول معادلة وليست مصالحة توفيقية تلفيقية. إنها معادلة يصوغها ويحدد إطارها تفاعل قائم على وعي جديد تتمثل جذوره في العمل الإنتاجي الإبداعي ومنهج علمي في العمل وفي التفكير.
والوصول إلى هذا الهدف يقتضي حشد وتعبئة جهود الأمة الاقتصادية والإعلامية والتعليمية، وتعبئة جهود العلماء والمثقفين أجل دراسة سوسيولوجية أنثروبولوجية لتاريخنا الاجتماعي الثقافي ووضعه في صورة نسقية علمية جديدة، أي عصرية في اتساق مع هدف منشود. وكذا حشد الجهود لتحويل دلالات ومضامين رُوح العصر إلى وقائع وحقائق مجتمعية دون القفز على واقعنا إلى رموز شكلية أو الهرب إلى رموز بالية.
كذلك يقتضي الوصول إلى هذا الهدف إعادة النظر على أساس عقلاني نقدي إلى الرصيد الفكري الذي صاغ به الغرب، ومن قبله الغزاة، إطارنا المعرفي القيمي، أعني ثقافتنا المعيشة. وأيضًا نقد حداثة الغرب والتنوير الغربي في محاولة للوصول إلى رؤية نسقية لتنوير عالمي جديد. لقد كان التنوير تنويرًا أوروبيًّا … أوروبي الجهد والغاية … إنه ابتكار الرجل الأبيض في ظل حضارة الغرب. تحدث عن العالم وكان يعني أوروبا، وعن الإنسان ويعني الرجل الأبيض الأوروبي، فكان عِرقيَّ المضمون استعماريَّ الهدف، ثم إنه كان رهن زمانه ومكانه، أعني رهن شروط وجودية لعصر بذاته. والمطلوب الآن تنوير يرد الاعتبار للإنسان بعامة، أسود أو أبيض أو أصفر، دون اعتبار لعِرق أو دين أو لون، تنوير في ظل حضارة عالمية نريد أن نسهم في إبداعاتها.
ولكن أعود لأقول: الثقافة ثقافتان: ثقافة هي الوجه الآخر المكمل للإبداع الحضاري بحيث يشكل الإبداع المادي والثقافي متلازمة حضارية واحدة؛ وثقافة قومية هي حصاد ومحصلة فعالية اجتماعية على مسرح الجغرافيا تحمل خصوصيات محلية تعبيرًا عن النسق الأيكولوجي والاجتماعي الذي نشأت وتكونت وتطورت فيه، وهي بدورها بؤرة تناقضات وصراعات اجتماعية محلية. وهذه هي الثقافة التي نناهضها وتتنافى مع خصوصيتنا، بينما نعبِّئ جهودنا لإبداع، ولا أقول لاكتساب أو استيراد، الوجه الثقافي الحضارة العصر، أي نابعًا من داخلنا استجابةً لتحولات موضوعية، وثمرةً لتلاقح ثقافي يعبر عن تفاعل متكافئ.
لن نواجه العصر إلا بلغة العصر، أي بفكر عصري، فكر قرين عمل، نقرأ به تاريخنا وواقعنا، ونرسم على هديه مستقبلنا، ونصوغ ثقافتنا … فكر ننمي به وعينا التاريخي، ونفيد به في تفكيك الوعي الأسطوري المهيمن على أذهاننا. وأن نعمِد إلى إحلال الصورة التاريخية محل الصورة اللاتاريخية، أي محل الصورة الأيديولوجية أو الأسطورية.