لنتعلم الإبداع

الإبداع تجدد حضاري

الحياة الإنسانية ليست استطرادًا عفويًّا أو عشوائيًّا شأن الحياة النباتية أو الحيوانية، بل هي فعالية … تجرِبة وخطأ … منبهات واستجابات محمَّلة وعيًا تاريخيًّا وهدفًا مستقبليًّا … إذ تتلقى المنبهات ضمن إطار الوعي، وعلى أساس انتقائي من بين تيار الخبرات، وتجريد يعلو به من مستوى الحياة الخبرية المباشرة إلى مستوى العقل الفعال، الذي هو، من حيث المحتوى، نتاج خبرات التاريخ، ووعي بقوانين حركتها في الواقع ومنطقها داخل الوعي، وبذا لا تكون الاستجابات امتدادًا واحدًا متجانسًا شأن التطور البيولوجي، بل هي بناء قائم على الفهم والتعبير أو التجديد الهادف، والفهم يجري في إطار رصيد الخبرات الفعال المعيش، أي التراث وتصادمه أو تفاعله مع المنبهات الجديدة والمتجددة التي تفرضها الطبيعة والبيئة الاجتماعية التي يخلقها الإنسان وتسهم هي في خلقه.

وسلوك الإنسان هنا إزاء المنبهات الجديدة إما التزام بما ترسَّب لديه من خبرات سابقة باعتبارها المِظلة الواقية التي يأنس لها وينطلق منها وفي حدودها، وإما اقتحام محكوم بقواعد المنطق والعلم … إما أن يفكر انطلاقًا من خبرات سابقة فقط أو انطلاقًا من النافع من حصاد هذه الخبرات في تفاعله مع واقع متجدد وفي إطار السيادة على خبرات الماضي، أعني امتلاك حق تجاوزها. حين نقول اقتحام محكوم بقواعد المنطق والعلم، فذلك لأن الإنسان أو الوجود الإنساني فعالية، وهذه الفعالية نشاط (فكري وعملي معًا) له قوانينه الموضوعية ويجري في ظروف اجتماعية وطبيعية لها قوانينها أيضًا، والوجود الإنساني الاجتماعي، حسب هذا التصور، هو الدينامية التاريخية لهذا النشاط والفعالية. وهذا الوجود الإنساني داخل في إطار الوجود الطبيعي ومتداخل معه، والإنسان إذ يحكمه نشاط القوانين الموضوعية لوجوده إلا أنه، بفضل ما يملك من وعي وعقل، في وضع يؤهله لأن يخلق ظروفًا جديدة لنشاط القوانين، بل وتشكيل وجود جديد له قوانينه الجديدة. إن الفهم والوعي القائم على التفكير لا يتم عشوائيًّا، بل في إطار ما نسميه التفكير العقلاني، أعني وَفقًا لقواعد هي قواعد التفكير العلمي في عصرنا الراهن، ومن ثَم فإن كل جديد يفضي من خلال هذا التفكير إلى رؤية جديدة حاكمة لسلوك الإنسان تصوغ السلوك في إطار جديد، أعني إبداعًا جديدًا، أو نشاطًا تجديديًّا إبداعيًّا. فالإبداع ليس تخيُّلًا أو وهمًا بل تفكير تحكمه قواعد المنطق وصولًا إلى الجديد الذي يغدو مصدرًا لتحولات هادفة يحققها الإنسان، وفي العالم نفسه.

ويمكن في ضوء ما سلف النظر إلى المجتمعات في تاريخ تطورها من زاوية «النشاط التجديدي»: متى يتوفر هذا النشاط؟ ومتى ينعدم؟ وفي أي ظروف؟ وما مظاهر ذلك تعبيرًا عن التجديد الحضاري وحيوية المجتمع وقدرته على أن يجدد ويطور ذاته. ثم إنه معيار القدرة على العطاء والثقة بالنفس في التفاعل الحر.

والإبداع نفي لإطار تقييدي، وتمرد على نهج تقليدي وصولًا إلى نهج جديد في تناول ظواهر الواقع الذي تأزم وجمدت حركته أو فقد خصوبته فلم يعد يلد جديدًا من خلال إنسان خضع للتقليد، وبهذا يكون الإبداع، كلٌّ في مجال تخصصه، إيمانًا بالتغيير وبالتجديد أبدًا، وقدرةً على الطرح الصحيح للمشكلات الأساسية، والتماسًا للحلول الصحيحة من بين الواقع المتنافر. إنه خروج على النص وقدرة على التحرر من قيده، والتماس حل وصياغة إطار جديد، وبذا يكون الإبداع أداةَ تكامل مع المجتمع وارتقاءً به واندماجًا فيه، وبناءً له، وغرسًا لقيم جديدة. ودون ذلك الانسحاب إلى خارج ساحة التاريخ. ومن هنا يَبين خطأ وخطل الظن أن ثمة مشكلة اسمها أصالة ومعاصرة، وكأنها لب أزمتنا، وهي في الحقيقة مشكلة زائفة تقوم على تصور للذات والآخر باعتبارهما جوهرين خالدين أبديين على صورة واحدة وعدم الاعتراف بالتاريخ، وإن كانت ثمة مشكلة فهي مشكلة الإبداع أو التغيير الإبداعي. المجتمع المفعم بزخم النشاط التجديدي، وإن عصور الازدهار الحضاري هي تلك التي يبلغ فيها هذا الزخم ذروته.

لقد بات هذا النشاط ضرورة من أجل النهضة وأن يشمل التغيير كل مجالات حياتنا الاجتماعية والعملية. والملاحظ أن النشاط الإبداعي يتسع نطاقه إبان الثورات في مجال إنجاز الأعمال والارتقاء بأساليبها والتحولات الجذرية في النسق الاجتماعي والعلم والثقافة، وهذا ما نلحظه في عصرنا الراهن، ولكن في مجتمعات غير مجتمعاتنا، حيث نشهد تحولًا جذريًّا في جميع مجالات النشاط الحيوي للبشرية، إذ نلحظ انفجارًا في النشاط الإبداعي الذي يكاد يكون عامًّا وسمة للعصر ويوصف بأنه النشاط الإبداعي الواسع النطاق Mass Scope of Innovative Activity وأضحى نجاح أو فشل الأفراد والمؤسسات والمجتمعات رهنًا بقدرتها على خلق إبداعات وتجديدات متباينة، مثلما هو رهن بقدرتها على تقبل هذه الإبداعات والإسهام فيها.

فالمؤسسات الاجتماعية: صناعية أو ثقافية أو سياسية أو فنية، بحاجة إلى أفكار إبداعية، وكذلك الأمم. والإبداع في هذه المجالات جميعها هو إبداع علمي، بمعنى أنه نتاج بيئة مُشرَبة بالعقلانية … بيئة تحتكم إلى قوانين العقل، وترتكز في نظرتها إلى العالم على الفهم والمعرفة العلمية، وإيمان بجلال قيمة الإنسان العام، وسعيٍ دائب إلى التغيير في حركة ارتقائية صاعدة … تغيير عناصر المعادلة الموروثة في تجاوب مع التغيير الارتقائي للواقع المتجدد، وتغيير في الإطار الفكري الذي تعمل من خلاله. إذ لم تعد مهمة الإنسان الآن قاصرة على فهم العالم أو فك طلاسمه، بل تغيير مطرد أبدًا للعالم وتجاوز للذات.

والتغيير هنا ليس تكنولوجيا جديدة فقط بل بنية اجتماعية وسياسية ترسم مصير المجتمع والمجتمعات البشرية، وهو ثقافة أيضًا لأنه يغير البنية الفكرية ويعيد قراءة الواقع الحديث، ويضفي قيمًا جديدة، ويحدد أساليب جديدة في فهم الواقع والتعامل معه. ولهذا يقال إن التغيير هو الإبداع، أو لنقُل: تغيير إبداعي، وهو قصب السبق وفرس الرِّهان بين المجتمعات والمؤسسات، بحيث إن مستقبل المجتمعات رهن بالاكتشافات والتجديدات الإبداعية، وأسلوبها في تناول مشكلاتها، وتوظيف كل هذا لإعادة بناء نفسها.

ولكن الإبداع رهن بطبيعة ثقافة المجتمع والإطار المؤسسي للمجتمع الذي هو جزء من الثقافة التقليدية التي تحدد نهج التنشئة وقيم التعليم ومصارف طاقة الإنسان ونطاقها، والإبداع حصاد هذا كله، وقوة مؤثرة عليه وأداة لتغييره في آنٍ واحد.

معنى الإبداع

بداية: نحن ننظر إلى الإبداع في إطار فكري تاريخي مغاير تمامًا لإطار تعريفه القاموسي التقليدي في قواميس اللغة العربية؛ إذ يعني الإبداع والابتداع لغةً: إيجاد شيء غير مسبوق بمادة ولا زمان، ويعني ما يطرأ عليه وجود على غير مثال سابق. ومثل هذا التعريف ينطوي على معنى الخلق من عدم، ونفي لأي وجود سابق عليه، أو نفي لتاريخية الإبداع، بل ونفي لارتكازه على منطق الفكر وإنجازات العلم. ومثل هذا المعنى غير وارد في الإطار الفكري لتعريف الإبداع الآن.
ثانيًا: ننزع إلى الظن بأن الإبداع موهبة فردية، وملَكة فطرية، وقسمةٌ سواءٌ بين أصحابها الذين هم صفوة نادرة، ثم إن الإبداع مقطوع الصلة بظروف التعليم والتنشئة، ونحن نكاد نقصر هذه الملَكة على الأدب والفن، ولعل هذا بحكم طبيعة ثقافتنا الاجتماعية التقليدية، وهي ثقافة كلمة، وترى اللغة المجال الأول بامتياز للتعبير والتجديد، ثم بعض الفنون التجريدية الأخرى دون ظواهر الواقع التي هي مجال البحث العلمي، وبعض الفنون التشكيلية.
إن الفارق بين الإبداع العلمي والإبداع الفني فارق من حيث المجال لا من حيث آلية الإبداع والخصائص الفعلية لهذه الآلية، إذ يرى كثيرون أن عملية الإبداع الفني تشبه إلى حدٍّ كبير عملية الكشف العلمي، كلتاهما تجريان في مستويات عميقة من الوعي حيث يتم التفاعل بين إطارات نفسية مستقلة في لحظة يكون فيها الذهن على أعتاب الوعي واللاوعي، ويذهب الدارسون لعملية الإبداع إلى أن خبرات الحياة يسجلها الذهن في صورة أبنية ذات مستويات أو أطر أو مخططات Schema، وتحمل معها شحناتها العاطفية الملازمة لها واللصيقة بالأنا، ويتلقى المرء المنبهات أو المعلومات الواردة من الخارج، ويحاول أن يُشكلها أو يلائمها مع أطر الخبرات السابقة. وقد يحدث أن تتعذر ملاءمة الوافد الجديد من المنبهات مع الأطر القائمة أو السائدة من المعارف والأفكار، ومع الإطار النفسي الممثل لسلسلة الخبرات النفسية وطبائع الشخصية الإنسانية من مرونة أو ثبات وجمود.

وهنا حيث تتعذر الملاءمة، وتستعصي محاولات دمجها قسرًا في الإطار، تحدث أزمة لها مظاهرها النفسية والفكرية، ويكون حسم الأزمة بتجاوز الإطار التقليدي إلى إطار جديد. معنى هذا أن عملية الإبداع تجري في سياق صراع أو تناقض بين إطار وآخر، ونفي أحدهما للآخر.

والنفي هنا نفي جدلي بمعنى أنه قائم على عَلاقة تفاعل وأخذ وعطاء بين الإطارين، وإبراز حقائق وعَلاقات جديدة بين الأشياء، وهذا يأتي من خلال مرونة الاتصال، وسماحة التفاعل والتداخل بين الأطر، فلا تكون ذات جدر صماء، أي إن التجديد هو النقيض التام للجمود الفكري والعقائدي. ويحدث هذا التفاعل في حالة البحث عن وسائل الإبداع الفني والعلمي … تفاعل بين الحقائق المنظومة داخل إطارين أو أكثر من أطر المعرفة والتجرِبة الإنسانية، ويفضي إلى إطار جديد له تأثيره على مجالات المعرفة والخبرات الإنسانية.

وقد تزايد الاهتمام بفهم فعل الإبداع ذاته والعمليات التي يرتكز عليها، والسمات المميزة للمبدعين، وبيان سبل تغذية الإبداع والاستزادة منه، خاصة مع غلبة الاعتقاد بأن الإبداع يرتكز على أساس واحد في مجال العلوم والفنون، مما يعني أن هناك معاييرَ لتقدير الدرجة الإبداعية في الناس والمنتج الإبداعي، وهو ما يعني وضع تعريف إجرائي لمعنى الإبداع.

وإزاء تباين التعريفات واختلاف زوايا النظر، وتعذر الإجماع على معنى الإبداع اتجهت الأنظار إلى تعريف الإبداع في ضوء نتاج عملية الإبداع وعلى هدي عملية الإبداع ذاتها. لهذا يشار إلى المنتج على أنه هو مدلول الإبداع. ولكن يبقى سؤال: من الذي يحكم على أن هذا العمل إبداع أم لا؟ خاصة وأن أحداث التاريخ شاهدة على أن كثيرًا من الأعمال الإبداعية لم يعترف بها أهل زمانها واستنكروها وظلت سابقة لعصرها.

وحاول علماء عديدون التوصل إلى عناصر مشتركة لتعريف الإبداع بحيث تحظى بأكبر قدر من القبول. ونذكر من هؤلاء عالم النفس الاجتماعي إيرفنج تايلور Irving Taylor الذي قام بتحليل أكثر من مائة تعريف بمعنى الإبداع، ووجد فيها شواهد على وجود خمسة مستويات للإبداع (١٩٥٩م)، وقال إنها تختلف فيما بينها من حيث العمق والنطاق أكثر مما تختلف من حيث الطراز، ورأى أننا نخطئ إذ نمايز بين إبداع علمي وآخر فني نظرًا لأن الإبداع ينطوي أساسًا على نهج أو أسلوب في تناول المشكلات، والذي يختلف أساسًا عن التدريب التقليدي أو النهج المعتاد.

وانتهى تايلور إلى أن الإبداع خمسة أنواع:

  • (١)
    إبداع تعبيري Expressive Creativity ويتمثل في الرسوم التلقائية للأطفال، وهو أكثر أساسية وضرورة. وهو تعبير مستقل دون اهتمام بالمهارات والتقنيات ونوعية المنتج.
  • (٢)
    إبداع إنتاجي Productive حيث يوجد ميل للتغيير أو اللعب المفيد لحساب التكنيك، وهو أكثر واقعية، ويعبر عن الوقائع بصدق أكثر.
  • (٣)
    إبداع ابتكاري Inventive Creativity يتميز بالمرونة في إدراك عَلاقات جديدة غير مألوفة بين أجزاء منفصلة عن بعضها ولكنها موجودة في الواقع.
  • (٤)
    إبداع تجديدي Innovative ونجده عند قلة من الناس، وينطوي على تعديل هام للقواعد الأساسية أو المبادئ الأساسية لمجال بأكمله في العلم أو الفن.
  • (٥)
    إبداع طارئ ليس على مثال Emergentive وهو إبداع غير مسبوق حيث يظهر على نحو غير مسبوق. مبدأ جديد كلَّ الجدة أو رؤية أو تصور، ويظهر على مستوًى أساسي أو تجريدي. نرى صورة الإنسان على سبيل المثال يبدعها الفنان في شكل تجريدي جديد، ولكنها تلتزم ببعض الصفات البشرية وإن تمايزت جذريًّا عن الفن التمثيلي Representative.

وفي جميع الأحوال لا يكون الإبداع مقطوع الصلة بالواقع، بل هو امتداد وانفعال، وتجاوز لأزمة وإطار إلى إطار جديد يمثل حلًّا للأزمة وارتقاءً بالوضع. ولهذا نجد المبدع له مدرسته الجديدة التي تُقدم بإبداعها العلمي أو الفني أسلوبًا جديدًا في تناول الظواهر انطلاقًا من إطار فكري ونفسي. ومن هنا عُني الباحثون بدراسة عدد من المسائل المتعلقة بالعملية الإبداعية، منها: دوافع الإبداع، وخصائص العملية الإبداعية، والسمات المميزة للشخص المبدع، وأيضًا العَلاقة بين الفانتازيا والإبداع، ومراحل العملية الإبداعية، ودور التنشئة والتعليم في تفتح وازدهار القدرات الإبداعية.

دوافع الإبداع

ثمة تفسيرات عديدة لفكرة الحافز في الإبداع، إذ نجد أصحاب التحليل النفسي، على سبيل المثال، يختزلون حوافز الإبداع إلى أسباب ذاتية خالصة، مثل: تحقيق الذات، والشعور بعدم الرضا، ومحاولة الهرب من روتين الواقع، والإعلاء من قيمة موضوعات تقوم بدور تعويضي. وهناك من يقسم دوافع الإبداع إلى ثلاثة عناصر ولكنها متكاملة:

  • (١)

    دوافع خارجية وأهداف عملية مثل الثواب المادي والحوافز الخارجية.

  • (٢)

    دوافع تتعلق بالعمل الإبداعي ذاته، أي النشاط المصاحب للعملية الإبداعية.

  • (٣)

    الدوافع الشخصية، وتنقسم إلى:

    • (أ)

      دوافع عامة: الحماس والنشاط في تحقيق الأهداف الشخصية – الانفعال بالأشياء – الانجذاب لما هو غامض أو مركب.

    • (ب)

      الحاجة إلى التحرر من الأفكار الشائعة، والإحساس بالاستقلالية، أو التخلص من الأفكار التقليدية بعد أن فقدت رونقها أو فعاليتها على الرغم من نظرة الآخرين إليها باعتبارها حقائق ثابتة. وهذا الدافع رهن شعور الثقة بالنفس، والاستعداد لقبول التحدي ومواجهة المواقف الغامضة، والشك فيما هو موضع إيمان راسخ.

    • (جـ)

      توجيه الأفكار نحو تقديم حلول جديدة مبتكرة، أي لوجود حاجة لتقديم مساهمة مبتكرة قيمة … تقديم صياغة خلَّاقة إبداعية لما يحس به من مشكلات، وهو ما يتأتى من خلال معايشة المجتمع ومشكلاته. ويتضح هنا خطأ القول للنشء دعوكم من مشكلات مجتمعكم واتركوها للكبار.

    • (د)

      الإحساس بالمسئولية الاجتماعية؛ إذ إن المبدع يعايش أو يعاني مع المجتمع، ويستشعر مسئوليةً إزاء حل المشكلة، لهذا لا بد من توفر دافع للاتصال بالآخرين والتفتح على الخبرات الجديدة، وأن يوجه إبداعاته وَفق منظور اجتماعي أشمل يساعده على تعبئة طاقته نحو إبداع أعمال ووسائل أو مكتشفات جديدة تساعد على التقدم بحياة الناس.

صفات المبدع

المبدع فرد لا يختلف في طبيعته ونوعيته عن الآخرين، بل يختلف من حيث مقدار الخصائص والقدرات الدالة على الابتكار والتجديد، بمعنى أن بالإمكان توجيهَ عملية التنشئة الاجتماعية لزيادة مقدار هذه الخصائص وتنشيطها، وليس لإلغاء الفروق الفردية فيما يتعلق بانتظام الوظائف العقلية المختلفة وقدرات الابتكار والتجديد على نحو ما نجد عند نماذج تاريخية مثل بيتهوفن وابن سينا وأينشتين.

ويرى بعض الباحثين أن الإبداع قدرة عقلية عامة تهيئ الشخص للبحث عن الجديد وإنتاجه، وأن الشخصية المبدعة تتصف بصفات عديدة بعضها تعليمي وبعضها انفعالي. ومن هذه الصفات:

  • (١)
    الطلاقة: وهي طلاقة فكرية Ideational Fluency، أي القدرة على إنتاج أكبر قدر ممكن من الأفكار عن موضوع معين في وَحدة زمنية ثابتة. ويتصف المبدع بالقدرة على إدراك أفكار عديدة عند الاستجابة لموقف واحد، وهذه هي الطلاقة الترابطية Associational وتعني القدرة على ربط أو اكتشاف الرابطة بين أكبر عدد من عناصر الظواهر في محيط إدراكه. وغني عن البيان أن هذا كله يرتكز على اتساع رصيد المعارف وتنوعها وشمولها، بمعنى أن الذات المبدعة تتصف بالموسوعية في تخصصها وفي المعارف ذات الصلة وقضايا وأفكار العصر.
  • (٢)

    الفضول المعرفي، والأمانة الفكرية، وقبول المسئولية لأداء عمليةٍ ما، وتحمُّل نتائجها، والدقة الموضوعية.

  • (٣)

    المرونة الفكرية، أي القدرة على تغيير الحالة الذهنية والأفكار كلما تغير الموقف، أي الاستعداد لهجر قنوات ومسارات وأطر قديمة واتخاذ وِجهات جديدة على أساس عقلاني منطقي. والمرونة هنا عكس التصلب الذهني والجمود الفكري أو العقائدي الذي هو صفة أصحاب الأفكار الثابتة الذين يصرون على مواجهة الحياة من زاوية محددة مهما تنوعت المواقف، ولهذا فإن من صفات الشخصية المبدعة سماحةَ الفكر والتفتحَ العقلي والاستعدادَ لتقبُّل أي موضوع بروح حيادية قدر المستطاع مع عشق للجِدَّة.

  • (٤)

    الأصالة: وتعني القدرة على إنتاج الحلول الجديدة والطريفة؛ إذ لا يكرر المبدع أفكار الآخرين، بل نراه نزَّاعًا إلى التجديد ورؤية الأشياء رؤية جديدة من إطار جديد، فيكشف عن جوانب غير منظورة سابقة. ومن ثَم القدرة على اكتشاف عَلاقات بين الأشياء والظواهر وخلق نظام جديد من العَلاقات بين الأشياء وبعضها البعض، وترتيب عناصر غير مترابطة في السابق وإعادة ترتيبها في صياغة جديدة. ولهذا نراه يكثر من التساؤلات التي يطرقها عندما يتصدى لحل مشكلة ما أو مناقشة مواقف إشكالية.

  • (٥)

    الإيمان العميق بعَلاقة العلة والمعلول، وبأن هناك أسبابًا ومسبَّبات لكل شيء يبحث عنه، والاستعداد للتفكير على نحو نسقي منطقي، مع المرونة والثبات والحسم عند المواجهة، ورفض النتائج المباشرة غير الناضجة، وأيضًا رفض التحديد القاطع الذي يسد الطريق أمام مواصلة البحث والتجديد.

  • (٦)

    الصبر والدأب والمثابرة مع رغبة باطنية لنيل اعتراف وتقدير مجتمعه المتخصص أو العام، وتحقيق ذاته لا عن طريق التوافق بل التمايز والتميز. ومن هذه الصفات أيضًا القدرة على التفكير العميق في ما يراه لغزًا محيرًا، والقدرة على التركيز، ويتحلى بالشجاعة والاستعداد للدخول في صراع مع الخصوم الفكريين، حتى وإن كانوا من أقرب الأصدقاء، وإسقاط أفكارهم، والجرأة في تصور الفكرة وتبنِّيها.

  • (٧)

    التوتر والاستعداد للتعبير عن حياته الانفعالية، بل لا يملك إلا أن يعبر عنها، ومعاناة القلق إزاء كل ما يحد من الانطلاق على سجيته. ولهذا يضيق بالقيود وبالمناخ غير الحافز وغير المواتي للانطلاق بفكره وعمله. ويكون نزَّاعًا إلى الحرية والتحرر في إعادة صوغ خبراته، وله اهتمامات فكرية وجمالية تزيد عن المألوف.

  • (٨)

    الاستعداد لأن يكون له أسلوب إدراك جديد تلقائي شبيه بالأطفال، كأن كل شيء يبدو له جديدًا مبهجًا لافتًا للنظر، ولهذا يتجاوز أو يضيق بالنمطية عند النظر إلى الواقع، راغبًا في أن يولد من جديد كل يوم.

  • (٩)

    الميل إلى الدعابة والفكاهة والظرف. والملاحظ أن الأطفال الذين يغلب عليهم الميل إلى «سلوك اللعب» يكشفون عن مرونة، وأصالة أكثر، ولديهم حصيلة أكبر من الأفكار المتنوعة لا النمطية.

الإبداع والفانتازيا

تعددت النظريات والآراء التي عُنيت بتفسير الفانتازيا في ضوء النتائج التي تتحقق على أساسها، وإن اتجهت جميعها إلى أن الفانتازيا قوة أو قدرة أو وظيفة تعطي شيئًا جديدًا تمامًا، أي صورًا وأفكارًا جديدة … إلخ. وهناك مدارس تحاول تفسير الفانتازيا من زاوية الأهداف: القدرة على تجسيد ما ليس موجودًا، بل وربما ما لا يمكن أن يكون موجودًا، أو القدرة على تصوير أو تمثيل شيء وكأنه موجود على الرغم من غيابه.

ويرى البعض أن الفانتازيا نشاط نفسي يخلق ما لا وجود له، ومن ثَم يكون معارضًا للواقع. وهذا تعريف يتسق مع المفهوم القديم القائل إن الفانتازيا تهويم وتحليق بالخيال بعيدًا عن الواقع في عالم الأحلام والرؤى، وبناء تصورات في الخيال من نسج الأوهام. ولا تزال هذه الصورة قائمة حتى الآن لدى البعض، حيث يقول فريزر J. M. Fraser: إن الهرب إلى عالم أحلام اليقظة يشبع فينا ما تحرمنا منه حياتنا العادية، أي إن الهدف هو خلق شيء جديد في عَلاقات جديدة ونظام جديد مرغوب فيه ويتجاوز الواقع. ونذكر من بين التعريفات: «الخيال أو الفانتازيا حالة من الوعي تشبه المدركات الحسية وإن كانت لا تتطابق مع منبهات فعالة.»

ولكن الصور الخيالية أو الفانتازيا تعتمد على الواقع، حيث إننا نستمد معارفنا ومدركاتنا من العالم الموضوعي حولنا. وتتبدى عَلاقة منتجات الفانتازيا بالواقع في النظريات التي ترُدُّ هذه العملية إلى المحاكاة، سواء محاكاة الواقع الخارجي أم محاكاة محتوى العالم الباطن وما يفيض به من خيالات نابعة من اللاشعور. بَيد أن القول بالمحاكاة هو نفي لفكرة الخلق الممكن لشيء جديد أساسًا.

ويرى البعض أن صور الفانتازيا هي إعادة تركيب Recombination لمدركات أو انطباعات، وقد تتم عملية إعادة التركيب على أساس اختيار غير واعٍ، وإسقاط عناصر وإضافة غيرها، ولكنها جميعَها لها ما يماثلها في الواقع.

ومن تعريفات الإبداع التي تربط بين الإبداع والفانتازيا أو حاجة الإبداع إلى الخيال: «الإبداع ربط المدركات الحسية على نحو جديد.» أو «القدرة على إيجاد روابط جديدة والكشف عن عَلاقات جديدة … إلخ.» أو «الإبانة عن تكوين جديد.» أو «الاستعداد للتجديد والاعتراف بالتجديدات.» أو «نشاط للعقل ينتج استبصارات جديدة.» أو «صوغ الخبرات في تنظيمات وأبنية جديدة.» أو الإبداع هو «نشاط إنساني هادف موضوعه خلق قيم مادية ورُوحية جديدة ذات دلالة وأهمية اجتماعية، ويشتمل الإبداع دائمًا على عناصر جديدة ومثيرة.» و«الإبداع تفتح كامل للمعرفة والفعل والإرادة.»

ويذهب بعض العلماء، ومنهم جيلفورد Guilford إلى أن المعاني المختلفة لمفهوم الإبداع تشتمل على مفهوم «مشكلة»، أي وجود مشكلة تمثل عائقًا للحركة وتثير توترًا وحافزًا للتغيير أو البحث عن الحل. وتشتمل على مفهوم الميل أو الوضع والنزوع الذي يحدد اتجاه الحركة والمخطط أو الإطار Schema للتفكير، وكذلك المحاولة والخطأ والاستبصار والنموذج المنشود.

العملية الإبداعية

في محاولة للكشف عن القوانين الباطنية للفانتازيا والعملية الإبداعية أُجريت تجارِب لدراسة الأنماط المختلفة للنشاط الإنتاجي Productive Activity مثل محاولات حل مشكلات غير قابلة للحل، وتنظيم الكلمات في مجموعات، أو الاختبارات المفتوحة مثل: ابتكار أكبر عدد ممكن من الرسوم التي يمكن تشكيلها من دائرة أو من أي شكل أساسي آخر، أو تكوين جمل مع استخدام كلمات معينة، أو اختصار نص بعد القراءة.
وأتاحت هذه التجارِب إثبات عدد من الوقائع المميزة التي أمكن على هديها وصف وتحديد مفاهيم معينة، مثل: الحل الوهمي Illusory Solution، وحذف القسَمات المقيِّدة Omission of limiting Features، وتوسيع العَلاقة، وقلب العَلاقة أو تشويشها والتزام جزئي بالعَلاقة المرسومة، وحل توفيقي، وإيجاد عناصر غريبة في المجموعات الأساسية والمجموعات الفرعية، وتكوين مجموعات شاذة … إلخ، وحذف عناصر لحساب التأكيد على عناصر أخرى، وغير ذلك من مفاهيم تصف آلية العملية.
وخلصت هذه الدراسات التحليلية إلى أن هذه العمليات ترتكز على مفهومين اثنين للتفسير هما:
  • التهوين Anaxiomatization
  • التهويل Hyperaxiomatization

ويشير هذان المفهومان إلى ميكانيزمين باطنيين أساسيين يشكلان محور آلية عملية الفانتازيا الإبداعية: ويتميز الميكانيزم الأول (التهوين) بعدم وجود توجه محدد مسبقًا يقلل من قيمة هذه المعلومات أو تلك، أو هذا النمط أو ذاك من أنماط النشاط العقلي، أي نبدأ عملية الحذف والإسقاط دون نية مسبقة. ويفضي الميكانيزم الثاني (التهويل) إلى تقييمٍ زائد للطريقة الناجحة من وجهة نظر الذات، في إنجاز النشاط، مع تقييم زائد أو مبالغ فيه لهذه المعلومات أو تلك. وتكشف الحالتان عن تحول في تقييم حقائق نفسية معينة وفي المعلومات الواردة، بمعنى أن هذين الميكانيزمين يشملان الإطار النفسي الذي يربط تاريخ الشخصية في رباط بنيوي نفسي واحد، والإطار المعرفي أيضًا. وهذان الميكانيزمان متداخلان ومرتبطان ببعضهما في تلازم وثيق بحيث يُقال إنهما تعبير عن قانون عامٍّ أكثر عمقًا.

وتشتمل العملية الإبداعية على أربع مراحل أو أطوار:

  • (١)

    طور التهيؤ أو الإعداد، وقوامه الوعي بوجود مشكلة، كما تنطوي على جمع المعلومات ذات الصلة.

  • (٢)
    طور الحضانة Incubation ويتضمن فترة انتظار وترقب، حيث المشكلة كامنة ولكنها فاعلة في ذات الوقت، أي حية تنضج فيما يوصف بتحت الشعور، إلى أن يحدث الإشراق.
  • (٣)
    طور الإشراق Illumination أو انبثاق استبصار حل المشكلة.
  • (٤)
    طور التحقق Verification حيث تمتلئ جميع الخانات الفارغة وتكتمل الصور بزوال العقبات، علاوة على عملية مراجعة.

ومن المتفق عليه أن العقل غير الواعي يقوم بدور هام خلال طور الحضانة وقبل الوصول إلى الاستبصار الإبداعي؛ ولذا يكون مفيدًا استخدام الوسائل التي تيسر العمليات اللاشعورية بهدف تحرير المرء من عوامل الإعاقة والكف للتفكير الطليق، مع الحيلولة دون إصدار أحكام سابقة لأوانها، أي التريث وعدم تعجل النتائج. وتفيد هذه الوسائل أيضًا في إطلاق الخيال الخِصب الواسع القائم على تفكير منطقي. وتقتضي العملية الإبداعية التخلص، بدايةً، من الأفكار الخاطئة، باعتبار هذا شرطًا أوليًّا لخلق أفكار جديدة، لأن عملية التخلص لا تأتي تالية كنتيجة للعملية الإبداعية، بل هي شرط أوليٌّ ومسبق. ويدخل هذا ضمن ميكانيزم التهوين. ويوسع بعض الباحثين من نطاق ما يتعين رفضه بحيث يشتمل على الخبرة الماضية، بل والمباشرة، علاوة على التفاصيل التي ليست لها صلة وثيقة. وفي هذا الصدد يقول أحد العلماء: إننا لكي نفي بالمهام المطلوبة يتعين علينا أن نفصل أنفسنا عن الماضي الذي اكتسبنا فيه عادات تلقائية ومعارف ذات صفة مميزة. غير أن محاولة التخلص من أسر الماضي تفضي إلى حالة معاناة قد تشتد لتسبق حالة المخاض أو ولادة جديدة.

إن المفكر المبدع لا بد له وأن يفصل نفسه تمامًا، أو على نحو شبه تام، عن كل ما تفرضه عليه أي وقائع غريبة تحد من انطلاق فكره إلى زوايا متعددة ومتباينة، تمامًا مثلما يتحرر المرء من أسر استظهار النص ليكون له أسلوبه وفكره، وإن أفاد مما سبق تحصيله. وهذا شبيه بقولنا: إن الثقافة الأصلية ليست ما نحفظه عن ظهر قلب بل ما ترسب في الذهن بعد القراءة متفاعلًا في دينامية مع الواقع الجديد، وهذا هو الدور الإيجابي لعملية رفض المعلومات، أو الموقف النقدي من الخبرة الماضية بعامة.

إن الاهتمام والتجريد والتفكير الهادف، كل هذا يعني إسقاط جميع التفاصيل والمعلومات غير وثيقة الصلة بالموضوع المحدد، ومن هنا تصبح آلية الحذف في العملية الإبداعية معادلة في قيمتها لآلية اكتساب الجديد.

التنشئة الاجتماعية والإبداع

الإبداع نشاط تجديدي محوره الجِدة التي قد تكون فكرة، أو قيمة جديدة، أو منتجًا جديدًا، أو تكنولوجيا، أو هيكلًا تنظيميًّا جديدًا. وينطوي الإبداع على إمكانات مستقبلية هي جماع التحولات التي يمكن أن تتحقق وفاءً بمطلب أو حاجة اجتماعية، ولكن هذه الإمكانات رهن القدرة على التواؤم ثقافيًّا واجتماعيًّا وتنظيميًّا، وقد تكون هذه الإمكانات عناصر تستهدف التحسين، وقد تكون عناصر أساسية تمثل فتحًا وتحوُّلًا جذريًّا في مجال النشاط المعنِي يعقبه خلق أنماط جديدة من النشاط. ولهذا هناك من يرى التجديد الإبداعي ظاهرة عملية، أي أنه ممارسة أو قرين الممارسة، أو لنقُل إن الممارسة هي مجلى الإبداع، ومن ثَم يبدو واضحًا في المجتمعات التي تتسم بكثافة العمل. وكل إبداع أو تجديد مآله إلى التجسد في نشاط إنتاجي أو ممارسة عملية.

ونجاح التجديد يعتمد كثيرًا على تاريخه النشوئي التكويني الثقافي Cultural Genesis، إذ قد ينشأ تأسيسًا على إنجازات ثقافية للشعب أو المجتمع المعنِي، وقد يأتي اقتباسًا من ثقافة مغايرة. وهذا التجديد الوافد يكون قبوله أو انتشاره أشد عسرًا، ولكنه في جميع الأحوال وليد احتكاك ينطوي على تحدٍّ بين إطارين ثقافيين. والملاحظ أن المجتمع المجدِّد مرن في قبوله واقتباسه للجديد على عكس التقليدي المتزمت.

والعامل الأساسي في نجاح الإبداعات يتمثل في نوعية النشاط الإبداعي للمساهمين فيه مباشرة. وهذا العامل الإنساني للإبداعات يشتمل على بنية المصالح والاهتمامات والحوافز والدوافع في مجتمع معين تجاه العمل بعامة، والنشاط الإبداعي بخاصة. وكذا القابلية للإبداع والتجديد، وهي قابلية تختلف بوضوح بين الأفراد والتنظيمات والثقافات، ويشتمل العامل الإنساني للإبداعات على بنية وهيكل المعارف العامة والخاصة السائدة من حيث منهجها وأطرها ومستواها، كما يشتمل على مهارات العمل لدى السكان، ويتأثر كذلك ببنية القيم والمعايير التي هي عناصر البنية الثقافية في المجتمع.

وفي ضوء الحديث عن صفات الشخصية المبدعة يبدو واضحًا أن عوامل التنشئة الاجتماعية، وأهمها عاملا الثقافة الاجتماعية والتعليم في المدرسة، لها دور محوري لا من أجل خلق القدرة الإبداعية، بل العمل على ازدهارها واتساع نطاقها وتعزيز الحافز إليها وإزالة أسباب إعاقتها أو طمسها. ولذلك فإن مشكلة تهيئة الشروط المشجعة والحافزة للقوة الإبداعية اكتسبت أهمية عملية كبرى زادت زيادة حادة مع ظروف عصر ما بعد التصنيع.

ومن العوامل الداعمة للقدرة الإبداعية: الاعتماد على النفس، والثقة بالنفس، والاستقلالية وعدم الاتباعية Non Conformism وهذه وليدة عديد من العوامل التربوية والتعليمية؛ لذا عُني الباحثون بتحديد إجراءاتٍ وتدابيرَ للتدرُّب تستهدف غرس قدرات إبداعية لمن لديهم استعداد لذلك.
وبات واضحًا أن توجه الإبداع وطابعه تحددهما مقدمًا عوامل نفسية مثل الحوافز والخصائص الفردية المميزة للشخص، وأن حوافز السلوك تتشكل وتتطور تحت تأثير ظروف اجتماعية. مثال ذلك: الاتساق أو الامتثال السلوكي Behavioral Conformity الذي له دور سلبي في الإبداع هو نتاج ظروف تنشئة اجتماعية، ومثل هذا السلوك هو نتيجة أو محصلة كلٍّ من خصائص الفرد والعَلاقات القائمة بين الأشخاص وخصوصيات الوسط الاجتماعي.

والحديث عن التنشئة الاجتماعية يعني بيان الظروف والشروط الثقافية والتربوية والتعليمية التي يعيش فيها الطفل، ومن ثَم تؤثر على سلوكه وتحدد اتجاهاتِه وقيَمَه في إطار تنمية أو إحباط القدرات الإبداعية. مثال ذلك: الكشف عن طبيعة ودور المناخ الأسري والاتجاهات الوالدية في تنشئة الطفل، والقيم الاجتماعية السائدة في العَلاقات الأسرية وأساليب التنشئة، هل تعتمد على التقريع والتأنيب أم الإيحاء والتعليم؟ وهل تحبذ سلوك الطاعة والانصياع أم حرية التعبير وتنمية الاستقلالية؟ وما موقفها من المرء طفلًا في البيت، وإنسانًا مواطنًا في المجتمع إذا ما تجرأ وخرج على النمطية وأتى بجديد غير مألوف؟ إذ ثمة بيئة تَكبِت وأخرى تهيئ عوامل الحفز.

والمعروف أن الطفل الذي ينشد الرضى والقبول من أنداده ويرى في رضاهم علامة الصواب، ويعطي الأولوية لرضى الناس عنه إنما يفتقد الأصالة. ومثل هذا الطفل هو وليد وسط اجتماعي يعتمد في التربية أسلوب القسر والتطويع والتسلط، ويسود هذا الوسط أسلوب القطيع وشمولية الفكر والسلطة، كما تسود فيه آلية تقمص اتجاه السلطة أو التوحد مع قيم السلطان على نحو يرسخ الازدواجية والنفاق، وكلاهما مدمر للقدرة الإبداعية.

وتمثل السلطة هنا المثل الأعلى، والقوة المرهوبة الجانب لها الكلمة العليا. وقد تكون هذه السلطة هي تراث الماضي أو الحاكم أو الوالدين، أو الجميع معًا. وتغرس هذه البيئة رُوح فقدان الثقة مقرونة بالتعصب، وتقتل رُوح المبادأة، وتقضي على الشعور بالمسئولية وتعزز التواكلية، والسطحية، والضآلة، والضحالة، وتسود معها قيم أخلاقية تحبذ السير مع التيار، والخوف من الاكتشاف والإبداع، والاحتماء بالتقليد، والابتعاد عن النقد والتجديد، ثم إيثار الانسحاب إلى داخل التراث حيث لا يعني المرءَ سوى ذاته ومشكلاته الآنيَّة.

هذا بينما نشأة المرء في بيئة متسامحة يساعد على إطلاق الطاقات الإبداعية الخلاقة، والجرأة على اكتشاف الحلول الجديدة حتى وإن تمايزت عن المألوف أو ناهضته، وتحفز على النقد الذي هو بداية التخلص من الأخطاء والثورة عليها، والتحول إلى الجديد، وتجلي الذاتية في أصالتها.

ومن الأهمية بمكان عند دراسة العَلاقة بين بيئة التنشئة الاجتماعية والإبداع معرفة إلى أي حدٍّ تتصف هذه البيئة بثراء المنبهات المتنوعة، ومدى اتساع نطاق هذه المنبهات على المستويين المحلي والقومي والعالمي، بمعنى هل تتسع البيئة وتزخر بمنبهات حضارية محلية وقومية وعالمية على نحو يخلق اتساعًا في الأفق وخصوبة وتسامحًا في الرؤية، أم أنها بيئة محلية محدودة ومغلقة؟ إذ كلما قلَّت خبرة الطفل وازدادت محدوديةً وتقييدًا، قلَّت ثقافته وكان لهذا آثاره على رؤيته ودينامية تفكيره والحد من فضوله وحبه للاستطلاع. وثمة شواهد قوية تؤكد أن الأطفال الذين يشبون في وسط غني بالمثيرات يتميزون بنمو عقلي أسرع وأكمل من الأطفال الذين يشبون في وسط مقيد وبيئة فقيرة.

تنمية القدرات الإبداعية

مشكلة تنمية القدرات الإبداعية مشكلة معقدة للغاية، ولا يمكن اختزالها إلى بضعة تدابير منعزلة، إذ إن تطوير القدرات الإبداعية لدى المرء أو الإنسان العام منذ الطفولة لا ينفصل عن العملية الشاملة للتنشئة ليكون شخصية متكاملة من جميع الوجوه.

لهذا فإن التربية الاجتماعية والتعليمية التي تستهدف الارتفاع بالقدرات الإبداعية والوصول إلى كمال ازدهارها توصي بأن يخضع الأطفال للمؤثرات التعليمية والتربوية الضرورية لدعم الصفات الإبداعية، ضمن إطار تكوين طباعهم وخصائصهم مع بداية تشكُّل توجههم الحافزي الباطني. ونجد هنا عددًا من التوصيات لتطوير القدرات الإبداعية في الطفولة، بل وقبل سن الدراسة، وكذا في المراحل التعليمية التالية. ولا يخفى طبعًا ضرورة التوافق والاتساق بينها وبين ظروف الحياة الاجتماعية خارج البيت والمدرسة، مثل الحياة السياسية، والظروف الاقتصادية، والثقافة الاجتماعية بعامة، وما يقتضيه هذا من تحولات.

وتستهدف هذه التوصيات

  • تنمية الفضول المعرفي والفكري لدى الأطفال والتلاميذ، حتى تتشكل عقولهم على أساس الشغف بالمعارف الجديدة واستكشاف المجهول وحل كل ما هو ملغز في دأب ومثابرة، وهكذا يمكن أن يألفوا عديدًا من الظواهر والموضوعات المثيرة للحيرة والحافزة للتفكير ولفت الأنظار والاندهاش، عن طريق الإثارة وتنشيط الخيال، ومحاولة كشف الأسباب، وحِدَّة الملاحظة، والاستعداد لتناول المشكلات المعقدة، والاستمتاع بفرحة الوصول إلى حل وكشف المجهول.

  • تنمية الفكر الاحتمالي إلى جانب الفكر اليقيني، بمعنى الابتعاد عن العقائدية الجامدة والأحكام الحتمية القاطعة التي تسد السبيل أمام أي محاولات للبحث عن الجديد والتغيير. وهذا النهج قرين القدرة على الشك والتحرر من قيد الرؤية القاطعة، وإن كانت بعض الثقافات ترى في القدرة على الشك والتساؤل عاملًا مثيرًا للاضطراب والتشوش بل مثيرًا للخوف، خاصةً لدى من تُعْوِزهم المرونة المعرفية والمرونة الاجتماعية وسعة الأفق اللازمة للتسامح. ولهذا فإن البيئة الثقافية التي تتصف بفقر المعارف والتعصب والصرامة — وجميعها عناصر متكاملة — تمثل حاجزًا نفسيًّا مناهضًا للإبداع.

  • تنمية قدرة الطفل على استبيان المشكلات، واستيعاب المسائل واكتشافها، لا على مجرد البحث عن الحلول لما يُعرض عليه منها، أي المبادأة والنظرة النقدية للواقع والفكر واكتشاف ما ينطوي عليه من مشكلات فيُبرزها، أو تناقضات فيكشفها.

  • الابتعاد عن النمطية. وذلك أن من أخطر العقبات ضد الإبداع النزعات المحافظة في المجتمع، ونمطية ومعيارية أسلوب الحياة، وغلبة نزعة التشبث بالأعراف والتقاليد Conventionalism ومعاداة كل من ينحرف عن خط التفكير السائد … فإن هذه النزعات المحافظة تؤدي إلى التهوين من قيمة الأفكار الأصيلة والمناهج الجديدة في حل المشكلات، مثلما تؤدي في ذات الوقت إلى التهويل من قيمة الحقائق التقليدية الراسخة الرسمية.

    والنمطية نقيض التجديد والتمايز، وهما جوهر الإبداع. والنمطية قرين التسلط الاجتماعي. وتسود النمطية في المجتمعات التي ترى كبرى الفضائل في الاتباعية والطاعة والامتثال، ومن ثَم تنشِّئ أبناءها على هذا الأساس. وغلبة النمطية تُفضي إلى رؤية الحياة تيارًا متجانسًا، وتضعف معها القدرة على استكشاف التمايز بين الظواهر، بل ورفض هذا التمايز من حيث المبدأ.

    لهذا فإن من المهم ضمانَ تنمية القدرات الفردية لدى الأطفال دون قمع بعض مظاهر الخروج عن المألوف Ecentricity، لما لهذا من دلالة عن استعدادهم للإبداع. ومن المهم أيضًا أن نغرس في نفوس الأطفال الإيمان بأن الشجاعة والجسارة والاستقلال والتمايز وصدق التعبير عن النفس بحرية هي فضائل مستحبة. ويسهم المجتمع في تجلي هذه الصفات في مجالات الأنشطة الإنسانية، بما في ذلك الأنشطة العقلية أو الفكرية. وليس معنى هذا أن يتسامح المجتمع مع الخروج عن مظاهر سلوكية عملية، بينما يقف موقفًا متزمتًا صارمًا ضد التمايز الفكري. وتحقيقًا لهذا الهدف نربي الأطفال منذ نعومة أظفارهم على أن يعبروا بجرأة عن أحكامهم الأصيلة والناقدة، ومساعدتهم على إدراك وتفهم أخطائهم والتحقق منها بأنفسهم وليس عن طريق الأمر والنهي، وألَّا ينظر الكبار إلى هذه الأخطاء وكأنها شيء مخجل أو غير مقبول، ناهيك عن اقتران هذا بالتهديد والوعيد ثم العقاب.

    ومن بديهيات الأمور أن الآباء والمعلمين وسلطة المجتمع حين يطالبون المرء طفلًا ثم يافعًا وبالغًا، بالطاعة الصارمة أو العقاب الرادع إنما يخلقون لديه استعدادًا سلبيًّا إزاء الإقدام على أي سلوك جديد أو التعبير عن أي فكرة متمايزة. ويتبدى هذا في صورة خمول وبلادة وخوف من الأنشطة العقلية أو الخوف من عدم الانحياز إلى فكر وقيم المجتمع. ويصبح هذا النهج قيمة اجتماعية وغالبة، إذ يغدو مجموع الناس لهم هذه الصفات وتحكمهم هذه القيم على نحو يدعم النمطية والتواكلية والاتباعية. والذي لا شك فيه أن الأطفال يتصفون بشدة الحساسية لعمليات التقييم لسلوكهم ولأنشطتهم العقلية، مما يوجب الحذر الشديد عند إصدار أحكام عليهم، ذلك أن الطفل حريص على الشعور بالانتماء وتقبل الآخر له، لذا يكون من المفيد جدًّا ألَّا نستخدم هذا السلاح لتطويعه وترويضه إلى حد قتل كل قدرة إبداعية لحساب النمطية.

    وفي سن الدراسة الثانوية، يرى علماء النفس أن المهام الفردية المحدودة والمحددة مرغوب فيها، وأنها عمل مستصوب من أجل ضمان التعبير الصادق، أي المستقل والأصيل وغير الاتباعي، عن العواطف والانفعالات، أي الصدق مع النفس في طلاقة. ويتعين كذلك أن نؤكد للأطفال من خلال الأسلوب التربوي أن النهج الإبداعي في معالجة أي مشكلة سوف يحظى بتقدير كبير من مدرسيهم والمجموعة، ومن ثَم يلزم إشاعة وخلق جو أو مناخ إبداعي في المدرسة، واتخاذ موقف متعاطف وتشجيعي تجاه محاولات البحث من جانب الأطفال أو التلاميذ والتعبير عن أفكارهم الأصيلة، حتى وإن بدا عليهم الحرج أو بدت أفكارهم وجهودهم ضالة، من وجهة نظرنا، في أول الأمر. وحريٌّ بالمعلمين أن يُعنَوا بمن يكشفون عن تمايز وقدرة إبداعية حتى لا ينطووا على أنفسهم ويتحولوا إلى أشخاص منعزلين أو انعزاليين.

    والجدير بالذكر أن النمطية تسود أيضًا في المجتمعات التي تغلب فيها النزعة التقنية Technicism التي تتمثل في فيضان الأفلام النمطية الحديثة، والمسلسلات الفقيرة في أحداثها وفعاليتها، والبرامج التلفزيونية المتطابقة أو النمطية، والإعلانات المتماثلة … إلخ. كذلك فإن من العوامل المعوقة للإبداع غلبةَ نظام المكننة في الصناعة والتخصص الرتيب وتقسيم العمل الضيق الذي يتحول إلى روتين ومهام متكررة. لهذا يحسن الحرص على التنوع وتنويع أسلوب العمل والحياة بما في ذلك طرق الاستمتاع بوقت الفراغ.
  • ثراء وتنوع النشاط الاجتماعي. ذلك أن النضج الفكري للفرد من خلال عملية التنشئة يتوقف إلى حد بعيد على الأنشطة التي يشارك فيها ومدى انتمائها الاجتماعي. وعلى هذا ينبغي ابتكار أنشطة راسخة الجذور في واقع الحياة، وتحفز الطفل على الاكتشاف الشخصي، وتتيح له استكشاف بيئته وتفحصها.

  • البعد عن التدليل أو التعويق. ذلك أن النجاح السهل والصعوبات التي يتعذر التغلب عليها كلاهما يضعف الحافز إلى الإبداع، لذا من الخطأ إزاحة جميع الصعاب التي يواجهها الطفل، بل يجب أن يتعلم كيف يتغلب وحده وفي استقلال، أو في تعاون منسَّق مع فريق عمل، على كل عقبة تعوق التفكير. ويمكن أن يتعلم الأطفال هذا عن طريق التدريب من خلال اكتشافاتهم، أو عن طريق حل المشكلات بأسلوب يهديهم إلى نتائج متباينة عن طريق جمع الوقائع المشاهَدة، خاصةً وأن التلاميذ يكتسبون معارف أكثر من خلال برنامج حل المشكلات، ووضع تصوراتهم إزاء مسائل يتعين حلها، أي المشكلات المحتمل وقوعها «ماذا لو حدث كذا وكذا؟» هذا على عكس النهج التقليدي في التربية والتعليم. فالتزمُّت والقسوة مع الطفل يغرسان استجابات وقائية أو دفاعية، بينما الإفراط في الرعاية أو التدليل يولِّد عنده نرجسية ورضًى زائفًا عن النفس. وإذا شب الطفل في جو من الإهمال فإنه ينمو ولديه مزيد من الاهتمام بالأفكار والأشياء أكثر من اهتمامه بالناس.

  • التصحيح الذاتي والاجتماعي. اتباع برنامج التقييم الذاتي، أي تعويد الطفل أن يقيِّم أعماله وإنجازاته ومسار تفكيره ومحاولاته لحل المشكلة، وكذلك أن يقارن بين ضروب عديدة للحل، والتي اهتدى إليها هو أو غيره من المجموعات، وبذلك يتعلم خصال التسامح ومفهوم التعددية والتلاقح الثقافي وتصحيح المسار من خلال الاحتكاك الثقافي. ويأتي هذا مصداقًا لما قاله جان بياجيه عن العَلاقات بين الأفراد وأثرها التصحيحي على الفانتازيا حين قال: «إننا نفرِّخ دائمًا عددًا كبيرًا من الأفكار والمفاهيم واليوتوبيات الزائفة والتفسيرات الغامضة والخرافات … التي تختفي جميعها عند الاتصال بشعب آخر.» ولهذا فإن من ينشأ في بيئة نمطية مغلقة يخشى الاتصال بالثقافات الأخرى، وينفصل عن الواقع، ويتعذر عليه تقييم وتصحيح ذاته، ويخلط ما بين الغزو الثقافي في حالة ضعفه وفقدان فاعليته وبين التلاقح الثقافي الذي هو فعالية متبادلة. ولهذا أكد علماء كثيرون على أهمية «التصادم والاحتكاك بين الآراء» الذي يدعم ويسهم في ظهور أفكار جديدة. ويقضي هذا بالاهتمام بتعزيز سلوك المباراة والتنافس والتحدي.

  • طرق ومناهج تعليمية غير تقليدية. إن التعليم المتخلف عن مواكبة ظواهر الحياة العصرية يئد القدرة الإبداعية، إذ يعايش المرء ظواهر تكنولوجية يشعر إزاءها بالدونية والضآلة وعدم الفهم وفقدان القدرة على تغييرها أو تطويرها فيظل تابعًا لها. وإذا ظل التعليم والمجتمع بعيدَين عن مواكبة الجديد عالميًّا، على المستوى الإنتاجي والفكري والتقني، فإن هذا يكرس التبعية الفكرية، ومن ثَم يعوق القدرة الإبداعية. لذا يتعين أن تنهض المناهج التعليمية بدارسيها إلى مستوى الجديد العالمي، وتحفز على فهم وتطوير هذا الجديد على هدي منهج علمي في التفكير وفي التدريس، إذ لا إبداع بدون تفكير علمي.

    كذلك فإن التعليم في بلادنا يغرس قيمة التجانس والتواؤم الاجتماعي، ويجرم التمايز باعتباره رذيلة. ولعل هذا يبدو واضحًا بصورة صارخة في تعليم اللغة، إذ الملاحظ أن أسلوب التربية اللُّغوية يتعارض مع الإبداع. البلاغة، واللغة بعامة — في إطار ثقافتنا الاجتماعية ومناهجنا التعليمية — ترى الإبداع في حسن الاتباع والتقليد وتحكُّم القديم والاحتكام إليه لبيان الحسن والقبيح. وإن الصعوبة الحقيقية التي تمنع إبداعَ جديدٍ هي غلبة الأساليب التقليدية في التفكير والتعبير وتحجُّرها في قوالب جامدة تمنع الرؤية من زوايا مغايرة. ونحن أسرى التعابير البلاغية التقليدية، ونعرف أن اللغة هي صياغات للفكر، وهو ما يعني اطراد التبعية الفكرية.

    ونلحظ كذلك أننا في طرق تدريس الأطفال نبدأ بالحفظ على حساب الفهم، نحفظ أولًا ونحن صغار ثم نحاول الفهم ونحن كبار، وما استعصى علينا فهمه نقول إنه رمز دون محاولة البحث في طبقات التاريخ واللغة والاستعانة بإنجازات العلوم، والظن بأن القول الفصل وخاتم الكلام ما قاله الأولون … وهكذا نكبر وقد تحددت على نحو نمطي أسس السلوك والتكوين العقلي العام.

    وظهرت اقتراحات عديدة بشأن تطبيق إجراءات تنظيمية مختلفة تستهدف إذكاء وتنشيط القدرات الإبداعية، من أهمها اقتراحات أليكس أوزبورن Alex Osborn عن طريقة ذات شقين:
    • (١)

      التفتق أو العصف الذهني وانبثاق أفكار جديدة إبداعية.

    • (٢)

      التداخل والتوليف بين عناصر غير مألوفة.

    والمقصود بالتفتق أو العصف الذهني Brainstorming أنه خلال المناقشة الجماعية لمشكلة إبداعية يكون لكل فرد الحق في التعبير عن أي حكم يعن له، حتى وإن بدا في ظاهره حكمًا غير قائم على أساس، بل وظاهر البطلان. ويرى أوزبورن أن التفكير الجماعي يحفز «القدرة الترابطية» للمجموعة نظرًا لزيادة المنافسة، ويسهم في التعبير الطليق عن الأفكار. ومن أهم قواعد هذه الطريقة حظر النقد لأي فكرة يُعبر عنها صاحبها، إذ إن هذا يساعد على إلغاء الحوافز الباطنية التي تعوق «ومضات الفكر والتخمينات الهامة». ومن هذه المعوقات أيضًا الإفراط في النقد الذاتي والخوف من أن يسيء الآخرون فهمه أو أن يسخروا منه، والإحجام عن الدخول في صراع مع الناس أو مع أفكار وآراء شائعة.

    ويجري هذا التدريب داخل مجموعات تضم حوالَي ۱۲ شخصًا ذوي خبرات متباينة. وعلى قائد الدورة الامتناع عن ممارسة الضغوط، ويحظر النقد مهما كان مصدره حتى لا يحول دون مبادرة المشتركين إبداعيًّا. وأن يكون المسئول يقظًا لِلَفت الأنظار إلى لب المشكلة حتى لا تغيب عنهم، ويعمِد إلى إشاعة مناخ استرخاء وحرية، ويثير حماس النقاش. ويتمثل جوهر طريقة التفتق الذهني في توليد الأفكار التي يجري تسجيلها فور الإفصاح عنها كما هي دون تعديل أول الأمر، ثم يجري تقييمها بعد ذلك عن طريق آخرين لم يشتركوا في المرحلة الأولى من الدورة التدريبية. ويحظر النقد «الوقائي» أو المحافظ انطلاقًا من عقائد راسخة ونمطية.

    التداخل والتوليف بين عناصر غير مألوفة Synectics، وهي طريقة اقترحها Wiliam Gordon. إذ يعتقد جوردون أن العامل الحاسم […] جديدة إلى شيء مألوف ويتخذ زاوية مغايرة لما هو شائع ومقبول. ويُجري محاولة غير عادية مع ظواهر وموضوعات معروفة. وتغيير الوسائل العادية والمألوفة للإدراك والاستجابة. وطبيعي أن هذه الطريقة تعتمد على ميكانيزم التهوين Anaxiomatization لخفض قيمة المألوف. والنتيجة الإيجابية لهذه الطريقة تتمثل في فتح السبل للبحث دون الانحصار داخل إطار مغلق، ومن ثَم خلق ظروف مواتية للتهوين من قيمة الآراء الشائعة والسائدة.

    ما سبق إشارة إلى معالم طريق شاق طويل في سبيل تحديث المجتمع دون تحولات كثيرة شديدة العسر أقرب إلى أن تكون ثورة ثقافية اجتماعية تشمل جميع مناحي الحياة في ضوء عقلية علمية وتحول جذري في أطر التفكير التي سادت قرونًا ولا نزال أسرى لها. ولكن حريٌّ بنا أن ندرك أن الإبداع لم يكن يومًا موضع قبول وترحيب اجتماعي، فهذا يناقض نزوع المجتمع إلى المحافظة والثبات. وشهادة التاريخ أن الاكتشافات والأفكار الجديدة أثارت دائمًا وأبدًا جدلًا شديدًا وتعرضت لهجمات عنيفة تحاول أن تنتقد الجديد وتسفه من أمره، ولكن الجديد، وعلى ضوء هذا المحك، يتطور ويثبت جدواه اجتماعيًّا، ويحقق نبوءته أو إمكاناته المستقبلية بالقدرة على تجاوز أزمة المجتمع ويدفع المجتمع إلى مدارج أرقى.

    ولكن يمكن القول: إن الإبداع لم يكن مطلوبًا بإلحاح شديد، ووعي واضح، مثلما هو الحال في عصر الصناعة بعامة، وفي القرن العشرين بخاصة، ومع بداية موجة عصر ما بعد التصنيع بصفة أخص وأشد إلحاحًا، حيث تجري وبوعي كامل تعبئة القوى لهذا الغرض، وذلك بعد أن ارتبط الإبداع بالسياسة، وهو ما يعني أن الإبداع الذي يعادل التقدم العلمي والتقني وامتلاك أسباب القوة والتفوق، بات هو ضمان البقاء والسيادة. وليس غريبًا تحوُّل العلم، ولهذا السبب تحديدًا، وطبيعة التحولات العلمية والتكنولوجية، إلى مؤسسة اجتماعية سيادية ترصد له الدولة، في سباق محموم مع غيرها، أقصى طاقاتها لحفز الإبداع ضمانًا لاطراد التحديث وبلوغ ذروة القوة والأمان في الاقتصاد والسياسة والخبرة والفكر، وامتلاك القدرة على صنع المصير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥