التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية
لماذا التفكير العلمي؟
قال أرشميدس: «أعطني رافعة وأنا أحرك العالم.»
والرافعة هنا رمز الإنجاز العلمي، والاستعانة بهذا الإنجاز العلمي لدفع العالم إلى الأمام والتقدم به. وبعده قال فرنسيس بيكون، رائد الحركة العلمية الحديثة:
«إن التعليم سبيل الإنسانية لتحسين معيشتها.» ومهَّد لدعوته إلى العلم والتعليم برفضه للفكر التقليدي الذي جثم على عقول الناس، وعشش في رءوس المفكرين قرابة ألفي عام، وجعل من أرسطو مصدرًا للحكمة، ومن الكتاب المقدس مصدرًا للمعرفة. وأكد فرنسيس بيكون ما أكدته التجرِبة من بعدُ، أن سيادة الإنسان على الطبيعة رهن بالمعرفة. وأوضح أن الطبيعة لا نقهرها، بل نطيع قوانينها، التي نسعى إلى اكتشافها، وبذا تخضع لسلطاننا العلمي، ونسخرها لغاياتنا.
ونحن اليوم نعيش حقبة دينامية فذة من التحول الاجتماعي العميق والتطور المستمر للعملية الثورية العالمية، غيرت صورة العالم. والثورة في العلم وتطبيق إنجازاته (الثورة التكنولوجية) أدت إلى تحولات عميقة في مجالات الحياة والإنتاج والإدراك والاستمتاع والتعامل وشعور الإنسان بذاته وبقدراته … إلخ، وفي سلطة الدولة والشعور بدور الفرد الذي تضاءل بينما تعاظم دور التكتل الجمعي ودور الفكر، وبات الإنسان مهيأً لطفرة كيفية في التطور الفكري والقدرات العقلية.
وأصبح العلم وإنجازاته التي تجد سبيلها إلى التطبيق فورًا، قوة حاسمة في تغيير المجتمع والإنسان فكرًا ومزاجًا وتطلعًا. لم يعد بالإمكان تصور عالم بدون طائرة نفاثة أو تليفزيون أو سفينة فضاء أو كمبيوتر أو بلاستيك أو كيماويات أو مضادات حيوية أو تصنيع آلي ضخم أو ميكنة، في أواخر القرن العشرين الذي يوشك أن يولي. ترى ماذا عن القرن القادم؟ وأين نحن من القرن الحالي ناهيك عن القادم؟ لو سألنا أنفسنا ما هو الفرق الأساسي بين صورة العالم والحياة اليوم وبينهما من ٣٠ سنة فقط لوجدنا فارقًا مهولًا بين عالمين وحياتين. العلم والتكنولوجيا هما مفتاح الثراء المادي والنفسي ورفاهة المجتمع. وأولى بنا ألا ننظر إليهما نظرة غيبية أسطورية، وألا نتصور أن بالإمكان الإفادةَ بأحدهما دون الآخر، ووجودُ أحدهما دون الآخر خطر على المجتمع؛ فالعلم بدون تكنولوجيا يعني فقدان العلم لوظيفته، ويعني عزل العلم عن المجتمع، ثم يعني أخيرًا استثمار العلم المعزول اجتماعيًّا لصالح أصحاب النفوذ والسلطان. والتكنولوجيا، وهي العلم مطبقًا في الواقع، تعني بدون علمٍ استيرادَ إنجازات العلم من الخارج، وتصبح نبتًا أجنبيًّا له أخطاره، وتعني أن المستفيد بها والمتلقي لها إنما يشكل عنصرًا متخلفًا يعيش عالة على الإنجاز العلمي للغير. العلم والتكنولوجيا لا يزدهران إلا مع عقل حر متحرر من كل قيود الإحباط والقمع والتحريم، وهو ما لا يتأتى إلا في مجتمع يكفل كل هذه الشروط، أي أن يكون نبتًا في تربة حرة.
إن النظرة إلى العلم وإلى وظيفته تحددهما طبيعة النظام الاجتماعي، والقيم السائدة فيه. وقد يستهدف النشاط العلمي، أو قد تفرض عليه طبيعة النظام الاجتماعي، خدمة مصالح فئات اجتماعية بعينها، فينحرف عن وظيفته وهي اكتشاف الحقيقة ورفاهة البشرية. وتيسيرًا لبلوغ هذا الهدف تؤكد السلطات المستفيدة على أن للعلم وسائلَ تقنية خاصة ومتميزة، فتعمِد إلى تأكيد الفصل بين كل عالِم وآخر، وإلى عزل العلم في مجموعه عن المجتمع ليصبح نشاطًا علويًّا مبتورًا عن ثقافة المجتمع، وتسخره لخدمة أهدافها الخاصة. وتعمل هذه القوى على عزل العلم عن الوعي العام، أو تحوِّل التفكير العلمي إلى خانات معزولة عن بعضها، فتسقط النظرة الشاملة، كما تعزل المدلول الاجتماعي والثقافي للمعارف العلمية. وليس غريبًا أن نجد هذه الاتجاهات هي السائدة دائمًا في عصور التخلف، ويدعو لها في حماسة وغيرةٍ دعاةُ الردة والجمود. وتنطوي القيم السائدة في المجتمع المتخلف على إهدار لقيمة العلم والتفكير العلمي، وغيبة النظرة العلمية، أي تجعل من العلم قيمة في ذاتها فارغة من أي مدلول اجتماعي، ويصبح العالِم مجردَ حِرفيٍّ داخل معمله أو في قاعة بحثه، ولكنه عاجز عن أي تأثير اجتماعي.
وإن أشد الاتجاهات ضررًا على المجتمع ورفاهته، وعلى تطور الإنسان والارتقاء به فكرًا ووجدانًا محاولات عزل العلم عن الوعي العام وإفراغ العلم من مضمونه الاجتماعي، والفصل بين العلم وبين فهم قوانين المجتمع وحركته. ومثل هذه الاتجاهات، التي تنزع إليها القوى المحافظة أو المستبدة، ضارة بالإنسان وبالمجتمع وبالعلم على السواء. إن الوعي العام بقيمة العلم والحاجة إليه وضرورته تشكل حافزًا وقوة دافعة للارتقاء بالعلم، وصونًا له من عبث العابثين والمحرفين، وما لم يحط الناس علمًا بما يقوم به العلماء فإنهم لن يقدموا العون، كمجتمع وكأفراد، الذي يتطلبه عمل العلماء مقابل ما يعود على الإنسانية من نفع وفائدة. وإن غياب الفهم العام لدى الناس للتفكير العلمي وإنجازات العلم ومعايشتها معايشة واعية، ومن ثَم غياب اهتمامهم ونقدهم، كل هذا يدعم نزعة العزلة الذهنية لدى العالِم وإدراكه لدوره الاجتماعي، وهو أمر خطير، إذ يدفع به إلى طريق الحِرفية المهنية الخالصة الضيقة، والانفصال عن أماني المجتمع وعن الوعي بطريقة تقدمه، ويصبح فريسة سهلة للقوى المهيمنة أيًّا كان اتجاهها. وواقع الأمر أن هذه القوى لا تستهدف بذلك عزل العالِم ذاته وإنما عزل العلم أو عزل التفكير العلمي عن المجتمع، ويعيش العالِم حياته العاديَّة حِرفيًّا، ولكن علمه يُمسي أشبه بدكانٍ أو حانوت يختص به نفسه دون الآخرين.
ويرتبط بهذا الاتجاه أيضًا اتجاه آخر يصور العلم وكأنه يُقسَّم إلى شُعب وخانات وأدراج تفصلها عن بعضها جدرانٌ صماء، وأنه مقطوع الصلة بكل أوجه الثقافة. ويجري تعليم العلم وكأن من يتعلمونه سوف يستخدمونه لهدف آخر في حياتهم المقبلة، وربما يكون الارتزاقَ على أحسن الفروض، ومن ثَم يكون مجرد تكنيك قاصر على التدريب العلمي. ولذلك ليس غريبًا أن يتخرج كثيرون من الجامعات ممن تدربوا على تطبيقات علمية ثم يعملون في أعمال روتينية وخدمات حكومية ومكتبية. وحين تركز التربية العلمية والتقليد على التقنيات من خلال التخصص الضيق ونبذ أي رابطة عضوية بين العلم والمجتمع، كل هذا يجعل العلم في نظر المشتغلين به والناس وكأنه مذهب ضيق قاصر على مجرد إشباع الحاجات البشرية العامة. ويتحول العلم والعلماء إلى مؤسسة متميزة ذات مصالح خاصة. وحين يصبح شيءٌ ما مؤسسة ذات مصالح خاصة يصبح سهلًا خضوعها وانقيادها لصاحب النفوذ والسلطان صونًا لمصالحها الذاتية. وهكذا يفقد التفكير العلمي وظيفته هاديًا ومرشدًا للإنسان والمجتمع لمواجهة تحديات المجهول أو مشكلات العصر، وحين يفتقد المرء أو المجتمع التفسير العلمي لمشكلاته يصبح فريسة سهلة لكل قوى التأثير والنفوذ الدعائية والإعلامية المغرضة، ويرتد بفكره إلى تفسيرات ساذجة بسيطة موروثة وتقليدية يستنيم لها ويجد فيها راحة بلهاء، وتُفلت من بين يديه الحياة ويزداد تخلفًا.
غرس التفكير العلمي ضرورة ديمقراطية وحضارية
لقد بات فهم العلم أمرًا ضروريًّا تتزايد أهميته في الحياة المعاصرة وأصبحت نهضة الأمم تقاس بقدر ما تملك من علماء وعقول مبدعة، وبقدر ما تنفق على العلم، وبقدر ما تفيد من إنجازات العلم لخير الكافة. ولن يتسنى لمجتمع ما أن يبقى على قيد الحياة، كقوة حضارية فاعلة ما لم يمتلك ناصية العلم ويفهمْه ويوظفْه. وفهم العلم وامتلاك ناصيته لا يعني توفر العلماء فحسب، بل يعني أيضًا شيوع المعارف العلمية، وذيوع النظرة العلمية، ليكون المجتمع سندًا للحركة العلمية ودافعًا لها، والمستفيد الأول منها.
لهذا فإن الديمقراطية لا بد وأن تكون مناخًا اجتماعيًّا، ونسيجًا شاملًا ومزاجًا عامًّا؛ أي مجتمعًا ديمقراطيًّا استجابة لحركة تطور اجتماعي تاريخي شامل، وليست مجرد سلوك سياسي فحسب كما يظن البعض، فلن تبقى الديمقراطية، أو قل إنها ستفقد فعاليتها، وتصبح اسمًا على غير مسمًّى، أو زخرفًا (ديكورًا) إذا ما سُمح بترديد اسمها على الألسن، دون أن يهتم المؤمنون بها بالقضايا الخارجة عن حدود تخصصهم الضيق. ولن يكون المرء، عالمًا أو باحثًا … إلخ؛ لن يكون ديمقراطيًّا ما لم يتجاوز نطاق تخصصه المحدود ويُعنَى بفهم الأبعاد الاجتماعية لموضوع بحثه وتخصصه. ذلك لأن التخلي عن المسئولية للآخرين، دون أن يكون للمرء حق السؤال والتفسير والنقد هو، في جوهره، سلوك شمولي تسلطي. فالديمقراطية في أبسط معانيها هي ممارسة المسئولية.
وعزل العلم عن الوعي العام ضار بالعلم. إن غياب الفهم العام لدور العلم وإنجازاته ودلالاته الاجتماعية يدعم نزعة العزلة الذهنية لدى العالِم، وهو أمر جِد خطير. والعزلة هنا هي عزلة للعلم، لأن المطلوب عند نظم البطش والتخلف والمحافظة والتقليد عزل العلم عن الناس لأنهم سنده وظهيره، وأصحاب المصلحة فيه حتى تتيسر لهم نظرة علمية، وهو القوة الدافعة لهم نحو الأفضل. والمطلوب عندهم أيضًا أن يكون العالِم أعزلَ لا يملك رؤية عن طبيعة دوره الاجتماعي. وحين تتحقق عزلة العلم والعالِم يسقط عن المجتمع سلاحه المتمثل في رؤية علمية شاملة متكاملة ومتحدة مع ثقافته ومنصهرة معه في نسيج واحد متميز. ومن ثَم يفقد قدرته على التعليل والتغيير والنمو الدينامي المطرد، ويُضحي العلم ترفًا، وليس جزءًا من نسيج النشاط الاجتماعي، وليس جهدًا واعيًا لبناء الحياة. ويرتد العالِم في عزلته، ناهيك عن الناس، إلى نظرات أسطورية وفلسفات ميتافيزيقية مقطوعة الصلة بواقع الحياة. وليس غريبًا أن نجد العالِم في المجتمعات التي تعزل العلم عمدًا عن المجتمع، يعمل داخل معمله عملًا تقنيًّا خالصًا، ويرى أن علمه علم بحت، وإذا خرج إلى الحياة عاش مثل العامة وقد غلبت عليه نظرة خرافية أو تواكلية أو قدرية إزاء بحثه لمشكلات الحياة.
وصمام الأمان لضمان قوة الدفع للحركة الاجتماعية يتمثل في انتشار المعارف العلمية لا كمعارف متناثرة، بل كمنهج ورؤية متكاملة تستوعب إنجازات العلم وثقافة المجتمع في كلٍّ واحد ونظرة عامة؛ ثم أن تكون المعرفة العلمية حسًّا وذوقًا ومزاجًا. أقول إن انتشار المعارف العلمية في ضوء هذا التصور شرط في عالمنا الحديث لبقاء الحضارة بمدلولها الديمقراطي، ومن ثَم شرط لحركة المجتمع نحو الأفضل، وشرط لإنسانية الإنسان. ولهذا لم يكن غريبًا أن تبدأ حركة النهضة في أوروبا بحركة الموسوعيين الذين عمَدوا إلى نشر خلاصة المعارف الحديثة المتاحة في صورة موسوعات أو دوائر معارف شاملة، وكانت أعمالهم بحقٍّ شرارةً انطلقت معها المعرفة، وتحرر العقل في إطار تغير اجتماعي شامل وعلى أرضية جديدة هي أرضية الليبرالية التي تدعم هذا التغير وتحفزه. ولم تكن هذه هي المحاولة الأولى والأخيرة، بل كانت كما قلنا شرارة تتابعت على إثرها حركات نشر المعارف وتنسيقها في إطار شامل. ولم يكن غريبًا ثانيًا أن تبدأ حركة النهضة المصرية، فكرًا ومضمونًا وهدفًا وتاريخًا واستشرافًا للمستقبل على يد الرائد الموسوعي رفاعة الطهطاوي الذي استوعب رُوح العصر ورصد جهده وحياته لنشر المعارف العلمية الحديثة في عصره، ولتأكيد رُوح التفكير العلمي، ولتطوير التعليم في هذا الاتجاه، فكانت جهوده الفذة شرارةً أطلقت حركة التنوير في مصر وأفاضت بإشعاعاتها على العالم العربي.
التفكير العلمي حرية وإبداع ورؤية شاملة
نعود لنؤكد أن مناط الأمر ليس حشو الأذهان بالعديد من المعارف، وإلا فلن تفيد المعارف شيئًا، ولن تثمر ثمارًا نافعة، بل المقصود من نشر المعارف توفير إطار نسقي لمعارف متكاملة تساعد على توفر نظرة شاملة إلى الحياة والإنسان والمجتمع والكون، وتحديد أهداف للإنسان؛ ثم بعد ذلك تدعم في إطار من الديمقراطية الاجتماعية أو المسئولية الاجتماعية، فرص الابتكار والاكتشاف والإبداع. إن الإبداع هو رائد الحركة الاجتماعية المتقدمة، وعلامة الحياة النابضة، وبدونه تكون الحياة مواتًا أو ركودًا، ويكون الفكر تحجرًا وجمودًا، أو لا حياة ولا فكر. والإبداع العلمي والتكنولوجي يفضي إلى مزيد من الثراء المطرد للمجتمع بشرط تجسده ماديًّا في صورة إنجازاتٍ تحقق الرفاهة للإنسان.
وإذا شئنا أن نعلم أبناءنا الإبداع فأحرى بنا أن نعرف أن الإنسان المبدع، أو الطفل المبدع، له سمات سلوكية متميزة يسَّرتْها له البيئة، وعوَّدته عليها أو لقَّنته إياها، وأهمها التسامح والقدرة على تخطي حواجز الواقع، ورفض القيود، وتحرر الفكر. والإبداع في جوهره تجاوز للواقع، وتعالٍ عليه، وإسقاط لسطوة التقليد والتقديس، ورفض لسلطان الامتثال أو التماثل الاجتماعي. إنه تمرد عقلاني مخطط هادف. والإبداع لا يكون إلا بإطلاق حدود الخيال، وصوغ واختبار الفروض، ونفي لكل عوامل كبت الخيال والحد منها، وهي في أغلبها عوامل تقليدية واقتصادية يعبر عنها نظام سياسي؛ ولهذا فإن الإبداع لا ينشأ، أو لا يمكن أن ننميَه ونربيَه إلا في مجتمع يسوده مناخ ديمقراطي بالمعنى الذي أسلفناه حين قلنا إن الديمقراطية تعني ممارسة المسئولية. وأول شروط ممارسة المسئولية استقلال الذات، واحترام هذا الاستقلال على الصعيد الاجتماعي. وقد لوحظ أن الإبداع يزدهر في المجتمعات الديمقراطية، والتي يحتل العلم والتعليم فيها مكانة سامية قدسية. ويبلغ أدنى مستوًى له، بل يكاد ينعدم، في مجتمعات القهر والتسلط.
التفكير العلمي منهج ونشاط وتربية
وهنا نصل بعد الديمقراطية إلى العامل الثاني لتنمية الإبداع وهو العلم والتعليم. والعلم ليس مجرد نثار من المعارف الصحيحة، بل مناخ ومنهج أولًا وأساسًا. إن المدرسة وحدها لا تخلق عالِمًا مبدعًا، والبيت وحده لا يخلق عالِمًا مبدعًا، بل طبيعة المناخ العام السائد في المجتمع هو الأساس، والذي يشكل البيتُ والمدرسة امتدادًا له وتعبيرًا عنه. ولهذا ينبغي أن نُولِي تدريس المنهج العلمي اهتمامًا كبيرًا، وأن نكفل سيادة مناخ التفكير العلمي، وأن ندرب الإنسان منذ الطفولة في البيت وفي المدرسة وفي النوادي ومجالات اللعب على التجريب والاكتشاف. وأن تكون برامج التعليم في المدارس أداةً لغرس المزاج العلمي والمنهج العلمي، أو ما يمكن أن نسميَه تقنية الأسلوب العلمي في تناول الظواهر وتفسيرها وتأكيد معنى التفكير العلمي الملتزم. وأن نعمل على تأصيل القيم العلمية وصورة البطل العلمي الذي يسعى المرء إلى الاقتداء به، وذلك من خلال بيان عائد الاكتشاف العلمي وثمرة الإبداع متمثلًا في قدرة الإنسان على التغيير وما يمكن أن نسميه فرحة الإبداع والابتكار وطفرة المجتمع في حركته إلى الأمام. وأن يكون كذلك من خلال ما نقدمه متمثلًا في قصص حيوات علماءَ ناجحين أثَّروا في تقدم البشرية على مدى التاريخ، وبيان آثار ذلك في حياتهم في ضوء أمثلة ملموسة في مجالات العلوم الطبيعية والإنسانية … إلخ.
وحريٌّ بنا أن نعمل مع هذا على تنمية حب الاستطلاع منذ الصغر، بأن نهيئ الفرصة للطفل للبحث من أجل فهم كيف تعمل الأشياء، ابتداءً من اللعبة التي بين يديه، وأن ندربَه على التعلم من خلال التجرِبة، وأن التجرِبة معيار الصدق، والحواس سبيله لمعرفة صادقة وليست أوامر الأبوين أو المشرفين عليه، وليست التعليمات الصادرة إليه من خارج ذاته في صورة أوامرَ أو نواهٍ أو تعاليمَ موروثة. وندربه على أسلوب التحقق وعلى التمييز بين التجريبي واللفظي، والعناية بالربط بين الذهني واليدوي؛ بين المعرفة والتطبيق من خلال اللعب، ومن خلال المعامل والورش. إن واقع الأمور في بلادنا، وهو السائد في كل البلدان المتخلفة، أن تمتلئ الرءوس، على أحسن الفروض، بالحشو من المعلومات دون تدرب على إدراك أبسط مبادئ المنهج العلمي. فالطالب قد يتخرج في الجامعة، ولا أقول الإنسان العام، وهو غير متمرس على إدراك معنى العِلِّية أو تلازم العلة والمعلول، وأن لكل حدث سببًا، وأن لا محل ليقين مطلق. ونظرة واحدة إلى سلوك الكثيرين ممن تلقوا حظًّا وافرًا من «التعليم» نجدهم يطبقون في سلوكهم العام أسطورة الحسد، إنه لا يلتزم في سلوكه بمحصلات علمه، بل يلتزم بالموروث من أساطير وخرافات ويسوقها على أنها حقائق يقينية، فالعلم شيء وواقع حياته شيء آخر، وإذا ألمَّ به مكروه، كأنْ مرِض له عزيز أو أصابته كارثة، فإنه يعلل ذلك ويرجعه إلى عينٍ حاسدة رصدته، أو سوء الطالع، فليس المرض سببه ميكروب، على الرغم من شيوع هذه المعلومة، وإنما سببه أسطوري غامض. وقلة الرزق، أو سعته، مسألة حظ دون إدراك للأسباب الاجتماعية أو النفسية، ولا عَلاقة عنده بين سعة الرزق أو ضِيقه وبين الجهد المبذول أو طبيعة النظام الاجتماعي مثلًا، وذلك لأن التعليم والعلم شيء وثقافة المجتمع شيء آخر. العلم والتعليم أقرب إلى المجردات التي لا تصوغ فكرًا ولا تهدي سلوكًا.
التفكير العلمي وإبداع المنتمي
نصل بعد ذلك إلى نقطة هامة تتعلق بالعلم والتفكير العلمي وإبداع الإنسان المنتمي. إن الإنسان لا يبدع للَاشيء، فالإبداع ليس إفرازًا طبيعيًّا لا إراديًّا، وليس شيئًا أشبه بالنتح في النبات. الإبداع، بالإضافة إلى ما أسلفنا، وظيفة وأداة ونتاج. إن الإنسان لا يمكن أن يبدع ما لم تتوفر له رؤية حياتية مستقبلية يسعى إلى تحقيقها، ويتأكد لديه شعور بالانتماء الاجتماعي. فبعد أن تتوفر له الشروط التربوية والتعليمية والاجتماعية التي تؤهله للإبداع قدر المستطاع، ستصبح هذه الشروط غير ذات موضوع، أو ستصبح شروطًا عقيمة غير مخصَّبة ما لم تتوفر للإنسان المبدع رؤية اجتماعية: لماذا يبدع؟ وفيم يفيد إبداعه؟ وكيف يخدم حياة الإنسان والمجتمع؟ وأي إنسان وأي مجتمع يستهدفه؟ معنى هذا أن الإنسان المبدع لن تكتمل مقومات إبداعه كقوة حافزة للتقدم الإنساني والاجتماعي ما لم تتوفر له هذه الرؤية المتكاملة، ويتوفر له أيضًا وعي بذاته كعنصر اجتماعي تاريخي، أي كفرد له انتماؤه إلى مجتمع محدد له مشكلاته وتناقضاته وطموحاته وتطلعاته، وله تاريخ وحضارة يعي عناصرهما، ويدرك ما فيهما من سلبيات وإيجابيات حتى يكون إبداعه حلقة ضمن سلسلة تاريخية لحركة التقدم الإنساني والاجتماعي. ولهذا لن نجد أمة غنية بأبنائها المبدعين إلا أمة تعيش بكل كِيانها في حركة شاملة متقدمة، واعية بذاتها وتاريخها، وبأهدافها المستقبلية، ويؤلف كل هذا ما يمكن أن نسميه الضمير الاجتماعي للإبداع العلمي. وإن عزل الإبداع العلمي عن مدلوله الاجتماعي لن يُنتج إلا حَسَكًا وشوكًا.
التفكير العلمي إنساني بطبيعته
يسود تصور خاطئ لدى البعض بأن العلم عمل تقني خالص، وألا تداخل بين فروعه، وهذا إغفال للجانب الإنساني يُفضي إلى تدهور العلم ذاته، ومن ثَم المجتمع. ولا يدعم هذا التصور إلا من يخشون التغيير الاجتماعي، إذ يسعون جهدهم لإخفاء أو إغفال الجانب الإنساني للعلم. بينما إذا شئنا أن يكون العلم، ومن ثَم التفكير العلمي، أداة تغيير وتقدُّم فلا بد وأن تبرز بوضوح إنسانية العلم، بمعنى أن يفيد العلم في تفسير التنظيم الاجتماعي والمشكلات العملية والذهنية لحياة الإنسان ورفاهته ومناهج حلها. وأن ندرك بوضوح أن وظيفة العلم هي التغلب على العوائق، وأن ييسر لنا سبل الانتصار على المشكلات الاجتماعية، وأنه ديمقراطي لا يخدم فردًا أو جماعة، دون سائر أبناء المجتمع، بل يستهدف خدمة ورفاهة الجميع، وما دون ذلك فهو انحراف بالعلم عن مساره الصحيح. فليس العلم تحصيلًا وتراكمًا للمعارف، أو تأملًا مجردًا لغوامض الحياة والكون، بل أداة اجتماعية للحوار مع، أو للصراع ضد، الطبيعة وتحسين ظروفها والتوافق معها أيضًا. وهو تجرِبة يعايشها الإنسان وترتبط بأوضاع حياته. فالعالِم له دوره الاجتماعي الإنساني، والعالِم يتحمل مسئولية اجتماعية، إذ لا يمكنه أن يظل، أو ينبغي ألا يظل، عالِمًا «بحتًا» في الرياضيات أو الفيزياء الحيوية أو الاجتماع أو الفلسفة مثلًا؛ ذلك لأنه لا يستطع أن يبقى محايدًا أو لامباليًا إزاء ثمار جهده العلمي وما قد يحققه من نفع أو يجلبه من ضرر.
لهذا فإن غرس التوجه العلمي في أذهان الكافة يشكل الأساس الصُّلب لاهتمام الجماهير بالعلم، ليكونوا بدورهم سندًا للعلم ولاستمراره، وليكون هذا الاهتمام ذاته هو الأساس الديمقراطي الممكن الوحيد لإدارة المجتمع وتسييره على هدي العلم وإنجازاته لصالح الكافة، وهو الأساس المكين لحماية المجتمع من أي انحراف.
إننا نخطو خطوة كبيرة إلى الأمام نحو تغيير المجتمع إلى الأفضل إذا نجحنا في خلق عاطفة نحو العلم من خلال أجهزة التعليم والإعلام، بحيث ينفعل الناس به وبانتصاراته، ويتحمسون له حماسةً تعادل، بل تفوق، الحماس العام لكرة القدم مثلًا، والعمل على نشر العلم بين قطاع عريض من الناس وَفقًا لمعلومات موضوعية، ودون تأويلات ذاتية تزعزع الواقع أو تفسد النهج الموضوعي في تناول الظواهر. فمن خلال المدرسة والعملية التعليمية نغرس عاطفة حب العلم والاستطلاع والاكتشاف، فلا تكون العملية التعليمية مجرد عمل ذهني للاستيعاب أو أداة استظهار لنصوص نحفظها عن ظهر قلب. وأن يكون العلم هو الحياة المتجددة، والكون الشامل المتسع، ومتعة الاستكشاف وتجاوز الواقع، وتقديس العقل الوثاب المتحرر دون سواه، وإدراك المعنى المضمون دون الوقوف عند الشكل أو النص. وأن يكون تدريبًا للعواطف مثلما هو تدريب للعقل، فإن حب العلم خير ضمان لخلق الباحث الأصيل المتكامل، فالعامل العاطفي له أثره الكبير على سلوك الإنسان واهتماماته. ويمكن لوسائل الإعلام أن تدعم هذا الاتجاه وتعزز هذه العاطفة، وتؤكد المناخ المطلوب من خلال الصحافة والإذاعة والسينما والتليفزيون والكتاب والمناقشات التي تعرض مظاهر التقدم العلمي وانعكاساته الاجتماعية المستقبلية، وتبرز أبطال البحث العلمي ليكونوا قدوة اجتماعية ويكونوا هم نجوم الحياة يهتدي بها من يشاء الهداية، وتؤكد فضيلة التمرد العقلاني، ونكون أكبر من أنفسنا وأهوائنا.
إن العلم يذوى في مجتمع متخلف، خانق لا حرية فيه، الكلمة العليا فيه لرب العائلة أو لصاحب السيادة أو لسلف عاش زمانه، ولأيهما أو لكليهما القول الفصل، ولا يجوز للعلم أو للبحث العلمي أن يأتي بما يناقض رأي هذا أو ذاك ويعارض فكرهما ومزاجهما، وأن تكون المؤسسات العلمية في خدمة هذا كله وتعبيرًا عنه.
إن أهم قيم أخلاقية يتحلى بها التفكير العلمي أو الخلق العلمي: الموضوعية والابتعاد عن الذاتية، والتسامح الواعي النقدي لكل ما يخالف النتائج التي نتوصل إليها أو يخالف معتقداتنا الموروثة ما دام البرهان التجريبي يثبت صدق الدعوى. الإيمان بالعقل والمنهج العلمي حَكمًا لكل ما يخالف الموروث أو السلطة، سلطة الأوثان التي حدثنا عنها الفيلسوف البريطاني بيكون لتأكيد سلطان العقل وعدم الجمود، إذ يكون لدى المرء استعداد لتقبل نتائج جديدة، وتعديل المنهج مع تغير الظواهر، وخلق توجه منهجي علمي في التعامل مع الواقع (مجتمعًا أو طبيعة أو نفسًا). الأمانة في النقل والصدق في التعبير، الفضول المعرفي أو السعي الدءوب للمعرفة واختراق حجب الجهالة، وهذه هي فضيلة الفضائل؛ لأن الإنسان منذ آلاف السنين، أو منذ نشأة الوعي وحتى الآن، وهو ينشد المعرفة، ويبحث جادًّا عنها ليعرف العالم الذي حوله، والمكان الذي يشغله، والذات التي تشكل هويته، والمستقبل الذي يخطو نحوه واثقًا. وهذه الرغبة استجابة لحاجة ملحَّة، بعطش معرفي، وهي أيضًا شرط لازم للحياة الإنسانية، إذ تعزز التوازن النفسي وتحسم التوتر الذي يثيره المجهول دائمًا.
المدرسة وغرس التفكير العلمي
وحريٌّ بالمدرسة أن تنشئ نوادي علمية. وليس المقصود بالنادي العلمي أيَّ حلقة تختص بتحصيل معارف عن الطبيعة فحسب، بل نوادٍ متعددة وشاملة للعلوم الطبيعية والإنسانية على السواء، فيكون هناك نادٍ للعلوم الطبيعية بفروعها، وآخرُ للتاريخ، وثالثٌ للجغرافيا أو الحضارات … إلخ. وليكن كل نادٍ أشبهَ ببيئة اجتماعية دراسية توفر أقصى قدر من العناية المركزة بالعمليات الإبداعية. وأن تكون بيئةً للتدريب على حرية الفكر والنقد والتعبير والاستكشاف والبحث دون قيود مسبقة غير إنجازات العلم، والالتزام المنهجي بقواعد البحث العلمي والتفسير العلمي للظاهرة، وتنظيم وتحديد خطوات البحث، وإدراك قيمة الزمن كعامل حاسم وأساسي؛ وأقصد بالزمن هنا البعد التاريخي لتطور الظاهرة أو الفكرة وأسباب ذلك. ونحرص على تنوع جهود البحث العلمي داخل النادي الواحد على نحو يؤكد أن التباين أو التعدد قيمة في ذاتهما للوصول إلى الحقيقة فيما بعد، وأن الحقيقة هدف وثمرة جهد مشترك تتنافى وتتعارض مع الواحدية أو الآحادية أو الجمود. ويبدو واضحًا في أذهان التلاميذ أن العلم ليس عقيدة جامدة، بل جهد دءوب، وسعي متصل، ونشاط اجتماعيٌّ وجمعي، وأن الناديَ جماع أشكال مختلفة ومتباينة من النشاط البحثي، والمترابطة في ذات الوقت؛ وبمعنى أن التباين لا يعني التنافر، بل هو أنشطة متباينة ومترابطة على نحو تكاملي في آنٍ، يقوم بها أفراد عديدون متباينو الاهتمامات والجهود، وإنْ توحَّد الهدف البعيد الذي يجمع بينهم ويربط في تكاملٍ بين جهودهم، ومن ثَم يشكلون معًا اتصالًا واحدًا، واستمرارًا مطردًا. ويؤكد هذا لهم أن الظاهرة العلمية ليست شيئًا مسطحًا، أو ذات بعد واحد، بل متعددة العناصر، تنطوي على مجالات بحث مختلفة، لكل منها نهج بحثي مميز، وإن ترابطت معًا على نحو ارتقائي.
ولاريب في أننا إذا ما نجحنا في خلق نواديَ من هذا الطراز فإن هذا سيدفع بأعضاء النوادي إلى التساؤل عن طبيعة العَلاقة بين آليات هذه النوادي وما حققته من نجاحات وبين النظام الاجتماعي، من حيث الاتساق والتجانس وتضافر الجهود، أو من حيث التنافر والتشتت. لماذا يثمر النادي ويقدم أعضاؤه نشاطًا ناجحًا بينما يفشلون في الخارج، أي في المجتمع الخارجي حيث لا تتوفر حرية رأي وابتكار مثلًا، أو حيث يتوفر نهج علمي في البحث والنظر على النحو الذي تدربوا عليه وتذوقوه داخل النادي … إلخ. وهكذا تتوفر لهم نظرة انتقادية لنظام المجتمع وتتحد رؤيتهم بشأن الخطوط العامة الأساسية لإصلاحه.
كذلك فإن النوادي، والتعدد فيها، أو التباين، يؤكد البعد عن النمطية وعن الجمود أو الحياة في قوالب والامتثال أو الرضوخ السلبي لزي فكري اجتماعي موحد، وهذه إحدى الآفات التي نعاني منها استسهالًا للحياة وكسلًا وابتعادًا عن الملاطمة وخوض معارك التحدي مع الواقع. وتفيد نوادي العلوم أيضًا في غرس فضيلة البعد عن النمطية في طريقة البحث، وبيان تعدد جوانب الظاهرة ومستوياتها وزوايا النظر إليها، وكذلك من حيث التفسير وفهم معنى القانون العلمي. ويكشف هذا النهج في المدرسة عن عَلاقات واقعية بين الوعي والظاهرة موضوع البحث وبيان نسبية الحقيقة. ومن ثَم يبدو واضحًا أن الوعي العلمي تطور تاريخي مطرد، فيه قبول ونفي وإضافة جديدة دائمًا مع تغير الظاهرة وتطور أداة البحث. ويَقرُّ في العقول أن الإنسانية تستهدف حقيقة مطلقة ليست قائمة مكتملة ولكنها منشودة أبدًا نَدرَج معها على مراحل بامتداد الحياة الواعية والزمان؛ وأن الوعي الإنساني والجهد الإنساني العملي كلاهما حركة تاريخية متضافرة سعيًا إليها. ويَقرُّ في الأذهان كذلك أن ليس هناك كهنوت في العلم أو المعرفة، وأن السلطة للواقع وللعقل والتجريب، وأن المعرفة البشرية ليست مطلقة، أو ليست صادقة صدقًا مطلقًا، بل تغيرت عبر التاريخ على الرغم مما أحاطها من هالات قدسية أحيانًا، أو دعمها ثقل اجتماعي لا يقاوم، ولكنها طفرات، أو تقدمت في صورة طفرات مع تقدم أداة البحث أو المنهج وحاجات الإنسان.
ويدرك الطالب أن الظاهرة الواحدة يجري بحثها من جوانب عدة، أو أنها تكشف عن مشكلات بحثية متعددة أو جوانب متباينة من حيث مستوى التطور وطبيعة التخصص العلمي، ولكل جانب أداة أو منهج معرفي لبحثها، وأن هذه المناهج متكاملة تكامل الظاهرة، وهو ما يعني في غاية الأمر أن مناهج البحث العلمي تشكل معًا كلًّا متكاملًا، تكامل عناصر الوجود ووحدتها: الإنسان والمجتمع والكائنات الحية والطبيعة العضوية وغير العضوية.
إن المعرفة عملية دينامية ارتقائية، وإن موضوعات البحث والمعرفة جِد متباينة: من موضوعات الطبيعة إلى الحياة إلى المجتمع إلى الإنسان والنفس، لكنها جميعًا متكاملة. والمعرفة عَلاقة بين الذات العارفة وبين موضوع المعرفة على تباينه. والاكتشافات العلمية في مجال ما تؤثر على وسيلة الاكتشاف وسبل المعرفة في مجال آخر؛ فقد تساعدنا وترتقي بنا، وقد تدحض معارف سابقة ظننا سلامتها حينًا. والمعرفة عملية جرد وفرز متصلة لإسقاط ما يثبت بطلانه وتأكيد الصواب النسبي دائمًا. وتعبر وسائل المعرفة عن المستوى المعرفي والتقني الذي وصل إليه الإنسان في سُلم ارتقائه، ولهذا فهي تتعدل دومًا، بمعنى أننا بحاجة دائمة إلى عمل مراجعة وغربلة نقدية لحصادنا أو إرثنا من المفاهيم التقليدية ومعارفنا المتجمعة تاريخيًّا، سواء من حيث المحتوى أو من حيث وسيلة المعرفة وتطابقها مع الواقع.
وإذا كانت رُوح المنهج العلمي هي الحرية والموضوعية إذن يجب ألا يخضع النادي العلمي لسلطان قاهر استبدادي، مادي أو معنوي، يمنع هذا ويحرم ذاك، بل يجب أن نشيع فيه ديمقراطية الرُّوح العلمية والتحدي الجريء، والتواضع الذي يجعلنا ننصت جيدًا إلى الرأي الآخر. فالعلم في جوهره ديمقراطي، بل إن الديمقراطية هي ثمرة من ثمار البحث العلمي. ويحسن أن يتمتع النادي بنوع من الحصانة، فلا يخضع لرقابة تشكل قيدًا على حرية الرأي، ويتأكد هذا لأعضائه سواء بالسلوك العملي أو من خلال وثيقة شرف تكون دستورًا لعمل النادي.
وتكشف الممارسة داخل النادي عن العَلاقة بين طبيعة الإدارة وبين نجاح جهود النادي، وهو ما يوضح أن التقدم العلمي لا يمكن فرضه ولا إخضاعه لسلطة واحدة، وإن كان يقتضي التخطيط باعتباره خطوات مدروسة تصل بنا إلى هدف محدد بناء على بحث وفهم للواقع. والتخطيط ليس التزامًا جامدًا متزمتًا، بل وعي بمراحل الحركة مع فرصة للمراجعة ضمانًا لسلاسة الانطلاق.
ويعتبر النادي العلمي فرصة لغرس العقلية النقدية في التعامل مع الوقائع، سواء أكانت هذه الوقائع مادة أو حدثًا طبيعيًّا أو وثائق تاريخية، أو قولًا مأثورًا … إلخ؛ ذلك لأن الموضوعية العلمية ليست تقبلًا سلبيًّا بل مواجهة نشطة. إنها إدراك واستيعاب نقدي لذات فاعلة، وتأكيد مطرد بصواب منهج البحث، ونفي مطرد لما يثبت خطؤه من موروثات، وصياغة للحياة لأسلوب التعامل معها.
إن موضوعية القوانين العلمية، كما تنعكس في التقدم العلمي، لا ترتبط فقط بالعلم من حيث إنه معرفة خالصة، بل ترتبط به أيضًا من حيث إنه نشاط كذلك. العلم معرفة ونشاط في آنٍ واحد. إن البحث العلمي مهمة إنسانية، إنه استكشاف وابتكار وتطبيق، وهو برنامج عمل هادف ونضال وتحدٍّ من الإنسان مع الطبيعة لخير الإنسانية.
وإذا مارس أعضاء النادي جهودهم من خلال مشروعات بحثية تطبيقية، فسوف يتضح لهم أن المعرفة العلمية ليست منفصلة عن نفع الإنسان وخيره، وليست مقطوعة الصلة بالمجتمع. وأن المعارف في تطورها التاريخي صارعت وناضلت من خلال أصحابها وعلى أيديهم، وأن هناك من دعم المتوارث التقليدي أو المعارف القياسية، وهناك من حمل منارة الجديد وعانى في سبيل ذلك، وأن الرُّوح العلمية الأصيلة هي الابتكار في ظل مناخ التسامح.
ويحسن أن تُعنَى النوادي العلمية بأخبار الاكتشافات العلمية الحديثة في إطار مدلولاتها، والمؤتمرات العلمية وموضوعاتها، بغية إثارة الاهتمام بهذه الأحداث. وأن تبدي عناية بالمعارض العلمية، سواء بزيادة المعارض أو إقامة معارض لنشاطها والإشادة بالجادين المنتجين من أعضائها. وأن تعمل على توفير النشَرات والمَجلات العلمية الملائمة التي تعرض مظاهر التقدم العلمي بأسلوب سهل بسيط مصوَّر مع كشف الخلفية لمظاهر التقدم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والحضاري لهذه الأحداث، ويمكن لأعضاء النادي عمل نسخة محلية يتولَّون هم إصدارها وجمع المعلومات الخاصة بها، وتَعرض من بين ما تعرض، بحوثًا للأعضاء عن القَصص التاريخي للابتكارات وعن سير العلماء وما شابه ذلك.
التفكير العلمي والتاريخي
نحن نتحدث عن النوادي العلمية هنا كمثال لحقول تجارِب أو مصانع تفريخ، وبيئة تربوية لطلائع علميين يتحلَّون بالخُلق العلمي. غير أن هذا لا يغني عن المناخ العام للمجتمع والتعليم، إذ يتعين الالتزام بالمنهج العلمي في تقديم المواد الدراسية المختلفة، والتحلي بروح التسامح والموضوعية والصدق، ومعاناة الالتزام بالصدق في عرض هذه المواد بعيدًا عن أي شبهة انحياز. ولعل من أخطر المواد المؤثرة في بناء الفكر والشخصية مادةً مثل مادة التاريخ؛ ولهذا ليس غريبًا أن تكون هي من أولى المواد التي تتعرض للانتهاك والتزييف على أيدي الغزاة والحكام الطغاة، وهي المادة موضوع الصراع الدائم والعنيف بين القوى الوطنية وبين أعدائهم؛ ولهذا أيضًا لم يكن غريبًا أن يُعنَى رائد النهضة وباعث الرُّوح القومية المصرية رفاعة رافع الطهطاوي بتدريس التاريخ وبيان أمجاده من بين ما عُنِيَ به من دراسات حضارية رآها ركيزة للبعث القومي وصوغ الفكر الجديد، وهو ما كان بحقٍّ شرارةً قدسية. ولهذا ينبغي العناية بتدريس التاريخ باعتباره حركة الأحداث والوقائع بفعل الإنسان في الزمان وداخل إطار قوًى اجتماعية وطبيعية تعبر عن نفسها في نظم حكم وعَلاقات اجتماعية، وفكر سائد وثقافة غالبة. ويتعين تأكيد النزعة التاريخية في التفكير كمنهج يعالج التاريخ باعتباره عملية محكومة بقوانين موضوعية ومتكاملة، وليست عملية خاضعة لأزمات فكرية أو افتقارًا لتقاليد تاريخية تجاوزها المجتمع ونظن أن غيابها هو سر أزمتنا، وأن الحل ردة إليها. وإن أكد هذا دور الثقافة الاجتماعية كسلطة تعيق أو تحفز فعالية الإنسان مع أحداث التاريخ.
ويقتضينا غرس التفكير العلمي العناية بالمنهج المقارن في تدريس التاريخ والحضارات. مقارنة المضامين الحضارية أو الثقافية وطبائع البيئة الجغرافية والعرقية دون تحيز أو انحياز أو مفاضلة، وإنما في سياق وضوء التطور الحضاري على نحو يغرس الأمل. ويفيد هذا في توفر نظرة رحبة وأفق أوسع إزاء الواقع بعيدًا عن التعصب العقائدي، ويفيد كذلك في استكشاف قوانين حركة التاريخ، وبيان أن التاريخ ليس عملية قدرية عشوائية، ولا حركة ميكانيكية، وأن اطراد التاريخ اطراد لمسيرة الإنسان.
ويبدو هنا جليًّا من خلال دراسة التاريخ والحضارات أن الماضي ليس آثارًا أو أطلالًا للفرجة والمشاهدة الممتعة وإطلاق آهات تعجب أو مصمصة الشفاه حسرة، بل الماضي أو التاريخ جذور ضاربة في أعماقنا، وثقافة نافذة في فكرنا ووجداننا حتى النخاع. ويتضح كذلك أن الماضي بكل تبايناته الثقافية ليس قدس الأقداس، بل ينطوي على سلبيات وإيجابيات، والإنسان هو صانع التاريخ، إنه حين يعمل ويبتكر ويستكشف فإنه يبني حياته ويصنع تاريخه ويؤكد ذاته.
إن آثار الماضي يمكن أن نحيلها إلى شخوص جامدة ميتة لا حياة فيها، ويمكن أن تنبض بالحياة وتصوغ رؤيتي إلى ذاتي ومجتمعي، إلى ماضيَّ وماضي الإنسان بعامة. إنها تؤثر في صوغ النظرات التاريخية للشعب الذي أبدعها. إنها تواصل الحياة في وجدان الشعب، وهي رموز لتاريخه محفورة في العقل والوجدان، وكل محاولة لطمس هذه الرموز هي محاولة لاغتيال ذاكرة الشعب وانتزاعه من جذوره حتى يسهل اقتلاعه. إن رؤية الأهرام، كمثال، قد تصبح عشقًا للصمود، وتحديًا لظروف الدهر، وترسيخًا لمعنى العظمة والشموخ والإبداع، وتأكيدًا للثقة بالنفس والاعتزاز بما تصنعه يد الإنسان. إنها حلم الخلود، وهوى البناء دون الهدم، وهي شهادة نسب أننا لسنا لقطاء، وهي حافزة للجِد والمحاكاة والارتقاء. ويمكن أن نرى في أمنحتب رمزًا للعلم كقيمة قدسية، ونرى النيل رمزًا للاتصال والأبدية وصورة للسلام والخير والفيض والنماء والوَحدة. ويمكن أن ندرك كيف أن الفن ازدهر مع العدالة واحترام قيمة الإنسان، وأن المسلة رفعة وسمو أو تسامٍ إلى عَنان السماء، وكذلك المئذنة وبرج الكنيسة وكل عناصر ثقافتنا على تباينها أو تعددها. إن احترام التاريخ مجسدًا في الآثار احترام للذات وطموح للمستقبل؛ فالآثار هي أحزاننا وأفراحنا، آلامنا وآمالنا، وهي رموز دالة على عناصر تكويننا الوجداني. وهي ليست أضرحة ولا مزارات لأولياء نتبرك بهم، وإنما رموز نعِي مدلولاتها وعيًا نقديًّا. إنها مظاهر حضارية وثقافية نعِيها وندرسها وفق منهج علمي بحيث نستوعب ذواتنا الحضارية القومية، ونعلو عليها بما نضيفه نحن أيضًا بجهدنا العلمي. وتتوفر لنا الرؤية العلمية لحياتنا حين تتحد النظرة العلمية لمعطيات العلم الحديث، بنظرتنا النقدية العلمية لتراثنا الثقافي التليد.
أقول هذا بمناسبة ما تعرضت له البلاد العربية من انتهاك ثقافي لا تزال آثاره تنخر فينا، وانعكس على مجالات عديدة، منها أسلوب تلقين التاريخ، وهو ما تعرضت له أيضًا بلدان العالم الثالث بصورة أو بأخرى، وكان منها من تدارك موقفه وأعاد صياغة منهجه ليصنع صورته الذاتية وصورة الآخر، ومنها من ينتظر. لقد استهدفت كل القوى الغازية التي وطئت أقدامها الثقيلة الغريبة أرضنا زاحفة من الشمال أو من الشرق، أو من أي جهة من الجهات الأربع الأصلية، استئصال القيم الثقافية الأصيلة للشعب المهزوم وإفقاره رُوحيًّا، وقطع الصلة بماضيه. وهو ما يعني سلبه ميراثه الثقافي ووجدانه الجمالي، وكلها مرهونة بإبداع تاريخه مجسدة في أجمل أعماله الفنية. وهذا الميراث هو رمز انتصاره على الطبيعة، وهو رصيده في النضال ومقاومة النفوذ الضاري للقوى الغازية. وقاومت القوى الغازية ذلك بمحاولة النفاذ والتغلغل في حياة الشعب المهزوم ثقافيًّا، وعمَدت إلى غرس ميولها واتجاهاتها وقيمها، وإعادة صياغة تاريخه، وإن التمس الشعب وسيلة أخرى لاستيعاب تلك الثقافات الواحدة، وانتصر عليها بأن أسبغ عليها وجدانه الثقافي وصاغها، أو صبغها بصبغته الحضارية حين عايشها.
بيد أن هذا لا ينفي استمرار التوتر والتناقض، وهو ما ينبغي أن يكون حافزًا للحركة، إذ لا تزال حجب كثيفة متحيزة تحجب الرؤية الصحيحة إلى التاريخ، ولا نزال أبعد ما نكون عن النهج العلمي الموضوعي في دراسة وتدريس التاريخ. إن معرفة تاريخ الشعب والبلد وأمجاد الماضي ممثلة في آثاره وتراثه الثقافي والحضاري يثري الكِيان الرُّوحي للشعب ويمكِّنه من التصدي بقوة وعزيمة كما يمكِّنه من أن يمايز بين ما هو أصيل وخالد وبين ما هو غث وشكلي. ونعرف أن كل ما هو أصيل وإيجابي في إبداع أعلام الماضي وأبطاله على مدى القرون والأحقاب ينطوي على عنصر دائم وأبدي وخالد: هو رُوح الشعب ومثله العليا وأمانيه المشعة ذات الصبغة المتميزة، والتي تمنحنا جميعًا شخصيتنا القومية والقدرة على فهم وترسيخ معنى وَحدتنا القومية الاجتماعية، والانتماء. فالتراث الثقافي والتاريخي قوة معنوية دافقة ودافعة مهولة، وتأكيد لِوعْيٍ زاخر بالمضمون. والنأي عن هذا عزوف عن النهج العلمي في تناول التاريخ. وانتهاك لأبسط قواعد التفكير أو الخلق العلمي، ومحاولة لتشويه بناء الإنسان ثقافةً ووجدانًا وفكرًا.
إن الإنسان كائن حي يفكر، يشعر، يُحس، يقرأ، يشاهد، يؤوِّل، يُسقط مشاعره على الخارج … فعال بنَّاء. وهو في كل هذا ثقافة موروثة ومنتجة فاعلة ومتفاعلة، وإنه في اتصال دائم بقيم ثقافية تراكمت عبر آلاف السنين. معنى هذا أنه لا يستطيع العيش والتفاعل مع الحياة بدون معرفة عقلانية نقدية للتاريخ. والتاريخ ليس مجرد ذاكرة تستوعب أحداثًا صماء، وتواريخ أو مواقيت جامدة بغير حياة، بل إنه منهج يعلمنا أولًا أن نفكر على نحو تاريخي تطوري، أي إن التاريخ نمو وحركة لها قوانينها. ويعلمنا أيضًا أن ندرك الروابط التي تربطنا أفرادًا وجماعات بمجتمعنا وجذورنا الثقافية، أي التاريخية الاجتماعية النابعة من واقع جغرافي محدد، ومن ثَم يربطنا بآمال المجتمع. لهذا فالتاريخ مكوِّن أساسي من مكونات فكر الإنسان مهما كانت مهنته أو حرفته، ويتعين تلقيها أو تلقينها وَفق منهج علمي سديد حتى يكون فكر المرء مستقيمًا، ونظرته إلى ذاته صحيحة، وسلوكه مع الواقع والحياة قويمًا. لهذا تتجاوز معرفة التاريخ حدود المعرفة ذاتها. إنها أيضًا قوة أيديولوجية وأخلاقية تصل بين العصور والعهود المختلفة، وتربط الأجيال المتعاقبة، وتغرس التفاؤل التاريخي في نفوس البشر، وترسخ شعور الثقة في التقدم والانتصار دائمًا، انتصار الجديد على القديم. وهذه هي الدلالة الاجتماعية للتاريخ والتي لا تتأتى إلا من خلال تناوله على نحو علمي.
ويفيد في هذا أن نقدم تاريخ الفكر العلمي باعتباره تراثًا، ونعرض التفكير العلمي كعملية تاريخية ممتدة مع امتداد البشرية وصراعها ونضالها ضد الأفكار المناهضة، ثم انتصاراتها وعثراتها وأسباب ذلك. وإذا كان التفكير العلمي تراثًا إنسانيًّا ممتدًا له تاريخه في أوروبا الحديثة، ولدى الإغريق، فأولى بنا أن نقدم ذلك كله، ونضيف إليه تراثنا في التفكير أو التاريخ النضالي للتفكير العلمي في مجتمعاتنا العربية بامتدادها الحضاري منذ الفراعنة الأقدمين والبابليين وتراثنا العربي والشرق أوسطي، ليكون جزءًا من البانوراما الإنسانية، آملين أن نضيف من عندنا ما يؤكد ذاتنا في ملحمة التقدم الإنساني، ولا نقتصر على ما يقوله الأوروبيون.
والتاريخ العلمي في إطار التاريخ ليس قاصرًا على التاريخ القومي وحده، بل يشمل تاريخ الإنسانية جمعاء، والشعوب المختلفة، ذلك لأن من صفات العقلية العلمية أن تكون عالمية النطاق تتسم بالشمولية. ومثلما يتعين علينا أن نفكر على نحو علمي ونحن نعرض تاريخنا القومي، كذلك يتعين أن نكون علميين في تناولنا لتاريخ الشعوب الأخرى سواء من حيث الموضوعية النسبية والنظرة النقدية الحرة المتحررة أو بيان قوانين حركة التاريخ. والإنسان لا تكتمل إنسانيته ما لم يُثْرِ عقله وفكره بمعرفة كل الكنوز التي أبدعتها الإنسانية في الفن والموسيقى والعلوم والآداب … إلخ، وهو ما يوضح خطأ وخطَل رأي دعاة تدمير واستئصال القيم الثقافية والحضارية الغريبة عنهم أو التي تتناقض مع فكرهم وثقافتهم، ويؤثرون الانغلاق على أنفسهم. والحفاظ على الكنوز التي أبدعها عقل ووجدان الإنسان على مدى التاريخ يعلمنا كيف ندرك الجمال ونتذوقه، ويعلمنا كيف نُعلي من قيمة العمل الإنساني الإبداعي قديمًا وحديثًا دون تعصب، ويعلمنا أيضًا أن نحترم التاريخ ونعِيَه بصورة أفضل وأصوب. وضياع هذه الكنوز، كلها أو بعضها، ضياع للمنهج العلمي في رؤيتنا للواقع بامتداده التاريخي وشموله الإنساني، ويعني أننا نصبح أفقر رُوحيًّا.
وما قلناه عن التفكير العلمي في نطاق التاريخ، يصدُق كذلك على العلوم الإنسانية الأخرى: المجتمع والحضارات والفلسفة … إلخ، كما يصدق على العلوم الطبيعية ذاتها. إذ يجب أن يَنفُذ العلم كنظرة ومزاج وخطوات وقواعد إلى كل المواد التعليمية، فتكون مواد ذات صبغة علمية في نهجها، وأن نصبغ تعليم العلوم بصبغة إنسانية، ونوضح الطابع الدرامي والملحمي للتقدم العلمي ذاته، ونربط تاريخ العلم بالتاريخ العام. فالعلم تغير دائم ونشاط فعال مطرد، وليس مجموعة حقائق جامدة، وإنما هناك جديد أبدًا. إنه ليس تاريخًا بل حركة دافقة متجددة. بينما الملاحَظ في سياستنا التعليمية وتربيتنا الفكرية أننا نُعنَى بحشو الرءوس بمعارف علمية متراصة لا يدري الطالب شيئًا عن معنى الترابط العلمي بينها، ولا عن معنى وَحدة العلوم، كما يفتقر إلى القدرة على تكوين نظرة كلية شاملة إلى الظاهرة العلمية موضوع البحث، ناهيك عن الإنسان والوجود. فطالب الطب الممتاز مثلًا هو من يحسن استظهار جزئيات المعارف، ويحفظها مثلما يحفظ سور القرآن، وربما بطريقتها أيضًا، وإن أعْوَزَته نظرة كلية إلى الإنسان كوَحدة أيكولوجية اجتماعية وجودية، وأنه لا انفصال حقيقي بين الجزء والكل، وإنما هو انفصال منهجي ظاهري تيسيرًا للدراسة. وأكثر من هذا أن مثل الطالب قد لا يعرف معنى الصدق العلمي، أو البرهان العلمي والانحياز له، ولا يعرف شيئًا عن تاريخ علم الطب وسِير أساطينه، ولا ريادة مصر وما بين النهرين والصين والعرب، وانتكاسنا بعد ذلك، ولا يعرف العَلاقة بين ما يدرسه من علوم وبين مشكلات مجتمعه وتاريخه وثقافته، ثم دوره ومكانه هو بعد ذلك، إنما يخرج إلى المجتمع مبتسَرًا خَديجًا، مبتور المعارف، وعاءً لجزئيات قد يجيد تطبيقها في مجالها المحدد والمحدود، أما التفكير العلمي في مجال تخصصه فهو أبعد ما يكون عن نفسه وهواه. لذا لا يكون غريبًا أن تَقرَّ في نفسه فردية بحتة، سواء في ممارسته العلمية أو الحياتية. ولهذا يخرج برأس مملوء نثارًا من المعارف الضيقة التخصص، قد تكون غزيرة في نطاقها، ولكنها شديدة التخصص والانغلاق، ولا تتجاوز حدود تخصصه، وما زاد عن ذلك فهو مساحة بيضاء يشارك فيها سواه ممن هم دونه علمًا، وربما العامة. ويخرج أيضًا دون تدرب على المنهج العلمي وقواعده، ويخرج ثالثًا وعلمه مبتور الصلة بثقافة مجتمعه والثقافات العلمية الأخرى، وهو ما يعني افتقاره إلى رؤية شاملة للكون والحياة والمجتمع وحركته، وهي العناصر الكفيلة بتحديد أهداف الإنسان في الحياة. وما يصدق على طالب الطب يصدق على غيره من طلاب العلوم والتخصصات الأخرى. إن التعليم في أفضل صوره الأمينة تحصيل واستظهار وتلقين، وليس أداة توجيه وحفز للفكر، أو دافع لمزيد من البحث، أو بيان للصلة بين المشكلات التقنية والواقع، وليس تدريبًا على كيفية ممارسة المنهج العلمي وتذوق الحقيقة العلمية في التحقق منها وإيثارها والالتزام بها.
التفكير العلمي نهج الحياة … وللحياة
مثلما أننا بحاجة إلى أن نتعلم كيف نفكر، علينا أن نتعلم لماذا نفكر على هذا النحو؟ لماذا ينبغي أن نرصد جهدنا للبحث العلمي؟ ما هي غاياتنا وأهدافنا؟ هل العلم للعلم؟ هل هو ترف وإزجاء للوقت، أم العلم للتقدم؟ ونحو أي اتجاه ولأي هدف؟
لم تعد الحياة خبط عشواء، ولا اختيارًا تعسفيًّا، ولا أماني كذاب تطلقها الألسن ونحن قعود؟ ولم تكن كذلك أبدًا، وإن أصبحت اليوم أكثر تكثيفًا، إذ لم تعد ثمة فرصة لضياع الوقت ونحن في عصر أبسط تعريف له أنه عصر ثورة المعلومات وثورة توظيفها. فزخم حركة التطور الارتقائي للمجتمع أصبح زخمًا شديد الكثافة، سريع الحركة، يدفع بالقابع إلى الخلف أجيالًا وقرونًا في سنوات معدودات. وهذه الحركة التطورية الارتقائية للإنسان والمجتمع ركيزتها العلم: الاكتشافات العلمية وسرعة تطبيقها، والإفادة منها فورًا في الحياة العملية.
والتفكير وظيفة ذهنية إنسانية، إنه عملية ذهنية يقوم بها الإنسان في تكامله وليس المخ وحده مستقلًّا، وهو أداة الإنسان في التعامل مع الواقع بناءً على تصور كامل لهذا الواقع وفهم له. والتفكير أيضًا محصلة معارف تلقاها الإنسان وتراكمت على نحو معين قد يكون منسقًا أو عشوائيًّا تلقائيًّا، يرى المرء من خلالها واقع حياته، ويتوسل بها في تعامله مع هذا الواقع. ولكي يكون التفكير علميًّا لا بد وأن يلتزم بمنهج مرسوم الخطوات في تحصيل المعارف والتزامها بخطوات المنهج، وانتظامها في نسق، أو الأخذ عن مصدر موثوق ومعتمد علميًّا. وإيثار علمية المعرفة دون سواها ليس تعسفًا، بل تأكيد لمصلحة الإنسان في أن يضمن الوصول إلى هدفه بأقصر الطرق وأضمنها، بدلًا من أن يقضي حياته مع المحاولة والخطأ أو مع صفقة خاسرة حين يبيع واقعه الموضوعي وإنجازات علمه إيثارًا لتقاليد وأفكار موروثة، فيقضي عمره كالمُنبتِّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، فإن العلم في تباين مصادره ومباحثه هو في نهاية المطاف أصدق صورة نسقية متاحة عن الوجود الإنساني والاجتماعي والطبيعي؛ ومن ثَم أضمن السبل لتوفير حياة ناجحة تعبر عنها سيادة الإنسان على مقدراته، وسيطرته على الطبيعة واختياره لأهدافه.
وهكذا يُعَد التفكير العلمي بحقٍّ مكونًا أساسيًّا من مكونات النسيج الاجتماعي. إنه الجهد الواعي من أجل صوغ إطار النشاط الاجتماعي والإفادة بالمعارف البشرية والوسائل التقنية من أجل رفاهة الإنسانية. فليس العلم فقط مجرد معرفة مكونات عناصر الطبيعة المادية ابتغاء تعزيز التقدم التكنولوجي، والذي ساد مع سيادة إنتاج الآلة، وإنما يعني أيضًا، وفي المحل الأول، فهم قوانين الحياة الاجتماعية وتطبيقها في الممارسة العملية من أجل تحصيل التقدم الاجتماعي. ولهذا كان التفكير في عصر النهضة الأوروبية ثورة على الماضي وعلى الجهل أو الجاهلية. وكذلك التفكير العلمي المنشود في بلادنا، إنما نستهدفه أداة لتغيير الواقع الاجتماعي وثورة على الجاهلية المتفشية.
وبيت القصيد هنا هو العلوم الاجتماعية، أو التفكير العلمي في ميدان علوم المجتمع والإنسان. ولهذا ليس بمستغرب أن تسعى قوى التجهيل جاهدة من أجل طمس هذا الجانب، أو تشويه وإفساد علمية التفكير الاجتماعي؛ لأنه هو الخطر الذي يتهددها، ولأنه في جوهره ثورة على سلبيات وأخطاء الماضي، وضد أي ردة إلى الجاهلية، إذ يستهدف التفكير العلمي في مجال العلوم الاجتماعية:
-
(١)
تحديد طبيعة المشكلات الاجتماعية والاتجاه الصحيح للتحولات الاجتماعية، والبحث عن الوسائل الملائمة لبلوغ الأهداف المنشودة، وسبل التنظيم القويمة، والتنسيق بين التغيرات في المجالات المختلفة للنسق الاجتماعي. أن يكون التفكير العلمي ركيزة صنع القرار وتحديد الأهداف والوسائل … إلخ، للنشاط الاجتماعي.
-
(٢)
استخدام العلم كوسيلة لتطوير الذات الاجتماعية، إذا صح هذا التعبير، وتنمية معلوماتها، والارتقاء بوعيها وتربيتها، وكذا الارتقاء بوعي الجماهير وتربيتهم الإنسانية، إذ بهذا تزيد مبادرتهم في حل المشكلات الاجتماعية، وصوغ صور مستقلة لأساليب التنظيم الاجتماعي والمبادرة الإبداعية. ونسهم بذلك، أفراد الجماعة، في تشكيل وتطوير الوعي.
-
(٣)
استخدام التفكير العلمي أداة لمحو السلبيات المسئولة عن التوترات في النسق الاجتماعي، أي الكشف عن المتناقضات وتحديد ثقلها وأثرها في المجتمع. وتفيد الدراسات المقارنة للحضارات في الحد من غلواء التعصب وضيق الأفق، حيث يشعر الواهم أنه ليس فريد عصره وزمانه بل نظير لغيره، وغيره كثيرون.
-
(٤)
ويفيد التفكير العلمي أيضًا في تأكيد إرادة الإنسان وجرأته المنظمة على معالجة عوامل الجهل والتجهيل، ومن ثَم يُعَد هذا التفكير جهدًا إيجابيًّا، وهو النقيض لسلبيات اللامبالاة التي تعم مجتمعاتنا. وهكذا يصبح التفكير العلمي كما قلنا أحد مكونات نسيج الوعي الاجتماعي الناهض دومًا؛ ولهذا تسعى القوى المحافظة إلى إفراغ العلم من مضمونه الاجتماعي، وإلى إنكار التفكير العلمي وجحد فائدته ومناهضته بحجة تعارضه مع الموروث والتقليد.
إن قيمة التفكير العلمي ودوره في الشئون العامة يمكن بيانهما وقياسهما عن طريق تأثير التفكير العلمي الواعي على طريقة الناس في تناول أمور حياتهم الاجتماعية، ومدى حصادهم من المعارف العلمية وارتباطها بثقافة المجتمع. ولكن الداء الوبيل الذي نعاني منه، وتعاني منه في ظني شعوب أخرى متخلفة أو مقهورة، أن أصبح العلم منفصلًا عمدًا عن الوعي العام، والنتيجة سيئة للغاية لكليهما، للعلم وللوعي العام على السواء. إنها سيئة للناس لأننا نعيش في عالم من صنع الإنسان، سواء صنع أسباب الرزق أو المأوى أو متع الحياة أو التنافس من أجل هذه المصالح وخوض الحروب طمعًا فيها … إلخ. وتخلف التفكير العلمي يفضي إلى تخلف الإنسان عن إدراك وملاحقة السبل والميكانيزمات التي تحكم حياته وبيان أسبابها وطرق علاجها، وتصبح مشكلاته مُعمَّيات. وهكذا يرتد بتخلفه إلى حيث لا نجد فارقًا بين الإنسان البدائي الهمجي بجهله المطبق وعجزه التام أمام ظواهر الطبيعة من جفاف أو مرض، وبين الإنسان الحديث بجهله وعجزه أيضًا إزاء الكوارث التي من صنع الإنسان، ممثلة في البطالة والحروب والتلوث البيئي ونقص أسباب الرزق والفقر والمرض والهزائم والاستبداد. وخير مثال على هذا ما حدث عقب هزيمة ١٩٦٧م ونتيجة لها، حين واجه الناس صدمة الهزيمة مغيبين يجهلون حقيقة أوضاع حياتهم، ولا يملكون تفسيرًا علميًّا لما حدث وقد عاشوا عُزْلًا من أي تفكير علمي لظواهر حياتهم، أو مشاركة في الفهم، أو مسئولية صنع الحياة بصورة واعية، وكانت النتيجة ردةً أو هزيمة نفسية قاسية عبَّرت عن نفسها بتلك الردة الفكرية، وذيوع اتجاهات أسطورية في تفسير الواقع تحاول أن تلتمس في خرافاتها سبيلًا للخلاص أو ملاذًا يهدئ من رَوعها. وليس من قبيل المصادفة أن شهد عصرنا الراهن بعثًا جديدًا للخرافة وهو يواجه المجهول المرعب، وتصدمه مشكلات لا يملك الوسائل لفهمها بعد أن بات أعزل من التفكير العلمي. ولا يفيد من ذلك الجهل أو التجهيل غير أصحاب المصلحة في الاستئثار بمغانم قد تكون نفوذًا أو سلطانًا أو مالًا، ويجدون دعامتهم في ضحاياهم ممن أصابهم التخلف والجمود.
وإذ كنا ننشد صدقًا غرس التفكير العلمي، ومن ثَم إعادة تنظيم العلم والتعليم وجهود البحث العلمي والمناخ المساعد لذلك، فلا بد وأن نتبين أولًا طبيعة القيم السائدة في المجتمع ونظرتها إلى العلم وعَلاقتها به؛ أي تحديد اتجاه المجتمع وموقفه من العلم كقيمة. ذلك أن مهمة غرس التفكير العلمي ليست مهمة جزئية، بل مهمة اجتماعية شاملة لا يمكن أن يقوم بها وينجزها الباحثون العلميون وحدهم، أو الدولة وحدها، أو التنظيمات الاقتصادية خارج مجال العلم، أو التنظيمات السياسية؛ وإن كان لكلٍّ من هؤلاء دوره، بل يقوم بها الجميع معًا في تآزر وحسب اتجاه مرسوم، طبقًا لرؤية تحليلية علمية للواقع والتاريخ والهدف المنشود. ولهذا فإن مسألة غرس التفكير العلمي هي قضية اجتماعية وتربوية وسياسية ثم حضارية في آنٍ واحد، وكل جانب منها يعني البنية الاجتماعية والتربوية والسياسية للمجتمع: حشد العلماء والتعليم، وتمويل البحوث وتطبيقها والإفادة بها، والتربية الثقافية الاجتماعية … إلخ. ويلزم بدايةً تحديد طبيعة القيم السائدة في المجتمع واتجاهها من العلم ومناقشة ذلك صراحة، وتفهم أصولها وجذورها، وتفنيد ما ينافي العلم منها؛ ذلك لأن هذه القيم قد تشكل، وهي بالفعل هكذا، معوقًا لتقدم العلم. وإن تغيير اتجاه المجتمع على نحو يطلق حركة العلم لصالح الإنسانية، ويجعل من التفكير قيمة رفيعة يفترض مقدمًا تغيير بنية وذهنية المجتمع ذاته، أو يستهدف ذلك، ليكون مجتمعًا حريصًا على تقدم العلم مؤمنًا به، منحازًا إليه من أجل صالح البشرية، وأن يهيئ الوسائل اللازمة لهذا التقدم والاستخدام الاجتماعي الفعال للنتائج المترتبة على ذلك.
إن العلم أو التفكير العلمي وحده هو الذي يمنح الإنسان وعيًا صادقًا بالحياة والطبيعة والنفس والمجتمع والتاريخ … وفي ممارسات الحياة ابتداءً من طريقة فلاحة الأرض وانتقاء البذور إلى غزو الفضاء. وهكذا يحدد العلم أهداف وأسلوب حركة الحياة والمجتمع، ويتعين كما قلنا أن يكون العلم أو التفكير العلمي حرًّا من كل قيد ضمانًا لصدق الرؤية وموضوعيتها بعيدًا عن التزييف والنفاق. وتكون هذه الرؤية علمية حقًّا حين توحد بين العلم وبين الثقافة بمعناها الاجتماعي.
لقد أصبح الفناء والبقاء بمعناهما المادي والحضاري في عصرنا الآن رهنًا بالتوجه الاجتماعي للتفكير العلمي. وأضحت الحياة الاجتماعية اختيارًا واعيًا متكاملًا في ظل ثقافة تغرس التفكير العلمي، إذ يختار المرء والمجتمع باستقلالِ فكرٍ وعقلانيةٍ أهدافه الفردية والاجتماعية في ضوء فهم علمي لمتطلباته وتطلعاته، وتحليل عقلاني لواقعه. وهنا نبلغ غاية جديدة يتلاحم فيها العلم مع السلوك العملي الجمعي والفردي، ويضحي العلم ركيزة للأخلاق وتربية للوجدان، ونبع ثقافة لقدرة الإنسان على تغيير الواقع، واقعه النفسي والمجتمعي والطبيعي، وتتبدى سيادة الإنسان على الطبيعة كقيمة أخلاقية سامية لخدمة البشرية جمعاء. وبدون ذلك لن يجد المرء لنفسه ملاذًا غير التحليق في تهويمات خيال مريض، وانزواء وانسحاب إلى داخل النفس في استسلام لقدَر غشوم، ولامبالاةٍ مدمرةٍ لمسيرة المجتمع وكِيانه.