أمراض الحب والعشق

بالنظر إلى أن تراثنا العربي بكامله من تقليدي، كلاسيكي، وشعبي فولكلوري؛ يوغل في الإغراق في المترادفات الوحدة المتوحدة للجبرية والدهرية والقدرية والوعيدية، كما سبق لي أن أفضت في طرح هذا الملمح الجوهري في معظم كتبي عن فولكلور وأساطير العالم العربي، والأساطير الفولكلور العربية، والحكايات العربية الشعبية، وعلمنة الدولة، وعقلنة التراث العربي.

لذا لا يستثنى — بالطبع — مأثوراته الشعرية، وأغانيه التي هي موضوع هذا الكتاب؛ عن شقيقاتها من حكايات وأمثال وسير وملاحم من الإغراق في بحار الدهرية والغيبية، وأفعال الزمن والدنيا والأيام والخطوب والليالي السود، ويكثر هذا الملمح بإفراط واضح في مأثورات الموال الجنائزي الأحمر، لكنها تصبح أقل منها في نقيضه — الدنيوي — الأخضر، المتصل بطقوس التجميع والإخصاب، بدلًا من الغياب والتفرق — أو ما يعرف بالفرقة «بضم الفاء».

إلا أن مثل هذا التوغل الجبري الدهري تتزايد حدته في المواويل والمأثورات التي مجالها وقائلوها المعلولون والمجروحون بالحب والعشق، وعلى كلا الجانبين أو النوعين، سواء أكان المعلول رجلًا ذكرًا أو انثى، إلَّا أن المأثورات المعتلة بالعشق وأمراض الحب ترد بكثرة منتسبة إلى قائليها، وجمهورها الذكوري عنها في حياة الفتاة الأنثى.

ومن أمثلتها السابقة واللاحقة الحاجة إلى الإتيان بالحبيب والعشق سواء عن طريق طبيب المبالي والأوجاع أو طبيب لجراح أو البين وأهله وعائلية الذين كثيرًا ما ينكلون بضاحياهم — من المعلولين — عن طريق إيقاعهم في أمراض العشق هذه:

يا مين يجيبلي حبيبي وياخذ من عيوني عين
وياخد نص التانية وأشوفو بنص العين.

ومثل:

أنا الذي ابتليت بالغرام وستي حامله في أمي

أي إن قائل المأثور السابق كتب عليه «الدهر» الموت عشقًا قبل أن تُولَد أمه أصلًا.

ومثل:

ما ظهرت الآه إلا من عليل الحب

ومثل:

وجرح العليل ما يطيب إلا إن نظر خله

ومثل:

يا ما مجاريح عاشوا بطول العمر ماطالوش
ماتوا بنار المحبة والحيا غالب.

وكيف أن من كان له حبيب قاصد عينه ولم يطله، فإنه يظل يتوجع من قولة «آه» حتى ينسلي ويموت.

فالمحبين والعشاق و«أولاد الغرام بدلوا غناءهم بالعديد والندب والبكاء»، وهو صحيح إلى حدٍّ كبير إذا ما أعتبونا مأثورات جرحى العشق بكائيات ذاتية أو جنائزية.

وكثيرًا ما تتمثل هذه المأثورات الشعرية بشخصيات تاريخية وأسطورية عاشقة؛ مثل: نعيمة، وشفيقة، وعزيزة، وناعسة زوجة أيوب، وكذلك بشخصيات خرافية لقصص شعرية أو بالادا مندثرة، وقد يكون كل ما تبقى منها ومن ملامح ودفائن عشقها الجارف المميت سوى مثل هذه المأثورات التي عادة ما تدور حول شخصيات تُدْعَى «ورد وسلبند»، وفي مأثورات شعرية أخرى ترد باسم «ورد وإدريس»، منها هذا المأثور:

إدريس لقى وردة بتبكي
قال لها: مالك؟
مالك ومال الغرام يا وردة
واخداه في بالك
قالت له وردة:
ببكي على شاب يا إدريس
كان في الحشا مالك
لُو جوز عيون سود
إن فتحوا صبحوك في الحشا هالك.

وكثيرًا ما يدور الحوار بين عليل الحب أو العشيق المبتلى وبين طبيبه، أو طبيب الجراح الذي — كما يرد في المأثور التالي — ما إن رأى مريضه حتى بكت عيناه، وما إن كشف على علته وجرحه بمبضعه ومرهمه حتى بانت عيناه الجرح، وهنا سأله العليل — بالهوى — عن كيف أن نار الحطب قد تشابه لنار — خشب — الدوم، فأجابه الطبيب بأن نار الحطب تنطفئ، أما نار المحبة فدائمة الاشتعال، في صدر المحبوب المبتلى طبعًا.

طبيب الجراح

طبيب لجراح نضر جسمي بكت عيناه
كشف على الجرح بالمرهم بانت عيناه
قاللو أمانة يا طبيب:
نار الحطب تشبه لنار الدوم؟
قاللو:
نار الحطب تنطفي يا ابني ونار المحبة دوم
أنا لا بسَهَر أرتاح ولا بنعسي يجيني نوم
إذا لم أشاهد حبيبي وانتظر عيناه.

•••

عيني رأت بنية حية من بلاد الغرب
لابسة توب أسود من جناح الغرب
شفقت بحالي وتاه الفكر عن بالي
شفقت بحالي وحملت الكتب ع الغرب
أنا قلت هيا بنا يا طبيب بالعجل نمشي
في باطني جرح يا طبيب بسهربو ولا نامشي.

وفي المأثور السابق المجلل بالقتامة، حيث إن قائله ما إن رأى فتاة «من بلاد الغرب» بما يوحي أنها غريبة، أو أنها أجنبية — غربية — كما أن الغرب دائمًا مرتبط في مأثورات — وفولكلور — الجهات الأربع أو أربعة أركان التابوت بالجهة الموكل بها دفن الموتى، ولتكن «بلاد المقابر» أو الضفة الغربية للنيل حيث المقابر، وأهمها مقابر وادي الملوك بمصر العليا.

بل وكثيرًا ما يعتل طبيب المحبين ذاته بالعلل والأوجاع، عندما تصرعه عيون المحبوبة وبهاؤها، حيث الكشف عنها ولو بالنظر:

إزاي أنام يا طبيب وآهو تاء مني الكيف
علشان ظبا١ ترك طيا طبيب لحظة كيف حد السيف
قاللي ياللا بنا يا عليل بالعجل يمه
نحققه بالنظر لم نختشي منه
راح الطبيب وجاني منطبق فمه
وقال يا ناس أنا شكل الجميل دا ماريت
الوجه زي القمر أما العيون دي ماريت٢
أنا من يوم ما شفته وطبق الورد ما شفته
البيت عفته٣ وأحلا طعامنا ما ريت.٤

•••

في باطني جرح يا قاضي الغرام غلايين
وأحباب قلبي إن غابوا برضو هم غاليين
أنا الذي عند خصماتي حلفت يمين
أنا ما هابطل الغندرة ولا أدي للعدا واطي
وإيش أوصف أن القوارب تشبه الغلايين.

•••

آهين على وحدتي والوعد لسه بعيد
أنا ما كواني وخلاني في الخسس ما يزيد
أنا ماكواني إلا العوازل بيبرشم في الكلام ويعيد
٦٧ أنا بيدي ولا فيدي إلا منديلي لبيض
والقط كل دمعة بإيدي
دا اللي سعدهم زمانهم فنارهم من أول الليل بيايدي
لكن ولاد الغرام بدلوا الغنا بعديد
لامو عَلَيَّهْ العوازل قالولي قوم يا مبتلى
ابدل القديم بالجديد
لحسن دا بكره العيد
أنا قلت خلي العيد لاصحابو
إيش يعمل العيد للي تفرق أصحابو
أنا عندي لمة أحبابي أحسن من ليالي العيد
صبح سلام اللي أحبه من بعيد لبعيد
آهين على وحدتي والوعد لسه بعيد.

•••

جرا اللي جرا يا عين ما حد عزاني
وطلعت أعزي لقيت الندل عزاني
الوز ماهوش ظفر دا القول على الضاني
أنا كنت أنزل الحرب واتباهى بعزالي
الحرب حربي وأنا اللي جيتلو ما جاني
أيوب لما ابتلى واحد ودا التاني
احنا سمعنا مثل من الكبار قالوه
أهل البلدي خدولهم سبر طلعوا فيه
ما يعشقوا إلا قليل الأصل والزاني.

•••

عاشرتكم ع النقا وايش نابني منك
إلا المسبة وتسويد الوجوه منكم
انتوا كان لكم باب من ساعة العشا يلكم
اتفندق الباب وبقى الندل يخطر فيه
وخصايل الندل آهي لاقت بخاطركم.

•••

ما أصل يا عين دمعك على الخد ما ينزل
قالت على الصاحب اللي ربط ع الود ما ينزل
مضى زمانو على ضهر الخيل ما ينزل
أنا اللي من صغر سني في الهوا طالع
ربي أتاني بعزول قطف زهري وأنا طالع
عمل معايا عمايل الصبح وأنا طالع
في وسط شارع ترش الملح ما ينزل.

يُنْسَبُ هذا المأثور — أحيانًا — لشخصية «بالاد» خرافية؛ ورد وحبيبها سلبند، وسنتعرض لها تباعًا:

سلامات م الغيبات مد ايدك وشابكني
ياللي غرامك طحن قلبي وشابكني
لك جوز عيون سود كما السنار شابكني
إن أسبلم جرحوا وان فتحوا صابوا
دا أنا اللي خايف على العمر يفنى وانت شابكني.

وكثيرًا ما يتمثل تنكير وعذابات ذلك الكائن الخرافي — البين — بضحاياه عن طريق الحب وأمراض الغرام:

فات شهرين … وراح شهرين … وجه شهرين
نص السنة فاتت ما انطبقلي رمش جوا عين
البين وعم البين وخال البين
البين ركبلي ع الخدين دولابين
وكل دولاب بستاشر قنا تجري
بينزحوا دم من مغرم كواه البين.

•••

شعبان ورمضان وشهر العيد ومحرم
لَرْبَع هلالات على نومهم جرم
لا بسهر ارتاح ولا بنعس يجيني نوم
ولا أكل باكل ولا ليه جلد للصوم
وآدي خلي البال راقد لم بيتحرك.

ويبدو أنها واحدة من أغاني ومأثورات العمل لمهنة النساجين، وعُثِرَ على أغاني عملهم في الفولكلور الأوروبي بكثرة:

يا نجمة الصبح طلي وارجعي روحي
وسلميلي على اللي مهنياه، روحي٥
وسر من أنزل القرآن في اللوحي
حابكي على الناس ولا ابكي على روحي.

ويتضمن المربع التالي لغزًا شعائريًّا لذلك الطير الرابض في كبد السماء، لحمه حرام أكله، على عكس من دهنه:

رق عن أهل العشق يا مالك
وادري بأن مذهبي مالك
عيني رأى طير٦ في كبد السما بارك
لحمه حرام ودهنه حلله المالك.

•••

يا مين يجيبلي حبيبي وياخد من عيوني عين
وياخد نص التانية وأشوفو بنص العين
الحلو قابل حبيبه في نهار اتنين
قعدم يعيدو الكلام بَكُم سوا لتنين
اتنين في اتنين يا قاضي الغرام أربعة واتنين
اتنين في حيط واتنين في بيت واتنين في بحر
واتنين في غيط واتنين في قصر واتنين في مصر
واتنين في اصطمبول
اتنين في حيط دي عقدة ودي صره
واتنين في بيت دي قحبه وادي حره
واتنين في غيط دي حلوه ودي مره
واتنين في بحر دي لفشه ودي بنه
واتنين في قصر … أنا ومحبوبي نسكر في أوان العصر.
١  فتاة كالظباء تركية، بما يشير إلى انتماء المأثور للعصر التركي.
٢  يبدو أن المريض هنا تَعَنى أو قد تلفظ «ما ريت» أو ما رأيت.
٣  تعفف عن بيته قد يعني مضاجعة امرأته.
٤  أصبح لا يمري.
٥  اذهبي.
٦  النحل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤