الفصل الثالث

الْكَاذِبُ الْحَادِي عَشَرَ

(١) فِكْرَةٌ مُوَفَّقَةٌ

لَقَدْ كَانَتْ لَيْلَةً طَيِّبَةً، سَمِعْتُ فِيهَا مِنْ لَطَائِفِ الْقَصَصِ وَفُنُونِ الْخَيَالِ، مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لِي عَلَى بَالٍ. وَلَكِنَّنِي عَجِبْتُ مِنْ عَجْزِهِمْ جَمِيعًا عَنِ الْحُصُولِ عَلَى وَزَّةِ السُّلْطَانِ، بِرَغْمِ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ ذَكَاءٍ بَارِعٍ، وَخَيَالٍ رَائِعٍ.

وَلَمْ أَدْرِ: كَيْفَ غَابَ عَنْ كُلِّ كَيْذُبَانٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَيَاذِبَةِ الْعَشَرَةِ أَنَّ الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكُوهَا لَا تُحَقِّقُ مَطْلَبَهُمْ، لِأَنَّ كِذْبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا تَدْعُو السُّلْطَانَ إِلَى أَنْ يُنْكِرَهَا وَيَرْفُضَ قَبُولَهَا مِنْهُ؟ فَلَيْسَ فِيمَا سَمِعَهُ مِنْ أَكَاذِيبِهِمْ، مَا يَضْطَرُّهُ إِلَى تَكْذِيبِهِمْ. وَمَاذَا يَهُمُّ السُّلْطَانَ مِمَّا قَالُوهُ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ يَدْفَعُهُ إِلَى إِنْكَارِهِ، مَا دَامَتْ قِصَصُهُمْ لَا تَجْلُبُ لَهُ شَرًّا، وَلَا تُلْحِقُ بِهِ ضُرًّا؟ أَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ السُّلْطَانَ لَنْ يَتْرُكَ الْوَزَّةَ الذَّهَبِيَّةَ طَائِعًا مُخْتَارًا، وَلَنْ يَنْزِلَ عَنْهَا إِلَّا إِذَا اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ اضْطِرَارًا؟ ثُمَّ خَطَرَتْ لِي فِكْرَةٌ مُوَفَّقَةٌ سَدِيدَةٌ، عَرَفْتُ أَنَّهَا كَفِيلَةٌ بِأَنْ تُرْغِمَهُ عَلَى تَكْذِيبِي، وَبِذَلِكَ أَظْفَرُ بِوَزَّةِ السُّلْطَانِ، دُونَ مَشَقَّةٍ وَلَا عَنَاءٍ.

(٢) حُلْمُ «جُحَا»

وَلَمَّا حَانَ مَوْعِدُ النَّومِ تَفَرَّقَ الْجَمْعُ، وَذَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى فِراشِهِ لِيَنَامَ. وَبِتُّ أُفَكِّرُ طُولَ لَيْلِي، وَأُمَنِّي نَفْسِي بِالْحُصُولِ عَلَى الْوَزَّةِ الذَّهَبِيَّةِ. وَرَأَيْتُنِي — فِي الْمَنَامِ — أَقُصُّ عَلَى السُّلْطَانِ قِصَّتِي، حَتَّى إِذَا انْتَهَيْتُ مِنْهَا، رَجَعْتُ بِالْوَزَّةِ فَرْحَانَ غَانِمًا.

(٣) فِي حَاضِرَةِ المُلْكِ

وَلَمْ أَكَدْ أَسْتَيْقِظُ مِنْ نَوْمِي فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ حَتَّى تَرَكْتُ الْفُنْدُقَ. وَما زِلْتُ أُوَاصِلُ السَّيْرَ حَتَّى بَلَغْتُ عَاصِمَةَ الْمُلْكِ وَمَقَرَّ السُّلْطَانِ. فَأَسْرَعْتُ إِلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ، فَاشْتَرَيتُ مِنْهَا جَرَّةً كَبِيرَةً. وَاكْتَرَيتُ أَيْ: اسْتَأْجَرْتُ بَعْضَ الْحَمَّالِينَ لِيَحْمِلُوهَا. وَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يَتْبَعُونِي، حَتَّى إِذَا بَلَغْنَا قَصْرَ السُّلْطَانِ اسْتَأْذَنْتُ فِي الدُّخُولِ. فَلَمَّا أَذِنَ السُّلْطَانُ لِي دَخَلْتُ. وَلَمْ يَكَدْ يَرَى الْجَرَّةَ الْكَبِيرَةَ حَتَّى ظَهَرَتْ عَلَى وَجْهِهِ عَلَامَاتُ الدَّهْشَةِ وَالْعَجَبِ.

(٤) قِصَّةُ الْجَرَّةِ

فَسَأَلَنِي: «لِمَاذَا أَحْضَرْتَهَا؟» فَقُلْتُ لَهُ: «إِنَّ لِهَذِهِ الْجَرَّةِ — يَا مَوْلَايَ — حَدِيثًا عَجِيبًا. فَقَدْ كَانَ أَبِي أَصْدَقَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ، لِوَالِدِكُمُ الْعَظِيمِ. وَكَانَ — لِحُسْنِ الْحَظِّ — مُسْتَشَارَهُ وَوَزِيرَهُ، وَنَدِيمَهُ وَسَمِيرَهُ. وَلَمْ يَكُنِ السُّلْطَانُ الرَّاحِلُ — عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ وَرِضْوانُهُ — يَصْنَعُ شَيْئًا، مَهْمَا جَلَّ أَوْ صَغُرَ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ بِمَشُورَةِ أَبِي، وَيَتَعَرَّفَ رَأْيَهُ.

وَفِي أَوَاخِرِ عَهْدِهِ الْمُبارَكِ الْمَيْمُونِ، اشْتَبَكَتِ الْبِلَادُ فِي حَرْبٍ طَاحِنَةٍ مَعَ بَعْضِ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَطْمَعُونَ فِي مُلْكِ وَالِدِكَ الْعَادِلِ الْجَلِيلِ وَيَحْسُدُونَهُ عَلَى مَا قَامَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحٍ مُوَفَّقٍ شَامِلٍ، فِي أَنْحَاءِ الْمَمْلَكَةِ كُلِّهَا. وَدَامَتِ الْحَرْبُ سَنَواتٍ عِدَّةً، حَتَّى فَرَغَتْ خَزَائِنُ الدَّوْلَةِ كُلُّهَا، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ.

figure

وَكَانَتْ هَذِهِ الْجَرَّةُ عِنْدَ أَبِي، وَقَدْ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ مَمْلُوءَةً ذَهَبًا فَلَمَّا رَأَى الدَّوْلَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ السَّيِّئَةِ، خَشِيَ أَنْ يَنْتَصِرَ الْأَعْدَاءُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ الْمَالُ كُلُّهُ. فَحَمَلَ كُلَّ مَا فِي الْجَرَّةِ مِنَ الذَّهَبِ الْأَصْفَرِ الرَّنَّانِ، وَدِيعَةً عِنْدَ مَوْلَانَا السُّلْطَانِ، لِيُنْفِقَ مِنْهُ مَا يَشَاءُ، حَتَّى إِذَا كَسَبَ الْحَرْبَ، وَتَمَّ لَهُ النَّصْرُ، أَعَادَ إِلَيْهِ مِلْئَهَا ذَهَبًا. فَإِذَا مَاتَ أَبِي أَوْ مَاتَ موْلَاهُ، فَإِنَّ مَنْ يَخْلُفُهُ كَفِيلٌ بِالْوَفَاءِ بالدَّيْنِ لِوَلَدِهِ، وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَسْرَعَ الْمَوْتُ إِلَيْهِمَا مَعًا، وَذَهَبَا إِلَى جِوَارِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ جَمِيعًا.

وَقَدِ ازْدَهَرَتِ الثَّرْوَةُ فِي عَهْدِكُمُ الزَّاهِرِ، وَنَمَتْ (أَيْ: كَثُرَتْ) خَزَائِنُ الدَّوْلَةِ، وَفَاضَتْ بِالْمَالِ، بَعْدَ أَنْ تَمَّ لَهَا الْفَوْزُ عَلَى أَعْدَائِهَا. وَقَدْ جِئْتُ — الْيَوْمَ — أَطْلُبُ الدَّيْنَ يَا مَوْلَايَ، رَاجِيًا أَنْ تَأْذَنُوا لِي بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ فِي الْحَالِ».

(٥) تَحْقِيقُ الرُّؤْيَا

وَلَمْ أَكَدْ أَبْلُغُ هَذَا الْحَدَّ مِنْ قِصَّتِي، حَتَّى تَحَقَّقَ مَا رَأَيْتُهُ فِي مَنامِي مِنْ صَادِقِ الْأَحْلَامِ. فَقَدِ اسْتَوْلَى الْغَضَبُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَصَرَخَ فِي وَجْهِي قَائِلًا: «مَا رَأَيْتُ أَعْجَبَ مِنْ جُرْأَتِكَ، وَلَا سَمِعْتُ أَكْذَبَ مِنْ قِصَّتِكَ!»

فَقُلْتُ، وَقَدْ صَدَقَ مَا أَمَّلْتُ، وَصَحَّ مَا تَوَقَّعْتُ: «لَقَدِ اعْتَرَفْتَ — يَا مَوْلَايَ — بِأَنَّ قِصَّتِي كَاذِبَةٌ. فَهَلْ تَرَانِي بِذَلِكَ اسْتَحْقَقْتُ الْوَزَّةَ؟» فَابْتَسَمَ السُّلْطَانُ، وَقَدْ أُعْجِبَ بِوَسِيلَتِي (أَيْ: طَرِيقَتِي)، وَحُسْنِ حِيلَتِي، وَمَنَحَنِي الْوَزَّةَ الذَّهَبِيَّةَ، فَعُدتُ بِهَا إِلَى بَلَدِي شَاكِرًا مَسْرُورًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤