مقدمة
قامت جامعة القاهرة منذ نشأتها — قبل ثمانين عامًا — بريادة التقدم الفكري والعلمي، وحملت شعلة التحرر الوطني، لا في مصر وحدها، بل في الوطن العربي كله. ولا غرابة في ذلك، فقد كان قيام الجامعة التجسيدَ العملي لآمال قادة العمل الوطني والفكر الاجتماعي — من أمثال مصطفى كامل والشيخ محمد عبده، وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد — في بناء النهضة القومية الحديثة؛ لإيمانهم أن الجامعة حجر الزاوية في هذا البناء الشامخ.
وحققت الجامعة تلك الآمال الكبار، فكانت دائمًا منارًا للفكر الحر، ومهدًا لحركة التنوير في مصر والوطن العربي، وجسرًا يصل هذا الوطن العزيز بمنابع العلم والمعرفة الحديثة، ومركزًا للإبداع في مختلف المجالات، ودعامةً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وفوق ذلك كله كانت الجامعة دائمًا بؤرة التعبير عن الضمير الوطني وقلعة النضال ضد قوى التخلف والرجعية، وقوى القهر والاستبداد.
ولما كان تاريخ جامعة القاهرة جزءًا لا يتجزأ من تاريخ مصر المعاصر، يعبر عن تطلعات شعبنا العظيم نحو غدٍ أفضل تستعيد فيه مصر مجدها التليد، فقد وجب علينا تسجيل هذا التاريخ لنضع أيدينا على أبعاد الدور الذي لعبته الجامعة في بناء هذا الوطن؛ حتى نستفيد من محصلة تجاربنا في ميدان التعليم الجامعي، فندعم ما هو إيجابي منها ونطوره ونتخلص مما شاب التجربة من سلبيات؛ لنخطو بجامعتنا العريقة قُدُمًا على طريق التطور من أجل خدمة مجتمعنا وأمتنا العربية.
من هنا كانت فكرة إصدار هذا الكتاب الذي يُلقي نظرةً شاملة على جامعة القاهرة في ماضيها وحاضرها، فيتتبَّعها منذ كانت فكرةً دارت في أذهان بعض قادة الرأي والفكر في مصر مع بدايات هذا القرن، حتى أصبحت حقيقةً ناصعة، وركيزةً لإرساء دعائم التعليم الجامعي في مصر والعالم العربي. كما يتتبع تطورها، ودورها في إرساء التقاليد الجامعية، وفي خدمة المجتمع والدفاع عن حقوقه والتعبير عن آماله وطموحاته.
ولا يعني ذلك أن هذا الكتاب عمل غير مسبوق؛ فالاهتمام بتتبُّع تطور الجامعة منذ تأسيسها قديم قِدَم الجامعة نفسها، تناولته أقلام بعض روادها في كتاباتهم المختلفة ومذكراتهم الشخصية، كما حرصت الجامعة على إصدار كتب تتناول تطورها وإنجازاتها وما قدمته للعلم والوطن من خدمات في مناسبات شتَّى كان آخرها السجل التاريخي بمناسبة العيد الماسي عام ١٩٨٣م، الذي قام بإعداد الجانب الأكبر منه الزميل الدكتور عبد المنعم الجُميعي، وأسندت الجامعة إليَّ مهمة مراجعته.
ويرجع الفضل للدكتور عبد المنعم الجُميعي في الاهتمام برصد تاريخ الجامعة منذ تأسيسها عام ١٩٠٨م حتى تحوُّلها إلى جامعة حكومية، فنشر بعض الأبحاث في هذا المجال، اعتمد فيها على وثائق الجامعة؛ لعل أهمها كتاب «الجامعة المصرية والمجتمع ١٩٠٨–١٩٤٠م» الذي أعدَّه المؤلف في إطار خطة البحوث بالوحدة التاريخية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام التي أتولى الإشراف عليها. كذلك قامت الدكتورة سامية حسن بإعداد رسالة دكتوراه أجازتها كلية البنات بجامعة عين شمس موضوعها «الجامعة المصرية ودورها في الحياة السياسية ١٩٠٨–١٩٤٦م»، واعتمدت أيضًا على وثائق الجامعة واستطاعت أن تستخرج منها ومن الدوريات العامة معلومات جديدة غطت الكثير من الثغرات في البحوث السابقة، كما استخرجت من وثائق وزارة التربية والتعليم مادةً هامةً أكسبت عملها قيمة خاصة.
وقد استفدت كثيرًا من أعمال هذين الباحثين، كما استفدت من كتابات روَّاد التعليم الجامعي ومذكراتهم، ومن المصادر التي رصدت القوانين واللوائح الجامعية التي أعانتني على ضبط بعض التواريخ والمعلومات الهامة المتصلة بتطور الجامعة وكلياتها المختلفة. كما ناقشت بعض ما اتصل بتطور الجامعة والحياة الجامعية مع بعض كبار الأساتذة الذين عاصروا جانبًا من هذا التطور، واستفدت كثيرًا من المعلومات القيِّمة التي زودني بها أستاذنا الجليل الدكتور مصطفى سويف مما يجعلني مدينًا له بالشكر والعرفان والتقدير.
أما الأستاذ الدكتور محمود نجيب حسني رئيس الجامعة، فصاحب الفضل الأول في تأليف هذا الكتاب وإصداره؛ إذ كلفني — باسم الجامعة — بتأليف الكتاب في ديسمبر ١٩٨٧م، وأَولى الكتاب وصاحبَه رعايته الكريمة إيمانًا منه بأهمية مثل هذا العمل في رصد تطور الجامعة، وتقديرًا منه لقيمة الدراسة التاريخية في استخلاص محصلة التجارب وفي المعاونة على تحديد آفاق المستقبل لجامعتنا العريقة؛ فإلى سيادته أتوجَّه بالشكر والتقدير والعرفان.
غير أن ذلك لا يعني أن هذا الكتاب تاريخ «رسمي» للجامعة؛ فالمؤلف ليس ممن يؤمنون بإسناد كتابة التاريخ لجهات رسمية، ولا يقبل بمبدأ قولبة الدراسات التاريخية لخدمة سياسات معينة؛ لذلك كنت مطلَق اليد تمامًا في تأليف هذا الكتاب، ولم أخضع إلا لسلطان ضميري العلمي، فاشتملت الدراسة على آرائي الشخصية التي أوردتها هنا وهناك، والتي تعكس خبراتي الخاصة بالحياة الجامعية التي اتصلت بها لما يزيد على الثلاثين عامًا، طالبًا وعضوًا بهيئة التدريس، وعضوًا بالمجالس واللجان الجامعية، ومساهمًا في الحياة الثقافية لهذا الوطن العزيز؛ فالآراء التي وردت بهذا الكتاب لا تعبر — بالضرورة — عن وجهة نظر الجامعة التي أتشرف بالانتماء إليها. وآمل أن أكون قد أديت بهذا العمل المتواضع بعض ما عليَّ من واجب نحو جامعتنا العريقة.
والله والوطن العزيز وخير جامعتنا من وراء القصد.