تمهيد
كان النظام التعليمي الحديث من أهم التطورات التي شهدتها مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وارتبط ارتباطًا وثيقًا بالمشروع السياسي النهضوي الذي أرسى دعائمه محمد علي باشا حاكم مصر (١٨٠٥–١٨٤٨م)؛ ذلك المشروع الذي كان يهدف إلى تحويل مصر إلى قاعدة سياسية وعسكرية حديثة تدفع عن الشرق العربي عدوان الغرب، لا عن طريق المواجهة، ولكن عن طريق التزود بأسباب القوة والمَنَعة التي تحقق نوعًا من توازن القوى مع الغرب، تجعل الأخير يتعامل معها معاملة الند للند.
فقد كان محمد علي باشا أكثر من عاصروا تجربة الزحف الغربي (ممثلًا في الحملة الفرنسية على مصر) فهمًا لدلالة ذلك الحدث التاريخي بالنسبة للدولة العثمانية — صاحبة السيادة على مصر والشرق العربي — فأدرك أن ضعف هذه الدولة الإسلامية مردُّه إلى تأخرها الحضاري عن بلاد الدولة العثمانية، وأنه لا منجاة للدولة من المصير الذي يتهددها إلا إذا تزودت بعوامل القوة والمنعة التي تجعلها تصمد في وجه الغرب، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بسد فجوة التخلف الحضاري الذي تعاني منه بلاد الدولة.
غير أن محمد علي باشا كان جنديًّا ألبانيًّا ساعدته ظروف مصر على أن يلي أمرها بإرادة النخبة السياسية لشعبها، ولا يتيح له مركزه المتواضع أن يصلح شأن الدولة العثمانية كلها، فداعب فكره أن يحقق ما يهدف إليه في مصر، فيقيم فيها دولة نموذجية حديثة توفر له — ولأسرته من بعده — الظروف الموضوعية التي تتيح له — ولهم — فرصة إقامة دولة إسلامية حديثة قوية من خلال نقل نموذج مصر إلى الدولة العثمانية ذاتها. وكان اختيار محمد علي لمصر كقاعدة لمشروعه السياسي ينمُّ عن بُعد نظر هذا الرجل الذي كان عُطُلًا من الثقافة (أميًّا حتى مطلع العقد الخامس من عمره)، ورغم ذلك كان يتمتع بمقدرة رجل الدولة القدير الذي يدرك وزن مصر الحضاري والسياسي، وما يمكن أن توفره موارِدُها من أسُسٍ يقوم عليها مشروعه السياسي، بقدر ما كان يعي أبعاد المرحلة التاريخية التي يعيشها.
ولكن مثل هذا المشروع السياسي الطموح الذي داعب مخيلة محمد علي يحتاج إلى موارد مالية ضخمة لا يستطيع الحصول عليها من خارج مصر، وهو الحريص على تجنُّب النفوذ الأجنبي؛ ضمانًا لسلامة مشروعه السياسي، فلا مفر أمامه من أن يدبرها من مصر ذاتها، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا إذا استطاعت «الدولة» أن تضع يدها على مصادر الدخل كلها، توجِّهها كيفما شاءت لخدمة مشروعها السياسي. ومن ثم كانت الإجراءات الاقتصادية التي اتخذها محمد علي ونفَّذها — تدريجيًّا — والتي انتهت بوضع اقتصاد البلاد تحت إدارة السلطة المركزية. وصاحَب تلك الإجراءات التخلص من القوى السياسية القديمة التي ارتبطت بالنظام الإنتاجي التقليدي (ونعني بذلك المماليك)؛ مما أتاح للدولة — للمرة الأولى في تاريخ مصر — أن تتبنى ما يشبه خطة التنمية في القطاع الزراعي بهدف تحقيق التوسع الرأسي والأفقي معًا. ثم أقيم قطاع صناعي حديث جنبًا إلى جنب مع القطاع الإنتاجي الحرفي ووُجِّه لخدمة متطلبات الجيش الحديث الذي أنشأه محمد علي باشا.
وهكذا تغيرت وظيفة «الدولة» على يد محمد علي، فلم تعد جهاز إدارة وجباية، وإنما أصبحت جهاز إنتاج وخدمات إضافةً إلى وظائفها التقليدية، وأصبحت تتعامل مع الناس كآحاد وليس كجماعات. فلم تعد تتعامل مع المواطنين من خلال الطوائف التي ينتمون إليها أو من خلال جماعة القرية، ولكنها تعاملت معهم كأفراد ألزمتهم بواجبات معينة لم تقابلها حقوق معلومة. وهذا التغير في وظيفة «الدولة» اقتضى تغيُّرًا مقابلًا في نظامها الإداري بما يتواءم مع الواقع الجديد. فأصبحت في حاجة إلى الكوادر المتخصصة في الزراعة والصناعة وغيرها من نواحي التخصص التي فرضها الواقع الاقتصادي الجديد، أصبحت في حاجة إلى المهندسين والأطباء والضباط والصيادلة والبيطريين وغيرهم من أصحاب التخصصات التي لا ينهض بها نظام التعليم التقليدي، ومن ثم كان قيام النظام التعليمي الحديث.
وقبل أن يلي محمد علي باشا أمر مصر، لم يكن بمصر نظام تعليمي بالمعنى الدقيق الذي يدل عليه هذا المصطلح؛ فلم يكن هناك سوى الأزهر، وبعض المدارس الملحقة بالمساجد، والكتاتيب بالمدن والقرى، ولكنها جميعًا لم تكن ذات نظام يصل بينها، ويجعل منها وحدة تعليمية، كما كانت بعيدة عن سلطان الدولة ورقابتها، على أنها استطاعت أن تقوم على تعليم أهل البلاد قرونًا طويلة. وتنوعت الدراسة بالأزهر، فشملت علوم الدين والقرآن واللغة العربية، والفلسفة والمنطق والرياضيات أحيانًا. ولقد كان للأزهر الفضل في صياغة «العلم» في مصر بعد أن عصفت به أهواء الفتن في البلاد الإسلامية الأخرى. ولكن الأزهر بدأ يفقد مكانه العلمي العظيم في العهد العثماني؛ حيث فقدت مصر استقلالها، واضمحلَّ شأنها كمركز من أقوى مراكز الثقافة الإسلامية. واقتصرت الدراسة في الأزهر على قراءة كتب الدين واللغة وشرحها وتذييلها أو تحشيتها والتقرير عنها، وبذلك فقد «علماء» ذلك العصر القدرة على السبق والإبداع والابتكار. أما الكتاتيب، فقد قصرت همَّها على تحفيظ الأطفال القرآن، وعن طريقه كانوا يتعلمون القراءة والكتابة.
وقدَّر محمد علي باشا أن من العبث الاعتماد على الأزهر في إعداد الأطباء والمهندسين والضباط وغيرهم، وأن من العسير أن يحوَّل الأزهر عن سياسته التي عكف على أدائها إلى العمل لتحقيق تلك الأغراض للوفاء بحاجات الدولة الجديدة. ولعل محمد علي خشي إثارة حفيظة العلماء بما يتبع ذلك من إثارة للشعور الديني عند سواد الناس، فآثر أن يترك معاهد الدراسة التقليدية القديمة: الأزهر، ومدارس المساجد، والكتاتيب؛ ليصيب فيها الناس التعليم الذي يشاءون، وينشئ بجانبها نوعًا آخر من معاهد العلم على أسُسٍ ونظم جديدة مقتبسة من الغرب. وهكذا عمل النوعان من التعليم جنبًا إلى جنب، واقتسما مهمة التربية والتعليم في مصر ردحًا طويلًا من الزمان.
وقد بدأ النظام التعليمي الحديث بسيطًا، حتى إذا كان عام ١٨٣٦م صدرت اللوائح التي نظمت التعليم في مراحله الابتدائية والتجهيزية (المتوسطة) والخصوصية (العالية)، ونظمت الإدارة التعليمية في «ديوان شورى المدارس» ثم «ديوان المدارس»، ووضعت المناهج واللوائح والخطط التعليمية متأثرةً — إلى حدٍّ كبير — بالنظام الفرنسي. وقد بلغ عدد المدارس الابتدائية — عندئذٍ — خمسين مدرسة موزعة على أنحاء البلاد، بينما كانت هناك مدرستان تجهيزيتان: إحداهما بالقاهرة والأخرى بالإسكندرية، وبلغ عدد المدارس الخصوصية ثلاث عشرة مدرسة، مما يعكس الهدف الأساسي للتعليم الحديث، وهو إعداد الكوادر الفنية والعسكرية المتخصصة.
ولكن هذا التنظيم لم يدُم طويلًا؛ ففي عام ١٨٤١م تمت التسوية المصرية العثمانية لتضع حدودًا للمشروع السياسي الذي داعب أحلام محمد علي؛ ولتضع حدًّا لحجم الجيش، ولتغلَّ يد الدولة في إدارة الاقتصاد، فأصبحت الدولة في غير حاجة إلى المزيد من الموظفين، بل قامت بتسريح عدد كبير من الجنود والضباط. ومن ثم رأى محمد علي إعادة النظر في النظام التعليمي بما يتفق والأوضاع الجديدة. ومن هنا جاء التنظيم الجديد الذي وُضع في عام ١٨٤١م، والذي تم فيه إلغاء أكثر المدارس الابتدائية وإنقاص أعداد تلاميذ المدارس الخصوصية (العالية) بما يتلاءم مع حاجة الدولة إلى خريجها، إلى جانب إنقاص مرتبات التلاميذ وتنظيم «ديوان المدارس» على نحوٍ جديد.
وهكذا لم يكن النظام التعليمي الحديث في عهد محمد علي يهدف إلى تقديم «خدمة» للمصريين بنشر التعليم بينهم، ولكنه كان يهدف إلى تحقيق «غاية» للدولة؛ وهي توفير حاجتها من الكوادر الفنية والإدارية والعسكرية؛ ومن ثَمَّ تأثر اتساع التعليم أو انكماشه حتى الربع الأول من القرن العشرين (على أقل تقدير) بحاجة الدولة إلى الموظفين. ولعل ذلك يفسِّر اختلال التوازن بين التعليم الأساسي (الابتدائي) والتعليم المتوسط والتعليم العالي؛ فالمدارس الابتدائية تخرِّج الكَتَبة الذين تحتاجهم الإدارة، ولا يصل إلى المدارس المتوسطة إلا نسبة محدودة من خريجي المدارس الابتدائية يُعَدُّون — أصلًا — للالتحاق بالمدارس العالية، كما يفسِّر — أيضًا — بداية النظام التعليمي الحديث في عهد محمد علي بالتعليم العالي وليس الابتدائي.
وهكذا كانت بداية التعليم الحديث عملية محضة؛ فالدولة — يومئذٍ — تعيد تنظيم الأراضي، وتضع نظامًا جديدًا للزراعة؛ فهي تحتاج أول ما تحتاج إلى المتخصصين في المساحة؛ ومن ثَمَّ كانت بداية التعليم الهندسي بهذا الفرع من فروع التخصص، حتى إذا توسعت حاجات الدولة وأصبحت تمتد إلى تخصصات هندسية أخرى، أنشأَت مدرسة للمهندسخانة ببولاق عام ١٨٣٤م تولى إدارتها والتدريس بها أوائل خريجي البعثات التي أوفدت إلى أوروبا إلى جانب مدرسين من الفرنسيين، وأمدت مصر بكوكبة من المهندسين الذين خدموا في مختلف المواقع.
ومع تأسيس الجيش الحديث عام ١٨٢٠م، برزت حاجة مصر إلى الأطباء الذين جُلبوا من أوروبا لتقديم الخدمة الطبية للجيش، ثم اجتاح البلاد الطاعون عام ١٨٢٤م، فزادت الحاجة إلى الأطباء، وكان تأسيس مدرسة الطب (عام ١٨٢٧م) على يد الدكتور كلوت بك الفرنسي بأبي زعبل؛ حيث يوجد المستشفى العسكري الذي يسد الحاجة إلى التدريب العملي. وبدأت الدراسة بمائة طالب اختيروا من بين طلاب الأزهر، وتولى التدريس بها نخبة من الأساتذة الأوروبيين جاء معظمهم من فرنسا. وارتبط بدراسة الطب الحديث الحاجة إلى الصيدلة، فأُسِّست مدرسة الصيدلة عام ١٨٢٩م ملحقةً بمدرسة الطب.
ولما كانت اللغة العربية قد اتُّخذت لغةً للتدريس بالمدارس العالية (أو الخصوصية)، فقد ازدادت الحاجة إلى المترجمين. وفي بداية الأمر جاء المترجمون من الشوام، فكانوا يحضرون الدروس مع الأساتذة الأجانب للقيام بالترجمة وإعداد ملخصات لها باللغة العربية، ثم تُرجمت المراجع الأساسية إلى اللغة العربية في الهندسة والطب على يد أوائل الخريجين من المدرستين وعلى يد رجال «قلم الترجمة» الذي تولى رئاسته العلامة المصري رفاعة الطهطاوي، وأقيمت مدرسة الألسن عام ١٨٣٦م بالأزبكية لخدمة حركة تعريب المعارف الحديثة بجهود خريجيها المصريين.
ومع استقرار النظام الإداري بتنظيم الإدارة عام ١٨٣٦م على يد خبير فرنسي، أصبحت الحاجة ماسَّة إلى المحاسبين المتخصصين، فأُنشئت مدرسة المحاسبة بالسيدة زينب عام ١٨٣٧م.
وعندما برزت الحاجة إلى بعض التخصصات التطبيقية المتفرعة عن الهندسة أُنشئت لها مدارس خاصة بها؛ كمدرسة المعادن بمصر القديمة عام ١٨٣٤م، ومدرسة العمليات (التي سميت بالفنون والصنائع فيما بعد) عام ١٨٣٩م.
وحدث نفسُ الشيء بالنسبة للبعثات التعليمية التي أُوفدت إلى أوروبا؛ فكان أول اتجاه لإيفاد المبعوثين مرتبطًا بالحاجات الملحة للتنمية الاقتصادية وبناء الجيش، واقتصرت البعثات الأولى على المتدربين الذين أُوفدوا لقضاء وقتٍ محدَّد للتدريب على مهارات معينة. واتجهت أول بعثة من هذا النوع إلى إيطاليا عام ١٨١٣م، تلتها أخرى إلى نفس البلاد عام ١٨١٦م، وثالثة إلى بريطانيا، وتدرَّب أفرادها على بعض النواحي العسكرية والفنية، بما في ذلك بناء السفن وصيانة الآلات والطباعة. ولم يتجاوز عدد المتدربين في تلك البعثات ٢٨ متدربًا.
وكانت أول بعثة علمية للدراسة العالية هي تلك التي اتجهت إلى فرنسا عام ١٨٢٦م، وضمَّت أربعين طالبًا لحق بهم أربعة آخرون عام ١٨٢٨م، لدراسة القانون، والإدارة، والهندسة، والملاحة البحرية، والطب والجراحة، والزراعة، وهندسة الري والميكانيكا، إلى جانب التخصصات العسكرية. وواضح من تنوع التخصصات أن طلابها اختيروا لاحتلال مواقع معينة في خدمة الحكومة عند عودتهم سواء في الإدارة المدنية أو الجيش.
فالبعثات التعليمية — إذن — كانت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحاجة الدولة إلى تخصصات معينة. وكان المبعوثون يتولون تدريب غيرهم ممن درسوا في المدارس العالية المصرية بعد عودتهم من بعثاتهم، أو يتولَّون التدريس بتلك المدارس بدلًا من المدرسين الأجانب. ورغم ذلك كان العائد العلمي والثقافي لتلك البعثات عظيمًا، ويكفي أن رفاعة الطهطاوي رائد التجديد في الفكر العربي الحديث كان إمام البعثات الأولى (١٨٢٦م) ثم أصبح عضوًا بها، كما كان علي باشا مبارك ضمن البعثة الثانية (١٨٤٤م). ولعب المبعوثون — بعد عودتهم — دورًا هامًّا في تعريب المراجع الأساسية في العلوم الحديثة، فوصلوا ما انقطع بين تلك اللغة والعلوم خلال عصور التخلف، ووضعوا نواة النهضة العلمية الحديثة في العالم العربي.
ويفسر هذا الارتباط الوثيق بين التعليم الحديث وحاجة الدولة إلى الموظفين ما آلت إليه حال التعليم على يد عباس حلمي الأول (١٨٤٨–١٨٥٤م) ومحمد سعيد باشا (١٨٥٤–١٨٦٣م). فقد جاءت تسوية ١٨٤١م لتوجه الضربات إلى المشروع السياسي لمحمد علي بعدما تجاوزت قوة مصر العسكرية حدود التوازن الدولي في المنطقة بما يهدد مصالح القوى الاستعمارية الأوروبية التي كانت تتطلع للسيطرة عليها؛ ومن ثَمَّ وضعت الحدود لقوة مصر العسكرية ومجالها الإقليمي، كما وجهت ضربة قاضية للنظام الاقتصادي الذي قامت عليه هذه القوة بالقضاء على الاحتكار وإقرار حق الأجانب في التعامل المباشر مع المنتجين الوطنيين. وإذا كان محمد علي باشا وخليفته إبراهيم باشا قد حاولا الصمود في وجه الضغوط الأجنبية لتصفية دور الدولة في إدارة الاقتصاد المصري، فإن للمقاومة حدودًا، وخاصة أن مصر قد أصبحت — عمليًّا — تحت إشراف الدول التي وضعت التسوية، وضمنت ما أعطته تلك التسوية لمحمد علي وورثته من مزايا وامتيازات، فراحت كلٌّ من بريطانيا وفرنسا تتطلع إلى تدعيم مصالحها في مصر؛ نظرًا لأهميتها الاستراتيجية، كما بدأت الاستثمارات الأجنبية تفِد إلى البلاد مستفيدةً من الظروف التي نجمت عن إلغاء نظام الاحتكار؛ لتحل شيئًا فشيئًا محل الدولة في تمويل الإنتاج الزراعي، ولتعمل على ربط الاقتصاد المصري بعجلة الاقتصاد الأوروبي؛ تمهيدًا لغرض السيطرة السياسية على مصر، فأصبحت محاولة إقامة اقتصاد وطني يعتمد على سوق مصرية وطنية أضغاثَ أحلام، أو سعيًا وراء سراب.
ونتيجةً لذلك انحسر دور الدولة، فلم تعد تمارس الإنتاج بعدما تقلصت قوَّتها العسكرية التي كانت المستهلك الرئيسي للإنتاج الصناعي، وضاقت سوقها المحلية أمام المنافسة الأجنبية، فأُغلقت المصانع تدريجيًّا حتى اختفى آخرها على يد عباس الأول، ولم يعد للدولة دور رئيسي في الإنتاج الزراعي بعدما تسرَّب من بين أيديها زمام القطاع التجاري لصالح الأجانب. وبذلك أصبحت — من جديد — جهاز جبايةٍ وإدارة، وقلَّت حاجتها إلى الموظفين وإلى الكوادر الفنية المتخصصة، فألقى ذلك بظلاله على التعليم.
وما إن تولى عباس الأول الحكم حتى بادر بإلغاء المدارس الابتدائية والمدارس التجهيزية (المتوسطة)، ولم يُبقِ من المدارس الخصوصية (العالية) إلا على مدرستَي المهندسخانة والطب بعد أن أنقص أعداد تلاميذهما، واستبدل بالمدارس الحربية مدرسةً واحدة دعاها «مدرسة المفروزة»، وضغط ميزانية «ديوان المدارس»، ونفى روَّاد التجربة التعليمية الحديثة — وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي — إلى السودان.
وجاء من بعده محمد سعيد باشا ليستهل حكمه بإلغاء «ديوان المدارس»، ثم أغلق مدرسة المهندسخانة (١٨٥٤م)، ومدرسة المفروزة (الحربية) عام ١٨٥٥م. واكتفى بإنشاء مدرسة حربية بالقلعة أسند إدارتها إلى رفاعة الطهطاوي. كما أغلق مدرسة الطب في بداية عهده ثم أعاد فتحها عام ١٨٥٦م. وافتتح مدرسة بحرية بالإسكندرية. ولكن أكثر هذه المدارس أُلغي في عهده، وانتهى حكمه وليس بمصر سوى المدرسة الحربية ومدرسة الطب، وكان الوجود المصري ضعيفًا في تلك المدارس.
وعلى النقيض من ذلك، اهتم سعيد باشا بالمدارس التي أنشأتها الجاليات الأجنبية والإرساليات التبشيرية، وأغدق عليها الأموال والعقارات بغير حساب، فقد كان عهده عهد تدفق المصالح الأجنبية على مصر، وبدأ عهده بنصب شِباك التبعية حول البلاد.
وعلى عهد الخديوي إسماعيل (١٨٦٣–١٨٧٩م) استُكملت مظاهر التبعية بفتح باب الاستدانة من المؤسسات المالية الأوروبية على مصراعيه؛ فقد تطلع إسماعيل إلى استكمال البنية الأساسية للاقتصاد المصري التي بدأها جده محمد علي، عن طريق التوسع في مشروعات الري، وبناء السكك الحديدية والطرق وميناء الإسكندرية والمدن الجديدة بقناة السويس (بورسعيد والإسماعيلية) والتوسع العمراني بالقاهرة والإسكندرية، إلى جانب تطلُّعه إلى زيادة قوة مصر العسكرية لتوسيع الوجود المصري بالسودان، فتطلَّب ذلك كله أموالًا طائلة استدانها إسماعيل من البيوت المالية الأوروبية. ومهما كان الأمر، فقد كانت خطة إسماعيل الإنمائية تستكمل عملية إدماج الاقتصاد المصري في الاقتصاد الأوروبي بحسم الصفة التخصصية للإنتاج الزراعي المصري.
غير أن مشروعات استكمال البنية الأساسية للاقتصاد المصري تلك، وهدف إقامة قوة عسكرية مصرية، جعل الدولة في عهد الخديوي إسماعيل بحاجة إلى إعداد الكوادر الإدارية والفنية العسكرية، مما تطلَّب إحياء النظام التعليمي الحديث الذي تآكل على يد عباس الأول ومحمد سعيد باشا.
ففي عهد إسماعيل، حظي التعليم بقسط كبير من الاهتمام، وأنشأت الحكومة المدارس، وتحملت نفقات الدراسة، بما في ذلك مصاريف معيشة الطلاب، فأعيد «ديوان المدارس» الذي ألغاه سعيد من قبل، وازدادت ميزانية التعليم تدريجيًّا، وعادت الحكومة إلى إيفاد البعثات إلى أوروبا فاتجه معظمها إلى فرنسا، وأنشئ عدد من المدارس الابتدائية في مختلف أنحاء البلاد من الإسكندرية شمالًا إلى المنيا جنوبًا، وأشرفت الحكومة على الكتاتيب (المكاتب الأهلية)، كما أُنشئت بعض المدارس التجهيزية (المتوسطة) والمدارس الخصوصية (العالية). فأُنشئت «مدرسة الإدارة والألسن» عام ١٨٦٨م (التي أصبحت تُعرف باسم مدرسة الحقوق منذ ١٨٨٦م، ومدرسة دار العلوم (عام ١٨٧٢م) التي قامت لإعداد المعلمين للمدارس الابتدائية والتجهيزية، ومدرسة المساحة والمحاسبة (عام ١٨٦٨م)، ومدرسة الزراعة (عام ١٨٦٧م)، ومدرسة اللسان المصري القديم (الآثار والمصريَّات) عام ١٨٦٩م؛ أضف إلى ذلك المدارس العسكرية المتخصصة.
وجريًا على قاعدة الإبقاء على المدارس العليا كلما كان هناك طلب على خريجيها، والاستغناء عنها كلما ندر الطلب عليهم، أُغلقت مدرسة الزراعة عام ١٨٧٥م، كما ألغيت مدرسة اللسان المصري القديم عام ١٨٧٦م بعدما خرَّجت بعض المتخصصين بالآثار الذين قُدر لأحدهم أن يكون من روَّاد هذا المجال في مصر (أحمد كمال باشا)، على حين نالت مدرسة الطب قدرًا كبيرًا من الاهتمام.
وعندما تولى العلامة المصري علي باشا مبارك ديوان المدارس عام ١٨٦٨م، جمع عددًا من المدارس الخصوصية (العالية) بسراي درب الجماميز، فخصص لكل مدرسةٍ ناحيةً من السراي، وأقام معملًا مجهَّزًا للكيمياء والطبيعة، ومكتبة عامة (دار الكتب الخديوية) ١٨٧٠م، ومدرَّجًا كبيرًا تُلقى فيه محاضرات عامة في مختلف فروع المعرفة، فكادت بذلك تتهيأ الفرصة لقيام جامعة مصرية؛ إذ حقق التواجد المكاني نوعًا من التواصل العلمي بين طلبة المدارس العليا بعضهم وبعض، كما حققت المحاضرات العامة التواصل العلمي بين الأساتذة بعضهم وبعض وبينهم وبين الطلاب. ولو قُدر لهذه التجربة الاستمرار لكانت نواةً لقيام أول جامعة مصرية.
وكان من الطبيعي أن تقل المخصصات المالية للبعثات التعليمية تدريجيًّا حتى كادت تتوقف تمامًا في السنوات العشر الأولى من الاحتلال، وإذا كانت البعثات استمرت تحت ضغط الحركة الوطنية فقد قلَّت أعداد المبعوثين بما لا يتجاوز عشرة الطلاب. وعندما أعلنت سياسة الاحتلال التعليمية عام ١٨٩٣م التي ذهبت إلى عدم التزام الحكومة بتعيين خريجي المدارس المختلفة، قل إقبال التلاميذ على الالتحاق بالمدارس العليا على وجه الخصوص. كما حددت نظارة المعارف أعداد المقبولين بالمدارس بحجة الخشية من زيادة عدد الخريجين العاطلين، وزادت من المصروفات الدراسية بالمدارس العليا اعتبارًا من عام ١٩٠٥م للحد من الإقبال على التعليم العالي، وقصره على أبناء الأعيان وحدهم؛ ومن ثَمَّ جعل التوظف في الإدارة المصرية مقصورًا على النخبة الاجتماعية المتعاونة مع الاحتلال، وإبعاد أبناء الطبقة الوسطى الذين تركزت بينهم خميرة العمل الوطني المعادي للاحتلال.
وإذا كان التعليم العالي قد أصبح قاصرًا على الخاصة، فلا بد من صبغه بالصبغة الإنجليزية لربط هذه الشريحة الاجتماعية بالثقافة البريطانية. وهكذا تقرر عام ١٨٩٨م جعل التعليم في مدرسة الطب باللغة الإنجليزية، وتم إلغاء القسم الفرنسي بمدرسة المعلمين عام ١٩٠٠م، وأنشئ قسم إنجليزي بمدرسة الحقوق عام ١٨٩٩م تدرس فيه المواد باللغة الإنجليزية أخذ ينمو تدريجيًّا على حساب القسم الفرنسي بالمدرسة. واتجهت البعثات إلى بريطانيا بعد أن كانت تتجه إلى فرنسا.
لذلك أصبح تعريب التعليم مطلبًا أساسيًّا من مطالب الحركة الوطنية، وحققت الدعوة إلى التعريب بعض النجاح، فبدأ منذ عام ١٩٠٧م تعريب التعليم في مدرسة الفنون والصنائع ومدرسة الزراعة، وبدأ التعريب في مدرسة الحقوق عام ١٩١٠م، وبدأ التعليم التجاري عربيًّا، وتأخر تعريب التعليم في مدرستَي المعلمين والمعلمات إلى ما بعد ثورة ١٩١٩م. وفشلت الدعوة إلى التعريب في مدارس المهندسخانة والطب والصيدلة والطب البيطري.
وفي مطلع القرن العشرين ارتبط الكفاح الوطني ضد الاحتلال بمعارضة سياسته التعليمية، والمطالبة بنظام تعليمي وطني يتسع ليشمل الراغبين في طلب العلم من المصريين. وفي إطار تلك الحركة كانت الدعوة إلى تأسيس «الجامعة المصرية» بعدما توفرت لمصر قاعدة عميقة الجذور من التعليم.
ونعرض فيما يلي لأهم المدارس العليا المصرية التي كانت نواةً للجامعة المصرية فيما بعد؛ وذلك وفقًا لتاريخ تأسيسها.
(١) مدرسة المهندسخانة
رأينا كيف بدأ التعليم الحديث في مصر بمدرسة المهندسخانة التي أنشأها محمد علي بالقلعة عام ١٨١٦م لتدريب وإعداد المتخصصين في المساحة، ثم قامت مدرسة المهندسخانة ببولاق عام ١٨٣٤م لتخريج المتخصصين الفنيين للعمل في المشروعات المدنية والعسكرية على السواء، وظلت تؤدي رسالتها حتى أُغلقت في مطلع عهد محمد سعيد باشا (عام ١٨٥٤م) مع غيرها من المدارس، ثم أعيدت دراسة الهندسة عام ١٨٥٨م في مدرستين منفصلتين إحداهما لهندسة الري بالقناطر الخيرية والأخرى للعمارة بالقلعة، ثم أُغلِقتا مرة أخرى عام ١٨٦١م.
وفي عام ١٨٦٦م افتُتِحت مدرسة الري والعمارة بسراي الزعفران بالعباسية، ثم انتقلت إلى سراي مصطفى فاضل باشا بدرب الجماميز عام ١٨٦٧م، وكانت الدراسة بها لمدة خمس سنوات منها سنة إعدادية، ويتخصص الطالب في السنتين الأخيرتين، إما في هندسة الري أو العمارة.
وفي عام ١٨٩٢م، ألغيت السنة الإعدادية ولم تعد إلا عام ١٩٣٠م، كما ألغيت التخصصات عام ١٨٩٦م؛ لتقسم الدراسة مرة أخرى إلى قسمَي الري والعمارة عام ١٩٠٨م، وأصبحت تُعرف باسم «مدرسة المهندسخانة الخديوية» منذ عام ١٩٠٥م، وسميت «مدرسة الهندسة الملكية» عام ١٩٢٣م.
وفي عام ١٩١٦م صدر قانون المدرسة الذي قضى بتقسيم الدراسة إلى خمسة أقسام هي: الري، والعمارة، والبلديات، والميكانيكا، والكهرباء. ثم عُدلت هذه التخصصات عام ١٩٢٥م لتكون القسم المدني، وقسم العمارة، وقسم الميكانيكا. وتفرَّع القسم المدني إلى: الري والبلديات والكباري والمواني والمساحة والسكك الحديدية، وتفرَّع القسم الميكانيكي إلى فرع الميكانيكا والكهرباء.
(٢) مدرسة الطب
أُنشِئتْ مدرسة الطب بأبي زعبل ملحقةً بالمستشفى العسكري هناك عام ١٨٢٧م بفضل جهود الطبيب الفرنسي كلوت بك، والفتوى الشرعية التي أصدرها الشيخ حسن العطار، وأباح فيها تشريح جثث الموتى إذا كان الغرض من ذلك دفع المرض عن المسلمين.
وفي عام ١٨٣٧م، نُقلت إلى قصر العيني بالقاهرة؛ حيث كانت المستشفى تسع ما يزيد على ألف مريض، كما كانت تسع ثلاثمائة طالب، وكانت لها مكتبة غنية بالكتب الفرنسية التي حصلت عليها بطريق الإهداء، ولعب خريجوها دورًا كبيرًا في تعريب المراجع الأساسية في الطب.
وفي عام ١٨٥٤م، أوقف محمد سعيد باشا الدراسة بمدرسة الطب مع الإبقاء على أعضاء هيئة التدريس. وما لبثت أن استؤنفت الدراسة بها عام ١٨٥٦م. وكانت الدراسة باللغة العربية، وتنقسم إلى ست فرق ذات امتحانات سنوية، وكان أوائل الخريجين يوفدون في بعثات للخارج لينضموا بعد عودتهم إلى هيئة التدريس. واستمرت جهود تعريب المراجع الطبية طوال عهد إسماعيل.
واعتبارًا من عام ١٨٩٨م، جُعلت مدة الدراسة أربع سنوات (زيدت فيما بعد ثلاثةَ شهور)، واتفقت مدرسة الطب مع كلية الجراحين الملكية بلندن على قبول طلبة السنتين الأولى والثانية في الكلية، وخاصة أن الدراسة في مدرسة الطب أصبحت بالإنجليزية منذ الاحتلال البريطاني.
وفي عام ١٩١٩م، عُدلت مدة الدراسة إلى خمس سنوات وثلاثة أشهر تبدأ في أكتوبر وتنتهي في يونيو من كل عام.
(٣) مدرسة الصيدلة
نشأت مدرسة الصيدلة عام ١٨٢٩م مصاحبةً لمدرسة الطب بأبي زعبل، وانتقلت معها إلى قصر العيني عام ١٨٣٧م، وكانت مدة الدراسة بها خمس سنوات.
وتعرضت مدرسة الصيدلة لكل ما تعرضت له مدرسة الطب من ازدهار وتدهور وتوقُّف لارتباط المدرستين بعضهما ببعض. وعندما وُضع نظام التعليم في عهد الاحتلال عام ١٨٨٧م أصبحت مدة الدراسة بها أربع سنوات. وتعطلت بضع سنوات في بداية القرن العشرين لعدم حاجة الحكومة إلى الصيادلة، ثم استؤنِفت الدراسة بها عام ١٩١٠م مرة أخرى، وجُعلت مدة الدراسة بها ثلاث سنوات يُمنح المتخرج بعدها دبلوم الصيدلة والكيمياء.
وبعد انضمام مدرسة الطب إلى الجامعة المصرية عام ١٩٢٥م لتصبح كلية الطب، كانت مدرسة الصيدلة ملحقة بها وجُعلت مدة الدراسة بالصيدلة أربع سنوات.
(٤) مدرسة الطب البيطري
أُنشئِت مدرسة الطب البيطري في رشيد عام ١٨٢٧م، ثم نُقلت إلى جوار مدرسة الطب بأبي زعبل عام ١٨٣١م، وأقيم بجوارها مستشفًى يسع ١١٠ حصانًا، كما كان بها صيدلية وصالة للتشريح، وأقسام لإعاشة الطلاب وهيئة التدريس. وفي عام ١٨٣٦م جعلت مدة الدراسة بها خمس سنوات قد تمتد إلى ست سنوات، وصحبت مدرسة الطب عند انتقالها إلى قصر العيني، وكان طلابها يقضون السنة الإعدادية بمدرسة الطب في دراسة مشتركة للكيمياء والأحياء مع طلاب مدرسة الطب، وكانت الدراسة باللغة العربية فتُترجم المحاضرات الملقاة بالفرنسية إلى العربية.
وأُغلقت مدرسة الطب البيطري مع غيرها من المدارس في عهد عباس الأول، ثم أُعيدت لفترة قصيرة في عهد إسماعيل كمدرسة ملحقة بمدرسة السواري، وما لبث أن أُغلقت عام ١٨٨١م بسبب الأزمة المالية، وظلت مغلقة حتى ١٩٠١م عندما صدر قرار بإنشاء مدرسة بيطرية بالقاهرة تابعة لمصلحة الصحة بنظارة الداخلية، وكانت مدة الدراسة بها ثلاث سنوات، زِيدت إلى أربع سنوات عام ١٩٠٥م. وفي عام ١٩١٤م ألحقت المدرسة بنظارة الزراعة. وضُمت إلى وزارة المعارف عام ١٩٢٣م.
(٥) مدرسة الزراعة
يرجَّع تاريخ تأسيس أول مدرسة زراعة إلى عام ١٨٣٣م بشبرا؛ حيث بدأت المدرسة ملحقة ببساتين الباشا، ثم ما لبثت أن ألغيت بعد عامين من تأسيسها. وفي عام ١٨٣٦م أقيمت مدرسة للزراعة بنبروه تَسَع مائتي طالب، نُقلت إلى شبرا عام ١٨٣٩م، وما كادت تتخرج الدفعة الأولى منها حتى فكرت الحكومة في إلغائها، ثم عدلت عن ذلك فخفضت عدد تلاميذها من ٢٠٠ طالب إلى ٢٥ طالبًا فقط، وقامت بإغلاقها عام ١٨٤٤م.
وفي عهد إسماعيل أعيد تأسيس مدرسة الزراعة عام ١٨٦٧م غير أنها اختفت قبل نهاية عهده (١٨٧٥م) بسبب الأزمة المالية، وأعيد تأسيسُها مرة أخرى عام ١٨٩٠م في عهد الاحتلال البريطاني، وكان يلتحق بها الحاصلون على الشهادة الابتدائية. واعتبارًا من أكتوبر ١٩١١م أصبحت تُعرف باسم مدرسة الزراعة العليا.
(٦) مدرسة الحقوق
أُنشئت في عهد إسماعيل عام ١٨٦٨م باسم «مدرسة الإدارة والألسن» ثم انفصلت مدرسة الإدارة عن مدرسة الألسن عام ١٨٨٢م، وظلت كذلك حتى يوليو ١٨٨٦م عندما أصبحت تُسمى بمدرسة الحقوق. وانقسمت إلى قسمين: ابتدائي وعالٍ. أما القسم الابتدائي، فكان يشمل السنتين الأولى والثانية، وكان الغرض منه تخريج المحضرين وموظفي أقلام الكتاب المحاكم. وكانت مواد الدراسة فيه: اللغة الفرنسية والترجمة، والتاريخ، والجغرافيا، والخط العربي، والخط الفرنسي، وإمساك الدفاتر، والنظام القضائي، ومبادئ المرافعات، والإجراءات القضائية. أما القسم العالي فكان مكونًا من ثلاث سنوات دراسية، ويهدف إلى تخريج رؤساء أقلام الكتاب وأعضاء النيابة وغيرهم من الموظفين الذين تتطلب وظائفهم ثقافة قانونية. وكانت مواد الدراسة بهذا القسم تشمل اللغات العربية والفرنسية والإيطالية، والترجمة، والتاريخ، والشريعة الإسلامية، والقانون المدني، والقانون الجنائي، وقانون المرافعات، والقانون التجاري، والقانون الروماني.
وكان بالمدرسة قسم خاص بالترجمة من فصل واحد لتخريج المترجمين اللازمين لوظائف الحكومة، وقد أُلغي هذا القسم عام ١٨٨٧م. ثم عُدل منهج الدراسة في العام التالي، وأضيفت مادة القانون الإداري إلى مواد الدراسة.
وفي عام ١٨٩٢م، أُلغي القسم الابتدائي، وحُذف من مناهج الدراسة كثير من المواد غير القانونية، وزِيدت مواد الدراسة القانونية، وأصبح خريجوها يُمنحون دبلوم الليسانس في الحقوق. وفي نفس السنة أنشئ بالمدرسة قسم لتخريج ضباط البوليس يلتحق به الحاصلون على الابتدائية؛ حيث يدرسون قانون العقوبات وتحقيق الجنايات. وما لبث هذا القسم أن أُلغي عام ١٩٠١م.
وأنشئ القسم الإنجليزي بالمدرسة عام ١٨٩٩م، وبدأ ينمو تدريجيًّا على حساب القسم الفرنسي حتى أصبحت الإنجليزية لغة الدراسة عام ١٩١٥م، غير أن الأساتذة المصريين الذين حلوا محل الإنجليز خلال الحرب لعبوا دورًا هامًّا في تعريب الدراسة بمدرسة الحقوق.
وفي عام ١٩١٢م، فصلت مدرسة الحقوق عن نِظارة المعارف لتتبع نظارة الحقانية، وأعيدت تبعيتها لوزارة المعارف عام ١٩٣٢م.
(٧) دار العلوم
أُنشئت مدرسة دار العلوم عام ١٨٧٢م لتخريج المعلمين اللازمين لتدريس اللغة العربية والآداب بالمدارس الابتدائية والتجهيزية. وفي عام ١٨٨٥م، أنشئ بدار العلوم قلم للترجمة لإعداد المترجمين المتخصصين اللازمين للعمل بالمدارس العليا لترجمة الدروس التي تلقَى باللغات الفرنسية والإنجليزية إلى اللغة العربية.
وفي عام ١٨٨٨م، أضيفت مهمة جديدة لدار العلوم؛ وهي إعداد الخريجين للعمل بوظائف المحاكم الشرعية، وعُدلت مناهج الدراسة بما يحقق هذا الهدف.
(٨) مدرسة التجارة
يرجع تاريخ أقدم دراسة نظامية للعلوم التجارية في مصر إلى عام ١٨٣٧م عندما أُسِّست «مدرسة المحاسبة» في عهد محمد علي، ويبدو أنها لم تعمر طويلًا فنالتها يد الإلغاء مع مطلع الأربعينيات. ثم نسمع عن مدرسة «المساحة والمحاسبة» التي أُسِّست في عهد إسماعيل عام ١٨٦٨م واختفت مع نهاية عهده.
غير أن أول تأسيس لمدرسة تجارية عليا بمصر يرجع إلى عام ١٩١١م، بعدما كان التعليم التجاري في عهد الاحتلال البريطاني مقصورًا على المرحلة المتوسطة وحدها. وحدث تطور في برامج الدراسة بمدرسة التجارة العليا عام ١٩١٤م، فكانت مواد الدراسة هي: اللغتان الإنجليزية والفرنسية، والتاريخ، وعلم الأخلاق، والجغرافيا التجارية، ونظام الزراعة والصناعة والتجارة، والاقتصاد السياسي، والقانون التجاري. وكانت مدة الدراسة بها ثلاث سنوات، أصبحت أربع سنوات اعتبارًا من أكتوبر ١٩٢١م. وأُدخلت بعض التعديلات على مناهج الدراسة بها عام ١٩٢٣م لتجمع بين العلوم الاقتصادية والتجارية دون تخصيص.
•••
وهكذا كانت هذه المدارس العليا الثماني تمثل الجذور المتأصلة للتعليم العالي في مصر منذ نهضتها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتشكل القاعدة التي قام عليها التعليم الجامعي عند ختام الربع الأول من القرن العشرين، وانضمت إلى هذه الجذور الأصيلة كلية الآداب التي أنبتتها الجامعة المصرية الأهلية التي تأسَّست عام ١٩٠٨م.