الفصل الأول

تأسيس الجامعة الأهلية

حقق التعليم الحديث في مصر على مر القرن التاسع عشر نتائج ذات بالٍ فيما يتعلق بالتطور الثقافي للبلاد، رغم ارتباط ذلك التعليم بمتطلبات الدولة من الموظفين، ورغم عدم انتشاره بالشكل الذي يحقق توسيع قاعدة المتعلمين، وعدم استمراريته أحيانًا، فقد ساعد التعليم الحديث على تحريك الجمود الفكري والركود الثقافي الذي ران على البلاد طوال العصر العثماني. وساعدت البعثات العلمية إلى أوروبا عامةً وفرنسا خاصة، واستقدام الأساتذة الأجانب، على توفير فرص الاحتكاك بالثقافة الغربية، بقدر ما ساعد نقل الكتب والمراجع المختلفة في العلوم والإنسانيات من خلال الترجمة على جعل العلم الحديث والثقافة الغربية في متناول قراء العربية، لا في مصر وحدها، بل في سائر البلاد العربية والإسلامية؛ إذ ترجم الكثير من الكتب الحديثة إلى الفارسية والتركية نقلًا عن الترجمات العربية التي تمت في مصر على يد رفاعة الطهطاوي وتلاميذه.

وأعطى عصر إسماعيل دفعة قوية للاتصال بالثقافة الغربية أقامت جسورًا مر عليها عصر التنوير في وطننا العربي، فتربى جيل ممن اختلفوا إلى المدارس في عصر إسماعيل على فكر رفاعة الطهطاوي الذي صاغه في كتابين من كتب القراءة بالمدارس اعتُبرا من العلامات المميزة لتطور الفكر العربي الحديث، ونعني بهما: «مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية»، «المرشد الأمين للبنات والبنين». ولعبت مجلة «روضة المدارس» دور المنار الذي يشع بالثقافة الحديثة والفكر الحديث على طلاب المدارس المصرية، ومن ورائهم جموع قراء العربية. فعلى صفحات تلك المجلة جنى القراء قطوف فكر الرعيل الأول من العلماء والمفكرين المصريين الذين أخرجتهم بعثات ومدارس محمد علي. وجاءت جهود علي باشا مبارك من تجميع للمدارس العليا بسراي درب الجماميز، وتبني برامج المحاضرات العامة، وتأسيس دار الكتب لتضفي مناخًا علميًّا هيَّأ فرصة قيام «حياة ثقافية»، فتأسَّست الجمعيات العلمية، ونشطت الصحافة لتلعب دور قنوات الاتصال التي تعبر عن الاتجاهات السياسية والاجتماعية والفكرية المختلفة.

واستمر هذا المناخ الثقافي مزدهرًا في عهد الاحتلال البريطاني، حتى إذا طويت صفحة القرن التاسع عشر، كانت هناك منابر ثقافية جديدة تمثلت في «مجلة الهلال» ومجلة «المقتطف» والكتابات والترجمات التي نُشرت بالصحف وطرحت الجديد في الفكر والعلم والثقافة، وخلقت اهتمامًا بين نخبة المثقفين المصريين بما يدور على الجانب الآخر في الغرب، وفتحت الباب على مصراعيه لمناقشة قضايا التطور والتخلف، والبحث عن طريقٍ لنهضة الشرق.

هذا المناخ الثقافي حقق نوعًا من «جماهيرية» الثقافة، فلم يعد أمر مناقشة الأفكار الجديدة مقصورًا على من تعلموا بالمعاهد الأوروبية أو من تخرَّجوا في المدارس العليا المصرية، بل وسَّعت الصحافة دائرة المساهمة في الحوار حول القضايا الاجتماعية والسياسية والفكرية في حدود ما سمح به الواقع المصري — عندئذٍ — مع الأخذ في الاعتبار بعامل انتشار الأمية. ولما كان التعليم ميزة اجتماعية لا ينالها إلا أصحاب القدرة المادية، وتعجز قدرات معظم شرائح الطبقة الوسطى عن نيل نصيب كبير منه، فإن هذا المناخ الثقافي الذي أتاحته الصحافة وسَّع مدارك أبناء الطبقة الوسطى، وصاغ وعيهم الاجتماعي والسياسي، وجعلهم يرون في سياسة الاحتلال التعليمية حجر عثرة في طريق تمتع المصريين بثمار الثقافة الحديثة.

ولما كانت الطبقة الوسطى — عندئذٍ — تمثل ركيزة العمل الوطني المعادي للاحتلال، وتشكِّل القوة الدافعة للحركة الوطنية بزعامة مصطفى كامل والحزب الوطني، جاءت معارضة سياسة الاحتلال التعليمية في مقدمة أسلحة المقاومة التي شهرتها الحركة الوطنية في وجه الاحتلال، كما جاء مطلب إقامة نظام تعليمي وطني في مقدمة المطالب التي رفعتها.

وفي هذه التربة الخصبة نبتت فكرة تأسيس جامعة مصرية تلعب دور منار العلم والفكر في مصر. ولم تكن «الجامعة» كمؤسسة علمية بعيدةً عن مدارك المصريين؛ فقد عرف رجال النخبة الثقافية الجامعات الأوروبية عندما أُوفدوا إليها لتلقي العلم، وتعرفوا على دورها الحيوي في النهضة الحديثة، كما كثرت الإشارة بالصحف إلى جامعة (عليكره) التي تأسَّست بالهند عام ١٨٧٥م بجهود بعض الوطنيين الهنود وعلى نفقتهم، لتقدم تعليمًا جامعيًّا يمزج بين التراث الإسلامي والفكر الحديث، وتعليم اللغات الشرقية إلى جانب اللغة الإنجليزية. كما كانت هناك أقدم كلية جامعية في الشرق العربي هي «المدرسة الكلية الأمريكية السورية» التي تأسَّست عام ١٨٦٦م، وأصبحت تُعرف — فيما بعد — بجامعة بيروت الأمريكية. وكانت تلك الكلية مقصد بعض أبناء الأقباط البروتستانت الذين توجهوا إليها لدراسة القانون والاقتصاد والعلوم وغيرها من المعارف. وكان أخنوخ فانوس من أبرز خريجيها، وقد لعب دورًا في تأسيس الجامعة المصرية الأهلية فيما بعد.

هكذا كانت الظروف مهيَّأة لقيام جامعة مصرية؛ فهناك تجربة خصبة في حقل التعليم العالي تتمثل في المدارس العليا، كما داعبت الفكرة أحلام بعض روَّاد التعليم؛ على نحو ما فعل علي باشا مبارك بجمعه للمدارس العليا في مكان واحد إلى جانب دار الكتب والمعمل الحديث وتحت إدارة واحدة (في نفس المكان) هي «ديوان المدارس»، وكانت نفس الفكرة تدور برأس يعقوب أرتين باشا الذي خدم طويلًا بالمعارف، وأصبح وكيلًا لنظارتها عام ١٨٨٤م؛ ففي الكتاب الذي أودعه خلاصة خبرته في حقل التعليم يقول يعقوب أرتين بضرورة أن يتولى إدارة كل مدرسة من المدارس العليا ناظر من المتعلمين تعليمًا جامعيًّا لتطوير نظم الدراسة فيها، حتى إذا تحقق ذلك «حينئذٍ تتجه الرغبات إلى ضمها كلها بعضها إلى بعض، وجعلها مدرسة كلية جامعة.»١

ولعبت الصحافة دورًا هامًّا في طرح فكرة الجامعة منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وكان لجورجي زيدان فضل الريادة في هذا المجال، فدعا على صفحات «الهلال» إلى تأسيس جامعة، واقترح عام ١٩٠٣م على «المدرسة الكلية السرية» (جامعة بيروت الأمريكية) أن تنشئ فرعًا في القاهرة يكون نواةً لقيام «المدرسة الكلية المصرية». وساهمت «المقتطف» في طرح الفكرة من خلال مقال (أبريل ١٩٠٣م) تحدثت فيه عن الجامعات ووظيفتها في أوروبا وأمريكا ودورها في نهضة الأمم، وزعمت أنها تنشر المقال تلبيةً لطلب أحد أعيان المصريين ممن يفكرون في إقامة جامعة مصرية.

وكان الشيخ محمد عبده معنيًّا بإقامة جامعة بعد أن يئس من إمكانية إصلاح نظام التعليم بالأزهر وتطويره، ورأى أن إقامتها إنما تكون بجهود الأغنياء الذين نعى عليهم بخلهم. غير أنه استطاع إقناع المنشاوي باشا بالفكرة، فأبدى استعداده لإقامة الجامعة على نفقته بأراضيه بقرية بسوس (قرب القناطر الخيرية)، ولكن وفاة المنشاوي باشا عصفت بالفكرة، ثم لحق به محمد عبده بعد ذلك (١٩٠٥م).٢

وفي نفس الوقت، كان الزعيم الوطني مصطفى كامل شديد الاهتمام بالفكرة، فنشر مقالًا على صفحات «اللواء» — في ٢٦ أكتوبر ١٩٠٤م — دعا فيه القراء أن يُبدوا رأيهم في مشروع الجامعة وإمكانية تحقيقه باعتباره حجر الأساس للنهضة الوطنية. وعاد للكتابة في نفس الموضوع (٨ يناير ١٩٠٥م) مقترحًا أن تحمل الجامعة اسم «كلية محمد علي» وذلك بمناسبة مرور مائة عام على تولية محمد علي باشا حكم مصر. ويبدو أن مصطفى كامل أراد بذلك أن يجذب الخديوي وأمراء أسرة محمد علي لدعم المشروع؛ حتى يتشجع الأعيان فيتقدموا لدعمه. ونجحت المحاولة نجاحًا نسبيًّا، فأيَّد الأمير حيدر فاضل دعوة مصطفى كامل وتبعه بعض الأعيان في الاكتتاب للمشروع، فتم جمع نحو ثمانية آلاف من الجنيهات، ثم فترت الهمم عندما تجاهل الخديوي المشروع. وما كان له أن يفعل ما دامت الدعوة قد جاءت من مصطفى كامل، وخاصة أن علاقته بالزعيم الوطني عندئذٍ بلغت حدًّا كبيرًا من السوء.

غير أن ذلك لم يفتَّ في عضد مصطفى كامل، وانتهز فرصة تشكيل لجنة (عام ١٩٠٦م) لجمع التبرعات لتقديم هدية له بمناسبة عودته من أوروبا بعد شنِّ حملة دعاية سياسية ضد بريطانيا بسبب حادث دنشواي، فرفض الفكرة، وطالب بأن تقوم اللجنة «بدعوة الأمة كلها، وطرْق باب كل مصري، لتأسيس كلية تجمع أبناء الفقراء والأغنياء على السواء، وتهبُ الأمة الرجال الأشداء الذين يكثرون في عِداد خدَّامها المخلصين؛ لأن كل مليم يزيد عن حاجة المصري، ولا ينفَق في سبيل التعليم هو ضائع سدًى، والأمة محرومة منه بغير حق.»٣ ودعا إلى وحدة الصف وتناسي الخلافات السياسية الحزبية من أجل إنجاز المشروع الذي يعود على الأمة بالخير؛ لذلك نجده يكتب إلى الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد يدعوه إلى فتح باب الاكتتاب للمشروع، معلنًا تبرعه بمبلغ خمسمائة جنيه مصري لمشروع إنشاء الجامعة.
وفي هذه الرسالة الهامة الموجهة لصاحب المؤيد، وضع مصطفى كامل تصورًا هامًّا للأسُس التي يجب أن يقوم عليها المشروع وهي:٤
  • أولًا: ألَّا تختص الجامعة بجنس أو دين، بل تكون لجميع سكان مصر على اختلاف جنسياتهم وأديانهم، فتكون واسطةً للألفة بينهم.
  • ثانيًا: أن تكون إدارتها في السنين الأولى في أيدي جماعة ممن يصلحون لإدارة هذا المعهد العلمي الكبير تثبت كفاءتهم للملأ.
  • ثالثًا: أن يكتتب ألفٌ — على الأقل — من سكان مصر، كلٌّ منهم بمبلغ لا يقل عن مائة جنيه، ويجوز أن يزيد عن ذلك حبًّا للوطن وللإنسانية.
  • رابعًا: أن يقام بناء هذه المدرسة الجامعة في بقعة خلوية خالية، من أجمل بقاع مصر على شاطئ النيل، وتقام بها حديقة من أجمل الحدائق. وبذلك لم يقحم مصطفى كامل نفسه في اقتراح نوع الدراسات التي يرى أن تقدمها الجامعة المقترحة، أو نظامها، تاركًا هذه المهمة المتخصصين الذين تسند إليهم إدارتها.

وبذلك حسم مصطفى كامل الحوار الذي دار على صفحات الجرائد عام ١٩٠٥-١٩٠٦م حول جدوى فكرة إقامة جامعة بالنسبة لحالة مصر الاجتماعية والثقافية، ومدى أفضلية مشروع الكتاتيب الذي روج له أنصار السياسة البريطانية في مصر على زعم أن مشروع الجامعة سابق لأوانه، وأن تعليم القراءة والكتابة لقطاع عريض من المصريين أجدى من إنفاق الأموال على مشروع الجامعة الذي لا يفيد إلا عددًا محدودًا من المصريين. وهو الحوار الذي بدأ على صفحات «المؤيد»، فكان اختيار مصطفى كامل للمؤيد منبرًا للدعوة للاكتتاب قطعًا للطريق على دعاة الكتاتيب. ووالت المؤيد نشر قوائم بأسماء المتبرعين للمشروع والمبالغ التي تبرعوا بها، فضمت القوائم أسماء بعض الأعيان وكبار الموظفين، وإن كان الإقبال محدودًا ما دام موقف الإنجليز والخديوي مبهمًا، غير أن المشروع تجاوز — بفضل مصطفى كامل — مرحلة الفكرة وبدأ يدخل في نطاق التنفيذ بعدما أصبح موضع اهتمام الرأي العام.

ولعبت المناورات السياسية — على ما يبدو — دورها لإبعاد مصطفى كامل ومحمد فريد وغيرهما من رجال الحزب الوطني عن المشروع، ووضعه في يد أشخاص لا يثيرون مخاوف الإنجليز أو الخديوي، ممن عُرفوا باعتدالهم وتعاونهم مع الحكومة. فعندما اقترحت «المؤيد» علي مصطفى كامل تكوين لجنة تحضيرية من كبار المكتتبين لتنظيم الاكتتاب، ووضع خطة لتنفيذ المشروع، استجاب مصطفى كامل للاقتراح، ودعا جميع المكتتبين إلى اجتماع لانتخاب أعضاء اللجنة ورئيسها (يوم ١٢ أكتوبر ١٩٠٦م). ولكن مكان الاجتماع تغيَّر فجأة ليُعقد في بيت سعد زغلول بحجة تجنب المهاترات الصحفية، فاجتمع ٢٧ شخصًا من المكتتبين في بيت سعد زغلول وشكلوا لجنة تحضيرية من: سعد زغلول (وكيلًا للرئيس)، وقاسم أمين سكرتيرًا، وحسن سعيد بك وكيل البنك الألماني الشرقي (أمينًا للصندوق)، أما بقية الحاضرين فقد أصبحوا أعضاء باللجنة، وكان معظمهم من كبار الموظفين والأعيان الذين لا يثيرون شبهات الخديوي أو الإنجليز، وكان بينهم عدد ممن يُعدُّون من تلاميذ الشيخ محمد عبده، وكان من بينهم محمد فريد، ثم استُبعد بعد ذلك. فلا عجب أن يبدي مصطفى كامل استياءه لهذا الإبعاد عن عملٍ كان صاحب المبادرة فيه، ولكنها السياسة. ولعل «حرص» أولئك الرجال على نجاح المشروع جعلهم يسعون لإزاحة رجال الحزب الوطني جانبًا إيثارًا للسلامة، ويتجلى ذلك بوضوح في النداء الذي وجهته اللجنة التحضيرية إلى سكان مصر على اختلاف أجناسهم وأديانهم، تعلن فيه الغرض من تأسيس الجامعة على النحو التالي:٥
  • (١)

    أن الجامعة مدرسة علوم وآداب تفتح أبوابها لكل طالب علم مهما كان جنسه أو دينه.

  • (٢)

    أنه ليس لها صبغة سياسية، ولا علاقة لها برجال السياسة ولا المشتغلين بها، فلا يدخل في إدارتها، ولا في دروسها، ما يمس بها على أي وجه كان.

  • (٣)

    أن اشتمال الجامعة على درجات التعليم الثلاث، وهي العالي والتجهيزي والابتدائي، متعذر الآن، ولا بد من التدرج في تنفيذ المشروع، والبدء فيه بما يمكن عمله، وتقديم ما الحاجة إليه أشد من غيره.

  • (٤)

    يلزم أن يكون للجامعة تلامذة خصوصيون، وهم الذين يقيدون أسماءهم ويحصلون على شهاداتها، وتكون لهذه الشهادات قيمة أدبية، مع الأمل أن الحكومة تمنحها المزايا التي تراها جديرة بها في المستقبل. كما يُسمح لمن يريد حضور دروس الجامعة من غير تلامذتها الخصوصيين أن يحضر.

فكان هذا البيان بمثابة «إبراء ذمة» من الصلة بمصطفى كامل والحزب الوطني.

ولعل هذا يفسر الرضا الضمني الذي أبداه كرومر عن المشروع في تقريره السنوي عن عام ١٩٠٦م، فراح يوجه النصح لأعضاء اللجنة بالتأني ودراسة نظم التعليم الجامعي والنظر في الصلات بين نظارة المعارف والمدارس العليا والجامعة المقترحة، ووضع نظم للدراسة والقبول ولائحة للطلاب، مع مراعاة قصر التعليم الجامعي على أبناء الأغنياء ولا يصبح متاحًا لكل راغب فيه.

غير أن الإدارة شجعت — من طرفٍ خفي — الأعيان على التبرع لمشروع الكتاتيب الذي كان يتبناه كرومر، مما أثر على حركة التبرعات لمشروع الجامعة، ثم جاءت الأزمة المالية عام ١٩٠٧م لتلقي بظلالها على حركة التبرع للمشروعين. وقد حرص أحمد لطفي السيد على تأكيد ضرورة الاهتمام بالتعليم الأساسي إلى جانب الاهتمام بإقامة الجامعة؛ فكلاهما ضروري لنهضة الأمة.

وعندما عُيِّن سعد زغلول ناظرًا للمعارف بعد أسابيع قليلة من تأسيس اللجنة التحضيرية استقال من عضويتها، فحلَّ قاسم أمين محلَّه في موقع وكيل الرئيس، ثم أُدخلت تعديلات على العضوية على مرحلتين حتى استقر أمر اللجنة مع نهاية ١٩٠٦م، وظل منصب الرئيس شاغرًا حتى يشغله أحد أمراء العائلة الخديوية ليعطي المشروع دفعة للأمام. وفي ٢٢ ديسمبر ١٩٠٧م، أبلغ الخديوي عباس الثاني اللجنة بموافقته على إسناد الرئاسة إلى الأمير أحمد فؤاد، فصادف هذا التعيين ارتياحًا عامًّا؛ لما عرف عن الأمير من تشجيع للأعمال العلمية والثقافية؛ مما يضمن نجاح المشروع. وانصرفت اللجنة إلى وضع قانون الجامعة ونظام الدراسة فيها، بعدما تيسرت لها الموارد المالية التي تكفي لبداية تنفيذ المشروع من تبرعات وأوقاف.

وفي ٢٤ مارس ١٩٠٨م اجتمعت اللجنة الفنية بسراي الأمير فؤاد بباب اللوق، وتقرر أن يبدأ نشاط الجامعة في اتجاهين: أولهما، إيفاد بعثة من عشرة طلاب يدرس نصفهم الآداب ونصفهم الآخر العلوم، يوفدون إلى جامعات إنجلترا وفرنسا وألمانيا وسويسرا؛ ليكونوا نواة لهيئة التدريس بالجامعة، وثانيهما، أن تبدأ الدراسة بأربعة دروس فقط هي: تاريخ الحضارة القديمة في الشرق، وتاريخ الحضارة الإسلامية، وتاريخ الآداب الفرنسية والإنجليزية. وأن تكون مدة الدراسة ثمانية شهور (نوفمبر–يونيو) في العام، ويعطى لكل فرع من فروع الدراسة أربعون درسًا في السنة. وأن تكون لغة التدريس العربية مع جواز إلقاء الأساتذة الأجانب لدروسهم باللغتين الإنجليزية والفرنسية؛ حتى يعود أعضاء بعثة الجامعة بعد استكمال دراستهم، فيتم التدريس بالعربية وحدها. وتقرر أن يكون التدريس مسائيًّا فيما بين الخامسة والثامنة. وأن تقبل الجامعة خريجي المدارس العليا وطلبتها، وطلبة الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي، وحددت رسوم الدراسة بأربعين قرشًا سنويًّا بالنسبة للطلاب، ومائة قرش سنويًّا لخريجي المدارس العليا، وخمسة قروش للدرس الواحد لمن شاء الاستماع إليه.

وفي ٢٠ مايو ١٩٠٨م، صدقت الجمعية العمومية للمكتتبين على قانون الجامعة، وتقدَّم حسين رشدي باشا والمسيو لوزينا بك عضو اللجنة الفنية للجامعة بالأوراق الرسمية إلى نظارة الداخلية؛ لطلب اعتراف الحكومة بالجامعة باعتبارها من المنافع العامة، وبذلك أصبح للجامعة وجود قانوني، فتم اختيار مجلس إدارة الجامعة بمعرفة اللجنة التحضيرية (في ٢٤ مايو) من خمسة عشر عضوًا حسبما جاء بقانون الجامعة. وكان أول مجلس للجامعة مكونًا من: الأمير أحمد فؤاد (رئيسًا) – حسين رشدي باشا، وإبراهيم نجيب باشا (وكيلين) – أحمد زكي بك (سكرتيرًا) – حسن سعيد بك (أمينًا للصندوق) – يعقوب أرتين باشا – الدكتور محمد علوي باشا – عبد الخالق ثروت باشا – مرقص حنا أفندي – مسيو ماسبرو – يوسف صديق بك – علي أبو الفتوح بك – علي بهجت بك – مسيو لوزينا بك – على ذو الفقار بك (أعضاء).

وقام مجلس إدارة الجامعة باستئجار الدور الأول من سراي جانكليس بمبلغ ٣٥٠ جنيهًا في السنة لمدة سنة واحدة؛ لتتخذه مقرًّا لها بعدما عجزت عن الحصول على مقر مؤقت من الحكومة. وقُسم الطلبة المزمع قبولهم إلى قسمين: طلبة منتسبون من خريجي المدارس العالية والخصوصية والأزهر وغيرهم ممن يلتحق بالدراسة بنية الاستمرار على حضور درس واحد فأكثر، للحصول على شهادة أو لقب علمي؛ وطلبة مستمعون متطوعون ممن يطلبون ذلك ويدفعون الرسم المقرر عنه. وأعلنت الجامعة أنها ستمنح من يستحق من طلبتها شهادة تُسمى «شهادة الدروس العالية»، ويشترط للحصول عليها أن يكون الطالب منتسبًا وأن يكون قد حضر دروس ثلاثة من أساتذتها على الأقل واشترك في التمارين العملية أو قدم بحثًا. مما يوحي أنه لم يستقر الرأي على قواعد ثابتة لمنح الدرجات العلمية، وخاصة أنه لم يكن هناك اعتراف بها من جانب الحكومة ولا تعد مؤهلًا للتوظف، فهي أقرب ما تكون إلى الدراسات الحرة. وحُدِّدت رسوم الدراسة للطالب المنتسب بمائة وعشرين قرشًا في السنة، وضوعفت الرسوم بالنسبة للطالب المستمع المتطوع، وظل رسم الاستماع للمحاضرة الواحدة خمسة قروش، ورسم دخول مكتبة الجامعة عشرون قرشًا سنويًّا.

وفي حفل رسمي أقيم بقاعة مجلس شورى القوانين يوم ٢١ ديسمبر ١٩٠٨م حضره الخديوي وكبار رجال الدولة والأمراء والأعيان والقناصل الأجانب وأعضاء الجمعيات العلمية وشيخ الأزهر، ومفتي الديار المصرية، افتُتحت الجامعة رسميًّا، وكان من خطباء الحفل: الأمير أحمد فؤاد رئيس الجامعة، والخديوي عباس حلمي الثاني، وعبد الخالق ثروت باشا، وأحمد زكي.

وأقبل على حضور دروس الجامعة خليط من الطلاب، جاء الجانب الأكبر منهم من تلاميذ المدارس (٢٥٨ طالبًا)، وموظفي الحكومة (٢٤٣ طالبًا)، والمعلمين بالمدارس (٦٩ طالبًا)، وطلاب الأزهر (٤٢ طالبًا)، ورجال القضاء (١٩ طالبًا)، وصحافيين (١٥ طالبًا)، وتجار (١٨ طالبًا)، وعدد محدود من كبار موظفي الدولة، وضباط الجيش والبحرية، وأصحاب المهن الحرة، وهذه الأعداد تمثل طلبة الانتساب والاستماع معًا. وغنيٌّ عن البيان أن الطلاب جاءوا من أبناء الطبقة الوسطى بمختلف شرائحها الاجتماعية، وهي الطبقة صاحبة المصلحة في إقامة التعليم الجامعي، والتي تبنت المطالبة به منذ نهاية القرن الماضي.٦

وفي العام الدراسي الثاني أدخل مجلس إدارة الجامعة عدة تعديلات على مناهج الدراسة التي وضعت في العام الأول، فأدخلت العلوم الطبيعية، وعلم مقارنة اللغات، ومنهج البحث التاريخي، والأدب الفرنسي. وأعلنت الجامعة عن مسابقة لتأليف كتاب في تاريخ آداب اللغة العربية في موعد أقصاه ٥ نوفمبر ١٩٠٩م، وخصصت لهذا العمل جائزتين: الأولى ١٥٠ جنيهًا، والثانية خمسون جنيهًا، ثم عادت فمدت المهلة لمدة عام آخر وزادت من قيمة الجائزتين لتصبح مائتي جنيه للأولى ومائة للثانية.

ونظرًا لأهمية مادة آداب اللغة العربية وحاجة الجامعة إلى من يقوم بتدريسها، قررت اللجنة الفنية إيفاد أحد خريجي دار العلوم إلى باريس لدراسة الأدب؛ ليقوم عند عودته من البعثة بتطبيق المناهج التي درسها على دراسة الأدب العربي.٧

واستعانت الجامعة باثنين من مدرسي دار العلوم للتدريس فيها. كما استعانت — فيما بعد — ببعض مدرسي الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي.

وخطَت الجامعة خطوةً تقدمية جريئة عندما استهلَّت عهدها بتخصيص قسم يقدم دراسات خاصة للنساء ومحاضرات عامة لهن. وقد قُسمت المحاضرات على النحو التالي:

  • (١)

    محاضرات باللغة الفرنسية في التربية والأخلاق، قامت بإلقائها الآنسة كوفرور المدرِّسة بمدرسة راسين بباريس.

  • (٢)

    محاضرات باللغة العربية في تاريخ مصر القديم والحديث، ألقتها نبوية موسى ناظرة مدرسة المعلمات.

  • (٣)

    التدبير المنزلي، وقامت بتدريسه رحمة صروف.

كما ألقى بعض الأطباء المصريين والأجانب محاضرات عامة على الطالبات في الصحة العامة ورعاية الأطفال. وكان من بين المواظبات على حضور المحاضرات هدى شعراوي، وصفية زغلول، وفاطمة نعمت راشد، وفاطمة عمر، وقد أصبحن رائدات للحركة النسائية في العشرينيات من هذا القرن.

وقد أثار القسم النسائي حفيظة بعض المتزمتين، فكانوا يتجمعون أمام الجامعة للتحرش بالنساء ومنعهن من الحضور؛ لمنافاة ذلك للآداب العامة (من وجهة نظرهم). وتعرض عبد العزيز فهمي سكرتير الجامعة للانتقاد بسبب توجيهه الخطابات للسيدات لدعوتهن لحضور المحاضرات، واعتبر ذلك ماسًّا بكرامة بنات العائلات. وما لبثت الجامعة أن أوقفت الدراسة بهذا القسم عام ١٩١٢م.٨ فلم تكن الظروف الاجتماعية قد تهيأت بعدُ لقبول فكرة انتساب النساء إلى الجامعة، كما كان الإقبال على القسم النسائي محدودًا؛ فلا تختلف إليه إلا سيدات العائلات الأرستقراطية اللاتي نلن حظًّا من الثقافة الأوروبية.

(١) تطور الجامعة الأهلية

بعد مرور عامين على افتتاح الجامعة، ونجاح فكرتها، وإقبال الطلاب عليها، رأت إدارة الجامعة أن تنشئ قسمًا يكون نواةً لكلية الآداب فيما بعد أطلقت عليه اسم «قسم الآداب»، ووضعت له لائحة حددت الغرض من إنشائه بحفظ «العلوم الأدبية والتاريخية والفلسفية» وترقيتها في الأمة بتنظيم دروس في الآداب والتاريخ وعلم أصول اللغات والفلسفة وترشيح الطلبة لنيل «شهادة العالمية». وحددت مدة الدراسة بأربع سنوات يمكن للطالب في نهايتها التقدم لامتحانات العالمية. واشترط في الطلاب الذين يقبلون بالقسم الحصول على شهادة الثانوية المصرية أو ما يعادلها من الشهادات الأجنبية. وحددت مواد الدراسة العشر على النحو التالي: آداب اللغة العربية، تاريخ آداب اللغة العربية، اشتقاق اللغات السامية، تاريخ الشرق القديم، تاريخ الأمم الإسلامية، الفلسفة العربية والأخلاق، تاريخ المذاهب الفلسفية، الجغرافيا والأنثروبولوجيا، ويختار الطالب دراسة إحدى المادتين: تاريخ آداب اللغة الإنجليزية، أو تاريخ آداب اللغة الفرنسية.

وتولى حفني ناصف تدريس آداب اللغة العربية، والدكتور نلِّينو (الإيطالي) تدريس تاريخ آداب اللغة العربية، والدكتور ليتمان تدريس علم مقارنة اللغات السامية، والدكتور ميلوني (الإيطالي) تاريخ الشرق القديم، والشيخ محمد الخضري تدريس تاريخ الأمم الإسلامية، وسلطان محمد تولى تدريس الفلسفة العربية والأخلاق، والدكتور سانتلانا قام بتدريس الجغرافيا وعلم الشعوب (الأنثروبولوجيا) وكان تدريس تلك المواد باللغة العربية. أما مادة تاريخ آداب اللغة الإنجليزية فتولى تدريسها مستر جيل، وتاريخ آداب اللغة الفرنسية المسيو لومونييه.

وكان يشترط للحصول على العالمية (الدكتوراه) النجاح في هذه المواد، ويقوم الطالب بالإضافة إلى ذلك بأداء امتحان في موضوع خاص من مادتين مختلفتين؛ كالجغرافيا والأدب مثلًا أو التاريخ والفلسفة، قبل مناقشة البحث الذي يتقدم به للحصول على العالمية. وتم الاتفاق بين الجامعة ونظارة المعارف (عام ١٩١٤م) على اعتماد شهادة العالمية، فاشترطت النظارة أن تمثل في لجنة الامتحان بعضوين إلى جانب الأعضاء الثلاثة من أساتذة الجامعة، وقبلت الجامعة هذا الشرط. وبذلك كانت الجامعة تمنح الدكتوراه دفعة واحدة لطلابها دون الحصول على الليسانس الذي لم يتقرر منحه إلا عام ١٩١٦م، وجعل شرطًا مسبقًا للحصول على العالمية (الدكتوراه). ويبدو واضحًا أن الجامعة المصرية الأهلية تأثرت في نظامها بما كان متبعًا بالجامعات الإيطالية. فقد كان يطلق على الدرجة الجامعية الأولى الدكتوراه. وحتى بعدما أقرت الجامعة درجة الليسانس في الآداب (عام ١٩١٦م)، كانت تمنح الدكتوراه بعد عام واحد فقط من الحصول على الليسانس، كما يتضح ذلك من حالة الطالب حسن إبراهيم حسن الذي حصل على الليسانس عام ١٩٢٠م والدكتوراه عام ١٩٢١م.

ومنذ عام ١٩١٦م أصبح يطلق على قسم الآداب «كلية الآداب» وتقرر أن يتولى إدارة الكلية مجلس أطلق عليه اسم «الجمعية العمومية لأساتذة كلية الآداب»، وكانت رئاسة هذه «الجمعية» لعميد الكلية أو وكيلها، وتنتخب الجمعية العميد والوكيل بالاقتراع السري أول كل عام، ويدخل في اختصاصها: وضع المناهج والخطط الدراسية، وترشيح المدرسين الجدد والإذن لهم بالتدريس، والبت في البعثات العلمية من حيث التخصصات والأفراد، ووضع النظام التأديبي للطلاب، والنظر في شئون الطلبة، ولها حق إقامة صلات علمية مع المعاهد العلمية داخل البلاد وخارجها، وبذلك استقر الكيان النظامي والأكاديمي لكلية الآداب.

وإلى جانب دراسة الآداب، كانت هناك دراسات أخرى يطلق عليها «دروس عمومية» شملت الاقتصاد السياسي والاقتصاد الزراعي. وتقرر عام ١٩١٥م إنشاء «قسم العلوم الاقتصادية والمالية» حُدِّدت فيه الدراسة بعامين دراسيين، وتولى التدريس به حسن كامل الشيشيني خريج جامعة أكسفورد في العلوم الاقتصادية، والمدرس بالتجارة العليا، والدكتور محمد فهمي عبد اللطيف خريج بعثة الجامعة بفرنسا الحاصل على الدكتوراه في الاقتصاد والمالية.

كما أنشئ في نفس العام القسم الجنائي، وكانت تدرس به مواد: قانون العقوبات المقارن، وقانون الجنايات المقارن، وعلم الاجتماع الجنائي، والطب الشرعي، والأمراض النفسية وعلاقتها بالقانون الجنائي، وكانت الدراسة فيه باللغة العربية، فيما عدا المادة الأخيرة التي كانت تدرس بالفرنسية. واعتمدت نظارة الحقانية شهادة هذا القسم ومنحت خريجيه أولوية التعيين في وظائف النيابة عند تساويهم مع المرشحين لتلك الوظائف.

وفي أوائل عام ١٩١٧م، استجابت الجامعة لطلب بعض الطلبة الراغبين في دراسة الحقوق، والذين لم تتوفر لهم أماكن بمدرسة الحقوق، فنظمت لهم دراسة لمنهج مدرسة الحقوق، استعانت فيه ببعض رجال القضاء، فتولى التدريس به عبد الحميد بدوي بك (القاضي)، وحسن نشأت (وكيل النيابة) والدكتور عبد السلام ذهني (المحامي)، والشيخ عبد الرحمن عيد المحلاوي (من أساتذة الأزهر). وقد أدى الطلاب الامتحانات بمدرسة الحقوق. فكانت هذه الدراسة التي نظمتها لهم الجامعة بمثابة فصل خاص لإعدادهم لامتحان الحقوق الذي قاموا بأدائه باعتبارهم منتسبين للمدرسة.

ورغم هذا النشاط، وإقبال الطلاب، ظلت الجامعة بلا مقر خاص، فأخذت من قصر الخواجة «نستور جانكليس» مقرًّا لها (وكان يحتل الموقع الحالي للجامعة الأمريكية بأول شارع قصر العيني) مقابل إيجار سنوي بدأ بمبلغ ٣٥٠ جنيهًا، ثم زِيد إلى ٤٠٠ جنيه، فانتقلت الجامعة إلى قصر محمد صدقي باشا بشارع الفلكي عام ١٩١٥م حيث تم استئجاره بمبلغ ٢٥٠ جنيهًا في السنة الأولى تزيد إلى ٣٠٠ جنيه في السنة الثانية، وعند تجديد الإيجار عام ١٩١٩م بلغت القيمة الإيجارية السنوية ٦٠٠ جنيه مما أرهق ميزانية الجامعة. غير أنها لم تملك بديلًا لذلك؛ فالأرض التي تبرعت بها الأميرة فاطمة إسماعيل لبناء الجامعة ببولاق الدكرور، والمبالغ التي تبرعت بها لم تكفِ لمتابعة بناء مقر الجامعة بسبب قيام الحرب الأولى عام ١٩١٤م وارتفاع تكاليف البناء، فتوقف العمل في بناء الجامعة حتى عام ١٩٢٢م عندما فكرت إدارة الجامعة في استئناف البناء. غير أن حركة البناء لم تبدأ إلا عام ١٩٢٨م بعد أن تحولت إلى جامعة حكومية. وبذلك ظلت الجامعة قائمة بسراي محمد صدقي باشا حتى منحتها الحكومة بعد تحويلها إلى جامعة حكومية سراي الزعفران بالعباسية بصفة مؤقتة؛ حتى يتم بناء حرم الجامعة الجديد.

فقد عانت الجامعة من أزمة مالية خانقة خلال سنوات الحرب العالمية الأولى (١٩١٤–١٩١٨م)، فتوقفت التبرعات أو كادت، وأنقصت الأوقاف الإعانة السنوية التي كانت تدفعها للجامعة إنقاصًا شديدًا، ثم أوقفتها حينًا، وأعادت صرفها حينًا آخر. كما واجهت الجامعة الصعوبات في الحصول على ريع الوقفيات التي أوقفها بعض الأفراد عليها بسبب المنازعات القانونية التي نشبت بينها وبين المستحقين في تلك الأوقاف.

ولما كان ذلك يعني نقص موارد الجامعة مما قد ينعكس سلبيًّا على نشاطها، فقد اضطرت أن تكفَّ يدها عن الإنفاق على المبعوثين، وتستدعيهم من الخارج وتسعى لدى الحكومة لإيجاد وظائف لهم لعجزها عن تشغيلهم، وأهملت دعوة الأساتذة الأجانب للتدريس فيها، ولم ينقذها إلا قيام الحكومة الإيطالية بتحمل رواتب ثلاثة من الأساتذة الإيطاليين. واضطرت إلى تخفيض رسوم الدراسة حتى لا تفقد طلابها، وخاصة أن الحكومة لم تعترف بشهاداتها لعدم خضوعها لإشراف وزارة المعارف. ولم تخرج الجامعة من هذه المحنة إلا تحويلها إلى جامعة حكومية عام ١٩٢٥م.

(٢) بعثات الجامعة الأهلية٩

كانت الجامعة حريصة منذ تأسيسها على أن تكون العربية لغة التدريس فيها، وأن تعد هيئة التدريس الخاصة بها إعدادًا علميًّا سليمًا؛ حتى يكفوها مئونة الاعتماد على الأساتذة الأجانب، وحتى يلعبوا دورًا — بعد عودتهم — في تعريب المعارف الحديثة؛ لذلك بادرت بإيفاد بعثة خاصة من الطلاب المصريين، اختارتهم اللجنة الفنية بطريق الاختبار، على أن يلتزموا بالعمل في خدمة الجامعة بعد حصولهم على الدرجات العلمية اللازمة وعودتهم إلى مصر.

وكانت البعثة الأولى تضم: محمد حسن ومحمد صادق جوهر لدراسة العلوم الرياضية بجامعة كمبردج، وتوفيق سيدهم لدراسة الطبيعة بلندن، وسيد كامل لدراسة التاريخ واللغة بالسوربون، ومحمد توفيق الساوي لدراسة الآداب بالسوربون، ومحمود عزمي لدراسة العلوم السياسية والقانونية بالسوربون، ومحمود فهمي لدراسة الفلسفة بنفس الجامعة، وحسن فؤاد الديواني لدراسة علم وظائف الأعضاء بجامعة ليون بفرنسا، ومحمد ولي الدين لدراسة التاريخ الطبيعي وقانون علم الصحة بنفس الجامعة، ومحمد كمال لدراسة الطب الشرعي والكيمياء بجامعة ليون أيضًا. وقد اختير هؤلاء من بين طلبة المدارس العليا الثلاثة: المهندسخانة، والحقوق، والطب.

وتبرع بعض الأعيان والذوات بتحمل نفقات دراسة عدد من أولئك الطلاب. وعينت الجامعة مشرفًا من الأساتذة الإنجليز لمتابعة دراسة أعضاء بعثة لندن، وآخر من الأساتذة الفرنسيين لمتابعة أعضاء بعثة فرنسا. وطلب بعض الأعيان ممن أوفدوا أولادهم علم نفقتهم للدراسة بهذين البلدين ضم أبنائهم إلى بعثة الجامعة للاستفادة بإشرافها مع استمرارهم في تحمُّل نفقات الدراسة بالنسبة لأبنائهم. وعندما مرت الجامعة بأزمتها المالية، قبِل المشرفون الأجانب أن يؤدُّوا أعمالهم تطوعًا. وكان المشرف يوالي الجامعة بتقارير عن التقدم الدراسي للطلاب، كما كان على الطلاب أن يكتبوا تقارير للجامعة عن أحوالهم بصورة دورية، وإلا وقعوا تحت طائلة العقاب، فيتم خصم نسبة من رواتبهم، كما حرم عليهم الزواج أثناء الدراسة بالبعثة.

وكان على عضو البعثة أن يحصل على موافقة مجلس الجامعة على موضوع رسالته قبل التقدم بها إلى الجامعة الأجنبية التي يدرس بها، وعندما يفرغ من كتابة رسالته لا يقدمها لجامعته إلا إذا رأت الجامعة المصرية صلاحيتها لذلك. وقد اتُّخذ هذا القرار بعد ما أثير من لغط حول رسالة منصور فهمي عن «المرأة المسلمة» التي رأى البعض أنها تتضمن ما يمس الدين الإسلامي، وكان على عضو البعثة أن يتولى التدريس بالجامعة لمدة عشر سنوات بعد عودته، فإن لم يقبل ذلك كان عليه أن يسدد للجامعة ما أنفقته على تعليمه.

وعندما قامت الحرب العالمية الأولى سحبت الجامعة مبعوثيها من أوروبا؛ حتى تتحسن ظروفها المادية وتتمكن من أعادتهم للدراسة بجامعاتهم. وقد استطاعت أن تعيدهم بفضل بعض المساهمات المالية التي حصلت عليها.

واتجهت الجامعة اتجاهًا غريبًا، فقد استطاع الأمير أحمد فؤاد (رئيس الجامعة) أن يحصل من الحكومة الإيطالية على أربع مِنح لتعليم صبية من المصريين في المدارس الإيطالية حتى يصلوا إلى أعلى الدرجات العلمية، ويعودوا لخدمة الجامعة. وفعل نفس الشيء مع الحكومة الفرنسية، فحصل على ثلاث منح لتعليم ثلاثة من الأطفال المصريين، وعلى مثلها من النمسا؛ وبذلك تم إيفاد عشرة أطفال في ثلاث بعثات لحساب الجامعة المصرية: أربعة إلى إيطاليا، وثلاثة إلى كلٍّ من فرنسا والنمسا، وكان ذلك عام ١٩١٠م.

ولكن التجربة فشلت بسبب الصعوبات التي واجهت هؤلاء الصبية بالخارج، وعدم قدرتهم على متابعة الدراسة، والمتاعب التي أثارها ذووهم للجامعة بسبب عدم اطمئنانهم إلى أسلوب تربية أبنائهم في الخارج.

وبفضل اتصالات وعلاقات الأمير أحمد فؤاد بملك إيطاليا وبعض ساسة أوروبا حصلت مكتبة الجامعة على العديد من الكتب كهدية من إيطاليا وفرنسا وبريطانيا. وكانت إيطاليا أكثر سخاء في عطائها لمكتبة الجامعة تليها فرنسا، وبذلك حصلت مكتبة الجامعة على المراجع الأساسية والخرائط، ونسخ من الأعمال الفنية الهامة والنوت الموسيقية والدوريات، دون أن تتحمل ميزانية الجامعة المحدودة نفقات ذلك كله. ولم تتخلف حكومة النمسا عن دعم مكتبة الجامعة عندما طلب إليها الأمير أحمد فؤاد ذلك، وحذت بلجيكا حذوها. وجاءت أدوات وأجهزة معمل الطبيعة والكيمياء هدية من الملك عمانويل الثالث ملك إيطاليا.

وتنافس بعض المثقفين المصريين وعائلاتهم في تقديم هبات الكتب للجامعة مثل محمد وسيم بك، القاضي بمحكمة مصر المختلطة، وحمزة بك فهمي، ومحمد لطفي جمعة، وعائلة شفيق بك منصور، وعائلة يحيى باشا منصور يكن، وعائلة إبراهيم بك مصطفى الذي كان ناظرًا لدار العلوم، وعبد الغني بك شاكر. فقد قدمت تلك العائلات المكتبات الخاصة لرجالهم الراحلين إلى الجامعة. وبفضل هذه الهبات التي قدمتها الدول الأجنبية والأفراد والعائلات المصرية كانت نواة مكتبة الجامعة.

•••

ورغم الأزمة المالية التي عاشتها الجامعة خلال الحرب العالمية الأولى، والموقف السلبي الذي وقفته الحكومة منها، وتخلي الأمير أحمد فؤاد عن رئاستها عام ١٩١٣م، فقد استمرت تؤدي رسالتها تحت رئاسة حسين رشدي باشا الذي ظل يحتفظ برئاستها بعد توليه رئاسة الوزراء عام ١٩١٤م، وإن كان قد تخلى عن رئاسة الجامعة في عام ١٩١٦م للأمير يوسف كمال، غير أنه عاد إلى رئاستها عام ١٩١٧م وظل في موقعه حتى اندمجت في الجامعة الحكومية عام ١٩٢٥م.

واستطاعت الجامعة الأهلية، فيما بين نشأتها حتى تحولها إلى جامعة حكومية، أن تهيِّئ المناخ للتعليم الجامعي، وتحقق التواصل العلمي والثقافي بينها وبين المدارس العليا، فالتحق طلاب المدارس العليا بها إلى جانب دراستهم النظامية بمدارسهم، وانتدب البارزون من مدرسي مدرسة دار العلوم ومدرسي الأزهر للتدريس بها، كما استعانت بالكفايات العلمية من خارج المدارس العليا من رجال القانون والقضاء.

وساعد على تحقيق هذا التواصل العلمي والثقافي نظام الدراسة الحرة الذي يتيح لمن يريد فرصة الاستماع إلى محاضرات في لون معين من ألوان المعرفة، فازدحمت قاعات المحاضرات بطلاب جاءوا للاستزادة من المعرفة دون تطلع إلى الحصول على درجة علمية، كما لعبت مكتبة الجامعة دورًا هامًّا في تحقيق هذا التواصل.

كذلك وضعت الجامعة في مرحلتها الأولى القواعد الرصينة للمعرفة العقلانية العلمانية، فها هو ذا سعد زغلول ينتقد خطبة أحمد زكي بك في افتتاح الجامعة التي بالغ فيها في الحديث عن مجد الإسلام؛ وعدَّ ذلك لا يتفق مع مناسبة افتتاح جامعة «لا دين لها إلا العلم».١٠ ونظرة إلى برامج الدراسة في الجامعة توضح اتجاهها العلماني، وحرصها على غرس قيم العلم والتفكير العلمي بين طلابها، وتدريبهم على أصول البحث العلمي ومناهجه على يد أساتذة من المصريين والأجانب.

ولا يعني ذلك أن الطابع العلماني للجامعة لم يلقَ الانتقاد من جانب العناصر المحافظة، فقد حفلت الصحافة المصرية بالمقالات التي هاجمت الجامعة، ودعت إلى جعل الدراسة «إسلامية»، وغيرها من المقالات التي شككت في جدوى هذا اللون من التعليم في مصر. غير أن الجامعة استطاعت أن تبقى نتيجة الحرص على عدم التورط في صدام مع التيار المحافظ قد يكلفها وجودها ذاته.

هذا التواصل العلمي والثقافي الذي حققته الجامعة في المرحلة الأولى من عمرها، وهذا التراكم للخبرات الجامعية جعل من الجامعة المصرية الأهلية حجر الزاوية لإقامة الجامعة الحكومية عام ١٩٢٥م.

١  يعقوب أرتين: القول التام في التعليم العام، ترجمة علي بهجت، المطبعة الأميرية ١٨٩٤م، ص١١٠.
٢  سامية حسن سيد إبراهيم: الجامعة المصرية ودورها في الحياة السياسية ١٩٠٨–١٩٤٦م، رسالة دكتوراه غير منشورة، بنات عين شمس، ١٩٨٣م، ص١٥–١٩.
٣  من مصطفى كامل إلى محمد فريد، باريس ٢٤  /  ٩  /  ١٩٠٦م ، رسالة منشورة في: مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر: أوراق مصطفى كامل، المراسلات، القاهرة ١٩٨٢م، ص١١٩.
٤  سامية حسن: المرجع السابق، ص٢١-٢٢.
٥  نفس المرجع، ص٢٨-٢٩.
٦  الأرقام المذكورة للطلاب في العام الأول لافتتاح الجامعة، وردت في تقرير مجلس إدارة الجامعة للعام ١٩٠ ج٨، ١٩٠٩م (انظر، المرجع السابق، ص٧٩).
٧  أحمد عبد الفتاح بدير: الأمير فؤاد ونشأة الجامعة المصرية، القاهرة ١٩٥٠م، ص١٦٨.
٨  عبد المنعم الجُميعي: الجامعة المصرية القديمة – نشأتها ودورها في المجتمع، القاهرة ١٩٨٠م، ص٤٦–٤٨.
٩  للمزيد من التفاصيل: راجع عبد المنعم الجُميعي، المرجع السابق، ص٤٢–٤٥، سامية حسن: المرجع السابق، ص١٠٧–١٢٠، جامعة القاهرة، العيد الماسي، القاهرة ١٩٨٣م، ص٤١–٤٥.
١٠  مذكرات سعد زغلول، كراس ٩، ص٤٢٢ (مذكورًا في الجُميعي: المرجع السابق، ص٣٦).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥