الفصل الرابع

الجامعة والتغير الاجتماعي

عاصرت الجامعة عند نشأتها التغيرات التي شهدها المجتمع المصري في أعقاب ثورة ١٩١٩م، ونعني بذلك إعلان استقلال مصر (رغم ما شاب ذلك الاستقلال من قيود)، وإصدار دستور ١٩٢٣م وقيام حياة نيابية في ظله عصف بها القصر بعد حين ليفتح جبهة جديدة للنضال الوطني ضد طغيان القصر والسيطرة الأجنبية معًا، وما صحب ذلك كله من صراع حزبي وسياسي.

وفي غمرة هذا الصراع السياسي الذي كان لطلاب الجامعة دور بارز فيه — على نحو ما سنرى — شهد المجتمع المصري تغيرات اجتماعية هامة. فقد برز دور القوى الاجتماعية التي لعبت دورًا أساسيًّا في ثورة ١٩١٩م. غير أنها لم تجنِ ثمار ما قدمت من تضحيات بسياسات اجتماعية تحسن أوضاعها كالعمال والفلاحين، كما برز دور المرأة المصرية التي خرجت من خدرها — للمرة الأولى — تشارك في العمل الوطني مشاركة الرجل فيه وتتعرض معه لرصاص الإنجليز، وأطلق ذلك التطور الهام الحركة النسائية من عقالها، فأسَّست هدى شعراوي «الاتحاد النسائي» عام ١٩٢٣م ليعمل على نشر التعليم بين نساء مصر والاهتمام بالتوعية الصحية والمطالبة بتحسين وضع المرأة وصيانة حقوقها في قوانين الأحوال الشخصية إلى غير ذلك من أمور تتصل بالنهوض بالمرأة المصرية.١

كذلك صقلت ظروف الحرب العالمية الأولى الوعي الطبقي عند البورجوازية المصرية، فراحت تتطلع إلى أن تنال حقها في اقتصاد بلادها، محاولة التخلص من السيطرة الأجنبية على الاقتصاد المصري التي لم تترك لها إلا دور الشريك الأصغر، وأيقنت أن الاستقلال السياسي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا قام على دعائم الاقتصاد الوطني المستقل. ومن ثم كانت جهود محمد طلعت حرب باشا لتأسيس «بنك مصر» عام ١٩٢٠م ليكون قاعدة لبناء الاقتصاد الوطني عن طريق إقامة قطاع صناعي وتجاري حديث، واحتلال مواقع رأس المال الأجنبي بامتلاك أسهم الشركات الأجنبية العاملة في مصر وتمصيرها. فكانت صيحة التحرر الوطني لا تعبر عن التحرر السياسي وحده، بل تمتد إلى التحرر الاقتصادي، بفضل تلك الطليعة الواعية للبورجوازية المصرية.

وشهدت الحقبة التي تقع بين ثورتَي ١٩١٩م و١٩٥٢م، اتساع شقة التناقضات الاجتماعية في مصر، فتفاقمت ظاهرة الفقر والجهل والمرض؛ ذلك الثالوث الذي تردد في الأدبيات السياسية في تلك الحقبة من تاريخ مصر المعاصر، من باب بذل الوعود بالإصلاح في مواسم الانتخابات البرلمانية أحيانًا، ومن باب الدعوة الصادقة للإصلاح الاجتماعي أحيانًا أخرى. فكانت مصر تعاني أزمة اجتماعية حادة تتطلب حلًّا، تنوعت الاجتهادات التي طرحت للتوصل إليه، بتنوع التوجهات السياسية والفكرية لأصحابها، وتباينت بتباين مواقعهم الاجتماعية.

ولا يعنينا هنا تتبُّع مساهمات خريجي الجامعة في ذلك كله؛ لأن خروج طالب الجامعة إلى الحياة العامة واندماجه فيها، يغير من استجابته لتحدياتها بما يتفق وواقعة الاجتماعي ومصالحه الذاتية وارتباطاته السياسية. وإنما ما يعنينا هنا ما كان للجامعة — كمؤسسة علمية — من دور في دفع عجلة التغير الاجتماعي في مصر، وما كان لطلابها من مواقف تجاه حركة التغير الاجتماعي التي شهدتها مصر بين الثورتين. ويهمنا — على وجه الخصوص — الدور الريادي للجامعة في فتح الطريق أمام المرأة المصرية للمساهمة في خدمة بلادها، وما ساهمت به الحياة الجامعية من تعميق أسُس التعاون بين الشباب وتشجيع روح المبادرة عندهم، ثم موقف طلاب الجامعة من القضايا الاقتصادية والاجتماعية.

(١) الجامعة والتعليم المختلط

كانت النخبة المثقفة المصرية التي احتضنت مشروع «الجامعة المصرية» في العقد الأول من هذا القرن تؤمن بتحرير المرأة وبحقها في التعليم وضرورة أن يكون لها دور في بناء المجتمع، فقد كان لقاسم أمين دور بارز في اللجنة المؤسسة، وكذلك تلاميذ الشيخ محمد عبده ممن أيدوا قاسم أمين وشايعوا فكرة تحرير المرأة كما طرحها في كتابيه: «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، وعلى رأس هؤلاء أحمد لطفي السيد وسعد زغلول وإذا كانت المنية قد أدركت قاسم أمين قبل افتتاح الجامعة رسميًّا عام ١٩٠٨م، فإن رفاقه من مؤسسي الجامعة تعهدوا الفكرة بالرعاية من بعده، فأُنشئت الجامعة قسمًا نسائيًّا تلقى فيه محاضرات حرة لتزويد المرأة بقدر من الثقافة — على نحو ما رأينا — تتصل بالنواحي الاجتماعية والصحية والفنية، تلك الدراسات التي أثارت ثائرة المحافظين فذبحوا المقالات التي تهاجم القائمين على أمور الجامعة وتتهمهم بالتفريط في التقاليد والعدوان على الفضيلة، إلى غير ذلك من مواقف المعارضين التي سجلتها صحف ذلك الزمان.

وما كان إنشاء القسم النسائي — في رأينا — إلا اختبارا من جانب القائمين على أمور الجامعة لمدى تقبل الناس لفكرة تلقِّي النساء العلم في الجامعة؛ فاللاتي انتسبن إلى القسم النسائي كن من سيدات الطبقة العليا في المجتمع اللائي نلن حظًّا من التعليم في المدارس المصرية والأجنبية إلى جانب الأجنبيات المقيمات في مصر، فلم يكن الهدف — إذن — فتح أبواب التعليم الجامعي للمرأة المصرية بقدر ما كان اختبارًا للنوايا والمواقف من تلك الفكرة. وقد استفاد رجال الجامعة من هذه التجربة ودلالاتها عندما عالجوا قضية قبول الطالبات بالجامعة بعد تحولها إلى جامعة حكومية عام ١٩٢٥م؛ إذ كانوا يؤمنون بأن مساعدة التطور الاجتماعي تدخل في إطار رسالة الجامعة.

ففي أول عام لافتتاح الجامعة، طلب بعض عمداء الكليات من أحمد لطفي السيد — مدير الجامعة — أن تقبل الجامعة الحائزات على شهادة الثانوية؛ استنادًا إلى أن وزارة المعارف أوفدت بعثة إلى إنجلترا من اثني عشر مدرسة من معلمات الوزارة عام ١٩٢٥م للدراسة بجامعات إنجلترا في تخصصات معينة. فقال لهم أحمد لطفي السيد أن هذه المسألة «شائكة»، وأنه يخشى معارضة الحكومة للفكرة إذا أثارتها الجامعة بشكل رسمي، أو اتخذت فيها قرارًا محددًا. واتفق مع العمداء على قبول الطالبات اللاتي يتقدمن للالتحاق بالجامعة دون الإعلان عن ذلك في الصحف، أو إثارة الموضوع في إحدى الخطب.٢ حتى تضع الجامعة الحكومة والرأي العام — معًا — أمام الأمر الواقع.
وهكذا تعاون أحمد لطفي السيد مع العمداء على إنجاح المشروع بإبقائه طيَّ الكتمان، واعتمدوا على أن القانون الأساسي للجامعة يبيح التحاق «المصريين» بها، وهو لفظ الجمع الذي يشمل البنين والبنات. وفي عام ١٩٢٩م التحق بالجامعة سبع عشرة طالبة، منهن ثمان طالبات بكلية العلوم، وأربع بكل من الآداب والطب، وطالبة واحدة بكلية الحقوق.٣
ويشير أحمد لطفي السيد إلى رد الفعل لهذه التجربة فيقول: «وبعد أن سرنا في هذا النهج عشر سنوات، حدث ما كنا نتوقعه، فقد قامت ضجة تنكر علينا هذا الاختلاط، فلم نأبه لها؛ لأننا على يقين من أن التطور الاجتماعي معنا، وأن التطور لا غالب له. ومعنا العدل الذي يسوِّي بين الأخ وأخته في أن يحصل كلاهما على أسباب كماله الخاص على السواء، ومعنا فوق ذلك منفعة الأمة من تمهيد الأسباب لتكوين العائلة المصرية على وجه يأتلف مع أطماعنا في الارتقاء القومي.»٤

لقد كان الرعيل الأول من روَّاد التعليم الجامعي في مصر طلاب نهضة، يسعون للرقي بمجتمعهم، وكانوا على يقين أن نهضة المجتمع لا تتحقق على الوجه الأكمل إلا بقيامها على كواهل أبنائها وبناتها على السواء. ورغم أن دعاة التخلف باسم المحافظة على التقاليد كانوا أعلى صوتا وأكثر تأثيرا على بسطاء الناس، فإن ذلك لم يفتَّ في عضد أولئك الرواد الذين كانت مصر ومستقبل مصر في ضميرهم. وغلبت سُنَّة التطور، وأثبتت الفتاة المصرية أن قدراتها لا تقل عن قدرات زملائها، وبرهنت على جدرانها بخدمة مجتمعها، وعلى صدق رؤية أولئك الرواد العظام الذين لو استجابوا للضغوط لما استطاعت مصر أن تحقق ما حققته من تقدم على مدى نصف القرن.

وعامًا بعد عام، أخذت أعداد الطالبات في التزايد بالقدر الذي يتناسب مع الظروف الاجتماعية في مصر في الثلاثينيات، ففي عام ١٩٣٥م، بلغ عدد الطالبات في كلية الآداب ٣٧ طالبة (مقابل ٣١٢ طالبًا)، وفي العلوم ١٤ طالبة (مقابل ٣٨٠ طالبًا)، وفي الطب ٣٤ طالبة (مقابل ٩٨٤ طالبًا)، وفي الحقوق ثلاث طالبات (مقابل ٩٨٨ طالبًا).٥ فقد كانت العائلات التي تنتمي إلى الشريحة العليا من البورجوازية المصرية هي التي تسمح لبناتها بالالتحاق بالجامعة. أما الشرائح الأخرى للبورجوازية المصرية فقد ترددت في ذلك حتى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما بدأ إقبال الشريحة الوسطى من البورجوازية المصرية على تعليم بناتهم بالجامعة، وتبعتها البورجوازية الصغيرة في عهد ثورة يوليو ١٩٥٢م، حتى أصبح عدد الطالبات بالجامعات المصرية الآن يبلغ نحو المائتي ألف طالبة.
وكان قبول الطالبات بطب الأسنان عام ١٩٣٢م، وبالصيدلة عام ١٩٣٦م، وبالتجارة عام ١٩٣٥م، ومنذ عام ١٩٤٥م فتحت كليات الهندسة والزراعة والطب البيطري أبوابها أمام الطالبات. ورأت وزارة المعارف أنه لم تعد هناك حاجة لإيفاد الطالبات للدراسة الجامعية بالخارج، فقللت من عدد البعثات المخصصة للطالبات، ما دامت الجامعة قد أصبحت تقوم بهذه المهمة،٦ وخاصة بعدما أثبت الطالبات تفوقهن في الدراسة، وعينت كلية الآداب ثلاثًا من خريجاتها في وظيفة المعيد هن: سهير القلماوي، وفاطمة سالم، ودرية فهمي.٧
وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كان اتجاه الطالبات إلى دراسة الآداب يمثل التيار الغالب بينهن، ففي عام ١٩٤٥م كانت نسب الطالبات في كلية الآداب ٣٢٫٥٪ من مجموع طلاب الكلية، بينما بلغت نسبة الطالبات في كلية العلوم ٦٪ من مجموع الطلاب، وفي كلية الطب ٧٫٥٪، وكلية الحقوق ١٫٨٪، وكلية التجارة ١٪ من مجموع الطلاب.٨
فإذا قارنا هذه النسب المتواضعة بالإحصاءات الخاصة بأعداد الطالبات بالجامعات المصرية عام ١٩٧٩م، أدركنا مدى الانطلاق بالنسبة للتعليم الجامعي المختلط خلال خمسين عامًا من قيام تلك التجربة المباركة؛ ففي عام ١٩٧٩م، بلغت نسبة الطالبات في كليات الآداب ٤٧٫٤٪، وفي كليات الحقوق ٢٧٫٦٪، وفي كليات الهندسة ١٨٪، وفي كليات الزراعة والطب البيطري ٢٤٫١٪، وفي كليات العلوم ٢٨٪، وفي كليات طب الأسنان ٤٢٪، وفي كليات الصيدلة ٤٤٪، وفي كليات التربية ٢٢٪. أما الكليات التي تنفرد بها جامعة القاهرة، فقد بلغت فيها نسبة الطالبات أرقامًا قياسية، إذ كانت ٦٣٪ في الإعلام، و٣٩٪ في كلية الآثار، و٢٨٪ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.٩
لقد ارتفعت الأصوات في البرلمان تهاجم الاختلاط في الجامعة فقدم النائب عبد الحميد سعيد (مؤسس جمعية الشبان المسلمين) استجوابًا في فبراير ١٩٣٢م لوزير المعارف بمناسبة نشر جريدة الأهرام صورة لطه حسين وحوله لفيف من الطلبة والطالبات، فعبَّر النائب عن دهشته لنشر مثل هذه الصورة، بعد أن صرح الوزير بأنه «لا يسمح بالاختلاط الجنسي في معاهد التعليم» وعدَّ النائب نشر الصورة دليل على «عدم احترام الشعور الديني والآداب القومية». وردَّ الوزير على الاستجواب بأن الصورة أُخذت في اجتماع بنادي طلبة الجامعة، وأن الجامعة قد نبهت على الطالبات بعدم دخول هذا النادي، وعلى ذلك فلن يتكرر ما حدث.١٠

ومع انتشار حركة الإخوان المسلمين بين صفوف طلاب الجامعة، بدأت إثارة موضوع الاختلاط في الجامعة مرة أخرى عام ١٩٣٧م، وجاءت إثارة الموضوع كجزء من الصراع السياسي بين الوفد والقصر عندئذٍ، فأثار بعض الأزهريين قضية الاختلاط، كما انضم إليهم بعض شباب الإخوان المسلمين داخل الجامعة، فتقدم بعض طلبة الحقوق بمذكرة إلى مدير الجامعة وعمداء الكليات وأعضاء هيئة التدريس يطالبون فيها بتخصيص جانب من المناهج للثقافة الدينية في جميع الكليات، وبتوحيد زي الطلبة وتمييز كل كلية بشارة خاصة يحملها الطلاب، وتوحيد زي الطالبات، وفصلهن عن الطلبة وتخصيص دراسة خاصة بهن. وتقدم بعض طلبة كلية الطب وكلية التجارة بمذكرتين بنفس المعنى إلى إدارة الجامعة.

ورمى الأزهر القفاز في وجه الجامعة، فنشر الأهرام حديثًا لشيخ الأزهر عبَّر فيه عن سروره بالمذكرة التي قدمها الطلاب لإدارة الجامعة، وطالب بالمحافظة على الآداب الإسلامية وتعاليم الدين، وطالب بسرعة فصل الطلبة عن الطالبات وأن يُجعل لهن زي خاص، كما أيَّد الشيخ التعليم الديني في الجامعة. وكان لحديث الشيخ أثره في إثارة طلبة الأزهر الذين قاموا بمظاهرات تأييد للمطالبين بعدم الاختلاط من طلبة الجامعة بتشجيع من شيوخ كليات الأزهر.١١

وتصدى الدكتور طه حسين — في حديث لجريدة المصري يوم ١٣ مارس ١٩٣٧م — للمعارضين للاختلاط، فذكر أن إثارة المسألة تهدف إلى خلق المتاعب للحكومة (الوفدية) في وقت «نريد فيه أن نثبت استقلالنا وحياتنا الدستورية الداخلية»، وعدَّ ذلك مخالفًا للذوق وما تقتضيه الوطنية، وقال إنه لا يعرف في القرآن ولا في السنة نصًّا يحرِّم على الفتيات والفتيان أن يجتمعوا في حلقة من حلقات الدرس حول أستاذ يعلمهم العلم والأدب والفن، وأن الجامعة لم تُحدث حدثًا، ولم تخرج على نصٍّ من نصوص الدين. وأبدى تعجُّبه لأن الفتيان والفتيات كانوا يجتمعون في دروسهم الجامعية في عهد الحكومات السابقة «فهل كان المطالبون بهذا نائمين في العهد الماضي ثم استيقظوا في هذه الأيام؟!»

وهاجم طه حسين الدكتور منصور فهمي عميد الآداب السابق لكتابته مقالًا ضد الاختلاط؛ لأن الاختلاط كان موجودًا أثناء وجوده في عمادة الآداب، فلم يبدِ اعتراضًا عليه. كما شن هجومًا على الأزهريين الذين لم يعارضوا في مسألة الاختلاط في عهود صدقي باشا وعبد الفتاح يحيى باشا وتوفيق نسيم باشا وعلي ماهر باشا؛ مما يعني أن الهدف من الحملة سياسي محض. وقال: إن الدستور لا يبيح للحكومة أن تحرِّم التعليم العالي على الفتيات بأية حال من الأحوال، والظروف المالية لا تبيح للحكومة أن تنشئ جامعة خاصة للبنات. وأعلن أن الجامعيين لا يتلقون أمرًا من معهد آخر مهما كان شأنه، «فليتركهم الأزهر كما يتركونه، وليُعْنَ بإصلاح أمره، كما يُعنى الجامعيون بإصلاح أمرهم، وليحترم الأزهر استقلال الجامعة، كما تحترم الجامعة استقلال الأزهر.» وطالب الأزهريين بأن يتركوا مسألة الدين للطلبة أنفسهم «فليس بين طلاب الجامعة قاصر ولا عاجز عن تثقيف نفسه في الدين … والكليات ليست مدارس ابتدائية ولا ثانوية، وإنما طلاب الكليات راشدون يستطيعون أن يتعلموا الدين إن أرادوا.»١٢
وإذا كان صوت طه حسين أقوى الأصوات التي علت في مواجهة تلك الحملة الرجعية؛ فقد أحاطت به أصوات العديد من المفكرين والأدباء الذين أعلنوا أن عجلة التطور لن تعود إلى وراء، وطالبوا باستمرار الوضع القائم خاصة بعد أن أثبت التعليم المختلط كفاءته. واحتجَّت طالبات الجامعة على تلك الحملة الرجعية التي أثيرت دون مبرر بعد مرور سنوات على التجربة التي أثبتت كفاءة الفتاة المصرية ومتانة خلقها.١٣
ولكن صدق حدس أحمد لطفي السيد؛ فالتطور لا غالب له، ومضت الجامعة في طريقها غير عابئة بأصوات المعارضة التي خفتت مع انقضاء الهدف السياسي الذي كان من ورائها، واستمرت الجامعة في قبول الطالبات في مرحلة الليسانس والبكالوريوس وفي مرحلة الدراسات العليا. وأدخلت المتفوقات منهن في هيئة التدريس بالكليات المختلفة. وبعد مرور نصف قرن على دخول الطالبات الجامعة، كانت نسبة عضوات هيئة التدريس بالجامعات المصرية (عام ١٩٧٩م) تبلغ ٢٤٪ من إجمالي أعضاء هيئة التدريس بالجامعات المصرية، وبلغت نسبة من يشغلن وظيفة أستاذ ١١٪، وأستاذ مساعد ١٦٫٨٪، ومدرس ٢٣٫١٪. أما تمثيل المرأة في وظائف المدرسين المساعدين فكانت نسبته ٢٤٫٢٪، وفي وظائف المعيدين ٣٠٫٧٪.١٤ وبذلك احتلت المرأة مكانًا لائقًا في التعليم الجامعي وشغلت مختلف المناصب العلمية دون تمييز.

هذا الدور الذي لعبته الجامعة في دفع التطور الاجتماعي في مصر، وصمودها في وجه التيارات المعارضة، دفع بالمرأة إلى مجالات رحبة لخدمة مجتمعها معلمةً وباحثة وطبيبة ومهندسة ومحامية … إلى غير ذلك من المجالات التي أثبتت فيها المرأة المصرية وجودها، وكان لها دورها الاجتماعي البارز.

(٢) الحياة الجامعية

لما كان دور الجامعة لا يتوقف عند تزويد الطلاب بالعلم والمعرفة، وإنما يمتد إلى تدريبهم على التفكير الحر الناضج، وتقوية روح الواجب عندهم، وتزويدهم بالمقومات الأساسية التي من شأنها دعم شخصياتهم، والعمل على رفع مستوى الحياة الرياضية والاجتماعية والثقافية لهم، وتعويدهم على إدارة شئونهم بأنفسهم، وتنمية المهارات والمبادرات الفردية عندهم، فقد حرصت الجامعة منذ تأسيسها على الاهتمام بهذه الجوانب التي تشكِّل إطار الحياة الجامعية.

وبدأت الجامعة رسالتها في هذا المجال بإنشاء اتحاد طلاب الجامعة عام ١٩٢٦م، الذي كان يضم عشر لجان ترعى الجوانب المختلفة للنشاط الطلابي هي:

  • (١)

    لجنة الرياضة البدنية، وتضم الفرق الرياضية المختلفة، وتهدف إلى تنمية الروح الرياضية بين الجامعيين.

  • (٢)

    لجنة التدريب العسكري، وهدفها إذكاء روح العسكرية في شباب الجامعة.

  • (٣)

    لجنة الجوالة ودورها تنظيم حركة الكشف في الكليات المختلفة، وتنظيم الرحلات والمعسكرات إلى الصحراء والمدن والشواطئ.

  • (٤)

    لجنة الطيران، وتكونت تلبية لرغبة بعض الطلبة في تعلم فنون الطيران.

  • (٥)

    لجنة الرحلات، وتهدف إلى تنظيم الرحلات العلمية والترفيهية للطلبة والطالبات.

  • (٦)

    لجنة الفنون الجميلة، وتسعى لترقية الذوق الفني ورعاية الفنون الجميلة بين طلبة الجامعة، وتشمل الرسم والموسيقى والغناء والتمثيل، وتُفسح المجال للطلبة ذوي الميول الفنية.

  • (٧)

    لجنة الصحافة، وتتولى إصدار مجلة تنشر ما يدور في الجامعة من أنشطة مختلفة.

  • (٨)

    لجنة النادي، وكان الغرض منها بذل الجهود لإنشاء نادٍ يليق بالجامعة.

  • (٩)

    اللجنة الأدبية، وتختص بالنشاط الأدبي والخطابة والمناظرة.

  • (١٠)
    لجنة التعاون الاجتماعي، وتهدف إلى تنمية روح التعاون بين الطلاب وتسهل مهمة التعارف بينهم والتقريب بينهم وبين الأساتذة، وتيسير الحياة للطلبة المغتربين بإيجاد مساكن ومطاعم تتناسب مع مقدرتهم المادية، ومساعدة من تحل بهم كوارث، والمشاركة في إقامة الحفلات للأغراض الخيرية والاجتماعية ووضع التقاليد للاحتفال بالأعياد القومية، وتنظيم التعارف بين الكليات المختلفة.١٥

وبذلك أصبح المجال فسيحًا أمام الطلاب لتنمية قدراتهم المختلفة، والتدريب على تدبير أمورهم بأنفسهم، واهتم الأساتذة برعايتهم اجتماعيًّا والإشراف على أنشطتهم المختلفة.

وأخذ الطلاب يشكلون الجمعيات العلمية المختلفة التي تنمي بينهم روح البحث والاطلاع، فلعبت دورًا هامًّا في تكوينهم الفكري، وقام الأساتذة بتشجيعهم وتدريبهم على إلقاء المحاضرات وتنظيم المناظرات والندوات. ومن هذه الجمعيات: اتحاد الجمعيات العلمية الذي كونه طلبة كلية العلوم عام ١٩٢٧م، والجمعيات العلمية المتخصصة التي أقيمت في مختلف الكليات، وأرست تقاليد راسخة للنشاط العلمي الطلابي، والجمعية المسرحية التي أقامها طلبة كلية الآداب عام ١٩٢٨م، وساهم فيها طلاب الكليات الأخرى، وقامت برعاية هواة التأليف المسرحي ونفاد المسرح، وجمعية الخطابة والمناظرة التي كانت أكثر الجمعيات رواجًا بين صفوف الطلاب؛ حيث كانت تنظم المحاضرات بالعربية والإنجليزية والفرنسية، وتقيم المناظرات التي يساهم فيها الطلاب والأساتذة من مختلف الكليات بآرائهم حول القضايا الاجتماعية والفكرية، مثل: الثقافة العلمية والثقافة الأدبية، والفكرة العربية والفكرة الفرعونية، وقضية الاختلاط، والموازنة بين دور الشرق والغرب في بناء الحضارة العالمية.١٦ وقد ساعدت تلك الجمعيات على تزويد الطلاب بمهارات انعكست على أدائهم بعد التخرج، فكان منهم أقطاب الحركة الأدبية في مصر مثل نجيب محفوظ، وأعلام الفكر مثل زكي نجيب محمود ولويس عوض، ومشاهير الخطباء والساسة ورجال الصحافة وغيرهم ممن أثْروا الحياة الأدبية والثقافية والعلمية في مصر في هذا القرن.

وكان واردًا عند روَّاد الجامعة إقامة حي للطلبة يقيمون فيه؛ فقد خطرت هذه الفكرة لأحمد لطفي السيد عام ١٩٢٥م عند تأسيس الجامعة، وكان الهدف من ذلك رعاية الطلاب المغتربين وتعويدهم الاعتماد على النفس وإدارة أمورهم بأنفسهم، غير أنه لم يكن بالمستطاع تنفيذ الفكرة لعدم توفر الاعتمادات المالية اللازمة لذلك؛ ونظرًا لأهمية مسألة إسكان الطلاب، قررت الحكومة في ٢٣ مايو ١٩٣٥م إنشاء مدينة جامعية للطلبة تضم مساكن ومطاعم وملاعب وحمامات وغيرها، وخُصصت مساحة قدرها خمسون فدانًا لإقامة تلك المدينة الجامعية، ولكن عندما شُرع في تقسيم الأرض تبيَّن أنها لا تكفي سوى إقامة الملاعب، فأُرجئ المشروع إلى أن دخل في حيز التنفيذ عندما تم اختيار قطعة أرض أخرى مساحتها عشرون فدانًا بجوار «ستاد» الجامعة لإقامة المدينة الجامعية عليها، وتم وضع حجر الأساس لبنائها في ١٢ فبراير ١٩٤٦م، وافتُتح المبنى الأول لسكنى نحو الثلاثمائة من طلاب الجامعة المغتربين في ٦ مايو ١٩٤٩م، ثم تم استكمال البناء بعد ذلك، فافتُتح المبنى الثاني في العام الجامعي ١٩٥٢  /  ١٩٥٣م، وتم إنشاء أربع مجموعات سكنية تتألف كل منها من مبنيين متجاورين، ومساحة كل مجموعة ١٥٠٠ متر تقريبًا، وتتكون هذه المباني من ثلاثة طوابق تتسع كل مجموعة منها لسكنى ٢٥٦ طالبًا. وقد أقيمت أحدى هذه المجموعات على جزء من أرض كلية الزراعة بالجيزة، وخُصصت لسكنى الطالبات، وافتُتحت عام ١٩٥٦  /  ١٩٥٧م.

بدأت الجامعة إقامة إسكان جامعي للطالبات عام ١٩٤٠م، فاستأجرت بيتًا لإقامة الطالبات المغتربات بحي الدقي جهزته بالأثاث والمفروشات والخدمة، وزودته بمكتبة. وكان هذا البيت نواة إسكان الطالبات. وعندما ضاق المبنى المخصص للطالبات بأرض كلية الزراعة عن استيعاب المغتربات، استأجرت الجامعة منزلًا آخر بالدقي لسكناهن يسع مائة وخمسين طالبة عام ١٩٦١م، ومنزلين من المباني التي أقامتها الدولة على أرض مدينة الأوقاف بالدقي القريبة من الجامعة عام ١٩٦٦م، وبذلك أصبحت المدينة الجامعية تسع ١٦٠٠ طالب و٥٥٠ طالبة.

وامتدت رعاية الجامعة لطلابها — بعد ثورة يوليو ١٩٥٢م — لتشمل الرعاية الاجتماعية، وخاصة بعد اتساع القاعدة الطلابية مع امتداد مجانية التعليم إلى الجامعة، ففتحت الجامعة أبوابها أمام أبناء وبنات الطبقة الكادحة من صغار الموظفين والعمال والفلاحين. فصدر عام ١٩٦١م قانون بإنشاء المؤسسة المالية لمساعدة طلاب الجامعات تتولى منح الطلاب قروضًا مالية يستعينون بها على متابعة دراستهم تسدَّد بدون فوائد بعد تخرجهم. وعندما أُنشئ بنك ناصر الاجتماعي أوكلت إليه هذه المهمة.

وتعاقدت الجامعة مع شركة مصر للتأمين لمد مظلة التأمين إلى طلابها في حالة الوفاة أو العجز الكلي المستديم الناتج عن التعرض للحوادث، ويدخل العائد المرتد للجامعة عن فائض أرباح عقود التأمين المبرمة مع شركات التأمين ضمن موارد صندوق رعاية الطلاب بالجامعة.

ولم تكتفِ الجامعة بذلك، بل أصدرت لائحة لصناديق التكافل الاجتماعي بالجامعة والكليات والمعاهد (عام ١٩٧٥م). وتقوم هذه الصناديق بدعم صناديق رعاية الطلاب بالكليات ذات الدخل المحدود، ومعاونتها على تحقيق أغراضها وتنمية مواردها. وتساهم في معاونة الهيئات الجامعية التي تقوم على خدمة الطلاب وسد ما يظهر في موازنتها من عجز مالي، مثل مشروع الكتاب الجامعي، ومطبعة الجامعة وغيرها؛ تيسيرا للطلاب للحصول على الكتب والمذكرات الجامعية بأسعار معقولة. كما تقوم صناديق التكافل بالمساهمة في المشروعات طويلة الأجل التي تخدم الطلاب مثل المباني ذات التكاليف المحدودة، والمساهمة في تغذية الطلاب. كذلك تقوم الصناديق بتيسير الحصول على الأجهزة والمواد اللازمة للطلاب بمرحلة الليسانس والبكالوريوس لرفع مستوى الخدمة التعليمية.

وتضمَّنت اللائحة إنشاء صندوق رعاية الطلاب بكل كلية ومعهد علمي، ويهدف هذا الصندوق إلى توفير الرعاية الاجتماعية لمن لهم ظروف خاصة من الطلاب تستدعي ذلك، والمساهمة في تنفيذ الخدمات العامة للطلاب والعمل على حل المشاكل التي تواجه الطلاب وتحول بينهم وبين متابعة دراستهم بسبب نقص مواردهم المالية، وكذلك تيسير سبيل حصول الطلاب غير القادرين على الكتب الجامعية والمذكرات بأسعار مخفضة.

كما قدمت الجامعة الخدمات الاجتماعية المختلفة لطلابها الذين يحتاجون إلى تلك الخدمات مثل:

  • (١)
    مكتب التوجيه النفسي والاجتماعي: الذي يستكشف الحالات المرضية النفسية، ويساهم في بحثها وعلاجها، ويعاون الطالب على التكيف مع المجتمع ويساعده على الاستفادة من الخدمات المتاحة، مع متابعة حالته.
  • (٢)
    مشروع الأسر المنتجة للطلاب: يهدف إلى استثمار وقت فراغ الطلاب بما يعود عليهم بالنفع، وتشجيع الطلاب على ممارسة هواياتهم من رسم وتصوير وتطوير وحياكة وغير ذلك لزيادة دخلهم عن طريق بيع إنتاجهم لصالحهم.
  • (٣)
    مشروع التشغيل الصيفي للطلاب: ويهدف إلى إتاحة فرصة العمل للطلاب في الصيف بالشركات والمؤسسات نظير أجر شهري أو يومي، وكذلك تدريب الطلاب بدون أجر ببعض المؤسسات لاكتساب الخبرات العملية.
  • (٤)
    رعاية الطلاب المكفوفين: وذلك بالتعاون مع وزارة الشئون الاجتماعية والتأمينات، فيصرف للطالب منحة شهرية قدرها عشرة جنيهات طوال العام لسداد الرسوم الدراسية والإقامة بالمدن الجامعية والتغذية، كما تهتم الإدارة بمساعدة الطلاب المكفوفين على حل ما يعترضهم من مشاكل.
  • (٥)
    بطاقة المواصلات المجانية: وتقوم الإدارة بتقديم هذه البطاقة مجانا للطلاب غير القادرين لمدة ستة شهور خلال العام الدراسي، وتصلح للانتقال على جميع خطوط المواصلات بالقاهرة الكبرى.
  • (٦)
    مكتبات خدمة الطالب بالكليات: وتوفر المراجع الأساسية للطالب وتقدم الكتب الجامعية والمذكرات للطلاب غير القادرين بسعر التكلفة كما تمنحهم بعض الكتب بالمجان.١٧

(٣) الجامعة وقضايا المجتمع

شاركت مختلف القوى الاجتماعية في ثورة ١٩١٩م متطلعة إلى تحقيق الاستقلال الوطني الذي يتيح لمصر فرصة إصلاح شئونها دون هيمنة أو وصاية أجنبية، فتبني مصر اقتصادها الوطني بما يخدم الاستقلال المنشود، وتسعى لحل المشاكل الاجتماعية التي تفاقمت تحت الاحتلال البريطاني وخلال الحرب العالمية الأولى، وفي طليعتها المسألة الاجتماعية التي كانت تتطلب تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال التوصل إلى ما يوفر الحياة الكريمة لملايين المصريين من الفلاحين وللطبقة العاملة الوليدة. ومن هنا كان الامتزاج والارتباط التام بين طلب الاستقلال وطلب العدل الاجتماعي في حركة الجماهير المصرية في ثورة ١٩١٩م.

وقد انتهى أمر الثورة بحصول مصر على استقلال منقوص بموجب تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م (على نحو ما رأينا)، وصدور دستور ١٩٢٣م، وقيام حياة نيابية مثلت فيها النخبة الاجتماعية المتميزة — من أبناء الطبقة الوسطى — الشعب في البرلمان الجديد، وشغلت النخبة السياسية نفسها باستكمال الاستقلال السياسي من ناحية، وبما يمس مصالحها الضيقة من ناحية أخرى، وترك أمر المسألة الاجتماعية إلى ما بعد استكمال الاستقلال الوطني، فكان على ما ارتبط بتلك المسألة من أمراض اجتماعية استدعت علاجا أن تنتظر حتى يتحقق الاستقلال التام. ومن ثم خلت برامج الأحزاب السياسية المصرية من تناول قضية العدل الاجتماعي ووضع التصورات لتحقيقه كما خلت برامج الوزارات المصرية المتعاقبة من طرح السياسات التي تعالج هذه القضية.

ونتج عن ذلك تفاقم المشكلات الاجتماعية، وتركز الثروة في أيدي حفنة من المصريين كانت تحظى بفائض الإنتاج الاقتصادي كله، بينما تركت غالبية المصريين لتعاني الفقر والجهل والمرض في غياب السياسات الاجتماعية التي تضمن لهم حياة كريمة. وجاءت الأزمة الاقتصادية التي عرفت بالكساد العالمي الكبير (١٩٢٩–١٩٣٣م) لتزيد من حدة المسألة الاجتماعية دون طرح حلول لها. ووسط هذه الظروف الصعبة، أطاح ١٩٣٠م، وتولى إسماعيل صدقي باشا الحكم ليدعم الاتجاهات الأوتقراطية للقصر، وليحتدم صراع سياسي بين الحكومة والحركة الوطنية بقيادة الوفد دار حول استعادة دستور ١٩٢٣م، فحجب ذلك الصراع المسألة الاجتماعية المتفاقمة، وحوَّلها إلى منطقة الظل من اهتمام النخبة الحاكمة والمعارضة على السواء.

وكان الشباب المصري — وخاصة طلاب الجامعة — قد فقد الثقة في القيادات السياسية للأحزاب جميعًا التي عجزت عن بلورة نضال الشعب المصري عام ١٩١٩م في مشروع متكامل للنهضة الوطنية، فانصرف فريق منهم عن تأييدها، وراح يبحث عن حل لمشاكل الوطن من خلال الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي. وصادق هذا الاتجاه أملًا كانت تسعى حكومة صدقي باشا لتحقيقه ألا وهو إبعاد الشباب عن تأييد حركة المعارضة السياسية، فباركت الاتجاه الجديد للشباب وشملته برعايتها، ومن هنا كان الدور الذي لعبه الدكتور علي باشا إبراهيم — وكيل الجامعة ومديرها بالنيابة عندئذٍ — وبعض الأساتذة في احتضان تلك الحركة ورعايتها وتهيئة سبل النجاح لها بدعم من الحكومة التي أرادت إبعاد أولئك الطلاب عن تأييد الوفد الذي كان يتزعم المعارضة.

وتنوعت اجتهادات شباب الجامعة في البحث عن طريق لحل مشكلات مصر الاجتماعية وتحقيق الإصلاح المنشود، فعلى حين رأى البعض أن السبيل الأمثل لنهضة مصر هو إقامة مشروعات صناعية بأموال مصرية تتيح للبلاد فرصة الاستغناء عن البضائع الأجنبية كخطوة أولى في الطريق إلى التخلص من السيطرة الأجنبية، رأى فريق آخر منهم أن نهضة مصر لا تتحقق مع سيطرة الأمية والجهل على الفلاحين الذين كانوا يمثلون غالبية الأمة؛ ومن ثَمَّ رأوا أن يأخذوا بناصر مواطنيهم الفلاحين بالعمل على محاربة الجهل بين صفوفهم.

وقد أسَّس الفريق الأول من شباب الجامعة «مشروع القرش»، في نوفمبر ١٩٣١م، ثم طور أصحاب هذا الاتجاه أفكارهم فيما بعد فأسَّسوا «جمعية مصر الفتاة» التي استلهمت الفاشية بعض أفكارهما. أما الفريق الآخر، فقد أسَّس «جمعية الطلبة لنشر الثقافة» في مطلع عام ١٩٣٣م، وقدر لأصحاب هذا الاتجاه أن يطوروا أفكارهم وأساليب عملهم بالصورة التي أدت — في نهاية الأمر — إلى تأسيس «حزب الفلاح».

أما عن «مشروع القرش»، فكان يهدف إلى إقامة مشروعات صناعية وطنية تمول من تبرعات المواطنين المصريين، على أن يكون الحد الأدنى للتبرع قرشًا واحدًا، ومن هنا استمد المشروع اسمه. وتقوم المشروعات الجديدة كركائز وطنية للصناعة تحل محل الركائز الأجنبية المسيطرة على الاقتصاد المصري مع مرور الزمن. وقد نبتت فكرة المشروع بين ثلاثة من طلبة الحقوق هم: أحمد حسين، وفتحي رضوان، وكمال الدين صلاح. وقام هؤلاء بطرح الفكرة على صفحات «جريدة الأهرام»، وغيرها من الصحف غير الوفدية، كما نشرت الدعوة للمشروع بين صفوف طلاب الجامعة بمباركة علي باشا إبراهيم — وكيل الجامعة — الذي تولى رئاسة اللجنة التنفيذية للمشروع، كما انضم لعضوية اللجنة سبعة من أساتذة الجامعة هم: الدكتور عبد الله العربي (الحقوق)، والدكتور على حسن (الطب)، والدكتور مصطفى مشرفة، والدكتور عبد الرزاق السنهوري، والدكتور على بدوي، والدكتور زكي عبد المتعال، والأستاذ أمين الخولي. واتخذت اللجنة من نادي الجامعة بميدان الأوبرا مقرًّا لها. وضمت اللجنة في عضويتها من الطلاب: نعيمة الأيوبي، وكمال الدين صلاح، وعبد الخالق فريد، وفتحي رضوان، وأحمد حسين، وعبد القادر عودة، ومنير القاياتي (عن الحقوق)، وعبد الرحمن الصدر، ونور الدين طراف، وحنا مرقص (عن الطب)، ويحيى العلايلي ومصطفى الوكيل، ومصطفى ملوك (عن العلوم)، وإبراهيم عبده، ومحمد زكي (عن الآداب)، ومدحت عاصم (عن الزراعة)، وصالح عوضين، وحسين حافظ (عن التجارة). وكان لأصحاب هذه الأسماء من الطلاب شأن كبير في حياة مصر السياسية، كما كانوا من نجوم العمل العام.

وأسفرت جهود المشروع عن إقامة مصنع للطرابيش في نهاية عام ١٩٣٣م، فبدأ إنتاجه يطرح في السوق ابتداء من ١٥ ديسمبر، وقدمت حكومة صدقي العون اللازم لنجاح المشروع. وكان للمشروع صدى في البلاد العربية، فقام الشباب العراقي والسوداني والحجازي بتبنِّي الدعوة لمشروعات مماثلة في بلادهم.١٨
أما عن «جمعية الطلبة لنشر الثقافة»،١٩ فكانت تهدف إلى توجيه جهود الشباب إلى نشر الثقافة بين جميع طبقات الأمة عن طريق إلقاء المحاضرات وإقامة المناظرات في الأندية والجمعيات العامة، وتنظم الرحلات، واستغلال العطلة الصيفية في العمل على محو الأمية بين صفوف الفلاحين في الريف وفي الأحياء الشعبية بالمدن، بإقامة لجان تضم الطلبة المتطوعين الذين يقومون بتعليم القراءة والكتابة لمواطنيهم، كما يلقون عليهم دروسًا في الصحة وطرق الوقاية من الأمراض، وإرشادهم إلى الوسائل الحديثة للزراعة وما يتعلق بالجمعيات التعاونية وطرق تنظيم منازلهم، مع دروس في تاريخ مصر. وكان شعار الجمعية: «من هدم ركنًا من أركان الجهالة فقد شيد ركنًا متينًا من أركان الوطن.» ووضعت الجمعية لنفسها قانونًا أساسيًّا نصت فيه على أنها لا تتعرض للمسائل السياسية أو الدينية، وأن غرضها ثقافي علمي بحت، كما وضعت لنفسها إطارًا تنظيما في شكل لجنة تنفيذية تكونت من طلبة الجامعة وبعض طلبة المدارس العليا بحيث يمثل كل كلية أو مدرسة عليا عضوان. وانتُخب أحمد كامل قطب (الطالب بكلية الحقوق) رئيسًا للجنة، وأحمد فؤاد عمرو (الطالب بالحقوق) وكيلًا، ولطفي حماد الحسيني (الطالب بالعلوم) سكرتيرًا، ومحمد عبد النبي صادق (التجارة العليا) أمينًا للصندوق. وأسندت الرئاسة الشرفية إلى الدكتور علي باشا إبراهيم (مدير الجامعة بالنيابة).

وبدأت الجمعية عملها في «مشروع القُرى» اعتبارًا من صيف عام ١٩٣٣م في حوالي أربعمائة قرية عن طريق المتعلمين من الشباب — من الطلبة وغيرهم — كلٌّ في قريته، فكانوا يقومون بجمع الفلاحين، ويختص كل متطوع بعشرة منهم يعلمهم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب وفق طريقة معينة ابتكرها محمد مظهر سعيد، بالإضافة إلى دروس في الصحة العامة وشئون الزراعة. وكان مركز الجمعية في القاهرة على اتصال دائم بلجان القرى، يمدها بالنشرات الخاصة بالدروس وطرق تدريسها، واشترك في تحرير تلك النشرات لفيف من المتخصصين أمثال: محمد فريد وجدي، الشيخ عبد الوهاب النجار، عبد الله أمين، إبراهيم رمزي، خليل مطران، بطرس باسيلي، وغيرهم.

وفي العام التالي (١٩٣٤م) تحول المشروع إلى جمعية باسم «جمعية نهضة القرى»، تكون لها مجلس إدارة من بعض الشخصيات التي أبدت تأييدها للمشروع بالاشتراك في تحرير نشرات الدروس، وتولى الدكتور علي باشا إبراهيم رئاسة الجمعية، وبقيت رئاسة اللجنة التنفيذية لأحمد كامل قطب (طالب الحقوق). وتعاونت الحكومة مع الجمعية، فرخصت لها باستخدام المدارس الحكومية في مختلف أنحاء البلاد، وخصصت لها إعانة سنوية، ووضع العمد والأعيان لجان القرى تحت رعايتهم، وتولوا رئاستها، وتبرعوا لها بالمال، وأخلوا لها غرفًا خاصة من دُورهم، كما وضعت وزارتا الزراعة والصحة مطبوعاتهما ونشراتهما تحت تصرف الجمعية، وبارك الشيخ محمد المراغي شيخ الأزهر نشاطها، وسمح لها بنشر الدعوة للتطوع بين طلبة الأزهر ومعاهده، وطلب قم تفتيش المساجد بوزارة الأوقاف إلى الوعاظ والخطباء في المساجد أن يباركوا نشاط الجمعية. وقد تبخَّر هذا التأييد الرسمي بعد أن باتت الحاجة السياسية لا تدعو إليه، وبعدها برهن الطلبة (عام ١٩٣٥م) على فشل سياسة إبعادهم عن الحركة الوطنية على نحو ما سنرى.

ومهما كان الأمر، فقد أتاحت الجمعية لفريق من شباب الجامعة التعرف على بؤس الفلاح المصري وسوء أحواله، خلال طوافهم بالريف؛ لذلك فكروا في إقامة حزب للفلاح يطرح برنامجًا اجتماعيًّا اقتصاديًّا لعلاج مشاكل الريف والنهوض بأهله.

ورغم غياب الاهتمام بالعمل الاجتماعي العام لطلاب الجامعة من جانب إدارة الجامعة أو الحكومة على نحو ما حدث في النصف الأول من الثلاثينيات، ولم يكفَّ الجامعيون أيديهم عن العمل في ذلك المجال، وإن غلب على نشاطهم طابع العمل الخيري، وانحصر مداه ليقتصر على دائرة الجامعة ومحيط تلك الدائرة حيث الجيزة والقاهرة، فتأسَّست فيما بين ١٩٣٧–١٩٣٩م أربع جمعيات اجتماعية مارست نشاطها في تلك الحقبة.

وكانت «جماعة النهضة الاجتماعية» التي أسَّسها طلبة وأساتذة كلية العلوم عام ١٩٣٧م في طليعة تلك الجمعيات، وتهدف إلى جمع التبرعات من الأغنياء وتقديم الإعانات للفقراء. وأقامت سوقًا خيرية في الجامعة مرتين عرضت فيهما الطالبات أشغالًا من صُنعهن، كما أقامت حفلًا ساهرًا، وخُصص ما جمعته الجماعة لإقامة مؤسسة لرعاية الأطفال الشردين. ولما كانت الأموال التي جُمعت لا تكفي لهذا الغرض، فقد تبرعت بها الجماعة لمشروع الطفولة المشردة الذي كانت ترعاه محافظة الجيزة.

وفي العام التالي (١٩٣٨م) تأسَّست بجهود طلاب وأساتذة الجامعة «جماعة إنقاذ الطفولة المشردة»، وقد قامت بجمع التبرعات وإقامة الحفلات الخيرية، بهدف إنشاء مدرسة صناعية تضم الأطفال اليتامى وأبناء الفقراء لتعليمهم الحِرَف التي تعينهم على شق طريقهم في الحياة، بدلًا من أن يصبحوا عالة على المجتمع.

وشهد عام ١٩٣٩م إنشاء جمعية خيرية أخرى باسم «جماعة إنقاذ الأسر الفقيرة» بجهود طلاب وأساتذة الجامعة، تهدف إلى الأخذ بيد الأسر الفقيرة، ومساعدتها على النهوض بنفسها؛ حتى يرتفع مستواها الاجتماعي.

كما تكونت في نفس العام جماعة أخرى اتضحت لديها رؤية إصلاحية أشمل من مجرد النشاط الخيري الذي مارسته الجمعيات الأخرى، فقد أسَّس بعض طلاب الجامعة وأساتذتها «جماعة الصالح العام» التي كان هدفها تحقيق العدالة الاجتماعية وتقريب الفوارق بين الطبقات، ولتحقيق هذا الغرض نادت الجماعة بنشر الملكيات الصغيرة في الريف، كما طالبت بتعميم نظام التعاون، وجمع التبرعات لإنشاء مؤسسات إنتاجية وطنية، وطالبت بتمصير الشركات الأجنبية. ودعت الجماعة إلى نشر المبادئ الصحية والرياضية بين الجماهير ونشر الوعي الاجتماعي بينهم.٢٠

وبانتهاء الحرب العالمية الثانية، وطرح القضية الاجتماعية بإلحاح أكبر، انصرف طلاب الجامعة وبعض أساتذتها إلى تأييد الاتجاهات الأيديولوجية والسياسية المختلفة التي طرحت على الساحة السياسية، وساهموا في الحركات الاجتماعية والسياسية التي تبنت السعي لحل المسألة الاجتماعية المتفاقمة. وبذلك ظلت قضايا المجتمع محور اهتمام الجامعيين طلابًا وأساتذة.

وهكذا لم تُقِم الجامعة لنفسها برجًا عاجيًّا لتنعزل فيه عن المجتمع، بل كانت دائمًا تساهم في حركة التغير الاجتماعي مساهمة أساسية وفعالة طوال تاريخها، فضلًا عن الدور الذي لعبه خريجوها في العمل الوطني بشتى جوانبه: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

١  لطيفة محمد سالم: المرأة المصرية والتغيير الاجتماعي ١٩١٩–١٩٤٥م، سلسلة مصر النهضة، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر، القاهرة ١٩٨٤م، ص٥٣-٥٤.
٢  أحمد لطفي السيد: قصة حياتي، كتاب الهلال ١٣١، فبراير ١٩٩٦م، ص١٩١.
٣  لطيفة محمد سالم: المرجع السابق، ص٨٤.
٤  أحمد لطفي السيد: المرجع السابق، ص١٩١.
٥  سامية حسن: المرجع السابق، ص٢١٤.
٦  لطيفة محمد سالم: المرجع السابق، ص٨٤.
٧  عبد المنعم الجُميعي: الجامعة المصرية والمجتمع، ص٨٣.
٨  راجع: تقويم جامعة القاهرة ١٩٥٤-١٩٥٥م.
٩  المركز القومي للبحوث التربوية: المرأة والتعليم في جمهورية مصر العربية، مايو ١٩٨٠م، ص٥٢–٦٨.
١٠  مضابط مجلس النواب، جلسة ٧ مارس، ٢٨ مارس ١٩٣٢م (مذكورًا في سامية حسن، المرجع السابق، ص٢١٦-٢١٧).
١١  سامية حسن: نفس المرجع، ص٢١٨-٢١٩.
١٢  نفس المرجع، ص٢٢٠-٢٢١.
١٣  لطيفة محمد سالم: المرجع السابق، ص٨٦.
١٤  المركز القومي للبحوث التربوية: المرأة والتعليم في جمهورية مصر العربية، ص٩٨.
١٥  عبد المنعم الجُميعي: المرجع السابق، ص٨٥.
١٦  نفس المرجع، ص٩٨.
١٧  جامعة القاهرة: العيد الماسي، ص٣٢٢–٣٢٥.
١٨  حول المزيد من تفاصيل المشروع ومدى ما حققه من نجاح وما واجهه من صعوبات، راجع: علي شلبي، مصر الفتاة ودورها في السياسة المصرية ١٩٣٣–١٩٤١م، دار الكتاب الجامعي، القاهرة ١٩٨٢م، ص٥٨–٦٨.
١٩  حول هذه الجمعية وتطورها، راجع، رءوف عباس حامد: حزب الفلاح الاشتراكي ١٩٣٨–١٩٥٢م، المجلة التاريخية المصرية، المجلد ١٩، القاهرة.
٢٠  جامعة القاهرة: العيد الماسي، ص٣٣٧-٣٣٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥