الفصل الخامس

قضية استقلال الجامعة

حدَّد المشرع المصري اختصاص الجامعات تحديدًا جامعًا؛ فذكر أنها تختص «بكل ما يتعلق بالتعليم الجامعي الذي تقوم به كلياتها ومعاهدها في سبيل خدمة المجتمع والارتقاء به حضاريًّا. متوخية في ذلك المساهمة في رقي الفكر وتقدم العلم وتنمية القيم الإنسانية، وتزويد البلاد بالمتخصصين والفنيين والخبراء في مختلف المجالات، وإعداد الإنسان المزود بأصول المعرفة وطرائق البحث المتقدمة والقيم الرفيعة؛ ليساهم في بناء وتدعيم المجتمع الاشتراكي وصنع مستقبل الوطن وخدمة الإنسانية.» وتعتبر الجامعات بذلك معقلًا للفكر الإنساني في أرفع مستوياته، ومصدرًا لاستثمار وتنمية أهم ثروات المجتمع وأغلاها، وهي الثروة البشرية. وتهتم الجامعات كذلك ببعث الحضارة العربية والتراث التاريخي للشعب المصري وتقاليده الأصيلة، ومراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية والخلقية والوطنية.١

فإذا كان ذلك شأن الجامعة، وتلك رسالتها السامية، فإنها لا تستطيع القيام بها على الوجه الأكمل إذا غَلَّت يدها قيود التبعية لسلطة إدارية أو تنفيذية من خارجها، وإذا لم تكن لها حرية تدبير كل ما اتصل بها من أمور؛ لذلك حرص المشرع على أن يقرن اختصاص الجامعات بالنص على أن الدولة تكفل استقلال الجامعات بما يحقق الربط بين التعليم الجامعي وحاجات المجتمع والإنتاج.

واستقلال الجامعات لا يعني أن تبني لنفسها أبراجًا عاجية تعزلها عن المجتمع، ولكن المقصود بذلك الاستقلال أن توفَّر للجامعات القدرة على الحركة والانطلاق الذاتي بما يفجر طاقاتها لخدمة المجتمع، وتفجُّر هذه الطاقات لا يمكن أن يتحقق في ظل قيود إدارية أو قوالب تنظيمية تُفرض عليها، وتُلغي ذاتيتها، وتشل قدرتها على المبادرة والتطوير الذاتي، وتكون بمثابة الأغلال الثقيلة التي تحيل الجامعات إلى مؤسسات بيروقراطية خاملة فكريًّا وعلميًّا.

ومن هنا كان حرص الرعيل الأول من مؤسسي الجامعة عند نقل تبعيتها إلى الحكومة عام ١٩٢٥م، على أن تكون للجامعة شخصية معنوية قانونًا، وأن تدير أموالها بنفسها، وأن تدرج في باب إيراداتها العادية في ميزانيتها الاعتمادات المخصصة لها بميزانية الدولة إلى جانب الموارد الأخرى من عائد استغلال أموالها المنقولة والثابتة والإعانات والهبات التي تحصل عليها. غير أن الحكومة احتفظت لنفسها بسلطات إدارية واسعة، فجعلت من وزير المعارف رئيسًا أعلى للجامعة، وجعلت له الحق في ترشيح من يعين مديرًا لها، كما أعطته حق تعيين العمداء وأعضاء هيئة التدريس، إلى غير ذلك من صلاحيات كانت دائمًا منافذ للتدخل في أمور الجامعة، عندما تسنح الفرصة لذلك. ومن ثم كانت قضية استقلال الجامعة قضية مثارة دائمًا على مر تاريخها، يستعر أُوَارُها عندما تمارس الحكومة حقها في التدخل في أمر من أمور الجامعة، فيهبُّ الجامعيون للدفاع عن استقلال الجامعة، وتخمد جذوتها حينًا عندما تخف حدَّة تلك الممارسات، وإن ظلت تلك الجذوة متقدة حتى يكتمل استقلال الجامعة، ويتم تحصينُ هذا الاستقلال بقانونٍ واضح صريح.

وهناك أزمات حادَّة وقعت بين الحكومة والجامعة كان المحك الأساسي فيها استقلال الجامعة وحرية البحث العلمي. فكانت أول تلك الأزمات في أواخر العشرينيات وثانيتها في أوائل الثلاثينيات، وثالثتها في أوائل الأربعينيات، ثم كان لقضية استقلال الجامعة شأن خطير مع قيام ثورة يوليو ١٩٥٢م بلغت الذروة عام ١٩٦٧م. وسوف نلقي نظرةً فيما يلي على تطور تلك الأزمات.

(١) حرية البحث العلمي وأزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» (١٩٢٦م)٢

ما كاد ينقضي عام واحد على تأسيس الجامعة حتى فُجِّرت قضية حرية البحث العلمي في الجامعة مقترنةً بمسألة استقلال الجامعة؛ فقد نشر الدكتور طه حسين كتابه «في الشعر الجاهلي» عام ١٩٢٦م، متضمنًا المحاضرات التي ألقاها على طلبة كلية الآداب في العام الجامعي ١٩٢٥ / ١٩٢٦م، مستخدمًا مناهج البحث الحديثة في الأدب، فطبَّق أساليب النقد العلمي على شعر العرب القديم، وشكَّك في نسبة الشعر الجاهلي إلى أصحابه من الوجهة اللغوية والفنية، وفي إمكانية قرضه قبل ظهور القرآن، وبرهن طه حسين على أن الشعر الجاهلي لا يصوِّر حياة الجاهليين الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية، ولا يصوِّر لغتهم ولهجاتهم المختلفة، وأثار الشك حول وجود إبراهيم وإسماعيل تاريخيًّا، وفي بنائهما للكعبة، وأنكر أن الإسلام كان دين إبراهيم وأنه وُجد قبل ظهور محمد، كما أثار الشك حول انتشار المسيحية واليهودية في بلاد العرب استنادًا إلى غياب أثرهما في الشعر العربي قبيل الإسلام.

وجاء طرح هذه الأفكار صدمةً للكثير من المحافظين؛ لتعرُّضها للمعتقدات الدينية، ودار جدل صاخب على صفحات الجرائد بين مؤيدي طه حسين ومعارضيه على مدى ثلاثة شهور متصلة، ثم كانت تتجدد بين الحين والآخر لدوافع حزبية وسياسية؛ فرجال الدين رموا المؤلف بالكفر والإلحاد، وطالب البعض بالضرب على يديه؛ حتى لا يؤثِّر على طلاب الجامعة، وطالبوا الجامعة أن تعلن براءتها من أفكاره وأن تحمي طلبتها منه. وكلَّف شيخ الأزهر لجنة من العلماء بفحص الكتاب ووضع تقرير عنه، فأعدَّت اللجنة تقريرًا يقع في ١٨٣ صفحة، انتهت فيه إلى «ضرورة مكافحة هذه الروح الإلحادية واقتلاع هذا الشر من أصله»، وطالبت الجامعة بمصادرة الكتاب، وإبعاد طه حسين عن الجامعة ومحاكمته.

ونظرًا لخطورة الموقف — خاصة أن الجامعة كانت لا تزال تحبو في طريقها — عقد مجلس الجامعة جلسةً خاصة للنظر في تقرير علماء الأزهر (١٦ مايو ١٩٢٦م)، واتخذ قرارًا بتفويض مدير الجامعة معالجة المسألة مع السلطات المختصة «على أن يراعي في ذلك المبادئ الأساسية للتعليم الجامعي والشرف العلمي لهيئة موظفي التدريس في الجامعة.» فالتفويض جاء مقرونًا بشروط تتصل باستقلال الجامعة وحرية البحث العلمي في المقام الأول.

وأمام موجة السخط على طه حسين واتهام الأزهر له بالكفر والإلحاد، أرسل خطابًا إلى مدير الجامعة (يوم ١٧ مايو) عرض فيه وضع ما بقي من نسخ الكتاب تحت تصرف الجامعة، فقامت الجامعة بشراء تلك النسخ وتحريزها وحفظها بمخازن. ونشرت الجامعة بيانًا في الصحف ذكرت فيه أن الدكتور طه حسين قدَّم إلى مدير الجامعة خطابًا يثبت فيه إسلامه وينفي تعمُّده الإساءة إلى الدين، وفي محاولة لتهدئة الموقف قدَّم طه حسين استقالته من الجامعة فرفضت قبولها.

ولم يشعر الأزهريون بالارتياح لأسلوب الجامعة في معالجة الأزمة؛ فقدَّم أحدُهم بلاغًا إلى النائب العام ضد طه حسين طالبًا تقديمه للمحاكمة، وأبرقوا إلى الملك مطالبين بإبعاد طه حسين عن الجامعة لتجرُّئه على الدين، كما ذهب وفد منهم إلى سراي عابدين يتقدمهم شيخ الأزهر للغاية نفسها.

وأثيرت القضية في مجلس النواب، وراجت شائعات في المجلس حول إلغاء قانون الجامعة وعودة المدارس العليا إلى سيرتها الأولى قبل إنشاء الجامعة، وقدِّم استجواب لوزير المعارف حول الموضوع، فجاء بردِّه على الاستجواب ما يفيد حرص الحكومة على «أن تكون الجامعة معهدًا طلقًا للبحث العلمي الصحيح» غير أنها لا ترضى «بأن تكون كراسي الأساتذة منابر تُلقَى فيها المطاعن على أيِّ دين من الأديان.» ووافقت أغلبية أعضاء مجلس النواب على اقتراح بمصادرة وإعدام الكتاب، وتكليف النيابة العمومية برفع الدعوى على مؤلفه لطعنه في دين الدولة الرسمي، وإلغاء وظيفته من الجامعة. غير أن عدلي يكن باشا — رئيس الوزراء — أبدى استياءه من اتجاه المجلس ومعارضته لمحاكمة الدكتور طه حسين، وأصر على طرح الثقة بالوزارة إذا تمسَّك المجلس بموقفه، وأخيرًا تم التوصل إلى حلٍّ وسط يقضي بأن يتقدم النائب صاحب الاستجواب ببلاغ إلى النيابة ضد طه حسين، فلا يقدِم المجلس على هذه الخطوة بما له من تمثيل للأمة فتزداد الأمور تعقيدًا.٣

وتم التحقيق في تلك القضية الفكرية بمعرفة النيابة (أكتوبر ١٩٢٦م)، فأنكر طه حسين أنه كان يهدف إلى الطعن في الدين الإسلامي، وذكر أن هدفه البحث العلمي وحده، وأنه كمسلم لا يرتاب في وجود إبراهيم وإسماعيل وما يتصل بهما مما جاء في القرآن، ولكنه كعالم مضطر إلى التمسك بمناهج البحث؛ فلا يُسلم بالوجود التاريخي العلمي لإبراهيم وإسماعيل. وحفظت النيابة التحقيق إداريًّا؛ استنادًا إلى المادة ١٤ من الدستور التي تنص على أن «حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسان الحق في الإعراب عن فكره بالقول أو الكتابة أو التصوير.» وكذلك نص المادة ٤٩ الخاصة بحرية الاعتقاد.

وكان الموقف الرسمي للجامعة طوال تلك الأزمة أن «أستاذ الجامعة المصرية، كغيره في الجامعات الأخرى، من واجبه أن ينشر نتيجة أبحاثه ولا يحكم على أعماله إلا النقاد المتخصصون، وأن مجلس الجامعة بصفته الهيئة التأديبية للجامعة هو الذي يملك مساءلة الأستاذ المخطئ وليس غيره.»

ولكن القانون الخاص بالجامعة كان خلوًا من تحديد نظام خاص لتأديب أعضاء هيئة التدريس حتى صدر القانون رقم ٢١ لسنة ١٩٣٣م متضمنًا النصوص الخاصة بمجلس التأديب ولجان التحقيق المتصلة بها، والعقوبات التأديبية التي توقَّع على أعضاء هيئة التدريس.

ويرجع الفضل في عبور الجامعة تلك الأزمة إلى صمود مديرها أحمد لطفي السيد في وجه تلك الموجة العاتية التي حركها الأزهر، فقد كان حريصًا على أن يتقبل المجتمع مبدأ حرية البحث العلمي، وعلى ألا يكون من حق غير المتخصصين التدخل في نتائج أبحاث أعضاء هيئة التدريس. ومن ثم كان تمسُّكه بطه حسين ودفاعه عنه، ورفضه قبول استقالته.

(٢) نقل الأساتذة خارج الجامعة (١٩٣٢م)٤

أعطى قانون الجامعة لوزير المعارف سلطة تعيين أساتذة الجامعة وفق ما يراه مجلس الجامعة، كما نص على تطبيق القواعد والأحكام الخاصة بقوانين التوظف بالحكومة على أعضاء هيئة التدريس بالجامعة. ولما كان الوزير يملك حق التعيين ويعد الرئيس الأعلى للجامعة، فمن حقه — قانونًا — أن يستخدم الصلاحيات التي توفرها له قوانين موظفي الدولة فيما يتصل بأعضاء هيئة التدريس بالجامعة، وكانت تلك الثغرة موضوع الأزمة الثانية المتصلة باستقلال الجامعة.

فقد أصدر محمد حلمي عيسى باشا — وزير المعارف في وزارة إسماعيل صدقي باشا — قرارًا في ٣ مارس ١٩٣٢م بنقل الدكتور طه حسين من الجامعة إلى ديوان وزارة المعارف ليقوم بفحص مناهج اللغة العربية وكتبها؛ حتى تخلو وظيفة مفتش اللغة العربية في مايو ١٩٣٢م بإحالته للمعاش، فيشغل طه حسين — عندئذٍ — تلك الوظيفة. وكان طه حسين عند صدور قرار النقل عميدًا لكلية الآداب منذ نوفمبر ١٩٣٠م منتخبًا من أعضاء مجلس الكلية.

وكانت وراء قرار النقل دوافع سياسية محضة؛ إذ رفض طه حسين عرضًا تقدَّم به إسماعيل صدقي باشا إليه لرئاسة تحرير جريدة «الشعب» والاستقالة من الجامعة للتفرغ لها، كما أن أعضاء مجلس النواب كانوا يثيرون دائمًا مسألة التخلص من طه حسين كلما طُرحت على المجلس ميزانية الجامعة، فيُتخذ فكر طه حسين مدخلًا للهجوم على الجامعة، حتى إن النائب عبد العزيز الصوفاني قدم اقتراحًا للمجلس (٥ مايو ١٩٣٠م)، بأن يقوم وزير المعارف بالإسراع بوضع قيود على ما يُدرس بالجامعة؛ حتى يمكن مراقبة المحاضرات التي يلقيها الأساتذة فيها، ودارت حول الاقتراح مناقشات حامية انتهت برفضه لعدم دستوريته.

كما أن طه حسين أحرج وزير المعارف، عندما رفض منح الدكتوراه الفخرية لأحد البلجيك، واحتج على تدخُّل الوزير في قرار مجلس الجامعة بهذا الخصوص، كما رفض منح تلك الدرجة لعدد من الشخصيات السياسية المشتركة في الحكم، مؤكدًا أن أحدًا منهم لا يستحق هذا الشرف، وقال لوزير المعارف: «إن الجامعة تعطي درجة الدكتوراه الفخرية بوحي من نفسها، لا بوحي من الحكومة، ولا تستطيع أن تمنح هذه الدرجة لأفراد حزبيين.» وبذلك وضع عميد الآداب الحكومة في مأزق وجدت نفسها مضطرة إزاءه أن تلجأ إلى عميد الحقوق لمنح تلك الدرجات، فاستجاب الدكتور محمد كامل مرسي (عميد الحقوق) لرجاء الحكومة ولبى لطلب. وعندما أقيم حفل منح درجات الدكتوراه الفخرية (٢٧ فبراير ١٩٣٢م) بحضور الملك فؤاد، لم يلقِ أحمد لطفي السيد كلمة ترحيب كما جرت العادة، ولزم جميع الأساتذة المصريين الصمت، فلم يلقِ أحدهم كلمة، ولعل ذلك كان احتجاجًا على فرض تكريم رجال الحكم على مجلس الجامعة.

كذلك كان طه حسين موضع شكوى دائمة من الإنجليز بحجة محاباته للفرنسيين من أعضاء هيئة التدريس بكلية الآداب، وتفضيله لهم على الإنجليز، وتحمسه للثقافة اللاتينية، فرأى إسماعيل صدقي باشا في إبعاد طه حسين عن الجامعة ما يحقق اصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد: فيضع سابقةً من خلال اكتساب الحكومة حق التدخل في أدق خصائص الجامعة، وينتقم من طه حسين لمواقفه المتصلبة ضد الحكومة، ويكسب رضاء الإنجليز بإزاحة نصير الثقافة اللاتينية من كلية الآداب.

وكان السير برسي لورين — المندوب السامي — يرى أن الجامعة المصرية لا يجب أن تتمتع بالحرية الأكاديمية والاستقلال الإداري على نحو ما تتمتع به الجامعات البريطانية؛ لأن الظروف في مصر تختلف عنها في بريطانيا، ويرى ضرورة أن تسرع الحكومة توطيد سيطرتها على الجامعة؛ حتى تكون مسموعة الكلمة فيها، وتصبح قراراتها موضع التنفيذ، فعلى الحكومة المصرية أن تحدد بوضوح درجة الحرية التي تعطى للجامعة المصرية. غير أنه خشي أن يسبب إبعاد طه حسين الحرج للحكومة البريطانية، وخاصة أن الأستاذ المصري معروف بين أوساط المستشرقين في أوروبا.٥

وقد بررت حكومة صدقي باشا عملها أمام الرأي العام بإبداء دوافع لقرار نقل عميد الآداب لا صلة لها بالدوافع الأصلية، فزعمت أنه أفشى قرارات لمجلس معهد التربية، وأنه حرض بعض الخريجين على مطالبة الحكومة بتوظيفهم، كما أنه حرض أستاذة الآداب على عدم التدريس بالأزهر. غير أن هذه المبررات كانت مكشوفة تمامًا وعارية عن الصحة؛ إذ قامت الصحافة المصرية بفضح الحكومة وإعلان الأسباب الحقيقية لقرارها. وحملت صحف المعارضة: الوفدية، و«الأحرار الدستوريين» حملة شعواء على الحكومة التي قدمت للمعارضة سلاحًا ماضيًا باعتدائها على استقلال الجامعة. وراحت صحف الحكومة تدافع عن موقفها مثيرة المواقف الفكرية لطه حسين، منددة بمؤلفاته، مدعية سوء إدارته لكلية الآداب. وراح أعضاء مجلس النواب يهاجمون طه حسين والجامعة ومناهج التدريس فيها وينكرون عليها حقها في الاستقلال بحجة أن الحكومة تقدم الجانب الأكبر من ميزانية الجامعة.

ولم يقف الطلبة موقف المتفرج خلال الأزمة، فأضرب طلبة الآداب في اليوم التالي لصدور قرار نقل طه حسين، وتضامن معهم طلبة الحقوق، وأعلنوا رفضهم العودة إلى الدراسة إلا إذا عاد الأستاذ إلى جامعته. كذلك أضرب طلبة الطب، ورفع الطلاب عريضة إلى الملك طالبوا فيها بإعادة الأستاذ لمنصبه؛ «حفاظًا على حرية واستقلال الجامعة وهيبتها العلمية»، وأصدروا بيانًا بالصحف أعلنوا فيه أن نقل الأستاذ امتهان لكرامة الجامعة وكرامة العلم. وعندما طلب إليهم أحد أساتذة الطب أن يتركوا مبنى قسم الجغرافيا الذي تحصنوا فيه، ويذهبوا إلى كلياتهم ويبقوا هناك مضربين لمدة يوم واحد لإعطاء الفرصة للجامعة التي كانت تتفاوض مع الحكومة حول حل الأزمة، استجاب الطلاب حتى إذا مر اليوم دون بارقة أمل، عادوا إلى قسم الجغرافيا، وأبرقوا إلى مجلس كلية الآداب مطالبين الأساتذة باتخاذ إجراء يعيد للجامعة استقلالها، وللعلم حريته، وللأساتذة هيبتهم. وطالب وفد منهم مجلس الجامعة باتخاذ قرار للدفاع عن كرامة الجامعة. وفشلت محاولة الطلبة تنظيم مظاهرة احتجاج صامتة بسبب محاصرة الشرطة للحرم الجامعي. وحاول عبثا وكيل الجامعة وعمداء الكليات تهدئة الطلبة وإعادتهم للدراسة، فلما لم يستجب لهم المضربون أصدروا قرارًا بتعطيل الدراسة حتى يوم ٢٠مارس ١٩٣٢م على ألا يسمح بدخول الكليات إلا للطلبة الذين يحصلون من كلياتهم على «تذكرة دخول» بعد أن يتعهدوا بالمحافظة على النظام والمواظبة على الدراسة، ومن امتنع عن ذلك يفصل من كليته، واضطر الطلاب إلى التراجع تدريجيًّا؛ حتى لا يتعرضوا للفصل.

أما موقف مدير الجامعة — أحمد لطفي السيد — فاتسم بالغضب للاعتداء على استقلال الجامعة، فقد تم نقل الأستاذ دون استشارة الجامعة وعلى غير رضاها؛ ولأن الإجراء من شأنه خلق حالة عدم استقرار عند أساتذة الجامعة تعوقهم عن التفرغ لعملهم العلمي وبحوثهم؛ مما يمس رسالة الجامعة. وقام مدير الجامعة بمقابلة إسماعيل صدقي باشا في محاولة لإيجاد حل للأزمة يحفظ كرامة الجامعة، فاقترح عودة الدكتور طه حسين إلى كلية الآداب مع تركه للعمادة. فقبل صدقي باشا الاقتراح، غير أنه لم يلتزم بتنفيذه، فاستقال أحمد لطفي السيد من منصبه احتجاجًا على «هذا التصرف الذي أخشى أن يكون سُنَّة تذهب بكل الفروق بين التعاليم الجامعية وأغيارها،٦ على نحو ما جاء بكتاب الاستقالة (٩ مارس ١٩٣٢م).

وقد نال موقف مدير الجامعة إعجاب الطلبة، فأبرقوا إليه مهنئين بالموقف الشجاع، ووجهوا نداء للأساتذة يدعونهم فيه إلى التضامن مع أحمد لطفي السيد؛ حفاظًا على كرامة العلم.

وكان مجلس كلية الآداب قد اتخذ قرارًا شديد اللهجة احتجاجًا على القرار الذي رأى أنه «مخالف لقانون الجامعة المصرية وحريتها وهادم لاستقلالها الذي حرصت عليه»، وطالبوا بعقد مجلس إدارة الجامعة للنظر في الموضوع. ولم تستجب الجامعة أو الوزارة لهم، ولم تأبه باحتجاجهم، بل قامت الوزارة بفصل طه حسين من الخدمة نهائيًّا (٣٠ مارس ١٩٣٢م)، ولم يعد طه حسين إلى منصبه أستاذًا بالآداب إلا في ديسمبر ١٩٣٤م بعد تولي محمد توفيق نسيم باشا الحكم، ولم يعد أحمد لطفي السيد إلى منصبه كمدير للجامعة إلا في أبريل ١٩٣٥م حين سعى نجيب الهلالي باشا وزير المعارف إليه، فاشترط أن يعدَّل قانون الجامعة؛ بحيث يُنص فيه على ألَّا يُنقل أستاذ منها إلا بعد موافقة مجلس الجامعة، وقد برَّ نجيب الهلالي بوعده وعدل القانون؛ بحيث أصبح لا يمكن فصل أو نقل أستاذ أو عضو هيئة تدريس دون أخذ رأي مجلس إدارة الجامعة (المرسوم بقانون رقم ٩٧ لسنة ١٩٣٥م).

غير أن ذلك لا يعني أن أعضاء هيئة التدريس قد أصبحوا بمعزل عن الفصل أو النقل؛ فقد خلَف أحمد لطفي السيد بعض المديرين الذين لم يرفعوا أصبع المعارضة في وجه الحكومة، ولم يدافعوا عن استقلال الجامعة هذا الدفاع المجيد، فلم يكن هذا التعدي على استقلال الجامعة فريدا في نوعه، وكثيرًا ما نقل أعضاء هيئة التدريس إلى وظائف خارج الجامعة في مناسبات مختلفة دون أن يتحول الأمر إلى أزمة حادة على نحو ما حدث عام ١٩٣٢م.

(٣) ترقيات أعضاء هيئة التدريس (١٩٤١م)

نظم القانون رقم ٢١ لسنة ١٩٣٣م بشأن شروط توظف أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، نظام ترقيات أعضاء هيئة التدريس، فاشترط لترقية المدرس إلى وظيفة أستاذ مساعد انقضاء أربع سنوات على التعيين في وظيفة المدرس، كما اشترط نفس المدة بالنسبة للأساتذة المساعدين الذين يرقون إلى كراسي الأستاذية دون اشتراط التقدم بإنتاج علمي. وفي عام ١٩٣٥م عدلت المادة رقم (٥) من القانون، فأصبح يشترط فيمن يُرقى إلى إحدى الدرجتين «أن تكون له أبحاث مبتكرة».٧

غير أن الجامعة لم تلتزم بتطبيق المادة المعدلة، ولم تهتم إلا بالشروط الخاصة بالمدة الزمنية، ويبدو أنها نظرت إلى الإنتاج العلمي للمرشح للترقية نظرتها إلى الكماليات. وكانت الترقية تتم بموافقة مجلس الكلية ثم مجلس الجامعة، ويرفع مدير الجامعة القرارات الخاصة بذلك إلى وزير المعارف لتوقيعها باعتباره الرئيس الأعلى للجامعة. وكان الوزراء يوقعون هذه القرارات دون فحصها على أساس أن المجالس الأكاديمية المختصة قد قامت بهذا العمل؛ وحتى لا يتورط الوزير في التدخل في أمر يتصل بأخص خصائص الجامعة، فيشكل هذا الأمر عدوانًا على استقلالها.

وعندما تولى الدكتور محمد حسين هيكل وزارة المعارف (١٩٣٨–١٩٤١م) لاحظ أن الشكوى تتردد في البرلمان حول تقصير أساتذة الجامعة والأساتذة المساعدين — ممن سمح لهم بمزاولة مهنة خارج الجامعة — في المواظبة على أداء محاضراتهم، وأنهم لا يهتمون بالبحث العلمي الذي تقضي الحياة الجامعية بالانقطاع له. فانتهز الوزير فرصة عرض قرارات بشأن ترقية بعض أعضاء هيئة التدريس عام ١٩٤١م لاعتمادها، وسأل إدارة الجامعة أن ترفق بكل قرار من تطلب ترقيته مذكرة عن البحوث العلمية التي أنجزها المرشح خلال السنوات الأربع المنقضية بين الدرجة التي كان فيها والدرجة التي يطلب ترقيته إليها. فإذا بهذه المذكرات في معظمها لا تشير إلا إلى الرسالة التي حصل بها المرشح على درجة الدكتوراه، أو تتضمن إشارات إلى بحث غير ذي بال.

وامتنع الدكتور محمد حسين هيكل عن توقيع القرارات، وأبدى ملاحظته على عدم الالتزام بشرط التقدم ببحوث مبتكرة، إلى مدير الجامعة الدكتور علي باشا إبراهيم، فإذا بالمدير يؤكد أن أعضاء هيئة التدريس المرشحون للترقية هم خير رجال الجامعة، وأنه في حالة عدم ترقيتهم سوف يتركونها، فتعجز الجامعة عن أن تجد من يحل محلهم. ورأى أن الزمن كفيل بسد النقص في الكفاية العلمية لأعضاء هيئة التدريس عندما تزداد أعدادهم فيؤدي التنافس بينهم إلى الرقي العلمي، والإبداع، والابتكار.

فاقترح الوزير أن تعتمد الجامعة على بعض الأساتذة الأجانب المشهود لهم بالكفاية والفضل، وإجزال العطاء لهم حتى تغريهم الجامعة على الدخول في خدمتها؛ لحل تلك الأزمة، والتمسك بشروط الترقية التي حددها القانون حرصًا على المستوى العلمي للجامعة. وأبدى الوزير استنكاره لسعي المصريين من أعضاء هيئة التدريس إلى التخلص من كل أستاذ أجنبي مهما كانت كفاءته العلمية، ليحلوا محله وليرقوا على درجته. واقترح أن يكون هناك كادر للأجانب وآخر للمصريين؛ حتى لا يتطلع أعضاء هيئة التدريس من المصريين إلى وظائف الأساتذة الأجانب.

غير أن الدكتور علي باشا إبراهيم تحفظ على اقتراحات الوزير وطلب مهلة لدراستها، وأبدى رأيه — مبدئيًّا — في مسألة الأساتذة الأجانب، فرأى أن يكونوا مجرد أساتذة زائرين تتعاقد الجامعة معهم لسنة أو سنتين قابلة للتجديد، ولا يشغلوا كراسي دائمة؛ حتى لا يتخذوا من مراكزهم الثابتة وسيلة لخدمة مصالح بلادهم.

ويبدو أن موقف الوزير أثار ضيقًا بين أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، واعتبر تدخلا منه في شأنها يمس استقلالها؛ لأننا نجد الدكتور محمد حسين هيكل يدافع عن نفسه في مذكراته، فينكر أنه كان يقصد المساس باستقلال الجامعة، ولكنه كان يسعى للرقي بها بتوفر الأساتذة على بحوثهم العلمية وأدائهم لواجباتهم التدريسية على نحو مرضٍ، ويعقب على ذلك بقوله: «استقلال الجامعة لا ينظمه القانون وإنما يكفله حرص رجال الجامعة عليه وسموهم به فوق كل اعتبار مادي أو غير مادي، وفرضهم الرقابة الجامعية الدقيقة على كل منتسب لمحاريب العلم؛ حتى لا يُخِلَّ أحدٌ بواجبه. عند ذلك تسمو مكانة الجامعة، لا في وطنها وحده، بل في العالم بأسره.»٨

(٤) ثورة يوليو واستقلال الجامعة

تفاقمت الأزمة الاجتماعية والسياسية في مصر منذ الحرب العالمية الثانية، فقد ازدادت التناقضات الاجتماعية بروزًا بزيادة تكاليف المعيشة واتساع الهُوَّة بين فئة محدود العدد تملك مصادر الثروة والأغلبية الساحقة من المصريين التي يعيش معظمها دون حد الكفاف. وظلت السياسات الاجتماعية بعدا غائبا في برامج الأحزاب السياسية الليبرالية، والحكومات التي تعاقبت خلال الحرب وما بعدها. حقا أصدرت حكومة الوفد (١٩٤٢–١٩٤٤م) بعض التشريعات الاجتماعية، إلا أنها عالجت جانبًا من أعراض المسألة الاجتماعية، ولم تسع لاستئصال الداء؛ لأن ذلك الاستئصال ينال من مصالح البورجوازية الكبيرة التي جاءت منها النخبة السياسية الحاكمة على اختلاف مواقعها الحزبية، والتي افتقرت إلى الوعي الاجتماعي؛ فلم تستمع لدعوة الإصلاح التي أطلقها فريق من أبنائها ممن توافر لديهم هذا الوعي الاجتماعي، والذين ركزوا دعوتهم على المطالبة بالإصلاح الزراعي وإصلاح أداة الحكم، ورمت تلك الدعوة بالتهور والتطرف، وزعمت أنها تفتح الطريق أمام «أصحاب المبادئ الهدامة» أضف إلى ذلك عجز النخبة السياسية الليبرالية عن حل قضية الاستقلال الوطني بأسلوب التفاوض الذي تجاوزته آمال الجماهير المصرية في تحرير بلادهم، والبحث عن مشروع وطني للنهضة يحقق العدل الاجتماعي ويوسع دائرة المشاركة السياسية في تقرير أمور البلاد.٩

وهكذا حفلت الساحة السياسية في مصر خلال سنوات الحرب وفي أعقابها بتيارات سياسية جديدة زاحمت الأحزاب الليبرالية التقليدية، وانتزعت منها تأييد قطاعات عريضة من الجماهير، وتفاوتت التوجهات السياسية لتلك التيارات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، من توظيف الدين في السياسة إلى التماس حلول لأزمة مصر الاجتماعية والسياسية في رحاب الماركسية. واحتدم الصراع السياسي متخذًا طابع العنف من جانب بعض تلك التيارات والعنف المصادر من جانب الدولة، فكانت تلك السنوات فترة مخاض تنذر بميلاد نظام جديد يصلح ما أفسدته تجربة الحكم في مصر فيما بين ١٩٢٣–١٩٥٢م. فقد كانت الظروف مهيأة تمامًا لثورة شعبية تعيد الأمور إلى نصابها، وتقدم حلًّا للأزمة الاجتماعية والسياسية.

ولما كان أعضاء هيئة التدريس بالجامعة ينتمون إلى الطبقة الوسطى وخاصة شرائحها المتوسطة والعليا، فقد كانت لهم مواقفهم من دعاوى الإصلاح ودعاوى التغيير، وكانت غالبيتهم تقف في معسكر الليبرالية تتمسك بأهداف الديمقراطية، وتصدرت تلك الغالبية دعاة الإصلاح الاجتماعي والسياسي الذين دقوا نواقيس الخطر حرصًا على استمرار الليبرالية؛١٠ تجنبًا لثورة اجتماعية لا تبقي ولا تذر، بينما تبنَّى نفر قليل من أعضاء هيئة التدريس الاشتراكية، ورأوا حل أزمة مصر في إطارها.
ولذلك عندما قام الضباط الأحرار بانقلاب ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، توجَّس الجامعيون خيفة من أن يكون الانقلاب انتصارًا للفاشية على نمط الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية، واشترك في هذه المخاوف الليبراليون والاشتراكيون على السواء. ومن ثم لم تعلن جامعة القاهرة تأييدها للانقلاب عشية وقوعه، وفضلت أن ترقب ما يسفر عنه تطور الأحداث، على حين بادرت جامعة الإسكندرية بتأييد الحركة فور وقوعها، فبدت جامعة القاهرة وكأنها لا ترحب بالنظام الجديد، مما أثار حفيظة الضباط الأحرار.١١

لذلك عندما شُكلت «لجان التطهر» بقرار من مجلس قيادة الثورة لتتبع العناصر الفاسدة في الجهاز الحكومي وتصفيتها، كان لجامعة القاهرة نصيب لا تُحسد عليه من تلك اللجان التي شُكلت من أستاذين من أساتذة الجامعة وأحد القضاة يعيِّنهم مجلس قيادة الثورة، وفتح مجلس القيادة الباب لتلقي الشكاوى ضد عناصر الفساد، حتى لو كانت تلك الشكاوى غُفلًا من الإمضاء.

ولما كان بعض كبار أساتذة الجامعة من المقربين إلى القصر الملكي ومن حمَلة الألقاب كالباشاوية والبكوية، وكان بعضهم الآخر من الذين ربطتهم علاقات مودة أو مصاهرة مع بعض رجال الحكم وقادة الأحزاب، كان من الطبيعي أن يكونوا في طليعة من تنظر في أمرهم لجان التطهير. وكان من الطبيعي — أيضًا — أن يتحرك بعضهم لإظهار ولائهم للنظام الجديد بقدرٍ كبير من المبالغة حماية لأنفسهم.

ووسط هذا الجو بدأت الشكاوى تتدفق على لجان التطهير من بعض أعضاء هيئة التدريس ضد زملائهم، بدوافع مختلفة قد يكون التخلص من المفسدين من بينها، ولكن لا بد أن تكون الغيرة المهنية والتطلع إلى احتلال كراسي الأستاذية من بينها أيضًا، ما دامت «النفس أمَّارة بالسوء». بل شكل بعض المدرسين الشبان جماعة في بعض الكليات تسمَّت باسم «المدرسين الأحرار»، صرفوا جهودهم إلى تقديم الشكاوى للجان التطهير ومجلس قيادة الثورة ضد من رأوا فيهم «عناصر فاسدة» من أعضاء هيئة التدريس.١٢

وعندما أعلن عن تأسيس «هيئة التحرير» في ٢٣ يناير ١٩٥٣م سارع بعض أعضاء هيئة التدريس بالانضمام إليها، والتفَّ بعض الأساتذة حول الضابطين أحمد عبد الله طعيمة، وإبراهيم الطحاوي اللذين تولَّيا تنظيم «هيئة التحرير»، فكانوا من بين مستشاريهم. وبدأت قرارات لجان التطهير تُعتمد تباعًا من مجلس قيادة الثورة، فتمت إحالة بعض أساتذة الجامعة إلى المعاش، كان من بينهم عدد من أبرز علمائها الذين قامت على كواهلهم فروع التخصص في كلياتهم، بينما كان البعض منهم من العناصر التي تحوم حولها شبهات الفساد ممن لم يتركوا بصماتهم على تخصصاتهم.

واستقبلت تلك الإجراءات استقبالًا سلبيًّا من جانب هيئة التدريس بالجامعة، فلم يتذكر أحد — في تلك الأيام — استقلال الجامعة على نحو ما حدث خلال الأزمات السابقة التي أشرنا إليها من قبل، ولم يهتم أحد بإثارة مسألة كرامة الجامعة وكرامة العلم والعلماء على نحو ما حدث من قبل. فالسلطة في يد مجموعة من الضباط الشبان الذين لا يعرف أحد بعدُ هويَّتهم السياسية، والضربات التي وجهها مجلس قيادة الثورة إلى الأحزاب السياسية وإلى الساسة القدامى، وحركة اعتقال رجالات الحكم السابق، والتأييد الجماهيري الساحق لإجراءات مجلس القيادة، كل ذلك كان له أثره في تقبل الجامعة لتلك الإجراءات، وخاصة أن بعض عناصر هيئة التدريس لعبت دورًا في إصدارها بشكل مباشر أو غير مباشر، كما أن هناك الأحكام العرفية سيف مسلَّط على الرقاب.

ولا يعني ذلك أن أعضاء هيئة التدريس بالجامعة — كأفراد — وقفوا هذا الموقف السلبي من حركة الجيش، وإنما تباينت مواقفهم منها بتباين توجهاتهم السياسية، فأيَّد بعضهم الحركة اقتناعًا بالمبادئ الستة التي أعلنتها عند قيامها، وإيمانا بضرورة الإصلاح، وأيَّدها البعض الآخر من منطلق انتهازي محض؛ طمعًا في منصب أو جاه. أما الشيوعيون ويسار الوفد، فقد عارضوها فزعًا من الفاشية التي تسير في ركاب العسكريين عندما يستولون على السلطة. على حين التزمت المجالس الجامعية: مجالس الكليات، ومجلس الجامعة، حكمة الصمت ولاذت بالترقب والانتظار.

وحسمت مواقف الجامعيين خلال أزمة مارس ١٩٥٤م الشهيرة.١٣ تلك الأزمة التي مثلت ذروة صراع السلطة بين اللواء محمد نجيب — أول رئيس للجمهورية — وبين مجلس القيادة وعلى رأسه البكباشي جمال عبد الناصر، ودارت حول قضية الديمقراطية واختيار شكل للنظام الجديد، فانقسم مجلس قيادة الثورة بين مؤيدي الديمقراطية، ودعاة الدكتاتورية، ثم حُسِم النزاع بمناورة سياسية تمثلت في إصدار قرارات ٢٥ مارس ١٩٥٤م متضمنة السماح بقيام الأحزاب السياسية، والتزام مجلس قيادة الثورة بألا يؤلِّف حزبًا، ورفع الحرمان من الحقوق السياسية؛ حتى لا يكون هناك مساسٌ بحرية الانتخابات، وانتخاب جمعية تأسيسية لإقرار الدستور الجديد؛ انتخابًا حرًّا مباشرًا، على أن يكون لها السيادة الكاملة، ولها سلطة البرلمان، وحل مجلس قيادة الثورة؛ باعتبار أن الثورة قد انتهت، وتسليم البلاد لممثلي الأمة، على أن تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية. وبدا وكأنَّ الديمقراطية قد انتصرت، فانتعشت آمال عشاقها — على اختلاف توجهاتهم السياسية — في بناء نظام سياسي ديمقراطي جديد. وتمثلت تلك الآمال في تحركات الجامعة، ونقابة الصحفيين، ونقابة المحامين ضد حركة الجيش طوال شهر مارس؛ حيث تعالت الأصوات بالمطالبة بالديمقراطية وعودة الجيش إلى ثكناته، وإلغاء الأحكام العرفية، وإطلاق الحريات. فكان عداء الجامعة ونقابتَي الصحفيين والمحامين واضحًا لمجلس قيادة الثورة، مما كان له آثاره — فيما بعد — في موقف نظام الحكم من المثقفين عامة.

ففي ٢٧ مارس، عقد طلبة جامعة القاهرة مؤتمرًا وطنيًّا في الحرم الجامعي أعلنوا فيه تشكيل «جبهة الاتحاد الوطني» التي تضم الطلاب الوفديين، والإخوان المسلمين، والشيوعيين، وشباب الحزب الاشتراكي (مصر الفتاة)، وشارك في المؤتمر عدد من أعضاء هيئة التدريس. واتخذوا قرارات بإلغاء الأحكام العرفية فورًا، وتأليف وزارة ائتلافية لإجراء الانتخابات، وإلغاء مجلس قيادة الثورة فورًا دون انتظار لاجتماع الجمعية التأسيسية.

وفي اليوم التالي (٢٨ مارس) اجتمع مجلس إدارة «جمعية هيئة التدريس» بجامعتَي القاهرة وعين شمس بمعهد التربية للمعلمين، واتخذ قراراتٍ بإلغاء الأحكام العرفية فورًا، وإطلاق الحريات، وعودة الحياة الدستورية.١٤

ولا يدخل تطور أحداث أزمة مارس ١٩٥٤م — التي انتهت بإلغاء قرارات ٢٥ مارس لصالح الاتجاه الشمولي — في إطار هذه الدراسة، وما يهمنا هنا ما اتصل باستقلال الجامعة، وما ترتب على موقف الجامعيين المعارض من نتائج أضرَّت به.

ففي ٣٠ مارس، قرر مجلس قيادة الثورة فصل ثمانية من أعضاء هيئة التدريس وردت أسماؤهم بتقرير الأمن ضِمن من شاركوا في المؤتمر الطلابي سالف الذكر.١٥ كما قرر المجلس بجلسة ١٢ أبريل، فصل عدد آخر من أساتذة الجامعة وأعضاء هيئة التدريس، ومنح مديري الجامعات سلطات واسعة «لضمان انتظام الدراسة»، وذلك ضمن قرارات أخرى شملت حل مجلس نقابة المحامين ومجلس نقابة الصحفيين، وتطبيق قرار الحرمان من الحقوق السياسية على عدد كبير من رجال الجامعة والمحاماة والصحافة.١٦
وبعد انتهاء الأزمة بفترة وجيزة، تولى الصاغ كمال الدين حسين وزارة التربية والتعليم، وأنشئ مكتب أمن بالوزارة تولى أمره أحد الضباط اختص بالموافقة على سفر أعضاء هيئة التدريس لحضور المؤتمرات والمهام العلمية، والإجازات الدراسية، وعلى تعيين أعضاء هيئة التدريس والمعيدين. وتم تعيين بعض ضباط الجيش أمناء للجامعات. وضرب الوزير بقانون الجامعة عرض الحائط، فتولى تعيين العمداء، وتم تعطيل حق مجالس الكليات في انتخاب العميد، واختير مديرو الجامعات من بين الأساتذة الموثوق في ولائهم للسلطة، وأحيانًا كان يتم تعيين المدير من أساتذة جامعة أخرى غير الجامعة التي يتولى إدارتها، وجيء بأساتذة من بعض الكليات داخل الجامعة؛ ليتولوا عمادة كليات أخرى.١٧ وبذلك سجلت الحكومة حقها المطلق في اتخاذ ما تشاء من قرارات بشأن الجامعات، وأصبح الواقع الجديد عرفًا سائدًا ومقبولًا.

وأحكم النظام بذلك قبضته على الجامعة، فأصبح هناك ضابط يتبع أمن الوزارة يقيم بصفة دائمة داخل الحرم الجامعي، ويتصل بأعضاء هيئة التدريس مباشرة دون الرجوع إلى عمداء الكليات. وتم حظر النشاطات الثقافية التلقائية (أوائل ١٩٥٥م) مثل إقامة الندوات وإلقاء المحاضرات العامة، إلا في المناسبات الخاصة التي تسمح بها جهات الأمن.

وتعلم أعضاء هيئة التدريس بالجامعة (الحكمة) من رأس الذئب الطائر، بعد فصل من فصلوا بقرارات مجلس قيادة الثورة، التي كانت قرارات سيادية لا يجوز الطعن فيها أمام مجلس الدولة، فغلبت روح الفردية على سلوكيات أعضاء هيئة التدريس، وراح كل منهم يختار لنفسه طريقه الخاص بعدما أصاب التفكك والفتور الحياة الجامعية، وتحول استقلال الجامعة إلى حلم بعيد المنال. وجاءت حاجة النظام إلى التكنوقراط لتفتح الباب على مصراعيه أمام فريق من أساتذة الجامعة ليدخلوا ضمن «أهل الثقة»، في عضوية مجلس الإنتاج ومجلس الخدمات، وتولي مناصب الوزارة المختلفة مع تطور النظام والاتجاه نحو تخفيف الصبغة العسكرية للوزارة والتوسع النسبي في استوزار الجامعيين.١٨ وارتبط بعض أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة بالتنظيمات السياسية المختلفة للثورة من «هيئة التحرير» إلى «الاتحاد الاشتراكي العربي» مرورًا بالاتحاد القومي، بينما ظلت القاعدة العريضة من أعضاء هيئة التدريس تخندق بين صفوف «الأغلبية الصامتة».
وفي سبتمبر ١٩٥٦م، صدر القانون رقم ٣٤٥ في شأن تنظيم الجامعات المصرية، متضمنًا نفس النصوص القديمة الواردة بقانون الجامعة عام ١٩٢٧م، من حيث تحديد اختصاص الجامعة والنص على أن لكل جامعة شخصية اعتبارية، وعلى حقها في إدارة أموالها … إلخ، ولكنه نص على احتفاظ وزير التربية والتعليم برئاسة الجامعات، وعلى حقه في ترشيح من يعين مديرًا ووكيلًا للجامعة، وكذلك تعيين عمداء الكليات، وتعيين ثلاثة من ذوي الخبرة في شئون التعليم الجامعي والشئون العامة أعضاء في مجلس الجامعة الذي يضم المدير والوكيل والعمداء، وبذلك يكون جميع أعضاء مجلس الجامعة معينون من قبل وزير التربية والتعليم. ونصت المادة (٢٧) على عدم تنفيذ قرارات مجلس الجامعة فيما يحتاج إلى تصديق الوزير إلا بعد التصديق عليها منه، وأعطته حق وقف تنفيذ القرار خلال مهلة زمنية محددة (ثلاثين يومًا). وأجازت المادة (٥٠) نقل أعضاء هيئة التدريس من جامعة إلى أخرى أو إلى الوظائف العامة خارج الجامعة بقرار من وزير التربية والتعليم بعد موافقة المجلس الأعلى وأخذ رأي مجلس الجامعة. وأعطت المادة (٧٥) لمدير الجامعة حق توجيه تنبيه إلى أعضاء هيئة التدريس الذين يُخِلُّون بواجباتهم، كما أعطت له حق توقيع عقوبتَي الإنذار وتوجيه اللوم، وجعلت قرار مدير الجامعة في ذلك نهائيًّا. وألزمت — نفس المادة — عميد كل كلية بأن يبلغ مدير الجامعة كل ما يقع من أعضاء هيئة التدريس في كليته من إخلال بواجباتهم أو بمقتضيات وظائفهم.١٩

وهكذا أُخضعت الجامعة تمامًا للسلطة الإدارة بتلك الصلاحيات الواسعة التي أعطيت لوزير التربية والتعليم الذي كان يملك إيقاف قرارات مجلس الجامعة دون أن يلزمه بتبرير ذلك، كما تحول العميد إلى رجل أمن ينقل لمدير الجامعة ما يدور بكليته بين أعضاء هيئة التدريس، وجاء تعبير الإخلال بواجبات الوظائف أو مقتضياتها فضفاضًا يفتح الباب للنيل من عضو هيئة التدريس، الذي كان من حق مدير الجامعة معاقبته (بعد سماع دفاعه عن نفسه)، فتكون العقوبة نهائية غير قابلة للرد والمراجعة!

وجاء القانون رقم ١٨٤ لسنة ١٩٥٨م في شأن تنظيم الجامعات بالجمهورية العربية المتحدة (بمناسبة الوحدة مع سوريا) ليحمل نفس الملامح، وليعطي وزير التربية والتعليم نفس الصلاحيات، بما في ذلك حق نقل عضو هيئة التدريس إلى وظيفة عامة خارج الجامعة بقرار من الوزير، بناءً على موافقة المجلس الأعلى للجامعات، وبذلك تخطى القانون مجلس الكلية ومجلس الجامعة معًا، وفوض أمر نقل أعضاء هيئة التدريس خارج الجامعات إلى المجلس الأعلى للجامعات الذي لا تمثل فيه الجامعة المعنية إلا تمثيلًا محدودًا (ثلاثة أعضاء فقط). ومن عجب أن يطالب القانون أعضاء هيئة التدريس بأن يتفرغوا لدروسهم وأن يسهموا في تقدم العلوم والآداب والفنون بإجراء البحوث والدراسات المبتكرة، ويدعوهم إلى بث الروح الجامعية السليمة في نفوس الطلاب (مادة ٦٨)، في الوقت الذي لا يعطيهم فيه الحرية المطلوبة لتحقيق رسالتهم، ولا يؤمِّنهم على الاستمرار في أداء تلك الرسالة. أما عن النظم التأديبية لأعضاء هيئة التدريس، فقد جعل القانون سلطة التحقيق لأستاذ من أستاذة الحقوق يكلفه مدير الجامعة بهذا العمل أو يحيل التحقيق إلى النيابة الإدارية، وكان قانون ١٩٥٦م يجعل من النيابة الإدارية سلطة للتحقيق مع أعضاء هيئة التدريس. واحتفظ القانون لمدير الجامعة بحق توقيع عقوبتَي الإنذار وتوجيه اللوم على عضو هيئة التدريس دون تحقيق، وجعل قراره في ذلك نهائيًّا أيضًا، وألزم عميد الكلية بإبلاغ مدير الجامعة كل ما يقع من أعضاء هيئة التدريس في كليته من إخلال بواجباتهم أو بمقتضيات وظائفهم (مادة ٨٣).

وقد ظل هذا القانون يحكم نظام الجامعات المصرية، مع بعض تعديلات أدخلت عليه، لم تجنِ من ورائها مسألة استقلال الجامعة مغنمًا، حتى صدر القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٢م بشأن تنظيم الجامعات، فأدخل بعض التعديلات الإيجابية — على نحو ما سنرى — دون أن يوفر الضمانات لاستقلال الجامعة. بل تضمن القانون نفس الصلاحيات التي أعطيت لرئيس الجامعة — منذ عام ١٩٥٦ — فيما يتصل بحق توقيع عقوبتَي التنبيه واللوم على أعضاء هيئة التدريس دون تحقيق، فنصت المادة ١٢٢) على أن «لرئيس الجامعة توقيع عقوبتَي التنبيه واللوم المنصوص عليهما في المادة (١١٠) على أعضاء هيئة التدريس الذين يخلُّون بواجباتهم بمقتضيات وظائفهم، وذلك بعد سماع أقوالهم وتحقيق دفاعهم، ويكون قراره في ذلك مسببًا ونهائيًّا. وعلى عميد كل كلية أو معهد إبلاغ رئيس الجامعة بكل ما يقع من أعضاء هيئة التدريس من إخلال بواجباتهم أو بمقتضيات وظائفهم.» وبذلك ظل رئيس الجامعة — المعين من قبل السلطات الإدارية العليا — يتمتع منفردًا بهذا الحق دون الرجوع إلى المجالس الجامعية المختصة، ودون الرجوع إلى سلطات التحقيق، بل ودون أن يكون للمعاقب حق الاعتراض على القرار. وألزم القانون العمداء بإبلاغ رئيس الجامعة ما يرونه من إخلال أعضاء هيئة التدريس بواجباتهم أو بمقتضيات وظائفهم، دون أن يعرض الأمر على مجلس الكلية الذي جعله القانون السلطة العليا لإدارة الكلية، كما أن رئيس الجامعة لا يحتاج — بالضرورة — إلى بلاغ من العميد بشأن عضو هيئة التدريس المعاقب، فقد أطلقت تلك المادة (غير المقدسة) يده من كل قيد في هذه المسألة، كما لم تعن بتحديد نوع الإخلال بالواجبات أو مقتضيات الوظيفة ودرجته؛ حتى يمارس رئيس الجامعة هذا الحق، مما يجعل الأمر متروكًا لتقديره الشخصي المحض.

وخلال الفترة الواقعة بين منتصف الخمسينيات وأوائل السبعينيات، ظل استقلال الجامعة، وتأمين أعضاء هيئة التدريس على أوضاعهم الوظيفية، وتوفير حرية العمل والحركة لهم، مطلبًا أساسيًّا لأعضاء هيئة التدريس يناقشونه فيما بينهم حينًا، ويناقشونه أمام الرأي العام حينًا آخر إذا سنحت الفرصة بذلك، وجاءت فرصة طرح الموضوع للرأي العام بمبادرة من جانب جريدة الأهرام (مايو ١٩٦٧م)، عندما فتحت نقاشًا حوله بمناسبة الأزمة التي ثارت داخل الجامعة في وجه الدكتور عزت سلامة — وزير التعليم العالي — الذي أراد أن يفرض قانونًا جديدًا لتنظيم الجامعات أسوأ من القانون ١٨٤ لسنة ١٩٥٨م.

فقد أثير موضوع تطوير الجامعات ضمن ما أثير من أمور تتصل بإعادة تنظيم مؤسسات الدولة في ضوء التغيرات التي شهدتها مصر منذ يوليو ١٩٦١م لتواكب التحول الاشتراكي. وانتهت الدراسات الخاصة بتطوير الجامعات إلى ثلاثة مشروعات وضعت فيما بين ١٩٦٥–١٩٦٧م. وأخيرًا طرح المشروع على الجامعات في فبراير ١٩٦٧م فثارت حوله اعتراضات تتصل بأسلوب وضعه والأسُس الرئيسية التي يقوم عليها؛ إذ تم وضع مشروعات التطوير في غيبة الجامعات، فلم يؤخذ رأيها فيه، ثم علم الجامعيون من الصحف أن مشروع قانون تنظيم الجامعات قد أعد، وأنه أرسل بالفعل إلى مجلس الدولة في ٢٣ فبراير ١٩٦٧م، وتبين مما نُشر حول المشروع أن الأسُس التي يقوم عليها تختلف عن اتجاه «المؤتمرات النوعية» التي ضمَّت أعضاء من هيئة التدريس بالجامعات وبعض الخبراء من مواقع الإنتاج المختلفة. فكانت أزمة بين الجامعيين ووزير التعليم العالي الذي ضرب بالأسُس التي تم الاتفاق عليها عرض الحائط. وألحت هيئات التدريس بالجامعات على ضرورة عرض المشروع عليها قبل تقديمه إلى مجلس الأمة، وعندما عرض المشروع على الجامعات ناقشته في كافة مجالسها — رغم ضيق الوقت الذي أُعطي لها — واعترضت عليه وقدمت مقترحات بديلة أكثر ملاءمة لتحقيق أهداف الجامعة.

وكان المشروع يتضمن النص على أن كل جامعة تتكون من الأقسام لا من عدد من الكليات، واستحدث كلية الدراسات العليا والبحوث. كما نص على أن تكون هناك تقارير دورية لمتابعة عمل أعضاء هيئة التدريس تدخل في الاعتبار عند الترقية لوظيفة الأستاذ المساعد أو الأستاذ، وأن يعين الأساتذة من خلال مسابقات مع الأخذ بنظام القرعة عند اختيار من يرقون للأستاذية، وابتدع نظام الأساتذة والمدرسين المعاونين الذين يختارون من خارج الجامعة. وكلها أمور لم تطرح من قبل على مؤتمرات التطوير، ولم يؤخذ فيها رأي الجامعة. وانتهت دراسة الجامعة لها إلى رفضها، واقتراح تنظيمات بديلة، رأت فيها أنها أقدر على تحقيق التطوير المنشود.

وكان أخطر ما في المشروع أن تدار الجامعات بعناصر من خارجها حينما جعل أغلبية أعضاء المجلس الأعلى للجامعات من غير أعضاء هيئة التدريس بالجامعة. كما أن المشروع أعطى لوزير التعليم العالي سلطات واسعة، وأنقص من اختصاص المجالس الجامعية. ومن ثم رفضته الجامعة؛ لأنه لا يغير شيئًا من الوضع الذي عاشته في ظل القوانين السابقة، ولأنه ينقص من قدرتها على الحركة الذاتية.

وفي مقال للدكتور رفعت المحجوب٢٠ — دفاعًا عن وجهة نظر الجامعة — ذكر أن الجامعيين لا يفهمون فكرة «استقلال الجامعة» إلا على أنها نوع من التيسير الذاتي؛ ولذلك يلحون على ضرورة ربط الجامعة بالمجتمع فلسفة وتخطيطًا وتنفيذًا. ومن هذا المنطلق ترى الجامعة أن التطوير إنما يكون في البرامج وفي إعداد هيئة التدريس «في ضوء فلسفة مجتمعنا الاشتراكي». وقد طالبت الجامعة باحترام مبدأين أساسيين هما:
  • (١)

    جماعية القيادة التي تستلزم نقل السلطة من الأفراد إلى المجالس.

  • (٢)

    مركزية التخطيط، ولا مركزية التنفيذ، وهي تستلزم أن يقتصر عمل المجلس الأعلى للجامعات على التخطيط والمتابعة والرقابة، وأن تتوسع في نقل سلطات التنفيذ من المجالس العليا إلى المجالس الأدنى منها.

ومن ثم كانت المطالبة بعدم تركز السلطات في يد الوزير، ورفض ترك أمر إدارة الجامعات لعناصر من خارجها.

واعترضت الجامعة على المواد الخاصة بإنشاء «كلية الدراسات العليا والبحوث» باعتبار أن قيامها يؤدي إلى بعثرة الإمكانات المادية والبشرية، وإلى ازدواج جهات الإشراف العلمي؛ إذ يفهم منه فصل كيان الدراسات العليا عن الكليات العادية، فيتعامل القسم مع الكلية في المرحلة الجامعية الأولى ويتعامل مع كلية الدراسات العليا فيما اتصل بالدراسات العليا، مما يتنافى مع فكرة قيام الجامعة على عدد من الأقسام العلمية.٢١
ومن بين الألغام التي احتوى عليها المشروع تعيين مدير الجامعة من خارجها بدعوى توسيع قاعدة الاختيار؛ فقد استحدث المشروع في شأن تعيين مدير الجامعة (المادة ١٤) أن يكون اختياره من بين ذوي المكانة العلمية من الأساتذة الحاليين أو السابقين، أو من شغلوا وظائف علمية من نفس المستوى. فأصبح من الممكن أن يختار المدير من غير أساتذة الجامعات، وهو ما أجمعت الجامعة على رفضه.٢٢ ويبدو أن النية كانت متجهة إلى وضع إدارة الجامعات في أيدي رجال «الاتحاد الاشتراكي العربي» ممن يعدون «من ذوي المكانة العلمية».
كذلك احتفظ المشروع بالمواد الخاصة بنقل عضو هيئة التدريس من كلية إلى أخرى داخل الجامعة، ومن جامعة إلى أخرى، ومن الجامعة إلى الوظائف العامة خارجها دون اشتراط موافقته أو موافقة قسمه وكليته ومجلس جامعته على هذا النقل؛ مما يعني استمرار غياب الضمانات الكافية لتحقيق الاستقرار لعضو هيئة التدريس.٢٣
وفي رده على ما أثاره الجامعيون من اعتراضات على مشروع القانون، قال عزت سلامة٢٤ — وزير التعليم العالي— إن حدود اختصاصات وزير التعليم العالي أمر لا يقرره وزير التعليم العالي أو الجامعة، وإنما تقرره الدولة ممثلة في الحكومة، «فإذا رأت الدولة أن توسع اختصاصات الوزير، فلا أعتقد أن هذا أمر يثير حساسية لدى الجامعة، فلم يعد هناك انفصال بين الجامعة ومختلف قطاعات الدولة.» وبذلك كان الوزير يرى الجامعة مجرد مصلحة حكومية، تقرر الدولة كل ما اتصل بشأنها، وما عليها إلا السمع والطاعة.

وبرر الوزير غلبة العناصر الخارجة عن الجامعة في عضوية المجلس الأعلى للجامعات، على حساب تمثيل هيئة التدريس بالجامعة بأن «الجامعات بحاجة إلى كل خبرة تأتيها من الخارج من مواقع العمل الفعلية؛ ذلك أن الجامعة هي التي تسعى الآن — عن رغبة أكيدة — للمساهمة في خدمة المجتمع.» وبالنسبة لتعيين مديري الجامعات من غير أساتذتها، برر الوزير ذلك بأن مدير الجامعة يجب أن يجمع بين القدرة العلمية، والخبرة الكاملة بالعمل الجامعي، والقدرة على القيادة، والاتصال الوثيق بأبعاد العمل الوطني وأهداف المجتمع، «فالأمر هنا أمر اختيار الشخص الصالح». وأكد حق» القيادة السياسية» في أن ترى وضع قيادة معينة في موقع معين.

لقد كان مشروع القانون المقترح يهدف — كما هو واضح تمامًا — إلى تصفية ما بقي للجامعة من كيان خاص، وتحويلها إلى «مرفق» حكومي محض، كما كان يهدف إلى وضعها تحت هيمنة «الاتحاد الاشتراكي» تحت شعار «العلم الملتزم»، ولعل هذا يفسر المعارضة الضارية من جانب الجامعة لهذا المشروع بعد طول خنوع واستسلام. وجاءت هزيمة يونيو ١٩٦٧م لتقضي على هذه المحاولة المكشوفة.

وجاء القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٢م ليستر بعض عورات قانون ١٩٥٨م فيما اتصل باستقلال الجامعة، فأخذ بمبدأ جماعية القيادة بنقل السلطة إلى المجالس، فأصبح يدير الجامعة مجلسها، ويشارك رئيس الجامعة في ذلك، كما أصبح يدير الكلية مجلسها مشاركًا العميد في الإدارة، وكذلك الحال بالنسبة لمجلس القسم. ولكن اتسعت اختصاصات «المجلس الأعلى للجامعات» فأصبحت له صلاحيات تنفيذية تشكل قيدًا على حركة الجامعة، وتحدُّ من إمكانية تحقيق التمايز بين الجامعات بعضها وبعض. ورغم إقرار حق مجالس الكليات في انتخاب العميد إلا أن إعطاء رئيس الجامعة حق تعيين العميد من بين الأساتذة الثلاثة الذين يحصلون على أعلى الأصوات يخل بمبدأ الانتخاب ويضر بسير العمل في الكليات، كما أن عدم امتداد مبدأ الانتخاب إلى منصب رئيس الجامعة يكسر حلقة ديمقراطية القيادة، ويُفقد المبدأ مغزاه. ورغم النص على عدم جواز عزل عضو هيئة التدريس إلا بقرار من مجلس التأديب، استمرت حقوق توقيع بعض العقوبات لرئيس الجامعة، وكذلك ألزم عميد كل كلية بإبلاغ رئيس الجامعة بكل ما يقع من أعضاء هيئة التدريس من إخلال بواجباتهم أو مقتضيات وظائفهم دون أن يشترط أخذ رأي المجالس الجامعية (على نحو ما رأينا). ورغم وضع بعض الضوابط فيما يتصل بنقل عضو هيئة التدريس من كلية إلى أخرى باشتراط موافقة المجالس الجامعية، ظل النص الخاص بجواز نقل عضو هيئة التدريس إلى وظيفة عامة خارج الجامعات بقرار من وزير التعليم العالي، وطُبق بالفعل في سبتمبر ١٩٨٠م، عندما قام الرئيس السادات بنقل بعض أعضاء هيئة التدريس إلى وظائف خارج الجامعة بقرار أصدره وزير التعليم العالي منفردًا دون الرجوع إلى المجالس الجامعية.

وهكذا لا تزال قضية استقلال الجامعات قضية مطروحة بإلحاح بين أوساط الجامعيين، ولا يمكن أن يتحقق استقلال الجامعة إلا إذا قام بناؤها على أسُس ديمقراطية؛ فالمشاركة الديمقراطية من جانب أعضاء هيئة التدريس في اختيار قياداتهم الجامعية على مختلف المستويات، والمشاركة في صياغة سياسات وخطط وبرامج الجامعة المختلفة، وتوفير الضمانات التي تكفل لهم القيام برسالتهم الجامعية، تمثل العناصر الرئيسية التي تطلق الطاقات الخلاقة للجامعة لكي تقوم بواجباتها، فتساهم — بحق — في رقي الفكر، وتقدم العلم، وتنمية القيم الإنسانية، وخدمة المجتمع. عندئذٍ يصبح للمعاني التي صدَّر بها المشرع قانون تنظيم الجامعات قيمتها العملية.

١  المادة ١ من القانون رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٢م، موسوعة قانون تنظيم الجامعات، مطبعة جامعة القاهرة ١٩٨٣م، ص١١.
٢  عالج الدكتور عبد المنعم الجُميعي هذه الأزمة بالتفصيل في كتابه: الجامعة المصرية والمجتمع، ص٦٣–٦٩.
٣  انظر تفاصيل ذلك في: مضابط مجلس النواب، جلسة الاثنين ١٢ ديسمبر ١٩٢٦م.
٤  عالجت د. سامية حسن هذه الأزمة بالتفصيل، انظر، المرجع السابق، ص١٣٨–١٧٨.
٥  نشرت روز اليوسف رسمًا كاريكاتيريًّا يصور محمد حلمي عيسى باشا (وزير المعارف) يقدِّم رأس طه حسين للمندوب السامي على صينية قائلًا: «أرجو يا فخامة المندوب السامي، بمناسبة عيد الاستقلال، أن أقدِّم لكم هذه الهدية؛ استقلال الجامعة.» انظر، عدد ١٤ مارس ١٩٣٢م.
٦  حسين فوزي النجار: أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل، أعلام العرب ٣٩، القاهرة ١٩٦٥م، ص٢٧٨-٢٧٩.
٧  أحمد محمد حسن وآخر: مجموعة القوانين واللوائح، ج١، ص٧٠٠، هذا ولم يحدد القانون كيفية تقييم الأبحاث وجهة الاختصاص في ذلك، كما لم يوكل الأمر إلى مجالس الكليات أو مجلس الجامعة.
٨  محمد حسين هيكل: مذكرات في السياسة المصرية، ج٢، القاهرة ١٩٥٣م، ص١٢٨–١٣١.
٩  للمزيد من التفاصيل راجع، رءوف عباس: جماعة النهضة القومية، دار الفكر، القاهرة ١٩٨٦م.
١٠  كان من بين أقطاب «جماعة النهضة القومية» التي تبينت الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي والسياسي: الدكتور إبراهيم بيومي مدكور والدكتور وديع فرج، نفس المرجع، ص٤٢.
١١  خص الرئيس جمال عبد الناصر جامعة الإسكندرية بإقامة الاحتفال السنوي بذكرى خروج الملك (٢٦ يوليو) بالجامعة؛ حيث كان يلقي خطابه هناك؛ تقديرًا لموقف الجامعة من الثورة ورجالها.
١٢  كانت جماعة المدرسين الأحرار بكلية الآداب تضم في عضويتها: الدكتور عبد الحميد يونس، والدكتور عبد المنعم عامر، والدكتور محمد محمود الصياد، والدكتور محمد أحمد أنيس، وغيرهم من المدرسين.
١٣  راجع، عبد العظيم رمضان: عبد الناصر وأزمة مارس، دار روزاليوسف، القاهرة ١٩٧٦م، وراجع أيضًا، طارق البشري: الديمقراطية ونظام ٢٣ يوليو ١٩٥٢–١٩٧٠م، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت ١٩٧٨م.
١٤  عبد العظيم رمضان: المرجع السابق، ص١٩٦.
١٥  مذكرات عبد اللطيف البغدادي، القاهرة ١٩٧٧م، ج١، ص١٦٧.
١٦  نفس المرجع، نفس الجزء، ص١٨٣.
١٧  على سبيل المثال: نُقل الدكتور إبراهيم سلامة من دار العلوم ليصبح عميد الآداب (سبتمبر ١٩٥٤م)، ونقل الدكتور عز الدين أحمد فريد من كلية التجارة ليتولى عمادة كلية الآداب (سبتمبر ١٩٥٥م).
١٨  على مر الفترة من ١٩٥٢–١٩٨٧م، تولى رئاسة الوزراء أستاذان من أساتذة جامعة القاهرة، وشغل منصب الوزير منهم نحو ٧٦ أستاذًا، ومنصب المحافظ نحو ١٥ أستاذًا، كما كان هناك خمسة رؤساء أمام الأمة والشعب، وأول رئيس لمجلس الشورى.
١٩  راجع نص القانون في: وزارة العدل، النشرة التشريعية ١٩٥٦م.
٢٠  رفعت المحجوب: حتى لا نضل الطريق إلى الجامعة، الأهرام ١٧  /  ٥  /  ١٩٦٧م.
٢١  إحسان بكر: مناقشة مفتوحة لسياسة التعليم الجامعي، الأهرام ٨  /  ٥  /  ١٩٦٧م.
٢٢  إحسان بكر: مناقشة مفتوحة لسياسة التعليم الجامعي، الأهرام ٩  /  ٥  /  ١٩٦٧م.
٢٣  عثمان سرور: الدور الرائد لأساتذة الجامعة، الأهرام ١٤  /  ٥  /  ١٩٦٧م.
٢٤  حديث صريح مع الدكتور عزت سلامة، الأهرام ١٩  /  ٥  /  ١٩٦٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥