الفصل السادس

الجامعة والحركة الوطنية

كانت الجامعة دائمًا منارًا للعمل الوطني في وقت اشتد فيه أُوارُ الحركة الوطنية الرامية إلى تحقيق الاستقلال التام، ومقاومة الاتجاهات الأوتقراطية للقصر. ورغم أن طلبة الجامعة كانوا طليعة العمل الوطني بحكم انتمائهم إلى الطبقة الوسطى التي حملت لواء العمل السياسي المضاد للاحتلال البريطاني منذ فجر الحركة الوطنية، إلا أنهم لم يمثلوا وحدهم الجامعة في ساحة العمل الوطني، بل شاركهم في ذلك أعضاء هيئة التدريس بالجامعة — في حدود ما سمحت به أوضاعهم الوظيفية — بالتوجيه أحيانًا، وبالعمل المباشر أحيانًا أخرى.

ويرجع فضل تنظيم الطلبة كقوة فعالة في مجال العمل الوطني إلى الزعيم مصطفى كامل باشا الذي اهتم بتنظيم صفوف طلبة المدارس العليا لدعم الحركة الوطنية بتأسيس «نادي المدارس العليا» عام ١٩٠٥م، بهدف تنمية الوعي السياسي للطلبة، وتعبئتهم ضد الاحتلال البريطاني. وجاء الزعيم محمد فريد بك ليرعى هذه النواة للحركة الطلابية، ويطور دور الطلاب في الحركة الوطنية من خلال تنظيم الإضرابات وحركات الاحتجاج، والعمل بين صفوف الطبقة العاملة لتنظيمها وتعبئتها وراء حركة «الحزب الوطني». ولا عجب — إذن — أن نجد الطلبة في طليعة العمل الوطني خلال ثورة ١٩١٩م، يستوي في ذلك العمل العلني ممثلًا في تنظيم المظاهرات والإضرابات وتوزيع المنشورات، أو العمل السري الموجه ضد الإنجليز والمتعاونين معهم، والذي اتخذ طابع العنف.

وهكذا، عند تأسيس «الجامعة المصرية» كجامعة حكومية عام ١٩٢٥م من انضمام بعض المدارس العليا إليها، جاء الطلاب وأساتذتهم يحملون معهم خبرات النضال الوطني، وبصفة خاصة طلبة الحقوق الذين كانوا من أنشط العناصر الطلابية في العمل السياسي الوطني، كما حمل شباب الجامعة معهم هموم الوطن الذي كافح من أجل نيل حريته، فلم يجنِ إلا استقلالًا منقوصًا. ومع ما شابَ دستور ١٩٢٣م من أوجه القصور إلا أن الملك ضاق به، وعطَّله، ثم ألغاه؛ ليخلق بذلك قضية جديدة شغلت المصريين جميعًا، وبددت طاقات العمل الوطني، وهي قضية الديمقراطية والمطالبة بعودة دستور ١٩٢٣م. أضف إلى ذلك ما مُنيت به جولات المفاوضات المصرية-البريطانية من فشل ذريع وعجز عن رفع القيود التي تكبل الاستقلال الوطني، وبقاء السيطرة الأجنبية على الاقتصاد المصري، تلك السيطرة التي استظلت بحماية الامتيازات الأجنبية والمحاكم المختلطة.

ولما كان الطلاب ركيزة العمل السياسي؛ فقد حرصت الأحزاب السياسية على كسب طلبة الجامعة إلى صفها، وحقق الوفد نجاحًا ملحوظًا في هذا المجال، وزاحمه حزب الأحرار الدستوريين في ذلك، حتى بدأت تظهر الجماعات السياسية الأيديولوجية: الإخوان المسلمون، ومصر الفتاة، والتنظيمات الماركسية، فانتزعت من الوفد والأحزاب الأخرى بعض قواعدها الطلابية، وأصبح لها وجود مؤثر في الحركة الطلابية، وخاصة منذ النصف الثاني من الثلاثينيات حتى ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م. وبذلك كانت حركة طلاب الجامعة تدور حول محاور الأحزاب والجماعات السياسية المختلفة التي لعبت أدوارًا متفاوتة في حجمها وقيمتها على الساحة السياسية في مصر بين ثورتَي ١٩١٩م و١٩٥٢م.

وحاولت حكومات الأقلية الموالية للقصر أن تحدَّ من حركة طلاب الجامعة، وتقيم الحواجز في وجه النشاط السياسي للطلبة، من ذلك القانون رقم ٢٢ لسنة ١٩٢٩م الذي أصدرته وزارة محمد محمود باشا بضغط من الإنجليز، وهو القانون الخاص بحفظ النظام في معاهد التعليم، ونصت مادته الأولى على «أن يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز ستة أشهر أو بغرامة من عشرين إلى خمسين جنيهًا كل من استعمل القوة أو العنف أو الإرهاب أو التهديد أو المناورات أو الأعطية أو الوعود أو أي طريقة أخرى لدعوة تلاميذ وطلبة المدارس أو الكليات أو غيرهما من معاهد التعليم، إلى القيام بمظاهرات أو الامتناع عن الدروس أو مغادرة معاهد التعليم أو الانقطاع عنها، أو إلى تأليف لجان أو جماعات سياسية للطلبة أو الانضمام إليها، أو إلى حضور اجتماعات سياسية، أو إلى الاشتراك بأية طريقة كانت في تحرير أو توقيع أو طبع أو نشر أو توزيع محاضرات سياسية أو احتجاجات موجهة إلى السلطات بشأن مسائل أو أمور ذات صبغة سياسية.»١

ومن ذلك أيضًا، صرف أنظار الطلاب عن تدعيم المعارضة السياسية للانقلاب الدستوري عام ١٩٣٠–١٩٣٣م بتبني الحكومة وإدارة الجامعة لنشاط الطلاب الاجتماعي وتشجيعهم عليه، كمشروع القرش، وجمعية الطلبة لنشر الثقافة وغيرها.

ورغم ذلك ظل طلبة الجامعة يمارسون دورهم في العمل السياسي الوطني — بصورة أو بأخرى — طوال تلك الحقبة. غير أنهم كانوا أصحاب مبادرات سياسية هامة، شكلت نقطة تحول في العمل الوطني في مراحل حاسمة من تطوره. من ذلك انتفاضة الطلاب عام ١٩٣٥م التي فرضت على الأحزاب السياسية تكون «الجبهة الوطنية»، ومن ذلك — أيضًا — تكوين «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» عام ١٩٤٦م التي طرحت نفسها كقيادة سياسية بديلة للأحزاب التقليدية، ثم الموقف من هزيمة ١٩٦٧م.

(١) انتفاضة ١٩٣٥م وتشكيل الجبهة الوطنية

ساد التوتر الساحة السياسية المصرية مع مطلع عام ١٩٣٥م. فمنذ تولى الوزارة محمد توفيق نسيم باشا (١٤ نوفمبر ١٩٣٤م) تعلقت الآمال على استعادة دستور ١٩٢٣م، وخاصة عندما ألغت الوزارة الجديدة دستور ١٩٣٠م، غير أنها لم تتخذ قرارًا بعودة دستور ١٩٢٣م بضغط من القصر والإنجليز، ثم ما لبثت إيطاليا الفاشية أن غزت الحبشة، فاستاء المصريون لهذا العدوان وخشوا أن تزج بريطانيا بمصر في عمل عسكري ضد إيطاليا.

وفي ظروف صعبة كتلك الظروف، كان الأمر يتطلب توحيد صفوف القوى السياسية المختلفة وراء المطالبة باستعادة الدستور، وتحديد العلاقات مع بريطانيا من خلال التفاوض حول معاهدة تنهي وضع مصر المعلق منذ تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢م. غير أن الأحزاب السياسية شغلت بصراعاتها، وراح كل منها يزاحم الآخر في تصدر الحركة السياسة، وسعى كل منها — أيضًا — لجذب الطلبة إلى جانبه، فبذل الوفد والأحرار الدستوريون الجهد الأكبر في هذا المجال.

ووسط هذا الجو المليء بالمشاحنات السياسية ألقى وزير الخارجية البريطاني (السير صامويل هور) بيانًا أعلن فيه أنه عندما استشيرت الحكومة البريطانية في شأن دستور ١٩٢٣م، نصحت بعدم إعادته أو إعادة دستور ١٩٣٠م؛ لأن الأول ثبتت عدم صلاحيته لمصر، والآخر يتعارض مع رغبات المصريين (٩ نوفمبر ١٩٣٥م).٢ وجرح هذا التصريح المشاعر الوطنية للمصريين الذين أيقنوا أن بريطانيا تتدخل في أدق شئون بلادهم، وتحوَّل السخط الوطني المتراكم إلى انتفاضة كبرى أعادت إلى الأذهان حوادث ثورة ١٩١٩م.

وملَك طلبة الجامعة زمام المبادرة، فعقدوا اجتماعًا داخل حرم الجامعة بالجيزة في ذكرى عيد الجهاد (١٣ نوفمبر) أدانوا فيه موقف بريطانيا، ثم خرجوا من الجامعة في مظاهرة كبرى سلمية، فتصدى لهم البوليس طالبًا منهم الانفضاض، وعندما رفضوا ذلك، أطلق البوليس النار عليهم، فأصيب طالبان إصابة خطيرة، وأصيب عدد آخر منهم إصاباتٍ طفيفة، مع ذلك استمروا يهتفون بحياة مصر وحياة الاستقلال وحياة دستور الأمة.

وفي اليوم التالي (١٤ نوفمبر)، أعاد طلبة الجامعة تنظيم صفوفهم وخرجوا في مظاهرة كبرى صوب القاهرة، غير أن البوليس كان قد حشد قواته للحيلولة دونهم ودون الزحف على وسط القاهرة، فحاصر نحو الثلاثمائة طالب من المتظاهرين فوق كوبري عباس، وأطلق عليهم النار فقتل طالب الزراعة: محمد عبد المجيد مرسي، وجرح طالب الآداب محمد عبد الحكيم الجراحي جرحًا بالغًا، مات على أثره في اليوم التالي، وألقى القبض على عدد من الطلاب. وأصدرت إدارة الجامعة قرارًا بتعطيل الدراسة لمدة عشرة أيام تحاشيًا لتطور الموقف، ولكن دون جدوى، فقد استمر مجلس اتحاد طلاب الجامعة يقود الحركة وينظمها.

فأرسل اتحاد الطلبة برقية احتجاج إلى عصبة الأمم على تصريح وزير الخارجية البريطاني، وعلى اعتداء البوليس بقيادة الضباط الإنجليز على الطلبة، وأعلنوا عزمهم على متابعة الجهاد حتى يتحقق الاستقلال. ونظم طلاب الجامعة مظاهرة أخرى (يوم ١٦ نوفمبر) استخدموا فيها الحجارة والمقذوفات الزجاجية ضد البوليس، كان لطلبة الطب فيها دور ملحوظ، فجرح ضابط إنجليزي كبير في رأسه جرحًا بالغًا، كما أصيب طالب آخر برصاص البوليس هو الطالب على طه عفيفي (من دار العلوم) ومات في اليوم التالي متأثرًا بجراحه. وانتشرت المظاهرات الطلابية بعد ذلك في مختلف أنحاء القاهرة والمدن الكبرى. ونظم إضراب عام (يوم ٢٨ نوفمبر) حدادًا على الشهداء، فأُغلقت المتاجر بالقاهرة، واحتجبت الصحف وعُطلت المواصلات. وفي ٧ ديسمبر، أقام طلاب الجامعة في فنائها نصبًا تذكاريًّا تخليدًا لشهداء الجامعة، أُزيح الستار عنه في احتفال مهيب.

وتضامن أعضاء هيئة التدريس بالجامعة مع الطلاب، فعقد أساتذة كلية الآداب اجتماعًا (يوم ٢٦ نوفمبر) بحثوا فيه الأمر، وقدموا لمدير الجامعة ووزير المعارف مذكرة تضمنت رأيهم في الموقف ذكروا فيها أن الطلبة قاموا بمظاهرات سلمية قوبلت بالعنف الشديد، وأرجعوا أسباب القلق الذي يسود طلاب الجامعة إلى تدخُّل الإنجليز في شئون البلاد، وأعلنوا أنهم يلفتون أنظار الأمة وأولي الرأي فيها إلى أن مستقبل الوطن عامة والعلم والمتعلمين خاصة تتهدده الأخطار ما بقي هذا القلق متسلطًا على النفوس، وأن ما يسببه الإنجليز من القلق في مصر لا يلائم مصلحة مصر أو بريطانيا أو السلام العام. وكان تحرك أساتذة الآداب حافزًا لزملائهم في كليات الهندسة والحقوق والزراعة والتجارة على الاحتجاج على تصريح هور، والأسلوب الذي اتبع في مواجهة مظاهرات الطلبة.٣
كما كان للقضاء المصري موقف وطني مشرِّف من طلاب الجامعة الذين قُدِّموا للمحاكمة أمام محكمة عابدين الجزئية (يوم ٢٧ نوفمبر)؛ إذ أصدر القاضي حسين إدريس أحكامًا بالغرامة تتراوح بين عشرين قرشًا وجنيه واحد، وقال في حيثيات الحكم: «إن المتجمهرين جميعًا أو في أغلبيتهم الساحقة كانوا من طلبة أكبر معهد علمي في البلاد، وهم بطبيعة ثقافتهم وفطنتهم يدركون أن مظاهراتهم هذه لا تؤثِّر على السلطات في أعمالها ذلك التأثير الذي يقصده القانون.» ودلل القاضي على ذلك بأن هتافاتهم اقتصرت على الهتاف بحياة الملك والأمة والدستور. وأما عن تهمة استعمال العنف ضد البوليس، فقد بررها القاضي بأنها كانت دفاعًا عن النفس.٤ وقد أثارت تلك الأحكام ثائرة المندوب السامي البريطاني فضغط على الحكومة لإصدار تعليمات للقضاة بتوقيع أقصى العقوبة على الطلاب.
ولم تقتصر جهود طلبة الجامعة على المظاهرات الاحتجاجية، بل نظموا حركتهم من خلال تكوين لجنة أطلقوا عليها اسم «اللجنة العليا للطلبة»، انبعثت عنها لجان أخرى لتوجيه الدعاية الإعلامية للحركة، وتعبئة الرأي العام وراءها، والاتصال بالساسة والأحزاب، مع الحرص الشديد على استقلال حركتهم عن الأحزاب السياسية،٥ وراحوا يطوفون على زعماء الأحزاب السياسية يدعونهم إلى تكوين جبهة وطنية متحدة لإنقاذ البلاد.
ففي ٢١ نوفمبر، أصدرت «اللجنة العليا للطلبة» بيانًا ناشدت فيه جميع الهيئات السياسية الوقوف جبهة واحدة في وجه العدو الغاصب المطالبة بالاستقلال التام لمصر والسودان والتمسك بدستور ١٩٢٣م، فاستجاب زعماء الأحزاب — وخاصة أحزاب الأقلية — لهذه الدعوة، وجاءت الاستجابة الأولى من محمد محمود باشا رئيس حزب الأحرار الدستوريين، ثم اضطر الوفد وغيره من الأحزاب إلى قبول فكرة «الجبهة المتحدة» بعدما ازدادت ضغوط الحركة الطلابية.٦ وتطورت الأحداث بعد ذلك بالشكل الذي أدى إلى إعادة العمل بدستور ١٩٢٣م، ووصول الوفد إلى الحكم. وبذلك كان طلاب الجامعة قد نجحوا في تحريك الموقف السياسي بصورة إيجابية، وإن كانت الظروف الدولية قد دفعت بريطانيا إلى تهدئة الأمور؛ حتى تستطيع إبرام معاهدة مع وزارة مصرية تحظى بتأييد شعبي.

(٢) اللجنة الوطنية للطلبة والعمال (١٩٤٦م)

زادت الانتفاضة الطلابية عام ١٩٣٥م الأحزاب السياسية اقتناعًا بتدعيم ركائزها بين صفوف الطلبة، وكان للوفد القِدْح المُعَلَّى في هذا المجال، وإن كان النصف الثاني من الثلاثينيات قد شهد علوَّ مدِّ نشاط «مصر الفتاة» بين صفوف الطلاب، ثم «جماعة الإخوان المسلمين»، حتى كانت بداية الأربعينيات عندما نجحت المنظمات الماركسية في تحقيق وجودها بين صفوف طلبة الجامعة.

وخلال الحرب العالمية الثانية كانت الأحكام العرفية تحول دون قيام الطلاب بنشاط سياسي معارض بصورة علنية؛ ومن ثَمَّ بدأ النشاط السري يتخذ مواقعه بين طلاب الجامعة، وأصبحت المنشورات أداة النشاط للتعبير عن المواقف السياسية للطلبة الذين فقدوا روح الاتحاد التي جمعت بين صفوفهم في انتفاضة ١٩٣٥م، غير أنهم عادوا في نهاية الحرب يفرضون وجودهم على الساحة السياسية مطالبين بالاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية معًا، من خلال صيغة تنظيمية جديدة طُرحت كبديل للقيادات السياسية التقليدية.

فقد كانت مصر تعاني أزمة اقتصادية خانقة كنتيجة طبيعية لظروف الحرب التي حمَّلت مصر أعباء فوق طاقتها، وبسبب التضخم الذي أدى إلى زيادة تكاليف المعيشة زيادة كبيرة، وتفاقمت أزمة البطالة بين خريجي الجامعة وبين العمال على السواء، وأثبتت الحرب أن «معاهدة الشرف والاستقلال» التي أُبرمت مع بريطانيا عام ١٩٣٦م كانت قيدًا ثقيلًا على حركة مصر، وأنقصت من السيادة للوطنية؛ لذلك كان المصريون جميعًا يرون إلغاء المعاهدة والجلاء التام عن مصر والسودان، وحل المعضلة الاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية.

ولما كان طلاب الجامعة يعبرون عن ضمير مصر السياسي، وتمثل بينهم جميع التوجهات السياسية والأحزاب والهيئات السياسية الموجودة في مصر، فقد تهيَّئُوا للعب دور جديد فعال بعد أن وضعت الحرب أوزارها.

واتجه طلاب الجامعة إلى توحيد صفوفهم، فقامت لجنة سُميت «لجنة اتصال الشباب» — في سبتمبر ١٩٤٥م — ضمَّت الطلبة المنتمين إلى الحزب الوطني والوفد والأحرار الدستوريين والهيئة السعدية والكتلة الوفدية والإخوان المسلمين ومصر الفتاة وبعض المستقلين؛ لتحقيق وحدة الحركة الطلابية، ولكن يبدو أنهم لم يتفقوا على برنامج موحد للعمل. فعادوا إلى الانقسام، وخاصة عندما حاول الإخوان المسلمون، أن تكون لهم اليد العليا في أمور اللجنة.

ومع بداية العام الدراسي (أكتوبر ١٩٤٥م)، قامت محاولة أخرى لتكوين جبهة طلابية، لعب فيها الوفديون والشيوعيون الدور الأساسي في التنظيم، وتجاوزت دعوة الجبهة — هذه المرة — حدود الجامعة لتمتد إلى طلبة الأزهر والمعاهد العليا والفنية. فعُقد اجتماع بكلية الطب ضم ممثلين للطلبة، اتخذ قرارًا بتكوين «اللجنة التحضيرية للجنة الوطنية للطلبة». وحددت الجبهة الجديدة أهدافها بالنضال من أجل الاستقلال الوطني والتخلص من السيطرة الاستعمارية الاقتصادية والسياسية والثقافية والعمل على تصفية العملاء المحليين للاستعمار، وتوحيد القوى الوطنية المعادية للاستعمار، واعتبرت اللجنة التفاوض مع المستعمر حول حقوق الوطن جريمة لا تغتفر. واتفق المجتمعون على ضرورة تنظيم نضال الجماهير من خلال «لجان وطنية» تشكَّل لهذا الغرض بطريق الانتخاب. وبدءُوا التطبيق العملي لذلك بانتخاب «لجنة تنفيذية» منبثقة عن اللجنة التحضيرية، ضمَّت عناصر من شباب الطليعة الوفدية والمنظمات الماركسية، وبعض الإخوان المسلمين، وتولى رئاسة اللجنة التنفيذية الطالب الوفدي مصطفى موسى، وتولى السكرتارية ثلاثة من الطلبة الوفديين — أيضًا — هم: فؤاد محيِي الدين، وعبد المحسن حمودة، وعبد الرءوف أبو علم.

وكانت الحكومة المصرية قد أرسلت مذكرة رسمية إلى الحكومة البريطانية تدعوها إلى الدخول في مفاوضات لإعادة النظر في معاهدة ١٩٣٦م. فتأخر وصول رد بريطانيا مما أثار القلاقل السياسية، وعندما تسلمت الحكومة المصرية الرد (في ٢٦ يناير ١٩٤٦م) جاء الرد خاليًا من الإشارة إلى موضوع الجلاء، واقتصر على مراجعة المعاهدة في ضوء التجارب المشتركة مع مراعاة ميثاق الأمم المتحدة.

وأصدرت اللجنة التنفيذية للطلبة بيانًا، أبدت فيه رأيها في مذكرة الحكومة المصرية، فنعت عليها إغفالها الإشارة إلى دولية القضية المصرية، وانتقدت الرد البريطاني على المذكرة المصرية، وراحت تثير الشبهات حول نوايا بريطانيا، وطالبت الحكومة بعدم الدخول في مفاوضات إلا على أساس الجلاء، على أن يصدر بذلك تصريح رسمي من جانب الحكومة البريطانية، وطالبت الأحزاب المصرية بتحديد مواقفها في حالة رفض الحكومة البريطانية مبدأ التفاوض على أساس الجلاء ووحدة وادي النيل.

ثم وجهت اللجنة التنفيذية الدعوة إلى الطلبة لعقد مؤتمر عام في ٩ فبراير للنظر في الموقف الراهن، فعقد اجتماع كبير داخل الحرم الجامعي انتهى بإصدار بيان موجه إلى الملك، طالبوا فيه الحكومة برفض الرد البريطاني رفضًا قويًّا، وعدم الدخول في مفاوضات مع بريطانيا إلا بعد إصدارها تصريحًا رسميًّا تعترف فيه بحق مصر في الجلاء ووحدة وادي النيل، وطالبوا بسحب عبد الحميد بدوي باشا من وفد مصر في الأمم المتحدة بسبب التصريح الذي أدلى به ضد تدويل القضية المصرية، مما عده الطلاب ضارًّا بالقضية الوطنية.

وبعد المؤتمر، قرر الطلبة التوجه في مظاهرة كبرى إلى قصر عابدين لرفع مطالبهم إلى الملك. وكان البوليس قد أعد للأمر عدته منذ أعلنت اللجنة عن عقد المؤتمر، فما كاد الطلاب يصلون إلى كوبري عباس حتى وجدوه مفتوحًا، وهاجمهم البوليس من الخلف فأصيب الكثير منهم إصابات مختلفة.

وكما حدث عام ١٩٣٥م، أدت مواجهة المظاهرة الطلابية السلمية بالعنف إلى استمرار المظاهرات في اليوم التالي (١٠ فبراير)، وامتدادها إلى الإسكندرية والزقازيق والمنصورة وأسيوط، وتصدى لها البوليس بالقوة ليقع مزيد من الإصابات بين المتظاهرين الذين خرجوا للتظاهر في تلك المدن احتجاجًا على مأساة كوبري عباس.

وأرسلت اللجنة التنفيذية للطلبة مذكرة احتجاج إلى الملك على مواجهة الحكومة لهم بالعنف وعلى ما حدث يوم ٩ فبراير، وطالبوا بأن تصرَّ الحكومة المصرية على عدم التفاوض إلا على أساس الجلاء ووحدة وادي النيل دون قيد أو شرط، وحل المشاكل الاقتصادية حلًّا عاجلًا، والتوجه إلى مجلس الأمن لعرض قضية مصر في حالة رفض بريطانيا لمبدأ الجلاء، على أن تطالب الدول العربية بتأييد مصر تأييدًا رسميًّا.

وتضامن أعضاء هيئة التدريس بالجامعة مع الطلاب، فقدموا احتجاجًا على سياسة القمع التي انتهجتها الحكومة معهم، وطالبوا بإجراء تحقيق عاجل لتحديد المسئولية فيما وقع من حوادث أليمة. كما تضامن معهم اتحادات خريجي الجامعة وخريجي الأزهر. وكانت أحداث ٩، ١٠ فبراير موضع هجوم المعارضة على حكومة النقراشي باشا داخل مجلس النواب.

وقام الطلاب بتحطيم الزينات التي عُلِّقت على الجامعة بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاد الملك فاروق، وانتزعوا صورته وداسوها بالأقدام. وكان مقررًا أن يقوم الملك بزيارة الجامعة ووضع حجر الأساس للمدينة الجامعية، فأعلن الطلاب مقاطعة الزيارة، ولم يسمح بحضور الاحتفال إلا للطلبة الذين اختارهم الأمن بعناية من العناصر التي يطمئن إليها. وإزاء عجز الوزارة عن حفظ الأمن والنظام، لم يكن أمامها سوى الاستقالة، فقدَّم النقراشي باشا استقالة وزارته في ١٥ فبراير ١٩٤٦م، وكُلِّف الملك إسماعيل صدقي باشا بتشكيل الوزارة الجديدة.

واتبع صدقي باشا سياسة المهادنة، فسمح بالمظاهرات وأطلق سراح الطلاب المعتقلين، وكفَّت الحكومة عن مواجهة المظاهرات بالعنف. وفي نفس الوقت، راح يعمل على تفتيت جبهة الطلاب، وشق صفوفهم، فاستمال الإخوان المسلمين إلى جانب الحكومة، كما استمال بعدهم شباب مصر الفتاة؛ حتى يضرب الحركة الطلابية من داخلها. ولم يبقَ باللجنة الوطنية للطلبة سوى الوفديين والشيوعيين وبعض شباب الأحزاب الصغيرة الأخرى وبعض المستقلين.

ولعب الشيوعيون دورًا هامًّا في دعم اللجنة الوطنية للطلبة بالالتحام مع الحركة العمالية، فتكونت «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» غير أن ذلك لم يؤثِّر على دور الوفديين في اللجنة، فقد كانت قواعدهم الطلابية أوسع من قواعد الشيوعيين، بينما كان تأثير الشيوعيين — عندئذٍ — في الحركة العمالية أبعد مدًى من تأثير الوفد. وعلى كلٍّ، كانت اللجنة «جبهة وطنية» تكونت في ظروف تستدعي جمع الصفوف للنضال من أجل الجلاء ووحدة وادي النيل، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية، وجميعها مطالب لا يختلف عليها مصري واحد مهما كانت توجهاته ومعتقداته السياسية.

وأصدرت «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» بيانًا أعلنت فيه قرارها بأن يكون يوم الخميس ٢١ فبراير «يوم الجلاء» يقوم فيه المصريون بإضراب عام؛ استئنافًا للحركة الوطنية «التي تشترك فيها كل عناصر الشعب المصري متكتلة حول حقها في الاستقلال التام والحرية الشاملة»، ونادت بتعطيل الأعمال والمرافق العامة والمواصلات وإغلاق المحلات التجارية والمصانع ودور العلم في جميع أنحاء البلاد.

وفي يوم ٢١ فبراير ١٩٤٦م، استجاب الشعب للجنة استجابة كاملة، فشُلَّت حركة المواصلات وتوقفت جميع المصانع والمحال التجارية عن العمل، وأقفرت المدارس والكليات، وخرجت من الأزهر مظاهرة كبرى شاركت فيها الجماهير اتجهت إلى ميدان الأوبرا؛ حيث عُقِد مؤتمر شعبي اتخذ قرارات بمقاطعة المفاوضات وأساليب المساومة والتمسك بالجلاء عن وادي النيل، وإلغاء معاهدة ١٩٣٦م، واتفاقية ١٨٩٩م الخاصة بالسودان، وعرض القضية المصرية على مجلس الأمن.

ثم زحفت المظاهرة الكبرى إلى ميدان قصر النيل (التحرير الآن) حيث الثكنات البريطانية (موقع فندق الهيلتون الآن)، واتجه قسم منها إلى ساحة عابدين. وكانت المظاهرات تسير في نظام تام دون اعتداء على أحد ودون التعرض للممتلكات أو جنوح نحو التخريب، فإذا ببعض السيارات العسكرية البريطانية المسلحة تخترق الميدان وسط الجماهير فجأة لتدهم بعضهم تحت عجلاتها. وكان الردُّ الطبيعي من جانب المتظاهرين رجم الثكنات البريطانية بالحجارة، فردَّ الجنود البريطانيون بإطلاق الرصاص، فكانت مذبحة أثارت ثائرة الجماهير فأشعلوا النار في معسكر بريطاني بالميدان (كان يحتل موقع مبنى المجمع الآن) وبعض المنشآت العسكرية البريطانية الأخرى. وظلت المظاهرات والاضطرابات سائدة حتى منتصف الليل. وانتقلت المظاهرات التلقائية إلى جميع أحياء القاهرة دون استثناء، كما انتشرت في الإسكندرية والمدن الأخرى متخذة طابع العنف.

وأثار البيان الذي أعلنه صدقي باشا في المساء ثائرة الطلبة على وجه الخصوص؛ لوصف العمال بالدهماء واتهامهم بالتخريب، فأصدرت «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» بيانًا استنكرت فيه هذا الوصف والاتهام، واستمر تنظيم المؤتمرات والمظاهرات في الأيام التالية. وأعلنت اللجنة يوم (٢٥ فبراير) يوم حداد عام، فصدرت الصحف في ذلك اليوم مؤطَّرة بالسواد. وأعلنت اللجنة يوم ٤ مارس يوم حداد وإضراب عام، فاستجاب الجميع للدعوة، فاحتجبت الصحف عن الصدور في ذلك اليوم، وأقفرت الشوارع إلا من المتظاهرين وأُغلقت المصانع والمحلات التجارية والمدارس والجامعة. وحدث صدام بالإسكندرية بين الجنود الإنجليز والمتظاهرين سقط فيه ٢٨ من المتظاهرين قتلى وجُرح ٤٣٢ متظاهرًا، وقُتل جنديان بريطانيان، وجُرح أربعة جنود بريطانيين.

وتضامنًا مع الحركة الوطنية المصرية، وقع في نفس اليوم (٤ مارس) إضراب عام في السودان وسوريا ولبنان وشرق الأردن. وكان لمذبحة ٢١ فبراير أثرها في الحركة الطلابية العالمية، فقررت اعتبار يوم ٢١ فبراير «يوم الطلبة العالمي» تكريمًا لنضال الطلاب المصريين.٧

ولم تعمر «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» سوى بضعة شهور، فقد لجأت حكومة صدقي باشا إلى تشكيل لجنة أخرى من الإخوان المسلمين ومصر الفتاة سميت «اللجنة القومية للطلبة والعمال» استخدمتها الحكومة لشقِّ صف الحركة، دخلت في مصادمات مع اللجنة الوطنية داخل الجامعة وفي التجمعات العمالية. كما أن الخلافات بين عناصر الجبهة الوطنية التي شكلت اللجنة، وعدم العناية الكافية بمشكلات العمال، وغياب البرنامج الواضح، كل ذلك أدى إلى نهاية هذه التجربة السياسية التي كادت تقدم بديلًا حقيقيًّا للنخبة السياسية التقليدية لو كان باستطاعتها بناء تنظيم سياسي ديمقراطي جديد.

(٣) الاحتجاج على هزيمة ١٩٦٧م

لم ينتهِ دور الجامعة في الحركة الوطنية بانتهاء ذلك الدور الكبير الذي لعبه الطلبة في الحركة بعد الحرب العالمية الثانية، فقد استمر طلاب الجامعة وهيئة التدريس فيها يعبرون عن الضمير الوطني في السنوات السابقة على ثورة يوليو ١٩٥٢م، فكان لهم دور بارز في الأحداث التي ترتبت على إلغاء معاهدة ١٩٣٦م على يد حكومة الوفد عام ١٩٥١م، كما تطوع بعض طلاب الجامعة للمساهمة في حركة الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني في قناة السويس.

وخلال تلك الفترة (١٩٤٦–١٩٥٢م) كان النشاط السياسي داخل الجامعة قسمة بين الوفديين والشيوعيين والإخوان المسلمين كقوى سياسية أساسية، إلى جانب قلة من الطلاب سارت في ركاب الحزب الاشتراكي (مصر الفتاة)، وكان مظهر النشاط السياسي الوطني تنظيم المظاهرات والإضرابات في المناسبات الوطنية المختلفة، وخاصة عيد الجهاد (١٣ نوفمبر)، وعيد الطلبة (٢١ فبراير).

وظل النشاط السياسي محصورًا بين تلك القوى الأربع حتى قيام ثورة يوليو وتشكيل «هيئة التحرير» (يناير ١٩٥٣م)، فاستطاع التنظيم الجديد أن يستقطب بعض الطلبة، كما استقطب بعض أعضاء هيئة التدريس (على نحو ما رأينا من قبل). وحُسم الأمر بعد أزمة مارس ١٩٥٤م لصالح هيئة التحرير، فتم فصلُ العناصر النشطة سياسيًّا من الطلبة وأعضاء هيئة التدريس، وأصبح النشاط السياسي محظورًا داخل أماكن الدراسة، ولم يتم استئنافه إلا في الستينيات، غير أنه كان مقصورًا على أعضاء «الاتحاد الاشتراكي العربي» و«ومنظمة الشباب» أما العناصر السياسية الأخرى فاتجهت إلى العمل السري، وتعرضت للتصفية — من حين لآخر — على يد أجهزة الأمن.

حتى إذا كانت هزيمة يونيو ١٩٦٧م، وما كشفت عنه محاكمات بطانة المشير عبد الحكيم عامر من الفساد الذي استشرى في النظام، أخذ السخط يتراكم في صدور الجماهير وخاصة العمال وطلاب الجامعة. وعند إعلان أحكام قضايا التقصير والإهمال في سلاح الطيران التي اتهم فيها بعض الضباط (٢٠ فبراير ١٩٦٨م)، وكذلك أحكام ضباط المدرعات، أحسَّ الناس أن العقوبات التي جاءت بالأحكام لا تتناسب مع كارثة الهزيمة، فانفجرت براكين الغضب الشعبي التي بدأت بعمال المصانع الحربية بحلوان الذين خرجوا في مظاهرة عارمة متجهين إلى القاهرة، فتصدت لهم قوات الأمن بالرصاص (٢١ فبراير).

وعندما وصلت أنباء حوادث حلوان إلى الجامعة بعد ظهر نفس اليوم، اجتمع الطلاب بأحد مدرجات كلية الآداب، وشكَّلوا من بينهم لجنة لرفع رأيهم في الأحكام وفي أحداث حلوان، وظلوا مجتمعين حتى المساء، وحضر الاجتماع مدير الجامعة في محاولة لاحتواء الموقف وتجنب المضاعفات. واستمر الاجتماع إلى اليوم التالي رغم أنه كان عطلة رسمية (عيد الوحدة) حيث حضر وزير التعليم العالي وتناقش مع الطلاب على مدى أربع ساعات، طرحوا خلالها مطالبهم التي كانت تتصل باتحاد الطلاب والاتحاد الاشتراكي وإدارة الجامعة، وفوق ذلك كله أمر «النكسة»، ومسألة الأحكام. فوعد الوزير ببحث المطالب مع جهات الاختصاص، ورفع ما اتصل بالنكسة والأحكام إلى الرئيس جمال عبد الناصر.

وقد أصر الطلاب على رفع المطالب السياسية للرئيس؛ لأنهم كانوا يولونه ثقتهم التامة. وكانت المطالب محصورة في أمر النكسة — في بداية الأمر — والاحتجاج على الأحكام، ثم أخذت تتسع لتشمل الحريات العامة والديمقراطية واستقلال الاتحادات الطلابية. وكان من الممكن احتواء الموقف لو أبدت السلطة حسن نواياها تجاه الطلاب، غير أنه تم إلقاء القبض على بعض أعضاء اللجنة التي شكلها الطلاب، فانفجرت المظاهرات؛ حيث خرج طلبة الهندسة من كليتهم إلى حرم الجامعة، ثم انضم إليهم طلبة الكليات الأخرى، واتجهوا في مظاهرة كبيرة إلى كوبري الجامعة صوب وسط المدينة مطالبين بالإفراج عن الطلبة المعتقلين، مرددين شعارات التنديد بالهزيمة، مطالبين بمحاكمة المسئولين عنها، وبإطلاق الحريات العامة.

وتصدت قوات الأمن للطلاب عند مدخل كوبري الجامعة، كما تصدت لطلاب الطب الذي كانوا يتحركون في نفس الوقت لملاقاة زملائهم، رافعين نفس المطالب، مرددين نفس الهتافات. كذلك تزامنت حركة طلاب جامعة القاهرة مع طلاب جامعة عين شمس الذين خرجوا في مظاهرة كبيرة، قابلتها قوات الأمن بالعنف عند ميدان العباسية.

ورغم حصار قوات الأمن وعنفها في مواجهة المظاهرات الطلابية استطاع الطلبة اختراق حواجز الشرطة والوصول إلى وسط المدينة (ميدان التحرير وباب اللوق)؛ حيث ظلوا يرددون الهتافات الاحتجاجية، ويطالبون بالحريات حتى المساء.

وعند منتصف الليل، اتخذ مجلس الوزراء — برئاسة جمال عبد الناصر — قرارًا بإلغاء الأحكام التي صدرت، وإحالة القضية إلى محكمة عسكرية عليا أخرى، كما قرر تعطيل الدراسة بالجامعات والمعاهد العليا، ومنع المظاهرات وإغلاق المدينة الجامعية بالإسكندرية (بعد انضمام طلاب جامعة الإسكندرية إلى الحركة الاحتجاجية الغاضبة).

وفي محاولة لاحتواء الموقف، تمت الاستجابة لمطالب الطلبة الخاصة بإعطاء مزيد من الاستقلال والفاعلية وحرية الحركة لاتحاداتهم، والسماح للاتحادات بالعمل السياسي، وصدر قرار رئيس الجمهورية رقم ١٥٣٣ لسنة ١٩٦٨م بشأن تنظيم الاتحادات الطلابية منفذا لهذه المطالب، وبدأت الجامعة تموج بالحركة، وعاد الطلاب يعبرون عن الضمير الوطني لأول مرة منذ عام ١٩٥٤م. وأفرج عن جميع الطلبة المعتقلين، وكفت يد منظمة الشباب عن الجامعة، وسلطت الأضواء على اتحاد الطلبة.٨
وقد كانت حركة الطلاب المستقلة — في ذلك الحين — تمثل عصب حركات المعارضة السياسية والاجتماعية التي أفرزتها صدمة الهزيمة؛ إذ جاءت حركات المعارضة الأخرى رد فعل لها، مثل البيان الذي أصدره نادي القضاة في ٢٨ مارس ١٩٦٨م، وترددت فيه مطالب حركة فبراير الطلابية فيما يتعلق بإطلاق الحريات العامة.٩

وتطورت الحركة الاحتجاجية الطلابية تطورا ملحوظًا بعد وصول الرئيس أنور السادات إلى السلطة، ورفع الوصاية عن الطلبة وإلغاء الحرس الجامعي. وفي شتاء ١٩٧١م، أجريت أول انتخابات لاتحاد الطلبة بعيدا عن تدخل جهات الأمن، وطرح الطلاب شعارات سياسية ضد إسرائيل والمبادرات السلمية، وضد أمريكا، وطالبوا بالتدريب العسكري وحرب التحرير الشعبية، وبأن تكون معركة التحرير معركة الشعب والجيش معًا، وليست معركة الجيش وحده. وانتقد الطلاب في مجلات الحائط الرئيس السادات الذي كان قد أعلن أن عام ١٩٧١م هو «عام الحسم»، فضاقوا ذرعًا بجو اللاحرب واللاسِلْم، وخاصة أن الحالة على الجبهة لم تكن خافية عليهم، فقد بدأ التوسع — بعد الهزيمة — في تجنيد الجامعيين وكان على الجبهة — حينئذٍ — بعض من شاركوا في حركة فبراير ١٩٦٨م من الطلاب.

وبلغ السخط بين شباب الجامعة حد الانفجار، فاندلعت المظاهرات والإضرابات في يناير ١٩٧٢م، واستمرت أحد عشر يومًا، وتعددت البيانات التي أصدرتها اتحادات الطلاب على مستوى الكليات. وقد أجملت الوثيقة الطلابية التي أصدرتها «اللجنة الوطنية» التي شكَّلها طلاب جامعة القاهرة مبادئ الحركة في رفض الحل السلمي للصراع مع إسرائيل، واتخاذ التدابير اللازمة لوضع البلاد على طريق اقتصاد الحرب استعدادًا للمعركة، وتوجيه الطاقات الإنتاجية نحو خدمة المجهود الحربي، ووقف إنتاج السلع الترفيهية، وإتاحة فرصة التدريب العسكري للمواطنين جميعًا دون تمييز، وتكوين فرق ميليشيات شعبة ديمقراطية لامركزية، وإلغاء الرقابة على الصحف، وإطلاق حرية التعبير داخل الجامعة وخارجها، والإفراج عن الطلبة والعمال المعتقلين، وإعطاء مصر تأييدها المطلق لمنظمات المقاومة الفلسطينية.١٠

وكان الطلاب قد تحصنوا داخل حرم جامعة القاهرة، واعتصموا أيامًا تابعت حركتهم خلالها وكالات الأنباء العالمية، وأحس النظام بالخطر من احتمال امتداد السخط إلى الجامعيين من جنود الجبهة، وخاصة أن بعضهم شارك في حوادث فبراير ١٩٦٨م، فتقرر استخدام القوة مع المعتصمين. وفي الفجر، تم اقتحام الحرم الجامعي، واعتقلت قوات الأمن زعماء الطلبة، ونسبت إليهم سلطات الأمن تهمة الاتصال بجهة أجنبية وتلقِّي الدعم منها.

ونتج عن اقتحام قوات الأمن الحرم الجامعي، اندفاع الطلبة خارج أسوار الجامعة. واحتلوا ميدان التحرير؛ حيث تمكنت قوات الأمن من الانقضاض عليهم وتشتيتهم، وساد الهدوء الجامعة في ٢٦ يناير، ولكنه كان هدوءًا وقتيًّا؛ إذ استمرت عوامل السخط على الهزيمة وعلى السياسات التي أعدت لمواجهتها تفعل فعلها داخل الجامعة حتى كان الانفجار مرة أخرى في يناير ١٩٧٣م.

وركزت مظاهرات طلاب الجامعة هذه المرة على المطالبة بالإفراج عن المعتقلين، وإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم، وقمعت بنفس الطريقة التي قمعت بها في يناير ١٩٧٢م.

ولما كانت حركة طلاب الجامعة تعبر عن الضمير الوطني، فقد أيدها هذه المرة ستمائة من المثقفين والكتاب والصحفيين والفنانين، وقَّعوا على وثيقة عُرفت باسم «عريضة الكتاب» رفعوها إلى الرئيس السادات، وكان على رأس موقعيها الكاتب الكبير توفيق الحكيم. وأوضحت الوثيقة أن الشباب يشعر بتمزق نفسي؛ «لأنه لا ينتظرهم بعد التخرج إلا عدد غير محدود من السنين يقضونها في الجندية استعدادًا لمعركة تبدو أبعد وأبعد كل يوم»، وأيَّد أصحاب الوثيقة مطالب الطلبة في جملتها.١١

وإذا كانت حرب أكتوبر ١٩٧٣م قد غيرت ملامح الصورة بعد شهور قليلة، إلا أن حركة الاحتجاج على هزيمة ١٩٦٧م عبرت عن الأماني والتطلعات الوطنية للشعب المصري الذي أصابت الهزيمة كبرياءه الوطني بجرح عميق. وقدر لشباب الجامعة الذين شاركوا في تلك الحركة أن يشاركوا في تحقيق نصر أكتوبر ١٩٧٣م جنودًا وضباطَ احتياط.

وهكذا كانت الجامعة دائمًا مركز إشعاع للعمل الوطني، وقوة فاعلة فيه، فلم تتخلف عن المساهمة في الحركة الوطنية يومًا، ولم يتقاعس شبابها عن أداء واجبهم نحو وطنهم، ولم تَلِنْ عزيمتهم في مواجهة قوى الاستعمار والقهر والاستبداد، بل كانت لهم مبادراتهم الوطنية التي احتلت موقعًا بارزًا من تاريخ الحركة الوطنية المصرية.

(٤) الجامعة وآفاق المستقبل

بلغت جامعة القاهرة من العمر ثمانين عامًا كانت حافلة بالعطاء للمجتمع المصري وللأمة العربية، وما زال عطاؤها موصولًا في شتَّى المجالات، فنمت وتطورت على مر السنين، وطورت معها التعليم الجامعي في مصر والوطن العربي، وهي بعدُ لا تزال في شرخ الشباب تؤدي رسالتها وتضيف لبناتٍ جديدة إلى صرح التعليم الجامعي.

ولكن إيقاع التغير في مجتمعنا في السنوات الباقية من القرن العشرين، وآفاق المستقبل التي تبدو في الأفق مع بزوغ القرن الحادي والعشرين، يضع على عاتق الجامعة مهام جديدة، لا تقتصر على مواكبة التطور وملاحقته، بل التخطيط له وتحديد معالمه ورسم الطريق إليه. فدور الجامعة هو دور الريادة الفكرية والعلمية، وهو الدور الذي تمرست به جامعة القاهرة منذ إنشائها، فأصبح لزاما عليها إلا تتخلى عنه، أو تسقطه من حسابها، وعليها أن تهيِّئ نفسها دائمًا لارتياد آفاق المستقبل بالتخلص من السلبيات والمعوقات التي تقيِّد حركتها، وتعوق مسيرتها، وأن تجد حلولًا لمشكلات الأداء بمختلف جوانبها؛ حتى تؤدي رسالتها خير أداء، ولتعب دورها الاستراتيجي في التجديد ومواجهة تحديات المستقبل.

والمشكلات المتصلة بالأداء واضحة جلية في وظيفتَي الجامعة الأساسيتين: التعليم، والبحث العلمي، وهي مشكلات تحتاج إلى دراسة عميقة، وإلى رسم السياسات التي ترمي إلى البحث عن حلول عملية لها؛ حتى تستطيع الجامعة المضي في رسالتها الرائدة، وتتمكن من تقديم الخدمات المُثلَى للمجتمع.

(٤-١) مشكلات التعليم

ويأتي في مقدمة مشكلات التعليم الزيادة الكبيرة في أعداد الطلاب الجامعة التي لا تتناسب مع إمكاناتها المادية من حيث الاعتمادات المالية الخاصة بها، ونسبة أعضاء هيئة التدريس إلى الطلاب، وكفاءة المعامل وقاعات الدراسة والمكتبات، والمناهج الدراسية وطرق تدريسها، والقصور في التعليم العام السابق للجامعة.

وترجع الزيادة الكبيرة في أعداد الطلاب إلى اتجاه الدولة إلى الأخذ بمبدأ حق التعليم للراغبين فيه باعتباره حجر الزاوية في التنمية الاجتماعية؛ وتحقيقًا لتنمية الموارد البشرية التي تشكل — في مصر وغيرها من البلدان النامية — متطلبًا أساسيًّا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية؛ ولأن الموارد البشرية توازن النقص في الموارد الطبيعية وتحقق الاستفادة المُثلى بها. وهو اتجاه محمود يعد من الحسنات الباقية لثورة يوليو، فلم يعد التعليم الجامعي وقفا على القادرين وحدهم الذين يستطيعون تحمل نفقاته، وإنما أصبحت الفرص متكافئة بينهم وبين أبناء الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى والكادحين للالتحاق بالجامعة، وبذلك أصبحت الجامعة — الآن — تمثل المجتمع المصري تمثيلًا صادقًا، وتضم شبابًا من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية بنسب معقولة تقترب من نسبة كلٍّ منها في المجتمع.

ولكن التوسع في القبول بالجامعات كان نتاجًا لقصور في السياسات التعليمية التي كان من الواجب أن توائم بين خطط التنمية الاقتصادية والتعليم، فتضع في اعتبارها توجيه الطلاب إلى المعاهد العليا الفنية ذات الطابع التطبيقي لتسد حاجة البلاد إلى الفنيين، وتضع من نظم القبول بالجامعات ما يجعل التعليم الجامعي حقًّا لمن يتوفر لديهم الاستعدادُ له، مع المحافظة على مبدأ تكافؤ الفرص في قبول الطلاب بالتعلم الفني العالي وبالجامعة على السواء. ويرجع ذلك القصور في السياسات التعليمية إلى التركيز على التعليم العام وعدم العناية الكافية بالتعليم الفني في المرحلة الثانوية، وهو أمر يتطلب سياسة متكاملة تبدأ من التعليم الأساسي، وتتضمن من البرامج والمناهج ما يسمح بالتعرف على ميول التلاميذ وقدراتهم؛ ومن ثَمَّ توجيههم منذ المرحلة الإعدادية إلى ما يناسب هذه الميول والقدرات من مجالات التعليم العام. وبدلًا من الاستفادة بتجارب بلاد أخرى سبقتنا في هذا المضمار بقدر ما سبقنا في النمو والتقدم — كاليابان مثلًا — أصبح التعليم الأساسي حقل تجارب لنظريات تربوية جاءت من بعض بلاد الغرب، عجزت عن أن تلبي حاجات مجتمعنا وأدت إلى فساد التعليم الأساسي عندنا، فلم يكن هناك معيار لتوجيه الطلاب بعد المرحلة الابتدائية إلى مجالات الدراسة في التعليم العام سوى مجموع الدرجات، فاختص التعليم الفني المتوسط بأصحاب أدنى المجاميع، وزجَّ بالآخرين إلى التعليم العام الإعدادي فالثانوي؛ ليصطفُّوا أمام مكتب تنسيق القبول، ويتدفقوا على الجامعات، وخاصة أن التعليم الجامعي كان يضفي على صاحبه قدرًا من المكانة الاجتماعية.

ولما كان مجموع درجات الثانوية العامة وليس القدرات الشخصية للطالب قد اتخذ أساسًا للقبول بالجامعة؛ خشية الإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص وفتح الباب للتمييز بين الطلاب على أسُس بعيدة عن القدرات والاستعدادات الشخصية، وقطعًا للطرق على المحسوبية والفساد فقد ترتب على ذلك أنْ حُشر الكثير من الطلاب حشرًا في كليات عجزوا عن متابعة الدراسة فيها؛ لعدم توافقها مع ميولهم واستعدادهم الشخصي، فتنقلوا من كلية إلى أخرى، بل منهم من تعثر في دراسته مستفيدًا من قواعد ولوائح غريبة سمحت للطالب بأن يبقى في الكلية مدة تقرب من ثلاثة أضعاف المدة المقررة للحصول على البكالوريوس أو الليسانس.

ورغم الزيادة في أعضاء هيئة التدريس إلا أن تلك الزيادة لم تتناسب مع الزيادة الكبيرة في أعداد الطلاب، مما انعكس سلبيًّا على التدريس من حيث المستوى والأداء، فزاد الاتجاه نحو التلقين حتى ساد، وهبط مستوى الاستفادة من الدروس العملية لعجز المعامل عن توفير فرصة التطبيق للأعداد المتزايدة من الطلاب، وضاق نطاق حلقات البحث والمناقشة في الكليات النظرية. هذا فضلًا عن انتشار ظاهرة الكتب والمذكرات، وبروز مشكلة الدروس الخصوصية، وعدم توجيه الطلاب إلى استخدام مكتبة الطالب أو الاطلاع على المراجع الأساسية بمكتبة الجامعة.١٢

ولم يكن لذلك أثره على مستوى الخريجين ودرجة كفاءتهم فحسب، بل كان له أثره على نوعيات تخصصاتهم، فكانت هناك وفرة في بعض التخصصات وندرة في غيرها لعدم ارتباط القبول بالكليات بخطة التنمية وحاجة المجتمع إلى مختلف التخصصات.

ولا يمكن علاج القصور في أداء التعليم الجامعي إلا بإعادة النظر في نظام التعليم العام بمختلف مراحله، ولا يجب أن يتم ذلك بمعزل عن الجامعة؛ إذ يجب أن تسند مهمة وضع نظام جديد للتعليم العام بجميع مراحله إلى أساتذة الجامعة والمتخصصين في التربية إلى جانب خبراء التعليم، على أن يكون أساس العمل ما تقدمه الجامعة من مقترحات تهدف للتنسيق بين خطة التنمية والتعليم العام، وتضع أسُسًا جديدة لتوجيه التلاميذ إلى ما يناسب قدراتهم واستعداداتهم الشخصية من مجالات التعليم العام. ولن يفيد شيئًا تركُ هذه المهمة إلى لجان من خبراء وزارة التعليم وحدهم تطعَّم ببعض عناصر هيئة التدريس الذين يختارهم رجال الوزارة بأنفسهم وفق معايير، ليس من بينها توفر الرؤية الشاملة لأبعاد القضية، ويغلب عليها العلاقات الشخصية والمصالح الذاتية، وخاصة عندما يتصل الأمر بوضع مناهج جديدة أو تعديل مناهج قائمة وتأليف الكتب المدرسية. ولو تُرك هذا الأمر للمجالس الجامعية بالتعاون مع خبراء وزارة التعليم لكانت النتيجة أجدى، ولأمكن رسم استراتيجية للتعليم واقتراح ما اتصل به من سياسات تكفل وصول العناصر — التي يتوفر لديها الاستعداد — إلى التعليم الجامعي دون غيرهم.

وترتبط برسم الاستراتيجية التعليمية الجديدة، ووضع ما ارتبط بها من سياسات، ترك شروط القبول بالجامعة، للجامعة وحدها، تحددها وفق ظروفها، وتضع ما تشاء من الضوابط التي تكفل الحفاظ على مبدأ تكافؤ الفرص ورعايته، بحيث لا يقبل بالجامعة إلا الطالب المهيَّأ للدراسة بها. ويتصل بنظام القبول، إعادة النظر في اللوائح الخاصة بالامتحانات وفي نظم الامتحانات الحالية سعيًا وراء أكفأ النظم لتقييم الطلاب بصورة دورية على مدار العام الجامعي، فليس من المنطقي تقييم جهد عام كامل في سويعات معدودة قد يطرأ خلالها تغيير في ظروف الطالب الصحية أو النفسية أو الاجتماعية يؤثِّر على أدائه. كما يتصل بذلك أيضًا تضييق فرص البقاء للإعادة في سنوات الدراسة؛ بحيث لا يسمح للطالب إلا بفرص معادلة لسنوات الدراسة على أكثر تقدير.

ولتحقيق الأداء التعليمي الجيد، يجب مراجعة مناهج الدراسة بالجامعة بما يحقق تخليصها من الحشو وتمشيها مع التطورات العلمية والفكرية والحديثة، وبما يساعد على تكوين الطالب تكوينا معرفيا ملائما. ويجب أن تترك هذه المهمة لكل جامعة على حدة، وأن يكون القول الفصل فيها لمجالسها العلمية، فلا يدخل المجلس الأعلى للجامعات طرفا فيها أو ينفرد بحق إقرارها؛ حتى يتحقق التمايز العلمي بين الجامعات، فتتخلص من الطابع النمطي الذي وقعت في أسره على يد هذا المجلس. على أن يتم تحديد مقررات الدراسة في كل قسم مع إتاحة مجال الاختيار بين المقررات أمام الطالب وتحديد محتويات المقررات تحديدًا دقيقا مع عدد من المراجع المعتمدة التي يرجع إليها الطالب عند دراستها، ويلتزم عضو هيئة التدريس بهذا التحديد ويتخذه إطارًا لمحاضراته. كما أن اعتماد أكثر من مرجع للمقرر الواحد يقضي على ظاهرة الكتاب الواحد المقرر ويحل — تدريجيًّا — مشكلة الكتاب الجامعي، فيفرض المرجع الجيد نفسه، ويشجع الطلاب على استشارة مراجع متعددة.

كذلك يجب تغيير أسلوب التعليم، فلا تطغى المحاضرات والدروس النظرية على الدروس العملية وحلقات البحث والمناقشة، فيتعود الطلاب على التفكير وتنمو قدراتهم على إيجاد الحلول، ويتمرسون بالتطبيقات المنهجية، مع التوسع في التدريبات العملية في الإجازات الصيفية.

ويحتاج الأمر — بالضرورة — إلى العناية بمكتبة الجامعة والمكتبات الفرعية من حيث تزويدها بالمراجع والدوريات الحديثة، وتحسين الخدمة المكتبية وتحديثها، وإدخال نظام الاتصال الخدمي بين مكتبات الجامعة بعضها وبعض على أقل تقدير، والأخذ بالنظم الحديثة للإعارة بين المكتبات.

ولما كانت الوظيفة التعليمية للجامعة تمتد إلى بناء شخصية الطالب، يجب إعادة النظر — أيضًا — في الحياة الجامعية من حيث توفير المناخ الصحي للنشاط الثقافي والاجتماعي دون قيود أو وصاية أو تداخلات من جهات خارجة عن الجامعة، فيترك أمر هذا النشاط للاتحادات الطلابية. بذلك تبني الجامعة شخصية المواطن الحر القادر على تصريف أموره بنفسه في ثقة واطمئنان، وعلى بناء الرأي واتخاذ القرار، فلا ريب أن المواطن الحر المعنيَّ بأمور بلاده هو دعامة لأمة حرة واعية. ولا يجب أن تطفأ علينا مخاوف الخمسينيات والستينيات والسبعينيات؛ فالحياة الجامعية السوية التي يعبر فيها الطلاب عن أنفسهم بتلقائية ويلتحمون فيها مع أساتذتهم الذين يشاركونهم ألوان النشاط، لها نتائجها الإيجابية التي لمسناها في مصر قبل ثورة يوليو، والتي نلمسها في الجامعات الأجنبية، واللوائح الجامعية وحدها كفيلة بوضع الضوابط لهذا النشاط، بشرط أن تضعها الجامعة ولا تفرض عليها من سلطة إدارية.

(٤-٢) البحث العلمي

والوظيفة الثانية من الوظائف الأساسية للجامعة هي النهوض بالبحوث العلمية الأكاديمية منها والتطبيقية المرتبطة بواقع المجتمع للإسهام في حل مشكلاته، فتتحقق زيادة الإنتاج ورفع معدلات، وزيادة وتنمية موارد الثروة القومية.

والجامعة تمارس هذه الوظيفة من خلال الدراسات العليا، وبحوث أعضاء هيئة التدريس التي تتم بالتعاون مع الهيئات الأخرى المختصة بالبحوث مثل أكاديمية البحث العلمي والمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وغيرها من الهيئات العلمية. كما تحقق الجامعة التواصل العلمي مع الجامعات الأجنبية وهيئات البحث العلمي فيها من خلال اتفاقيات التعاون والقنوات المشتركة والبعثات والمؤتمرات العلمية. وفي السنوات الأخيرة، أنشأت جامعة القاهرة عددًا من مراكز البحوث والدراسات المتخصصة التي ألحقت بكلياتها المختلفة.

ولم تقتصر الدراسات العليا على إعداد الباحثين وكوادر أعضاء هيئة التدريس لجامعة القاهرة وحدها، بل امتدت لتشمل إعداد العناصر العلمية اللازمة لهيئة التدريس بالجامعات الإقليمية والجامعات العربية وهيئات البحث العلمي المختلفة في مصر والعالم العربي.

ورغم هذه الإنجازات الهامة في مجالات الدراسات العليا والبحوث التي حققتها جامعة القاهرة، إلا أن هناك قصورًا في الأداء يتمثل في عدم وجود استراتيجية واضحة لها ترسم الخطط، وتحدد القضايا والمشكلات التي تتطلب البحث والدراسة. فالأقسام العلمية أسقطت هذا الأمر من اعتبارها رغم أنه من مهامها الرئيسية، وكذلك فعلت الكليات، وأصبح الأمر متروكًا للمبادرات الفردية للأساتذة والأساتذة المساعدين، كل منهم يوجه تلاميذه نحو دراسة الموضوعات التي تدور في دائرة اهتمامه الشخصي دون ربط أو تنسيق حتى بين أصحاب التخصصات المختلفة داخل القسم الواحد، وأحيانًا لا يتم التنسيق بين أصحاب التخصص الواحد داخل القسم. وتهمل معظم الأقسام إقامة حلقات النقاش (السمنار) للدراسات العليا فيها؛ حيث يتم التواصل العلمي بين المشتغلين بالتخصص الواحد من هيئة التدريس والطلاب، ويتم تبادل الخبرات وإرساء التقاليد العلمية الراسخة. وقليل من الأقسام والكليات يهتم بعقد الندوات والمؤتمرات.

والمسألة هنا ليست مسألة إمكانيات مادية، فإقامة (سمنار) منتظم بشكل دوري لا يتطلب مالا بقدر ما يتطلب اهتمامًا وإحساسًا بالواجب نحو التخصص والجامعة، وإيمانًا بأهمية العمل الجماعي لتطوير الدراسات العليا والبحوث. ولا تعدم الكليات سبيلًا لتوفير الاعتمادات اللازمة لإقامة ندوة أو مؤتمر في حدود ما تسمح به إمكاناتها؛ حيث يستطيع أصحاب التخصص تبادل الخبرات على نطاق أوسع، وحيث تتجمع الجهود بدلًا من بعثرتها على هذا النحو.

وتحتاج الدراسات العليا والبحوث إلى التعرف بشكل منتظم على كل جديد في التخصصات المختلفة في عالم يتطور فيه العلم بإيقاع سريع، ويحقق إنجازات جديدة مع كل إشراقة شمس. ومن ثم كان توفر قنوات المعلومات أمرًا أساسيًّا بالنسبة لهذا الجانب من وظيفة الجامعة يتطلب إقامة اتصال مع بنوك المعلومات العالمية، وقبل ذلك وفوق ذلك، يتطلب الحصول على الدوريات العلمية المتخصصة بصورة منتظمة والحصول على أحدث المراجع، وهو مالا توفره مكتبة الجامعة بإمكاناتها المحدودة ونظامها العتيق، وما يحتاج إلى تركيز للاهتمام. وليس خفيًّا أنَّ هناك قصورًا واضحًا في التعرف على الجديد في التخصصات وفي طرق البحث ومناهجه، مرجعه إلى تخلف مكتبة الجامعة وغياب قنوات المعلومات وهو قصور يتطلب علاجًا حاسمًا بتوفير الاعتمادات اللازمة بالعملات الصعبة لسدِّ هذا النقص الخطير والمعيب.

وتستطيع الجامعة أن تتخذ من «مجلس الدراسات العليا والبحوث» أداة لدراسة وإعداد استراتيجية واضحة للدراسات العليا والبحوث في الجامعة والتنسيق بينها في كليات الجامعة ومعاهدها، مع توسيع نطاق تمثيل الكليات فيه، فيمثل كل كلية أستاذ يختاره مجلسها في كل عام إلى جانب وكيل الكلية للدراسات العليا. وفي المادة (٣٥) من قانون تنظيم الجامعات رقم ٤٩ لسنة ١٩٧٢م من الصلاحيات لهذا المجلس ما يكفي للنهوض بالدراسات العليا لو طبقت تطبيقًا فعليًّا. وكذلك الحال بالنسبة للجنة الدراسات العليا المنبثقة عن مجالس الكليات، ولمجالس الكليات أيضًا. ولا يجب أن يقتصر عمل هذه المجالس على تسجيل الرسائل ومنح الدرجات، بل لا بد أن يمتد إلى رسم السياسة العامة للدراسات العليا والبحوث والتنسيق والمتابعة.

أليس غريبًا أن الجامعة لم تفطن — بعد ثمانين عامًا من عمرها المديد — إلى ضرورة إصدار دليل سنوي (على أقل تقدير) بالبحوث الجارية، والبحوث التي تمت وما توصلت إليه من نتائج؟ لقد حاولت بعض الكليات أن تفعل ذلك في بعض السنوات بجهود فردية وبمبادرات لبعض وكلاء الدراسات العليا فيها أو عمدائها، ولكن الجامعة نسيت هذه المهمة التي توفر حدًّا أدنى من التنسيق، وتحول دون بعثرة الجهود في بحوث قد تقوم بها بعض الأقسام المتناظرة في الجامعة الواحدة.

ثم هناك مسألة هامة تتصل بالتواصل العلمي مع الهيئات العلمية الدولية من خلال حضور المؤتمرات في مختلف التخصصات، وهي نوافذ يطل منها أعضاء هيئة التدريس على آخر التطورات فيما يتصل بتخصصاتهم. فكثيرًا ما يتلقى عضو هيئة التدريس دعوة لحضور مؤتمر علمي ولا تستطيع الجهة الداعية تحمل نفقات السفر والإقامة، فلا تقدم الجامعة إلا جانبًا من قيمة تذكرة السفر، ويصبح على عضو هيئة التدريس الذي يريد أن يواكب التطور العلمي ليفيد جامعته أن يدفع ما يوازي نصف مرتبه السنوي أو أكثر قليلًا ليحظى بحضور المؤتمر، مما يترتب عليه — غالبا — فقدان فرصة حضور المؤتمر. ولا ريب أن حضور المؤتمرات العلمية الدولية ينعكس إيجابيًّا على الدراسات العليا والبحث العلمي بالجامعة، مما يتطلب توفير الاعتمادات المالية اللازمة له، إن شئنا مواكبة التطور في التخصصات العلمية المختلفة.

وثمة مسألة أخيرة تتعلق بالدراسات العليا والبحوث هي الحاجة إلى العناية بإعداد أعضاء هيئة التدريس ورفع كفاءتهم العلمية، وتلافي بعض السلبيات سالفة الذكر يحقق جانبًا من هذا الهدف؛ فالنهوض بالدراسات العليا تخطيطًا وتنسيقًا وأداء ومتابعة والاهتمام بالبعثات والقنوات العلمية المشتركة يضمن الإعداد الجيد للمعيدين والمدرسين المساعدين. ولكن يبقى الاهتمام برفع المستوى العلمي لعضو هيئة التدريس، وهنا يجب الأخذ بنظام منح دراسات ما بعد الدكتوراه حتى يتوفر للمدرسين فرصة تعميق دراستهم في التخصص الدقيق بدلًا من أثقال كواهلهم بأعباء التدريس، واستنزاف طاقتهم دون إتاحة الفرصة أمامهم لاستكمال تكوينهم العلمي.

ويرتبط بهذه المسألة ضرورة تحديد التخصصات الدقيقة لمختلف فروع التخصص بالأقسام العلمية بتحديد هياكلها، فلا يترك الأمر مشاعًا كما يحدث الآن في بعض الأقسام العلمية، وكما نلاحظ في اللجان العلمية الدائمة؛ حيث تتشعب بحوث المرشحين للترقية إلى الدرجات الجامعية الأعلى وتتوزع على عدد من فروع التخصص، مما ينتج عنده تشتيت جهد الباحث الذي يرتاد مجالات تخصصات دقيقة لم يُعد لها الإعداد الكافي من قبل، فتكون السطحية سمة غالبة على أعمال أمثال هؤلاء المرشحين الذين لا يتقدم المستوى العلمي — لبعضهم — قَيدَ أُنمُلة عن مستواهم عند الحصول على الدكتوراه، ومردُّ ذلك إلى عدم الاهتمام بتحديد التخصصات الدقيقة داخل فروع التخصص بالأقسام العلمية. ولا يجب أن يكون هذا التحديد يستهدف تسكين تخصصات أعضاء هيئة التدريس في فروع معينة، ولكن يجب أن يكون الهدف منه الحرص على استكمال مختلف التخصصات الدقيقة وإدخال ما تفتقر إليه الأقسام العلمية منها؛ حتى يرقى مستوى الدراسات العليا والبحوث عندنا إلى المستوى العالمي. ويرتبط بتحديد التخصصات تحديد التخصص الدقيق لعضو هيئة التدريس الذي يجب عليه أن يحصر جهوده العلمية في إطاره بدلًا من تشتيت الجهود في أبحاث تدور في دائرة التخصص الواسع فلا تضيف جديدًا إلى المعرفة والعلم.

ويرتبط بكفاءة أعضاء هيئة التدريس وضع الضوابط والمعايير الدقيقة للشروط الواجب توفرها عند الترقية للدرجات الأعلى، بما في ذلك المعايير الخاصة بأعضاء اللجان العلمية الدائمة التي تنظر في ترقية أعضاء هيئة التدريس، فلا يجب أن يدخلها من رفضت اللجان إجازة أعماله من قبل بسبب ضعف مستواها العلمي، أو من كان حصولهم على درجاتهم خارج إطار التقييم العلمي للجان، أو من رُقُّوا بتقارير رجحت الترقية بالكاد، فمثل هؤلاء ليس لديهم الأهلية العلمية لتقييم أعمال أعضاء هيئة التدريس. وللأسف أصبح لهؤلاء — بحكم الحرص على تمثيل الجامعات جميعًا في اللجان — وجود مؤثر في بعض اللجان العلمية، جعلهم يصولون ويجولون في غيبة معايير علمية واضحة لقياس مدى ما تضيفه الأعمال العلمية للمرشحين من جديد ووجه الابتكار فيها؛ لذلك يجب أن يراعى في اختيار أعضاء اللجان العلمية الدائمة الكفاءة وحدها، فيدخل في الاعتبار التاريخ العلمي للعضو وما أضافه من إنجازات في تخصصه، وحجم مساهمته في الدراسات العليا كمًّا وكيفًا … إلى غير ذلك من معايير تتصل بالكفاءة العلمية، وصولًا إلى توفير الضمانات لمستوى من يرقون إلى درجتَي الأستاذ المساعد والأستاذ، وقطعًا للطريق على من يدخلون في اعتبارهم عوامل لا تتصل بالعلم من قريب أو بعيد عند تقييمهم لأعضاء هيئة التدريس.

وعندما تصبح الكفاءة والقدرة على الابتكار والإضافة إلى التخصص هي السبيل للوصول إلى الدرجات العليا في سلك هيئة التدريس، سوف يصبح التنافس العلمي أداة لتطوير البحث العلمي، مما ينعكس إيجابيًّا على دور الجامعة في خدمة المجتمع، وعلى مستوى الدراسات العليا من الناحية الكيفية بصورة واضحة.

وحتى لا نطالب الناس بما لا قبل لهم به، يجب أن تتاح لأعضاء هيئة التدريس فرص متكافئة للحصول على منح التفرغ لدراسات ما بعد الدكتوراه وعلى فرص الإيفاد إلى الخارج في مهام علمية أو حضور المؤتمرات العلمية الدولية والمشاركة في أعمالها. كما يجب أن نجد حلًّا لتخفيف أعباء التدريس المتزايدة التي تقع على كواهلهم بتوسيع قاعدة هيئة التدريس، وإن نجد حلًّا للاتجاه نحو الانتدابات بالسعي لاستكمال هيئة التدريس بالجامعات الإقليمية وربط التوسع فيها بالقدرات التدريسية المتوفرة لها. وتبقى مشكلة المشاكل التي تلعب دورًا خفيًّا في الهبوط بمستوى أعضاء هيئة التدريس من الناحية العلمية، ونعني بها الإعارات الخارجية. فغياب عضو هيئة التدريس أربع أو خمس أو ست سنوات متصلة عن قسمه العلمي وعن جامعته يؤثِّر سلبيًّا — بلا ريب — على أدائه وقدراته، بل وعلى إنتاجه العلمي. ويكفي للتحقق من ذلك مراجعة تقارير اللجان العلمية الخاصة بفحص حالات من تقدموا للترقية بعد قضاء سنوات في إعارة خارجية للتأكد من مدى تأثر غياب العضو عن النشاط العلمي بجامعته على مستوى ما يتقدم به من أبحاث أجريت في ظروف لا تتوافر فيها الظروف الملائمة للبحث العلمي. وسوف نكتشف أن المسألة تبلغ حد الخطورة بالنسبة للمدرسين الذين يعارون بعد ثلاث سنوات من التعيين أو الأساتذة المساعدين الذين يعارون عشية ترقيتهم إلى هذه الدرجة، فلا تتوفر لهذا أو ذاك الفرصة الكافية للتكوين العلمي. وعلاج هذه المسألة الخطيرة يقتضي تحسين الأوضاع المادية لأعضاء هيئة التدريس تحسينًا ملموسًا، يكفل الاستقرار لهم ويساعدهم على التفرغ للبحث العلمي مع الحد من عدد سنوات الإعارة.

•••

وهكذا تحتاج الجامعة إلى تطوير أدائها لوظائفها الأساسية في ضوء حصاد مسيرة الأعوام الثمانين من عمرها؛ حتى تتهيأ للحفاظ على ريادتها للمجتمع — باعتبارها عقله المفكر في الاتجاه صوب القرن الحادي والعشرين وما يحمله لها ولمصر والوطن العربي من تحديات. وهذا التطوير المطلوب لا يتحقق إلا من خلال استراتيجية للتعليم تقوم الجامعة بلعب الدور الأكبر في صياغتها، وحتى تستطيع ذلك لا بد من إطلاق طاقاتها من عقالها وتخليصها من القوانين واللوائح التي تربطها بالمؤسسات الإدارية أو تضعها تحت إشرافها. أو بعبارة أخرى، لا بد أن تنال الجامعة استقلالها.

وتحديات المستقبل تتمثل في قدرة الجامعة على استيعاب إعداد الطلاب الذين من المتوقع أن تتضاعف أعدادهم مع مطلع القرن القادم، مع مراعاة أحداث نوع من التوازن بين متغيرات الكم والكيف، وتتمثل أيضًا في مقدرتها على تطوير برامج الدراسة بما يتواءم مع متطلبات المجتمع والتنمية، وتحقيق التوازن بين متطلبات الفرد ومتطلبات المجتمع، وبين التعليم والبحث العلمي وخدمة المجتمع. كما أن عليها أن تتكيف مع التغيرات التكنولوجية سريعة الإيقاع والتغيرات في التخصصات وطرق ومناهج البحث.

ولا يقتصر الدور المستقبلي للجامعة على مواكبة التطور التكنولوجي العالمي، ونقل التكنولوجيا العالمية المتقدمة، بل عليها أن تستنبط تكنولوجيا وطنية، تلائم ظروف المجتمع وتتوافق مع حاجاته، وتخطيط البحوث العلمية في ضوء خطة التنمية لحل ما يعترضها من مشكلات حلولًا قائمة على تطويع التكنولوجيا لخدمة المجتمع في محاولة للتخلص من التبعية التكنولوجية للخارج على نحو ما فعلت اليابان، وما تفعله الهند. ويعني ذلك التوسع في الدراسات العليا والبحوث بما يطلق طاقات الإبداع الفكري والعلمي والفني، ويحدد معالم طريق النهوض بالمجتمع في القرن القادم بعد سنوات.

فإذا نجحت الجامعة في مواجهة هذه التحديات وغيرها من تحديات المستقبل، ظلت تحتفظ بريادتها الفكرية والعلمية، وحققت ما تعلقه عليها مصر والوطن العربي من آمال كبار. فقد كان قيام الجامعة في العقد الأول من هذا القرن تعبيرًا عن أمل المصريين في تحقيق التقدم والتنمية، وتطوير الجامعة وتهيئتها لمواجهة تحديات المستقبل يعبر عن أمل هذا المجتمع في غدٍ أفضل.

تُرى هل تقبل جامعة القاهرة — أم الجامعات العربية — التحدي، وتحقق أمل أمتها المعقود عليها؟ لا ريب أنها قادرة على ذلك لو صحت العزائم وخلصت النوايا، وإن غدًا لناظره قريب.

١  أحمد محمد حسن وآخر: مجموعة القوانين واللوائح، ج١، ص٦٥٨.
٢  عبد الرحمن الرافعي: في أعقاب الثورة المصرية، ج٢، القاهرة ١٩٤٩م، ص٢٠٠.
٣  سامية حسن: الجامعة المصرية ودورها في الحياة السياسية، ص٢٧٢.
٤  نفس المرجع، ص٢٧٠.
٥  محمد حسين هيكل: مذكرات في السياسة المصرية، ج١، ص٣٨٧.
٦  سامية حسن: المرجع السابق، ص٢٧٤–٢٧٨.
٧  للمزيد من التفاصيل حول «اللجنة الوطنية للطلبة والعمال» راجع: طارق البشري: الحركة السياسية في مصر ١٩٤٥–١٩٥٢م، القاهرة ١٩٧٢م، ص٩٢–١١٥، شهدي عطية الشافعي: تطور الحركة الوطنية المصرية ١٨٨٢–١٩٥٦م، القاهرة ١٩٥٧م، ص٩٨–١٠٩، سامية حسن: المرجع السابق، ص٤٢١ وما بعدها.
٨  عادل حمودة: الهجرة إلى العنف، سينا للنشر، القاهرة ١٩٨٧م، ص١٠٩–١٢٣.
٩  مصطفى كامل السيد: المجتمع والسياسة في مصر، دور جماعات المصالح في النظام السياسي المصري ١٩٥٢–١٩٨١م، دار المستقبل العربي، القاهرة ١٩٨٣م، ص٣٠.
١٠  المرجع السابق، ص٣٢.
١١  عادل حمودة: المرجع السابق، ص١٣٣–١٣٥.
١٢  في دراسة أجراها قسم المكتبات في كلية الآداب حول المترددين على مكتبة الجامعة تبين أنهم يبلغون نحو ٢٩ في الألف من جملة عدد طلاب الجامعة؛ وذلك اعتمادًا على سجل أسماء الزائرين، مع ملاحظة أن هذا السجل لا يعطي دلالة على الاطلاع، فقد يدخل الطالب إلى المكتبة لإلقاء نظرة على الفهارس مثلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥