الفصل الثاني

طرق البحث في علم النفس

استعان علم النفس في تكوينه بطرق كثيرة، ولا نستفيد من هذه الطرق في بحثنا عن مسائل الآراء والمعتقدات، فسيرى القارئ من ذكرها مختصرةً أننا لا نستطيع أن ننتفع بها في مباحثنا إلا قليلًا.

(١) الطريقة الروحية

الطريقة الروحية هي أقدم طريقة استعملت في البحث في النفس، وقد امتد دور تطبيقها وحدها زمنًا طويلًا؛ فالمفكر — حسب هذه الطريقة — كان يختلي في غرفة مطالعته متجردًا عن العالم الخارجي؛ فيفكر في نفسه، وفيما استنبطه من النتائج في الكتب.

لا شك في أنه ظهرت في القرن السابق طرق علمية أحسن من الطريقة الروحية، ولكنها غير مثمرة مثلها، وإليكها:

(٢) الطريقة النفسية الجثمانية

لما ظهرت هذه الطريقة ظُنَّ أنه سيكون لها مستقبل مجيد لتطبيقها حوادث الجسم على أحوال النفس، ولكن سرعان ما بدا للعلماء ضيق دائرتها؛ إذ لم تطبق تلك الحوادث إلا على أبسط الأحوال النفسية؛ كسرعة المؤثر العصبي، والزمن الضروري لانعكاس الحركة، والنسبة العددية بين التهييج والحس … إلخ، على أن أمورًا كهذه هي بالحقيقة عضوية قلما ينتفع بها علم النفس.

(٣) طريقة المراكز الدماغية

تسعى هذه الطريقة إلى إسناد أي خلل في وظائف النفس إلى ضرر يقع في أحد الأعصاب، على هذه الصورة ظُنَّ أن في الدماغ مراكز هي مصدر أي عمل نفسي، إلا أنه قد غُضَّ النظر عن تلك المراكز الآن، حتى التي لاح منها أنه ثابت صحيح؛ كمركز النطق ومركز الخط.

(٤) طريقة الفحص والاختبار

ظل النجاح حليف هذه الطريقة وقتًا طويلًا، حتى إن المختبرات النفسية لا تزال مملوءة بآلات توزن بها الحركات التي يُظَن أنها ذات علاقة بالعقل والذكاء، وقد طبع عدد غير يسير من الرسائل في البحث عن هذه الحركات، فسلَّم بما جاء فيها بضعة علماء مشهورين، والرسالة التي نشرها أحد أنصار هذه الطريقة المتأخرين باحثًا فيها عن الرياضي (هنري بوانكاره) تدلنا على أن حظ علم النفس من الطريقة المذكورة ضئيل إلى الغاية، ولذا أهملت تمامًا في الوقت الحاضر.

(٥) طريقة درس الأمراض النفسية

هذه الطريقة هي التي أتت أكثر من غيرها بوثائق على النشاط النفسي اللاشعوري، وعلى التصوف والتقليد، وانحلال شخصية الإنسان … إلخ، وهي على رغم كونها حديثة في تطبيقها فقد علمها أكابر الكتاب والروائيين السابقين ﮐ (شكسبير)، حقًّا لقد اكتشف هؤلاء — لما فيهم من دهاء عظيم ونظر ثاقب — حوادث لم يعينها العلم إلا أخيرًا، فاطلعوا على أن (مكبث) متهوس، و(عطيل) مصاب بالصرع، و(هملت) سكِّير استحوذت عليه وساوس الخوف، والملك (ليار) سخيف سوداوي ذو جنون غير مطبق. ومما يجب ملاحظته هو أنه لو كان هؤلاء الأشخاص المشهورون في حالة اعتدال بدلًا من أن يكونوا ذوي نفسية مختلة مذبذبة لما اهتم الأدب والفن بأمرهم.

(٦) طريقة القياس النفسية

مع اكتفاء هذه الطريقة الحديثة — حتى الآن — بالبحث عن الغرائز، وعن قليل من الانفعالات البسيطة، فإنه يظهر أنها ستكون إحدى الطرق المعتبرة في المستقبل. يقول أنصارها: إنه لا بد من فحص أحوال الحيوانات الدنيا لفهم نفسية الإنسان، غير أن هذا البيان لم ينل بعد ما يستحقه من الحظوة عند علماء النفس الذين يزعمون وجود فرق قاطع بين عقل الإنسان وبين عقل الحيوان الذي هو دونه، فهم على عكس الطبيعة التي لا تعرف مثل هذه الفروق القاطعة، فقد قطعنا الدور الذي كان (ديكارت) يعد فيه الحيوانات آلات متحركة.

ومع ذلك فإن تطبيق الطريقة المذكورة كثير المصاعب؛ إذ نشاهد أن حواس الحيوانات ومشاعرها تختلف عن حواسنا ومشاعرنا، ثم إن من يود أن يكتنه الحيوانات فعليه أن يلاحظ حركاتها وسكناتها ملاحظة وثيقة دقيقة، ولمَّا كان هذا العمل شاقًّا، فإن علم نفس الحيوان — حتى العليا — لا يزال في المرحلة الأولى.

والطريقة التي اتخذناها في هذا الكتاب للبحث عن الآراء والمعتقدات يشعر القارئ من الطرق التي ذكرناها آنفًا بأنها لا تصلح لبيان تكوين الآراء والمعتقدات وتطورها، ولذلك فإننا مضطرون إلى الاستعانة بطرق أخرى. لقد حللنا — بعد أن درسنا ما هو مرتع لنفوذ المعتقد من ذكاء، ومشاعر، ولاشعور … إلخ — المعتقدات الدينية والأخلاقية … إلخ، باحثين عن عللها وأسبابها القاهرة، ومن تاريخ الماضي والحوادث اليومية الحاضرة تتكون مقومات موضوعنا، فالمعتقدات العظيمة هي في الغالب تراث الماضي، والذي يجلب النظر فيها كثيرًا هو كونها حافلة بالمستحيلات التي يرفضها العقل النظري، وعندما نوضح كيفية اعتناقها يظهر لنا أن الرجل المتعلم والعالم الذي تعود مناهج المختبرات الدقيقة يفقد في ميدان المعتقد كل ما فيه من ملكة انتقاد، ويؤمن بالمعجزات، وسيكون لنا في البحث عن مظاهر السحر والشعوذة بينات قاطعة في هذا الموضوع، وسوف نرى أن كثيرًا من مشاهير علماء الطبيعة زعموا أنهم عاشوا بين الأشباح، وأن أحد أكابر الأساتذة في علم وظائف الأعضاء قصَّ أنه استحضر الأموات وحادثهم، وأن أستاذًا آخر ليس أقل فضلًا منه قال مؤكدًا إنه رأى مقاتلًا لابسًا خوذة خرج من جسم فتاة تامَّ الأعضاء، كما دل على ذلك فحص دورته الدموية وآثار تنفسه.

تثبت لنا هذه الحوادث أن العقل عاجز عن التأثير في أكثر المعتقدات خطأً، ولكن لماذا يبدو من الإنسان مهما تكن تربيته سذاجة متناهية عندما يدخل في ساحة المعتقد؟ قد سعينا لاكتشاف هذا السر في توسيعنا نطاق البحث، فدرسنا مصدر الحركة في أنواع الحيوان؛ فظهر لنا أن ما أتى به العلماء من إيضاح لم يكن ناقصًا أو لاغيًا إلا لمحاولتهم تطبيق مناهج المنطق العقلي على حوادث لم يملها العقل أبدًا، ثم بدا لنا أنه يوجد في حركات الحياة المعقدة — كما في عالم اللاشعور الذي هو باعث الحركة الحقيقي — انتظام لا تأثير للعقل فيه، ولا يمكن تعيينه بألفاظ غير صريحة كلفظ «الغريزة» مثلًا.

وبتوغلي في هذه المواضيع تحققت وجود أنواع منطقية هي — مع ما بينها وبين المنطق العقلي من تباين — أرفع أو أدنى منه بحسب الأحوال، على هذه الصورة استطعت أن أضم إلى المنطق العقلي الذي علم منذ القديم، والمنطق العاطفي الذي بحث عنه منذ بضع سنين، أنواعًا منطقية جديدة قد تتنضد، وقد تتصادم مغيرة أوضاع نفسيتنا، والذي يسيطر منها على دائرة المعرفة لا علاقة له بالمعتقدات أصلًا، وهذا هو السر في كون العالم ذي الفكر النير قد يأتي بآراء عقلية متناقضة حسب وجوده في دائرة المعرفة، أو في دائرة المعتقد.

وليس علينا أن نطالب علم النفس المزاول إيضاح تلك المسائل، فقد ذكر علماء النفس؛ ولا سيما (ويليام جيمس) «أن علمًا يدب الانتقاد النظري في جميع مفاصله لسريع العطب»، ثم قال: «إننا ننتظر وميضًا ينفذ ظلام الحقائق النفسية الأساسية.» ونحن مع كوننا لا نشاطر تمامًا رأي هذا المفكر الشهير قوله: «إن كتب علم النفس لا تحوي سوى سلسلة من الحوادث التي لم تلاحظ بدقة، ومماحكات عنيفة، ونظريات تنم على الثرثرة»، فإننا نعترف معه «أن علم النفس المُزاوَل لا يشتمل على قاعدة نستنبط منها نتيجة كما يستنبط المعلول من العلة».

إذن فإننا نحاول بناء نظرية في تكوين الآراء والمعتقدات وتطورها على أرض مكتظة في الظاهر، وهي بكر في الباطن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤