الفصل الأول

عوامل الحركة

اللذة والألم

(١) شأن اللذة والألم

اللذة والألم هما لسان الحياة المادية والمعنوية، وعنوان الكدر والصفاء في الأعضاء، وبهما ترغم الطبيعة الحيوان على الإتيان بأعمال يستحيل الوجود بدونها، وعليه فإن اللذة والألم دليلان على حال معنوية باطنية — أي معلولات لعلل — كما أن الأعراض نتيجة لمرض.

ومن الشعور باللذة والألم تتكون قوة الإحساس، ومن هذه القوة تشتق حياة الإنسان المادية والمعنوية، ويكون لسان الأعضاء المعبر عنه باللذة والألم متجبرًا بنسبة ما يقتضي من الحاجات، ومن هذه الحاجات ما هو قاهر غير ممهل كالجوع مثلًا.

الجوع هو أشد الآلام هَولًا، والحب هو أكثر اللذات تغلبًا، وقد نقول كما قال الشاعر الكبير (شيلر): «إن قوام العالم هو الجوع والحب!» وأما أنواع اللذة والألم الأخرى فهي عوامل أقل سطوة وشدة، ولذلك أخطأ (شوبنهاور) حيث قال: «إنه يمكن إرجاع جميع العوامل التي تحرك الإنسان إلى ثلاث: الأثرة، والخبث، والرحمة.»

وقد أنكر بعض الفلاسفة في هذه السنين شأن اللذة والألم في حركاتنا، قال (ويليام جيمس): «لا تأثير لهما في انفعالاتنا، فمن الذي يعبس للتلذذ بالعبوس؟ ومن الذي يتنفس للتلذذ بالتنفس؟» فإقامة الحجة على هذه الصورة أمر غير صحيح، فالإنسان لا يتنفس للتلذذ بالتنفس، وإنما يتنفس درءًا للألم الناشئ عن قطع النَّفَس، وكذلك فإنه لا يعبس للتلذذ بالعبوس، وإنما يعبس عند كدره الذي هو من أنواع الألم.

(٢) صفات اللذة والألم المتقطعة

لا استمرار في اللذة والألم، فمن طبيعتهما الوهن السريع، ولا يحدثان إلا ليكونا غير مُطبقين، فإذا استمرت اللذة فلا تبقى لذة، وينقص الألم إذا اتصل ولم ينقطع، وقد يصير نقصان الألم لذة.

وعليه، فاللذة ليست لذة إلا إذا لم تتصل، ولا تكون اللذة معروفة إلا إذا قيست بالألم، وقول بعضهم وجود لذة أبدية كلام خالٍ من كل معنى كما ذكر أفلاطون؛ فالآلهة — على رأي أفلاطون — لا تعرف الألم، ولذلك فإنها لا تشعر باللذة.

وتقطُّع اللذة والألم هو نتيجة ناموس عضوي قاضٍ بجعل التبدل أساس الإحساس، فنحن لا نشعر بالأحوال إذا اتصلت، ولكننا نشعر بالفروق بين الأحوال التي تقع في آنٍ واحد، أو التي تقع متوالية مترادفة، فطقطقة الساعة مهما تعلُ لا تلبث ألا تُسمع، والطحان لا يفيق من جعجعة رحاه، بل من انقطاعها، ولهذا السبب فإن اللذة بامتدادها تصبح غير لازمة ما لم تنقطع، وسرعان ما يصير نعيم الفردوس الذي يحلم به المؤمنون غير جاذب إذا لم يتنقلوا مناوبةً من النار إلى الجنة ومن الجنة إلى النار.

واللذة أمر نسبي تابع للأحوال؛ أي إن ألم اليوم قد يصبح لذة في الغد، والعكس بالعكس، فيصير ألم الرجل الذي أُكرِه على أكل كسرات خبز يابسة بعد أن تغذى غذاءً وافرًا لذةً إذا تُرك أيامًا في جزيرة جرداء على أن يأكل من تلك الكسرات.

وقد أصاب المثل العامي القائل: «إن الإنسان يتمتع باللذة التي تروقه حيث يجدها.» فلذة العامل الذي يشرب صاخبًا في الحانة تختلف عن لذة المتفنن والعالم والمخترع والشاعر — وقتما يجدُّون في أعمالهم — اختلافًا كبيرًا، ولا ريب في أن اللذة التي حصلت ﻟ (نيوطن) من اكتشافه سنن الجاذبية هي أعظم من اللذة التي تحصل له لو انتقلت إليه نساء كثيرات من نساء الملك سليمان.

ويظهر لنا شأن اللذة والألم ظهورًا واضحًا عندما نتخيل الأرواح التي يعتقد وجودها المؤمنون بأكثر الأديان، فلما كانت هذه الأرواح عاطلة من الحواس والمشاعر فإنها لا تبالي باللذة والألم، ولا تعرف شيئًا من بواعث حركتنا، وما كان يقلقها من أكدار أحبائها وشدائدهم لا يؤثر فيها، ولا تشعر لهذه العلة بحاجة إلى مناجاتهم، ومن هنا نقول: إن وجود هذه الأرواح وهمٌ لا أساس له.

(٣) الرغبة نتيجة اللذة والألم

اللذة والألم يورثان الرغبة؛ أي الرغبة في بلوغ اللذة واجتناب الألم، فالرغبة هي المحرك الأساسي للإرادة، والباعثة على العمل.

والرغبة هي التي توحي إلى الإرادة التي تكون بدونها معدومة، وعلى نسبة الرغبة تكون الإرادة قوية أو ضعيفة، ومع ذلك لا يجوز خلط الإرادة بالرغبة كما فعل كثير من الفلاسفة ﮐ (شوبنهاور)، و(كوندياك)، فإذا كانت الرغبة مصدر كل ما يراد فإنه يُرغب في أمور كثيرة لا تراد، فالإرادة تتضمن التأمل والقصد والتنفيذ؛ أي تستلزم أحوالًا شعورية لا يُرى مثلها في الرغبة.

الرغبة هي مقياس القيم، وهذا المقياس يختلف باختلاف الأزمنة والأمم، فمَثَل الأمة الأعلى هو عنوان رغبتها؛ إذ الرغبة باستيلائها على قوة الإدراك في الإنسان تحول طرز تصوره وآرائه ومعتقداته، ولقد أصاب الفيلسوف (سبينوزا) حيث قال: «نرى الأشياء مليحة برغبتنا لا ببصيرتنا.»

ولمَّا لم تكن قيمة الأشياء بنفسها فإن الرغبة هي التي تمنحها قيمة، وتكون هذه القيمة على نسبة ما في الرغبة من شدة، وأكبر دليل على ذلك تحول قيمة الآثار الفنية، وعلى رغم كون الرغبة منبع كل جهد، وحاكمة الإنسان المطلقة، وسبب آلهته، وموجدة مثله الأعلى؛ فإنه لا تمثال لها في المعابد القديمة، والمصلح الكبير (بوذا) وحده هو الذي أدرك أن الرغبة هي المهيمنة على الأشياء، وأنها مصدر الحركة في الناس، وقد حاول لتحرير البشر من بؤسها وسوقه إلى راحة سرمدية أن يقضي عليها، ومع خضوع ملايين الناس لشريعته فإنه لم يقدر على خضد شوكتها.

حقًّا لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون رغبة، نعم قد يكون في عالم الأفكار — الذي تصوَّره أفلاطون — جمال رائع ونماذج خالدة، ولكن بما أنه لم تُحْي هذا العالم نفخة رغبة فإن أمره لا يهمنا.

(٤) الأمل هو اللذة المرجوة

الأمل ابن الرغبة لا الرغبة نفسها؛ إذ هو عبارة عن استعداد نفسي يجعل الإنسان يعتقد إمكان تحقيقه ما فيه من رغبة، فقد يرغب المرء في شيء دون أن يأمله، فعلى قلة من يأملون الثروة نرى جميع الناس يرغبون فيها، وكذلك العلماء فإنهم يرغبون في اكتشاف علة علل الحوادث مع أنهم لا يأملون أن يصلوا إليه، وقد تقترب الرغبة من الأمل في بعض الأحيان فتختلط به، فالإنسان في لعبة الدولاب يرغب في الربح ويأمله.

ويمكننا أن نعرِّف الأمل باللذة المرجوة. وفي الغالب يكون الأمل في دور الرجاء أشفى للغلة منها في إنجازه، وسبب ذلك واضح؛ فاللذة المنجزة تكون محدودة مقدارًا وزمانًا مع أنه لا حدَّ لما يوجبه الأمل من أحلام، ولم يوجد سلطان الأمل وفتنه إلا لاشتماله على ما في اللذة من ممكنات، فهو عصا سحر قادرة على تحويل كل شيء، وهذا هو سر كون دعاة التجدد لم يفعلوا سوى إقامة أمل مكان آخر.

(٥) العادة هي ناظمة اللذة والألم

العادة هي ناظمة الحس، فهي سبب الاستمرار في أفعال الإنسان لثلمها حد اللذة والألم فيه، وبها يألف أشد المصاعب، ويتحمل أعظم الجهود، والطفل بتأثيرها يتعود تعب الحياة عندما يُكرِهه سن العزلة على العيش تحت سماء الشمس.

والعادة التي هي ناظمة حياة الفرد هي دعامة الحياة الاجتماعية أيضًا، والأمر الشاق في حياة الأمة هو أن تبتدع لنفسها عادات اجتماعية، وألا تجمد إزاء هذه العادات؛ إذ إنه عندما تثقل وطأة العادات زمنًا طويلًا على الأمة لا تتخلص من ربقتها إلا بثورات عنيفة؛ ولذلك وجب ألا يطول الوقوف عند حد العادة، فالمدنيات والأفراد والأمم الشائخة هي التي إلى الرزوح تحت أثقال العادة وقتًا كبيرًا، ومن العبث أن نتكلم في شأنها كثيرًا، فلقد جلبت نظر جميع الفلاسفة، وصارت تُعتبر حكمة قومية.

قال (باسكال): «ماذا تكون مبادئنا الفطرية إذا لم تصدر عن العادة؟ فالعادة هي طبيعة ثانية تقوِّض أركان الأولى، ومنها نأخذ أشد أدلتنا قوةً، وأكثرها فيضًا، وهي التي تعين وجهة النفس دون أن يفكر الإنسان في ذلك، وبها يصبح الإنسان نصرانيًّا أو وثنيًّا أو تركيًّا أو محترفًا أو جنديًّا … إلخ، ثم بها تستعين النفس وقتما تعثر على مكان الحقيقة.»

ولو أن قدرة خارقة جعلت الإنسان أو الشعب يهرب من تأثير العادة لأصاب الفالج حياته فجأة؛ لأن العادة هي التي تملي علينا كل يوم ما يجب أن نقوله ونفعله ونفكر فيه.

(٦) اعتبار اللذة والألم حقيقتين نفسيتين أساسيتين

حاول الفلاسفة أن يزعزعوا ما في الإنسان من يقين، وأن يثبتوا أنه لا يعلم من العالم غير الظواهر، غير أن هنالك حقيقتين ليس باستطاعة أحد أن ينقضهما؛ وهما اللذة والألم، فمنهما تشتق حركة البشر ونشاطه، وإليهما يستند ما تَعِدُ به الشرائع الدينية والدنيوية وتتوعد به من ثواب وعقاب، وجنة وجحيم.

ويظهر الألم واللذة في الإنسان منذ ما تدب الحياة فيه، فبقوة الحس لا بالفكر يشعر الإنسان بوجوده، ولو قال (ديكارت): «أشعر ولذلك فإني موجود» بدلًا من قوله: «أفكر ولذلك فإني موجود»، لكان قوله أقرب إلى الحقيقة؛ لأن دستوره إذا تبدل على هذا الوجه يُطبق على جميع الناس لا على فريق وحده.

ومن هاتين الحقيقتين يمكن استنباط فلسفة حياتية عملية، وبهما يجاب جوابًا صائبًا عن السؤال الذي جاء مكررًا في سِفر سليمان، وهو: لماذا يشتغل الإنسان ويسعى كثيرًا مع أن الموت ينتظره، والأرض ستخمد يومًا ما؟

الإنسان يسعى لأنه يجهل المستقبل، ولأن الطبيعة في الحال ترغمه على البحث عن اللذة والفرار من الألم، فالفاعل الذي يضنيه العمل، والراهبة التي لا تجزع من القروح، والمبشِّر الذي ينكِّل به الهمج، والعالِم الذي يكدح في حل مسألة، والمِكروب الصغير الذي يميد متحركًا في قطرة ماء، لا يكابدون ما يكابدونه إلا بتأثير عاملين: جذب اللذة، وخوف الألم.

لا حركة بغير هذين الباعثين، ولا نتصور وجود بواعث أخرى غيرهما على رغم اختلاف الألفاظ، فحب الجمال والحرب والتدين والشهوات إن هي إلا أمور صادرة عن مصدر عضوي واحد، ولا تلبث حركة البشر أن تزول بزوال ذَيْنِكَ العاملَيْن اللذين لا ريب فيهما: اللذة، والألم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤