الفصل السادس

انحلال الخلق وتقلبات الذات

(١) التوازن بين عناصر الخلق

بينَّا أن عناصر الخلق راسخة رسوخ العناصر التشريحية، والآن نقول: إنه قد يصيب الأولى ما يصيب الثانية من أمراض مختلفة حتى الانحلال التام، فلهذه الأحوال تأثير عظيم في تكوين الآراء والمعتقدات، ويظل إدراك بعض الحوادث التاريخية ممتنعًا إذا لم نقف على ما يقع في الخلق من تبدل عرضي.

وسوف نرى في فصل آخر أن العوامل التي تصدر عنها آراؤنا ومعتقداتنا وأفعالنا هي مثل العيارات الموضوعة على كفتي الميزان؛ فالكفة التي تثقل عياراتها تهبط. غير أن الأمور لا تجري تمامًا على هذا الوجه البسيط، فقد تتزيف العوامل التي اتخذنا العيارات رمزًا لها بتأثير بعض المعكرات، حينئذ يتغير الإحساس، وينتقل مقياس القيم، ويتحول اتجاه الحياة فتتجدد الذات.

نشاهد تلك التقلبات على الخصوص عندما يطرأ اختلال عظيم على ما بين البيئة الاجتماعية التي تغيرت فجأة وبين المشاعر من توازن، والوقوف على التوازن بين البيئة التي تكتنفنا، والعناصر التي نتألف منها إنما هو على جانب عظيم من الأهمية؛ فهذا التوازن لا يختص بعلم النفس وحده، بل يتناول علم الكيميا، وعلم الطبيعة، وعلم الحياة أيضًا، فالجسم — سواء أكان جمادًا أم كان من ذوات الحياة — ينشأ على توازن بينه وبين بيئته، ويتبدل هذا الجسم بتبدل البيئة، فقد يمكن سبيكة الفولاذ أن تصبح بخارًا خفيفًا إذا كانت في بيئة ملائمة.

وكذلك فإن أقطاب السياسة يقدرون عند الحاجة على تغيير ما بين عناصر الخلق القومي من توازن؛ وذلك بجعلهم ما هو ملائم منها لمقتضيات الزمن يتغلب على الأخرى.

(٢) تقلبات الذات

تَبيَّن من الملاحظات السابقة أن الذات قد تتحول، وتشتق هذه الذات — كما رأينا — من عاملين لازمين؛ هما الموجود نفسه ثم بيئته. والقول بأن ذات الإنسان متحولة لا يلائم الأفكار التقليدية التي تزعم ثبات الذات ووحدتها.

حقًّا إن ذات الإنسان تتألف من خليات لا يحصى عديدها، فكل خلية تشترك في تكوين وحدة الذات اشتراك الجندي في تكوين وحدة الجيش، والتجانس الواقع بين الألوف من الرجال الذي يتألف الجيش منهم ناشئ عن اتحاد حركتهم الذي قد تقضي عليه علل كثيرة.

ولا طائل تحت الادعاء بأن الذات تظهر ثابتة على وجه العموم؛ فالذات إذا لم تتغير فذلك لعدم تحول البيئة الاجتماعية، ولو تحولت البيئة فجأة — كما يقع أيام الفتن — لتبدل الأشخاص أنفسهم تمامًا، فقد شوهد في دور الهول الأكبر رجال من أبناء الطبقات الوسطى اشتهروا في الماضي بدماثة أخلاقهم ولين طبائعهم قد أصبحوا سفاكين متعصبين، وعندما هدأت الزوبعة وعادت البيئة السابقة رجعت إلى أولئك الرجال شخصيتهم السلمية، ولقد فُصِّلت هذه النظرية منذ زمن بعيد، فأُثْبت أن حياة رجال الثورة الفرنسوية تظل سرًّا غامضًا بدونها.

وما هي عناصر الذات التي تتركب شخصية الإنسان من مجموعها؟ لا يزال علم النفس غير مجيب عن هذا السؤال؛ وأما نحن فنقول: إن عناصر الذات تنشأ عن شخصيات موروثة تكونت بتعاقب القرون، فالذات — هي كما ذكرت — مؤلفة من ملايين من محاي خلوية، ومن هذه المَحَايي تتكون أطوار كثيرة.

فبعض المهيجات الشديدة، أو بعض الأمراض كالتي تشاهد في الوسطاء والُمنَوَّمين … إلخ تحوِّل تلك الأطوار وتولِّد — ولو مؤقتًا — في الرجل نفسه شخصية أخرى أرفع أو أدنى من شخصيته المعتادة، فنحن نشتمل على ممكنات خلفية هي أعظم مما نطيقه عادةً، وتحركها فينا بعض الحوادث والأحوال.

(٣) عناصر الثبات في الذات

تتألف من البقايا والفضلات التي تنتقل إلينا بالوراثة طبقة خلقية عميقة ثابتة، وبهذه البقايا الإرثية يختلف الإنكليزي عن الفرنسوي أو الصيني اختلافًا كبيرًا، إلا أنه ينضم إلى هذه الموروثات عناصر مصدرها التربية والبيئة الاجتماعية؛ كالطائفة، والقبيلة، والمهنة، وغيرها من المؤثرات الكثيرة، فهذه العناصر هي التي تعيِّن وجهة الإنسان تعيينًا ثابتًا.

وأكثر العناصر التي تتكون الذات من مجموعها فعلًا — بعد العرق — هي التي تتعرف بها الجماعة التي ننتسب إليها، فلما صُبَّت أفراد هذه الجماعة — عسكرية كانت أم قضائية، أم كهنوتية، أم نوتية … إلخ — في قالب واحد من الأفكار والآراء والسلوك، فإنهم يكونون ذوي أخلاق متجانسة. وإذا تقاربت آراء هؤلاء وأحكامهم بوجه عام فذلك لأن زمرتهم الاجتماعية بتسويتها بينهم جعلت شذوذ أي واحد منهم أمرًا لا يطاق، فمن يريد أن يمتاز من جماعته تناصبه هذه الجماعة العداء برمتها.

ولا يخلو استبداد الطبقات الاجتماعية من فائدة كما سنبين ذلك، فأين يجد أكثر الناس انتحاءهم النفسي الضروري إذا لم تكن آراء الجماعة التي هم منها وسيرها دليلًا لهم؟ إنهم — بفضل الزمرة التي ينتسبون إليها — يملكون طرزًا في السير، والدفع على شيء من الثبات، وبفضل هذه الزمرة أيضًا نرى لأرباب الطبائع الهينة وجهة وقرارًا في الحياة.

ويحتوي الناس بانتمائهم إلى إحدى الجماعات على قدرة لا يحلم بها الرجل وهو منفرد أبدًا، فلم تكن مذابح الثورة الفرنسوية الهائلة صادرة عن أعمال فردية، وإنما أتى بها مقترفوها — من جيرونديين، ودانطونيين، وهيبريين، وروبسبيريين — وهم على شكل جماعات تطاحنت تطاحنًا تجلَّى فيه ما هو خاص بالجماعات من تعصب أعمى، ووحشية شديدة.

(٤) صعوبة التنبؤ بما ينشأ عن الخلق من سير وحركة

لا يدعينَّ أحد أنه يعرف ذاتًا غير متقبلة أو لا تؤثر فيها الأحوال، وإنما الذي يمكنه أن يقوله هو أن الأحوال إذا لم تتغير فإن سير الشخص الذي اختبره لا يتغير أبدًا. لا ريب في أن رئيس القلم الذي أنشأ تقارير صادقة في عشرين سنة يستمر على إنشاء مثلها بصدقه المعهود، ولكن يجدر بنا ألا نؤكد هذا القول كثيرًا؛ إذ قد تحدث أحوال جديدة — كحرص شديد يستولي على بصيرته، أو خطر يهدد شرف أهله أو وطنه — فيصبح مجرمًا أو بطلًا.

وتشاهد تقلبات الذات في منطقة المشاعر وحدها على وجه التقريب، وأما في منطقة الذكاء والعقل فالتقلب ضعيف إلى الغاية، فالسخيف يبقى سخيفًا على الدوام، وتقلبات الذات التي تمنعنا من معرفة أمثالنا معرفة حقيقية أساسية تمنعنا من معرفة أنفسنا أيضًا، ولذلك كانت حكمة قدماء الفلاسفة القائلة: «اعرف نفسك بنفسك» نصيحة يتعذر تحقيقها، فالذات الظاهرة تكون عادةً ذاتًا خادعة كاذبة، ليس لأن المرء يعزو إلى نفسه كثيرًا من الصفات الحسنة دون أن يعترف بأية نقيصة فيه فقط؛ بل لأن الذات وإن اشتملت على قسط قليل من العناصر الشاعرة فإن أكثرها يتألف من عناصر لا شعورية يمتنع اختبارها.

والطريقة التي يكتشف بها الرجل أمر نفسه هي الفعل والحركة، فهو لا يعرف نفسه إلا بعد أن يختبر سيره في أحوال معينة، والقول بأننا نعلم مقدمًا كيف نسير في أحد الأحوال المقبلة ليس إلا زعمًا وهميًّا؛ فعندما أقسم المرشال (ناي) ﻟ (لويس الثامن عشر) أنه سيأتي ﺑ (نابليون) أسيرًا في قفص من حديد كان صادقًا في يمينه، ولكن نظرة من سيده (نابليون) جعلته ينقض عهده، وقد كانت عاقبة هذا القائد المنكود الحظ أن أعدم رميًا بالرصاص جزاء جهله حقيقة نفسه، ولو كان (لويس الثامن عشر) ذا اطلاع على نواميس علم النفس لعفا عنه على ما يحتمل.

تَظهر نظريات الخلق التي شرحناها في هذا الكتاب متناقضة، فلقد قلنا مؤكدين: إن المشاعر التي يتألف منها الخلق هي على جانب عظيم من الرسوخ والثبات، ثم أشرنا إلى إمكان تقلب الذات، إلا أن هذا التناقض يزول إذا تذكرنا الأمور الآتية؛ وهي:
  • أولًا: إن الأخلاق تتألف من عناصر عاطفية أساسية لا تتبدل على وجه التقريب، وتنضم إليها عناصر أخرى ثانوية تتغير بسهولة كتغير العناصر التي يوجبها مربي الحيوانات في النوع دون أن يغير صفاته الجوهرية.
  • ثانيًا: إن الأنواع النفسية كالأنواع التشريحية تخضع للبيئة خضوعًا تامًّا، فهي مضطرة إلى ملاءمة مع تقلبات هذه البيئة إذا كانت هذه التقلبات غير عظيمة أو غير فجائية.
  • ثالثًا: قد يلوح لنا أن المشاعر نفسها تغيرت عند تطبيقها على مواضيع مختلفة، مع أن الواقع هو كون طبيعة هذه المشاعر لا تتغير أبدًا، فإذا انقلب حب الدنيا إلى حب الله في بعض الأحوال فإن المشاعر تكون قد بدلت اسمها لا طبيعتها.

ولهذه الملاحظات فائدة عملية، فهي تعتبر قاعدة لكثير من المسائل المهمة في الوقت الحاضر؛ كمسألة التربية مثلًا. لقد شوهد أن التربية تغيِّر الذكاء أو المعرفة الشخصية، فاستُنْتج أنها تغيِّر المشاعر أيضًا، فدلَّ ذلك على الجهل بأن الأحوال العاطفية والأحوال الذهنية لا تتطور تطورًا متساويًا. وبتوغلنا في الموضوع نرى أن شأن التربية والأنظمة السياسية ضعيف في مصير الأفراد والأمم.

يظهر أن هذا الرأي المخالف لمعتقداتنا الديموقراطية يناقض ما نشاهده من أحوال بعض الأمم الحديثة أيضًا، وذلك ما يمنع من الإقبال عليه بسهولة.

يعترض البارون (موتونو) — سفير اليابان في بطرسبرغ، وأحد أقطاب السياسة في الشرق الأقصى المشهورين — عليَّ في مقدمة كتبي المترجمة إلى اللغة اليابانية قائلًا: إنه طرأ بتأثير الأفكار الأوروبية على النفسية اليابانية تبدلات كثيرة. إنني لا أظن أن تلك الأفكار أثرت تأثيرًا حقيقيًّا في نفسية اليابانيين، وإنما تسربت الأفكار المذكورة في ثنايا الروح اليابانية الموروثة من غير أن تغير شيئًا في أجزائها الجوهرية، فإقامة المدفع مكان المخذفة أو المقلاع يحول مصير الأمة تحويلًا تامًّا، ولكنه لا يغير أخلاقها القومية أبدًا.

نستنتج من هذا الفصل أن الآراء والحركة لمَّا كانت تنشأ عن علل بعيدة من الإرادة والاختيار فإن تأثيرنا فيها محدود إلى الغاية، ومع ذلك فسوف نرى أن مكافحة المقادير المستولية على مشاعرنا وأفكارنا أمر ممكن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤