الفصل الثاني

منطق الحياة

(١) شأن منطق الحياة

أبسط حوادث الحياة في الظاهر، كالتي تُشاهَد في الخلية الواحدة، هي على جانب كبير من التعقيد، فلمظاهر هذه الحوادث ارتباط وثيق يشبه ارتباط العناصر العقلية الذي نسميه المنطق، ولذلك ليس ما يمنعنا من إطلاق اسم المنطق عليها أيضًا.

ويسيطر منطق الحياة على جميع الحوادث الجثمانية، فما تأتي به خليات الجسم من أفعال لم يكن آليًّا ويتحول بحسب مقتضيات الزمن، فكأن هذه الأفعال مقودة من عقل خاص يختلف عن عقلنا اختلافًا كليًّا. ولإثبات ذلك نكتفي بنقل هذه العبارات التي جاءت في كتابي المسمى «تطور المادة»، وإليكها:

تأتي البُنَى الذَّرِّيَّة التي تصنع الخليات بأعمال نطاسية لا نقدر على الإتيان بمثلها، بل ولا بمثل ما هو دونها في مختبراتنا، فهي تقدر على تحليل أمتن الأجسام وأصلبها كالكلورور دوسوديوم، واستخراج الأزوت من الأملاح الأمونياكية، والفوسفور من الفوسفات … إلخ، تدير هذه الأفعال الغريبة المتجهة نحو أحد المقاصد قوى مجهولة تسير كأنها ذات ذكاء أرفع من ذكائنا، وما تنجزه القوى المذكورة في أدوار الحياة من عمل أسنى جدًّا مما يقدر أرقى العلوم على فعله، وسيعتبر العالم الذي يستطيع أن يحلل بذكائه وسعة عقله ما تقدر خليات أحقر الموجودات على تحليله كآلة لسموه على باقي البشر.

تؤيد أفعال الحياة الجثمانية أنها مضطرة إلى التحول حيثما وجدت، فإذا دخل في تركيب الموجود شيء غير نافع فإنه لا يلبث أن يُزل أو يُنْبَذ، وأما الشيء المفيد فإنه يرسل إلى الأعضاء فيتحول هنالك تحولًا عجيبًا، وتشتبك هذه الأفعال التي لا يحصيها عدٌّ من غير أن تتضرر؛ ذلك لأنها تسير سيرًا هو غاية في الإتقان والإحكام، ومتى تقف حركة المنطق الدقيق الذي يدير المراكز العصبية فإن الموت يقع لا محالة.

وعليه يجوز تسمية تلك المراكز العصبية «مراكز الإدراك الجثماني»، فهي تسيِّر الحياة وتحرسها لإيجادها حسب الأحوال عناصر دفاع عن الحياة مختلفة، وهي كما قال الدكتور (بونيه): «تعلم أحسن من أي عالم من علماء وظائف الأعضاء، أو من أي طبيب ماذا يلائم العضو الضعيف من دواء، وليس شأن العلم الراقي سوى تحريكها عند فتورها.»

ومتى تتطور الخلية على شكل معين، أو متى يعتاض الحيوان عن العضو الأبتر عضوًا آخر مستعينًا بأعصاب وعضلات وأوعية شريانية، فإننا نشاهد منطق الحياة يهيئ لمثل ذلك الطارئ الفجائي من الحوادث ما يعجز المنطق العقلي عن تقليده وإدراك أمره، وأيضًا فإن منطق الحياة هو الذي يعلم الطائر كيف يطير، وكيف يقلب طيرانه حسب الأحوال، فقد اقتضى مرَّ عصور عديدة على الإنسان حتى استطاع بمنطقه العقلي أن يقلد الطائر قليلًا.

وما في أعمال الحياة من ضبط وإحكام، وما تفعله كل يوم من التئام بالأحوال ذات التقلب المستمر، وما فيها من استعداد للدفاع عن الجسم ضد عوارض العالم الخارجي الفجائية، يجعلنا نَعُدُّ تعبير «منطق الحياة» تعبيرًا ضروريًّا.

ومنطق الحياة هو الذي ينظِّم ديمومة الفرد والنوع الذي ينتسب إليه، فحياة الفرد زائلة، وحياة النوع وإن كانت أطول إلا أنها ليست مؤبدة؛ إذ تدلنا بقايا الأنواع الچيولوچية على أن هذه الأنواع لم تظل باقية حتى اليوم، بل سبقتها أنواع وعقبتها أخرى ذات دوام محدود.

يظهر أن الأنواع تزول حينما تثقل وطأة ما ورثته عن الأجداد من خصائص فلا تقدر على ملاءمة تقلبات البيئة، هذا هو تاريخ عالم النبات وعالم الحيوان، كما أنه تاريخ كثير من الشعوب، فالنوع أو الفرد أو الشعب في دور الطفولة يمتاز بمرونة عظيمة يستطيع بها أن يلائم أي تحول في البيئة، وأما في دور شيخوخته فيكون ذا صلابة تمنعه من الالتئام، وهذا هو السر في كون أحد الموجودات في مقتبل العمر يلائم تقلبات البيئة مع أن هذه التقلبات تقضي عليه في دور انحطاطه، وكذلك فإن هذا يوضح لنا لماذا تغيب الشعوب الشائخة عن التاريخ عندما لا تقدر على التحول.

ولو اقتصر منطق الحياة على تنظيم وظائف الحياة لأغفلنا أمر البحث فيه، ولكن ما العمل وهو مسيطر على عوامل مهمة للآراء والمعتقدات والسير والحركة، ثم لمَّا كانت الحياة دعامة المشاعر فإننا قد نتصور أن منطق الحياة ليس ذا تأثير في المنطق العاطفي فقط، بل إن أحد هذين المنطقين مختلط بالآخر. نقول ذلك ونحن نرى أن المنطقين المذكورين منفصلان، وإنما منطق الحياة هو البقعة التي ينبت عليها المنطق العاطفي.

إذن ليس عندنا إيضاح كاشف نعلل به سبب إنكار منطق الحياة من قبل علماء النفس، فهذا المنطق هو أهم أنواع المنطق الأخرى لهيمنته عليها، فمتى يأمرها تجِبْهُ طائعة.

(٢) الغرائز ومنطق الحياة

إن (بركسون) وإن أصاب في تفريقه بين الغريزة والعقل، لكنه لم يصِبْ كبد الحقيقة تمامًا؛ إذ يوجد كثير من الغرائز هي عادات عقلية أو عاطفية تراكمت بالوراثة، وأما التفريق بين حوادث الحياة بسيطة كانت — كالجوع والحب — أم معقدة — كالتي تشاهد في الحشرات — وبين الذكاء فصحيح.

والبحث عن بعض الغرائز كثير الصعوبة، ولا يتم استقراؤها على شيء من الوضوح إلا بترك جميع ما في كتب علم النفس المزاولة من أفكار، حقًّا يقتضي التسليم بأن الموجودات الدنيا تسير في بعض الأحوال كما يسير الإنسان المسوس من عقل عالٍ، وذلك حسب طرق نجهل كنهها، ولكننا لا نجحدها لمشاهدتنا لها، ولا تظهر هذه الدراية في الموجودات التي هي على شيء من التقدم؛ كالحشرات مثلًا، بل تشاهد أيضًا في الموجودات الأولية؛ كالخليات التي لا شكل لها ولا جنس، والتي تدل على بزوغ فجر الحياة. فالخلية المائية — أي الكُرَيَّة التي تكونت بذاتها من حُبيبات حية — هي بعزمها على مسك قنيصة تأتي بأعمال تناسب غايتها، وتتحول بحسب الأحوال كأنها ذات تمييز وإدراك، وقد صرح (داروين) عندما حقق سعي بعض الحشرات الدقيق في المحافظة على البُيَيْضَات التي تخرج الديدان منها على شكل غير شكلها «أن التأمل في هذا الموضوع عقيم». لا شك في أن نواميس منطق الحياة وقواعده متعذر إدراكها، ولكنه يجب علينا أن نحقق نتائجها بضبط ودقة؛ كي نثبت أن هذه النتائج غير صادرة عن قدرة عمياء يعبَّر عنها بالغريزة.

وليس ما هو أكثر بصيرة وحذقًا من سلسلة منطق الحياة، وكنه هذا المنطق مع كونه لا يزال مجهولًا إلا أن تعيين وجهته سهل هيِّن، فغايته أن توجد في الشخص وسائل ضرورية سواء لبقائه بالتناسل أو لملاءمته الأحوال الخارجية. والوسائل المذكورة هي من الإتقان والإحكام بحيث لا تبلغها الآمال والهمم، فقد بيَّن كثير من علماء الطبيعة — مثل: (بلانشار) و(فابر) … إلخ — دقة أعمال الحشرات وقوة التمييز فيها واستعدادها لتغيير سيرها حسب الأحوال؛ فقالوا إنها تعلم كيف تحوِّل خواص المواد الغذائية التي هيأتها لدوادها حسبما تكون ذكرًا أو أنثى، وأنه يوجد أنواع من الحشرات غير ضارية، ولكن لمَّا كان دوادها لا يعيش إلا من الفرائس الحية، فإنها تشلها على وجه لا تتفسخ فيه حتى تنقب الدوادُ البيضَ فتخرج منها وتفترسها. ثم يعترف (فابر) بأنه يوجد في الحشرة — عدا غريزتها التي تدير أعمالها النوعية الثابتة — شيء من الشعور والاستعداد للكمال، غير أنه لم يجرؤ على تسمية هذا الاستعداد الأولي بالذكاء، فأطلق عليه اسم «قوة التمييز»، ويصدر عما يوصِّفه (فابر) بكلمة التمييز نتائج يتعذر على أمهر العلماء وأكثرهم براعةً أن يفعل مثلها، ولذلك قال مستنتجًا: «إن الحشرة بصحوها تلقي العجب والدهش فينا.»

ومثل هذه الحوادث العديدة التي شاهدها العالم (غاستون بونيه) — أحد أعضاء المجمع العلمي — في النمل والنحل جعله يسند إلى الحشرات صفة سماها (إدراك الجمع)؛ فقد أبان أن النحل تطيع أوامر «لجنة القفير المدبرة»، وتتغير هذه الأوامر حسب معلومات الباحثين عن طبائع النحل الذين يرودون كل صباح الضواحي والأرباض، ومتى تغادر النحلة القفير فإنها تنفذ الأمر تمامًا، فإذا أرسلتها اللجنة تفقد الماء في حوض، وكان يُرش على جانب هذا الحوض شراب أو عسل هدرًا، فإن النحلة لا تلتفت إلى ذلك الشراب أو العسل، والنحل الذي فُوِّض إليه أمر اجتناء رب النبات لا يعبأ بالطلع واللقاح … إلخ.

وكيان هذه الحشرات الصغيرة الاجتماعي منظم إلى الغاية، قال المؤلف المذكور: «مثل القفير في نظامه كمثل نظام الاشتراكية الحكومية المسوية حيث لا حب، ولا إخلاص، ولا رحمة، ولا إحسان؛ فكل واحد مرغم على الرزوح تحت أثقال العمل المتواصل في سبيل المجتمع.»

تلقي تلك الحوادث التي كثرت مشاهدتها بلبلة في أنصار علم النفس العقلي القديم؛ لأن الحوادث المذكورة وإن كانت توضح سابقًا بكلمة الغريزة إلا أن التحقيق أثبت أنه ينطوي تحت هذا اللفظ المبتذل سلسلة من الحوادث المجهولة جهلًا تامًّا، كانت الغريزة تعتبر فيما مضى صفة ثابتة أنعمت بها الطبيعة على الحيوانات يوم تكوينها كي تسيِّرها في أدوار الحياة كما يقود الراعي قطيعه، وقد عدَّ (ديكارت) الحيوانات آلات متحركة، فعلى ما في حركة هذه الآلات من أمر غريب عجيب بدت له كشيء بسيط جدًّا.

ولكن لما تعمق العلماء في مباحثهم اعترفوا بتحول الغرائز التي كان يُظن أنها ثابتة لا تتحول. خذ النحل مثلًا تَرَ أنه يقدر على تغيير قفيره عندما تدفعه الضرورة إلى ذلك، وقد جاء في مذكرة للمسيو (روبو) عرضها سنة ١٩٠٨ على مجمع العلوم، وبحث فيها عن تقدم الغريزة في زنابير أفريقيا «أن ما بين أنواع تلك الزنابير من فروق يمكننا من أن نستقرئ سلسلة تطور غريزتها التي تتجه — بادئة من الزنابير المنفردة — نحو الزنابير الاجتماعية».

وما لاحظناه من حوادث الحشرات نلاحظ مثله في الحيوانات العليا، فهذه الحيوانات تستطيع أن تأتي بأفعال يتألف من تدوينها علم راقٍ لو كان المنطق العقلي هو الذي أملاها، ونعد من تلك الأفعال ادخار الحيوان ما يحتاج إليه من قوة شديدة ليطير في الهواء من غير عناء كما يشاهد في الصقور والخطاطيف … إلخ، فالطيور المذكورة تهبط من ارتفاع كبير مطاردة طرائدها، ولأجل ذلك تطوي أجنحتها فتنزل إلى الأرض على شكل منحنٍ، وهي تستفيد من القوة الحادة التي نالتها في أثناء هبوطها عند صعودها ثانيةً في الهواء، ومما يقدر عليه الطير أيضًا هو أن ينال برشاقة ما في منحدر مجاري الهواء من قوة يلائم بها على الفور تقلبات الجو الفجائية.

لا ريب في أن تعبير منطق الحياة الذي أوجدناه لا يؤدي الآن إلى إيضاح حقائق الأمور إيضاحًا كاشفًا، ولكنه يفيدنا على الأقل بإثباته أن جميع أفعال الحيوان التي زُعم أنها غريزية هي بالحقيقة غير ناشئة عن الغريزة العمياء التي حاول العلماء حتى الآن أن يسندوها إليها، فالعدول عن الشروح الآلية كالتي أتى بها (ديكارت) هو في الواقع تسليم بوجود عالم نفسي واسع مجهول نكاد لا نبصر منه سوى وميض خفيف.

ومع أن البيان السابق يبتعد قليلًا من مقاصد هذا الكتاب فإننا نعده شيئًا جوهريًّا لا مناص من الإلماع إليه فيه، فلا يذهب عن بالنا عند البحث في علل آرائنا ومعتقداتنا أنه تستتر تحت سطح الحوادث الخارجي قوى لم تدركها الأبصار، وهي أقوى من عقولنا المسيرة بها في الغالب.

نلخص هذا الفصل بالكلمات الآتية؛ وهي: إن ظهور منطق الحياة قد تم قبل ظهور أنواع المنطق الأخرى، وإنه لا حياة بدونه، فلو توقف عمله لصارت الأرض بلقعًا كالحًا تتحكم فيه قوى الطبيعة العمياء؛ أي القوى التي ليست عضوية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤